الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

                          بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

                  الشهب، في استحباب حمل العصا في الخطب            


                                      كتابة: الطاهر زياني

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله والصلاة والسلام على نبي الله، وبعد:

فقد ظهر في زماننا من يُبدع حمل الإمام للعصا على المنبر من يوم الجمعة، مخالفا بذلك كتاب الله وسنة رسول الله، وفعل الخلفاء الراشدين، الهادين المهديين، بل وسائر الصحابة والتابعين، وإجماع المسلمين، متبعا بذلك مذهب الشعوبـيـين المنحرفين، مما جعلني أجمع في هذه المسألة بحثا مستقلا، لعلَّ من أخطأ أن يكون من المنيبين، برجوعه إلى سنة نبيه الكريم، وخلفائه الراشدين، وسائر السلف الصالحين، وقد قسمت هذا البحث على النحو التالي:   

المبحث الأول: ذكر أدلة بل شُبهِ من كره حمل العصا بعد اتخاذ النبي عليه السلام للمنبر : 

المبحث الثاني: ذكر الدليل على أن المنبرَ جُعل بدلا من الجذع لا العصا، وذكر الأسباب التي من أجلها صُنِعَ المنبر:

المبحث الثالث: ذكر الأدلة على استحباب العصا من الإجماع :

المبحث الرابع: ذكر الأدلة من السنة والإجماع على مشروعية اتخاذ العصا ونحوها في الخطب :

المطلب الأول: ذكر السنن القولية على استحباب التخصر وحمل العصا:

المطلب الثاني: الأدلة الفعلية على استحباب التخصر أي اتخاذ العصا :

المطلب الثالث: ذكر التخصر في الخُطب عن النبي عليه السلام، وحمل عصاه للخلفاء من بعده:

المبحث الخامس: ذكر أدلةٍ فيها الاعتماد على العصا في خطبتي العيد وخطب أخرى متفرقة:

المبحث السادس: ذكر أدلة باطلة أو موضوعة:

المبحث السابع: ذكر ما جاء في حمل العصا عن التابعين :

المبحث الثامن : ذكر ما جاء من ذلك عن العلماء وسائر مذاهب أهل السنة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الأول: ذكر شُبهِ من كره حمل العصا بعد اتخاذ النبي عليه السلام للمنبر:  

الدليل الأول: وما أراهم استدلوا به فيما أعلم، لكنا سنذكر كل ما يمكن أن يحتجوا به، مما علموه أو جهلوه:

قال أبو بكر في المصنف: باب الْعَصَا يَتَوَكأُ عَلَيْهَا إِذَا خَطَبَ: ثنا وكيع عن سفيان عن واصل عن أبي وائل: أن كعبا رأى جريرا وفي يده قضيب فقال: إنّ هذا لا يصلح إلا لراع أو والي"،

هذا أثر صحيح إن لم يدلسه سفيان، واصل هو الأحدب، إلا أنّ الأثرَ حجةٌ لمن استحبّ حمل العصا لوجوه:

أحدها: لو كان هذا الأثر في خطبة الجمعة لكان فيه استحباب حمْل العصا، لأنّ الذي كان يحمل القضيب هو جرير بن عبد الله رضي الله عنه وهو صحابي وفِعْله سنة، وهو أفضل بالإجماع من كعب الأحبار وهو تابعي ليس صحابيا.

والوجه الثاني: أن كعبا لم يُنكِر حمل القضيب مطلقا كما يُنكِر التبديعيُّون، بل أثبت حمل القضيب للوالي والراعي، وهو الذي كان وقت السلفِ يخطب ويؤم الناس آنذاك، يؤكد ذلك :

الوجه الثالث: أنه قد ورد عن كعب اتخاذ العصا:

فخرج الفاكهي في أخبار مكة (1983) عن عيسَى بْنِ إِبْرَاهِيم عَنْ مُعَاوِيَة بْن عَبْد الله عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّد قَال: سَمِعْت كَعْب الْأَحْبَار يَقُول:" أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ مِنْبَرًا إبراهِيم عَليه السَّلَام، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْعَصَا يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ".

الاستدلال الثاني : استدلوا بكلامٍ مضطربٍ جدا لابن القيم في الزاد وهو حجة عليهم، لأن التبديعيين يأخذون منه المحمل الضعيف، ويعرضون عن الوجه الصحيح:

فقال ابن القيم مرة:" ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر"، فأثبت هنا الاعتمادَ على العصا والقوس قبل اتخاذ المنبر، ونفاه عما بعد اتخاذه، ولم يُبدع كما يفعل التبديعيون.

ثم سُرعان ما تراجع فأثبت مشروعيتهما مطلقا، إلا أنه نفى المداومة على استعمال السيف فقط إلا في حالة الحرب، والتبديعيون يخالفون ويبدعون مطلقا:

فقال ابن القيم :" وكان في الحرب يعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمد على عصا، ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائما، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله"،

ثمّ تراجع فأثبت الاعتماد على العصا والقوس حتى بعد اتخاذ المنبر، بعد أن أنكرهما، فقال:" فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفا البتة، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس"،

وكل هذا الكلام متواصل، قطّعته وعلّقت عليه ليتبيّن وجه تناقضه، ومن ثَم سقوط الاستدلال به، خاصة لمخالفته الإجماعَ وكثرة الأحاديث ، مع تراجع ابن القيم عنه .

والعجب أن ابن القيم نفسُه أثبت في غيرِ ما موضعٍ الاعتماد على العصا والقوس وذكر أنهما من فعل الخلفاء الراشدين بعد النبي عليه السلام، إلا أنه أنكر الاعتماد على السيف فقط فقال في الزاد:" وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك "،

قال:" وكان أحيانا يتوكأ على قوس ولم يحفط عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح.."،

وهذا الكلام الأخير هو الموافق لإجماع العلماء، وفعل الخلفاء والسلف كما سيأتي، إلا أنه قد أخطأ - والله يغفر لنا وله - في إنكاره لحمل السيف والقوس، وإثبات حمل العصا فقط، لتصريح عامة السلف والخلف بمشروعية الجميع كما سيأتي، على أن ابن القيم إنما نفى المداومة على حملِ السيف فقط كما مر.

ثم إن ابن القيم رحمه الله لم يأت عنه تبديع القوس ولا غيره، كما يدعي التبديعيون الآن في هذا الزمان، وفرْقٌ كبير بَيْن كلامه، وبين تبديعاتهم، ولا سلف لهم من المسلمين أصلا على التبديع والله المستعان .  

الدليل الثالث: وأظنهم يستدلون بحديث الجذع أو الخشبة المتواتر: حيث كان النبي عليه السلام يعتمد على ذلك الجذع المغروز في الأرض أثناء الخطبة إلى أن صُنع له المنبر،

وقد نازع في هذا الحديثِ فريقٌ من المتأخرين ففهموا منه نفي حمل العصا من عند أنفسهم فقالوا تبعا لابن القيم:" لم يُحفَظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس وغير ذلك، بل الظاهر من تلك الأحاديث الاعتماد على القوس إذا خطب على الأرض"،

وقال غلاة المتأخرين:" لقد ترك النبي عليه السلام بعد ذلك حمل العصا ونحوها إذا قام الإمام على المنبر،

وقال آخرون: إلا إذا خطب على الأرض فيُشرع له ذلك، وإلا كان بدعة ضلالة"،

وليس هذا التبديع والكلام بشيء لأمور:

أحدها: أنّ فهمَهم لم يقل به أحد من السلف طيلة كل القرون المفضلة وما بعدها، وما كان هذا شأنه فحريٌّ أن لا يُلتَفت إليه أبدا، كيف وهو مخالف للإجماع كما سيأتي.

والأمر الثاني: أنَّ فهمَهم من تركه عليه السلام للجذع بأن فيه نَفْيا لاستعمال العصا أيضا، فهمٌ خطأٌ، لأنّ نفي الاعتماد على الجذع لا يستلزم نفي استعمال العصا، ومن نفى ذلك فلا بد له من دليل، والقول ببدعيتها يحتاج إلى تدليل، لا مجرد دعاوى وأقاويل، لأنه من المعلوم أنه كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل فكذلك النفي لا بد له من تدليل، كما هو مُقرر بأدلته في علم الأصول، بل إن المقرر في الأصول هو استصحاب حمل العصا مطلقا كما مر.

والأمر الثالث: أنّا نظرنا في أحاديث الجذع علَّنا نرى لهم مُتعلَّقا على نفي العصا الذي فهموه فلم نجد منها إلا دعواهم بأن ترك الجذع يستلزم ترك العصا، وهي دعوى عرية عن كل دليل أو سلف، ويُبطلها أمران:

أولاهما: الاستصحاب أي أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا ثبت اتخاذ العصا أولا، ثبت أخيرا، إلا بدليل على الترك.

والثاني: أن النصوص الشرعية وإجماع السلف على اتخاذ العصا كما سيأتي .

والرابع: قلب القضية والدعوى عليهم بحيث نقول: لقد أثبتم حمل العصا قبل اتخاذ المنبر، والعمل بالاستصحاب: أن نستصحب هذا الحمل مطلقا لأنه هو الأصل، ما لم يرد نص بخلافه، ثم إنه عليه السلام لم يُحفظ عنه أيضا أنه كان يترك العصا بعد اتخاذه للمنبر ، بل الثابت والمتواتر عنه اتخاذها إلى مماته عليه السلام، وحمل عصاه الخلفاء بعده كما أقر به ابن القيم وسيأتي.

والخامس: قلب دعواهم وجعل نفس الدليل حجة عليهم، بأن يقال: بأن النبي عليه السلام، لما ترك الاستناد إلى جذع النخلة بعد أن صُنع له المنبر، لجأ بدلَه إلى الاستناد على العصا، لأن الأصل أن لا يُترك شيء إلا إذا لُجئ إلى بدل عنه كما هو مقرر في الأصول، وبذلك تواترت أحاديث الرسول، كما سيأتي في المنقول.

والأمر السادس: أن الأحاديث قد تواترت بإثبات العصا حتى بعد اتخاذ المنبر ، وبها قال الأولون والآخرون، وخطب بها الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون .              

والأمر السابع: أن الجذعَ شيءٌ والعصا شيء آخر، لأن الجذع كان بمثابة السارية الكبيرة المغروزة في المسجد، يعتمد عليها النبي عليه السلام ويُسند إليها ظهره كما سيأتي، بخلاف العصا فإنها سهلة الحمل والنقل .

والأمر الثامن: أن من أعظم أسباب خطئهم ظنُّهم بأن المنبرَ بدلٌ من العصا، وأن العصا عندهم هي الجذع نفسه، وليس كما ظنوه أصلا لما بينا وما سنبين، لأن المِنبر بدلٌ من الجذع، وهو غير مسألة العصا، بل لا علاقة له بها أصلا، لأن الجذع كان كبيرا ومغروزا بمثابة السارية والمنبر الذي يتكئ عليه، إلى أن صُنع له المنبر فترك الجذع، كما سيأتي بالبراهين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثاني: ذكر الدليل على أن المنبرَ جُعل بدلا من الجذع لا العصا، وذكر الأسباب التي من أجلها صُنِعَ المنبر:

لقد بيَّنَت الأحاديث من ذلك عدة أسباب لاتخاذ المنبر نذكر منها: أن الجذع كان كالسارية مغروزا بأرض المسجد يُسند إليه النبي عليه السلام ظهره إذا تعب، فجُعل له المنبر لأنه أرفقُ به من جهةٍ، ولأجل أن يَعْتلي عليه حتى يراه جميع الناس ويسمعوه من جهة أخرى، كما في الأدلة التالية :

الدليل الأول: وفيه اتخاذ الجذع قبل صنع المنبر، ثم ترك الجذع واتخاذ المنبر من غير تعرض لنفي العصا أصلا:

1/ فقد ورد أن من أسباب صنع المنبر إرادة الرفقِ بالنبي عليه السلام: فما قاله الدارمي في سننه (32) نا محمد بن حميد ثنا تميم بن عبد المؤمن ثنا صالح بن حيان حدثني بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب قام فأطال القيام، فكان يشق عليه قيامه فأتي بجذع نخلة فحُفر له وأقيم إلى جنبه قائما للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا خطب فطال القيام عليه استند إليه فاتكأ عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة .. فقال لمن يليه: لو أعلم أن محمدا يحمدني في شيء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ايئتوني به فأتوه به فأمر أن يصنع له هذه المراقي الثلاث أو الأربع .. فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك راحة فلما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الجذع وعمد إلى هذه التي صنعت له جزع الجذع فحن كما تحن الناقة .. فرجع إليه فوضع يده عليه وقال: اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت وإن شئت أن أغرسك في الجنة..، فاختار الجنة، وهذا إسناد ضعيف ولأكثر متنه شواهد :

أما عن شاهدِ كونِ الجذع نخلةً بمثابة السارية والعمود في المسجد: فما خرجه البخاري 3391 عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا ؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكن"،

شك الراوي في الصانع، وهو رجل رومي لامرأة من الأنصار، بيّن ذلك أحمد (3/300) في روايته بلفظ: "فقالت امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار يا رسول الله إن لي غلاما نجا.."،

ثم خرج البخاري عن جابر: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها.."، ليس فيه ذكرٌ لِنَفْي العصا أصلا، وفيه أن الجذع كان أشبه بالشجرة التي كانت سارية عمودا للمسجد، بل فيه إثبات العصا بالاستصحاب.

ولذلك بوّب عليه عبد الرزاق 5654 باب خروج من مضى والخطبة وفي يده عصا: ثم خرج عن ابن جريج ني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يستند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع المنبر فاستوى عليه اضطرب تلك السارية كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكتت"،

وهذا حديث صحيح على شرط مسلم.

وأما عن دليل اتخاذ المنبر لأجل حسن الرؤية والاستماع : فخرجه أحمد وابن ماجه (1414) والدارمي (36) عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع ويخطب إليه إذ كان المسجد عريشا، فقال له رجل من أصحابه: ألا نجعل لك عريشا تقوم عليه يراك الناس [وترى الناس] يوم الجمعة وتسمع من خطبتك ؟ قال: نعم، فصنع له الثلاث درجات... قال: فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد المنبر مر عليه فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدّع وانشقّ فرجع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحه بيده حتى سكن ثم رجع إلى المنبر، قال: فكان إذا صلَّى صَلَّى إليه، فلمّا هُدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فلم يزل عنده حتى بلي فأكلته الأرضة وعاد رفاتا"،

هذا حديث حسن لأجل ابن عقيل والبقية ثقات،

لكن روى عكرمة بن عمار نا إسحاق بن أبي طلحة ثنا أنس:" .. قال صلى الله عليه وسلم:" أما والذي نفس محمد بيده لو لم التزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن "، ولم يقل هو مع أُبَيٍّ،

وروى الصعق سمعت الحسن يقول: لما أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل يسند ظهره إلى خشبة ويحدث الناس فكثروا حوله فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمعهم فقال ابنوا لي شيئا ارتفع عليه..."، لكنه مرسل.

وأما عنْ دليلِ الاستناد على الجذع: فقال أحمد (2/109) ثنا حسين ثنا خلف عن أبي جناب عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال: كان جذع نخلة في المسجد يسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إليه إذا كان يوم جمعة أو حدث أمر يريد أن يكلم الناس فقالوا..."، نحوا مما سبق،

وليس يوجد في أيٍّ من هذه الأحاديث تعرض لنفي العصا أصلا والله المستعان، وكذلك هي سائر الأحاديث المتواترة :

 فخرج البخاري 3390 عن ابن عمر رضي الله عنهما:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه يمسح يده عليه"، ولم يذكر العصا بنفي أصلا.

وخرج أبو يعلى (1067) عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إلى خشبة يتوكأ عليها يخطب كل جمعة، حتى أتاه رجل من القوم [الروم] فقال: إن شئت جعلت لك شيئا إذا قعدت عليه كنت كأنك قائم، قال: نعم، قال: فجعل له المنبر، فلما جلس عليه حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فلما كان من الغد رأيتها قد حولت فقلنا : ما هذا ؟ قالوا : جاء النبي صلى الله عليه وسلم البارحة و أبو بكر و عمر فحولوها "، والخشبة هي السارية كما مر. 

وللحديث شاهد خرجه أبو يعلى (2177) حدثنا مسروق بن المرزبان حدثنا ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن سعيد عن جابر مثله سواءا، وليس فيه إلا ترك تلك الخشبة وهي السارية، من غير نفيٍ لاستعمال العصا أصلا، وكذلك هي سائر الأحاديث:

فخرج ابن ماجه (1415) والترمذي 3627) وصححه عن أنس بن مالك [وابن عباس] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب إلى لزق جذع واتخذوا له منبرا فخطب عليه فحن الجذع حنين الناقة فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فمسه فسكن".

وفي الباب عن ابن عمر خرج روايته الترمذي (505) وصححه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر حن الجذع حتى أتاه فالتزمه فسكن"،

وخرج أحمد (3/293) من طريق سعيد بن أبي كرب عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة فلما جعل المنبر حنت حنين الناقة إلى ولدها فأتاها فوضع يده عليها فسكنت"،

وكذلك رواه حفص بن عبيد الله عن جابر قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة فلما صنع المنبر فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حنَّتْ حَنِينَ العشار حتى وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليها فسكنت"، خرجه عنه الدارمي (ر34)، ولا يوجد في أيٍّ من هذه الأحاديث تعرض لنفي اتخاذ العصا أصلا.

وقد صُنع المنبر قبل حادثة الإفك في غزوة المريسيع من السنة الرابعة لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: "فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فخفضهم حتى سكتوا ".

فإذْ قد نظرنا في دليل من بدّع وتأخر، وأنكر العصا بغير سلف وتقهقر، ولم نجد لهم حجة تُذكر، إلا شبهة قد بينا فسادها، إذ ليس يوجد في شئ من هذه الأحاديث ما ادعى المُبدِّعون للعصا من نفيٍ لها، بل كل ما فيها هو جعل المنبر بدلا من ذلك الجذع الذي كان بمثابة خشبة وعمود من العيدان التي كان يُشد بها السقف والحمد لله.

ثم نظرنا في أدلة مذهب المسلمين والسلف الصالحين، فوجدنا أن النبي عليه السلام قد اتخذ العصا بعد انتقاله للمنبر، وخطب بها إلى آخر حياته، ثم خطب بها الخلفاء والصحابة بعد مماته، وعلى ذلك أجمعت أمته من بعده :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثالث: ذكر الأدلة على استحباب العصا من الإجماع :

سيأتي أثناء البحث ذكر الخطبة بالعصا عن جميع الخلفاء الراشدين، بحضرة جميع  الصحابة والتابعين، لم يُنكرها أحد من المؤمنين، بل خطب بها سائر الصحابة والتابعين، بحضرة جميع المسلمين، من غير أن يُبدعها أحد منهم، وهو أمر مشتهر واضح فوق المنبر لا يخفى.

فقد حملها أنبياء الله، بداية من نبيه إبراهيم كما سيأتي في الحديث.

وكان لنبي الله موسى عصا له فيها عدة مآرب واستعمالات.

وكان لنبي الله سليمان عصا يستعملها في أموره.

وكان للنبي عليه السلام عصا يعتمد عليها في خطبه حتى مات،

ثم حملها –نفسُها- بعده ألو بكر الصديق حتى مات، وحملها بعده الفاروق عمر حتى مات، وما أنكر عليهم مسلم،

ثم حملها عثمان حتى كسرها البغاة عليه، فعاقب الله من كسرها بالدود الآكلة التي أكلت جلده، ثم ضببها الصحابة، وحملها عليٌّ حتى مات،

ثم حملها معاوية وعبد الله بن الزبير حتى ماتوا، وحملها اين مسعود،

وحمل المسلمون العصا بحضرة الجميع منذ أزمنة عديدة ودهور مديدة، ما أنكرها مسلم، فكان هذا أوضح دليل وأصحه على استحبابها بالإجماع، من خالف فيها خرج عن سبيل المؤمنين، ممن توعدهم الله بالعذاب والحجيم، من التلفية العلمانيين، والشعوبيين المخالفين للمسلمين...  

كيف وقد ورد لها أصل من القرآن الكريم كما قال رب العالمين:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخرَى}، ومعنى (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أتحامل عليها في المشي والوقوف والقيام، ويدخل في ذلك القيام في الخطب ونحوها بإجماع السلف، لقوله :{ولي فيها مآرب أخرى}:

قال الإمام ابن العربي المالكي في أحكام القرآن من تفسير الآية المذكورة :"..أَما إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إجْمَاعًا وَهُوَ الْخُطْبَةُ ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ التَّوَكُّؤُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ النَّافِلَة "،

وكذلك نقل الإجماعَ القرطبيُّ فقال في تفسيره للآية: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة منها:..

ثم قال:" والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل، وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنزته، وكان يخطب بالقضيب، وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني، والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها.."،

وفي المدونة قَال الإمام مَالِك: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا غَيْرِ عَمُودِ الْمِنْبَرِ إذَا خَطَب"، قَالَ مَالِكٌ : وَهُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ ،

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزهري: وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ".

قال ابْنُ وَهْبٍ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْأَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْمَنَابِرِ أَنْ يَخْطُبُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَعَهُمْ الْعِصِيُّ يَتَوَكَّئُونَ عَلَيْهَا فِي قِيَامِهِمْ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا

أي مذهب من رأينا من التابعين، وسمعنا من السلف الأولين،

وفي شرح مختصر خليل :" وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَكَّأَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى عَصًا ، أَوْ قَوْسٍ، غَيْرَ عُودِ الْمِنْبَرِ وَلَوْ خَطَبَ بِالْأَرْضِ، وَيَكُونُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ". وهو قول سائر العلماء كما سيأتي.

وقال الزحيلي في تفسيره :" الإجماع منعقدٌ على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء، أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب".

وعليه: فتُعتبر هذه المسألة من المسائل الإنكارية لا الخلافية، بمعنى أنه يجب الإنكار فيها على التبديعيين، أذناب العلمانيين، المخالفين لسبيل المؤمنين، ويجب التشنيع عليهم لمخالفتهم الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة وإجماع الأمة كلها !

وقد بحثت عَلِّى أرى للمنكرين للعصا سلفا من أهل القرون المفضلة الأربعة ما ينقضون به إجماع المسلمين، فلم أجد لهم سلفا إلا ما نقل القرطبي عن الشعوبيين الضالين، المبغضين للمسلمين، ولم أجد لهم في القرن الأول ما يُمكن أن يتعلقوا به، إلا خبرا عن جهجاه الخارجي المُحرض على قتل عُثمان رضي الله عنه، وكاسر العصا على رأسه، وليس هو بالصحابي كما قد يتوهموا، وبئس القوم قومٌ سلفهم قاتل عثمان ذي النورين المبشر.

وليس في خبره أنه أنكر العصا لذاتها، بل حتى هذا الخارجيَّ إنما كسرها لإنكاره إمامة عثمان رضي الله عنه أصلا، وحرض على قتله، ذلك أنه بينما عثمان رضي الله عنه يخطب يوم جمعة على عصا، فجاءه النعثل فضربه ومنعه من الخطبة وكسر عليه العصا، فعاقبه الله بالآكلة، عاقبَ الله بعدَه كل من عصى، وبدّع حمل العصا، ولكل السلف قد شصصا، فمن ذا يحب أن يكون سلفه الجهجاه ، نعوذ بالله من فرق الضلال، وسوء المقال، وسمج المحال، كما نعوذ به من تبديع عملٍ أجمع عليه المسلمون، واتفق عليه الخلفاء الراشدون.

 ولئن استباح تلفية بني علمان، أتباع الشعوبية والأمريكان، مخالفةَ سبيل أهل الإيمان، وردَّ إجماع أهل الإسلام، وعمومَ آي القرآن، فإنا سنأتيهم بعون الرحمان، بالأدلة الكثيرة عن رسول الأنام، ثم عن أصحاب رسول الإسلام، ثم عن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، طيلة قرون عديدة، وأزمنة مديدة، علهم إلى الحق يرجعون، وبه يقولون، وللتقليد يتركون:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الرابع: ذكر الأدلة من السنة والإجماع على مشروعية اتخاذ العصا ونحوها في الخطب :

وكل هذه الأدلة تدل على استحباب التخصر، وهو اتخاذ المخصرة أو العصا، إلى ما بعد اتخاذه المنبر، ثم إلى وفاته عليه السلام، ثم استعمل عصاه تلك كلُّ الخلفاء الراشدين، والصحابة المرضيين، ثم استعملها التابعون، وعمل بها المسلمون قرونا عديدة ودهورا مديدة والله المستعان على من خالف أهل الإسلام :

المطلب الأول: ذكر السنن القولية على استحباب التخصر وحمل العصا:

الدليل الأول: قال رب العالمين:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخرَى}، ومعنى (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أتحامل عليها في المشي والوقوف والقيام، ويدخل في ذلك القيام في الخطب ونحوها بإجماع السلف .

الدليل الثاني: وقد كان لنبي الله سليمان عصا متعددة المنافع والاستعمال: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}[سبأ]

دليل ثالث: خرجه الطبراني في الكبير (354) والفاكهي في أخبار مكة (1984) عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي - وهو ضعيف - عن أبيه عن السلولي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم عليه السلام ".

ورواه عيسى بن إبراهيم عن معاوية بن عبد الله عن الفضل بن محمد قال: سمعت كعب الأحبار يقول: " .. وأول من اتخذ منبرا: إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأول من اتخذ العصا يتوكأ عليها: إبراهيم عليه السلام ".

الدليل الرابع:

. خرجه ابن خزيمة في الصحيح (982) وابن حبان في الصحيح (7160) عن ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه قد بلغني أن [خالد] ابن سفيان بن نبيح الهذلي جمع لي الناس ليغزوني، وهو بنخلة أبو بعرنة فأته", قال: قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه, قال: "آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له إقشعريرة" قال: فخرجت متوشحا بسيفي حتى دفعت إليه وهو في ظعن يرتاد لهن منزلا حين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقشعريرة فأخذت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة فصليت وأنا أمشي نحوه وأومىء برأسي, فلما انتهت إليه قال: ممن الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل, فجاء لذلك, قال: فقال: أنا في ذلك فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبات عليه, فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآني قال: "قد أفلح الوجه" قلت: قتلته يا رسول الله قال: "صدقت"، قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخلني بيته وأعطاني عصا [خ: مخصرة] فقال:" أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس" قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها قالوا: أفلا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله لم ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: "آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ"، فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه ثم دفنا جميعا"، توبع ابن إسحاق:

2. قال ابن أبي عاصم في الآحاد 2031 - حدثنا يعقوب بن حميد ثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن كعب قال: قال عبد الله بن أنيس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: «من لي من خالد بن نبيح رجل من هذيل؟» ... فذك القصة وفيه:" ... ثم لحقته فضربته بالسيف ثم خرجت حتى غشيت الجبل فمكثت حتى إذا ذهب الناس عني، خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبرته الخبر، قال محمد بن كعب رضي الله عنه: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصرة فقال: «تخصر بهذه حتى تلقاني بها يوم القيامة، وأقل الناس يومئذ دفنت المُتَخصّرون"، قال محمد بن كعب فلما توفي عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أمر بها فوضعت على بطنه وكفن عليها ودفنت معه"، تابعه الداروردي عن ابن الهاد مثله، وكذلك خرجه أبو نعيم في الحلية (2/5) .

قالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمِخْصَرَةُ مَا اخْتَصَرَ الإِنْسَانُ بِيَدِهِ، فَأَمْسَكَهُ مِنْ عَصًا أَوْ عَنْزَةٍ.

3. وخرجه الطبراني عن عليّ بن ثابتٍ الجَزَريُّ عن الوازعِ بن نافعٍ عن أبي سلمةَ بن عبدِالرحمنِ عن جابرِ بن عبد الله عن عبد الله ابن أُنيسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِسُفْيَانَ الهُذَلِيِّ؛ يَهْجُونِي وَيَشْتُمُنِي وَيُؤْذِينِي؟!» فقلتُ له: أنا يا رسولَ اللهِ، ابعثْني له. فبعثه له، فلمّا أتاه ليلاً دخل دارَه، فنادى: أين سفيانُ؟ فاطّلع إليه مطَّلِعًا من أهلِهِ، فقال: ما تريدُ؟ قال: أريدُ سفيانَ، فمُرُوه فلْيَطَّلِعْ عليَّ، فاطّلَع إليه سفيانُ، فقال: ما تريدُ؟ قال: أريدُ أن تهبطَ إليَّ؛ فإنّ عندي درعًا أريدُ أن أُريكَها، قال: فأين هي؟ قال: ها هذه، فاهبطْ إليَّ بقبائِكَ، فاخرجْ معي أريكَها، فخرج معه، فسَلَّ سيفَهُ فضربه حتى بَرَدَ، ثم أقبل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في المجلسِ، فأخبره بأنه قد قتله، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عصًا يَتَخَصَّرُ بها، فنَاوَلَها إيّاه، ثم قال: «تَخَصَّرْ بِهَذِهِ؛ فَإِنَّ المُتَخَصِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ قَلِيلٌ» ، فلم يزلْ عنده حتى مات، فدُفنتْ معه ".

4. قال ابن قانع في الصحابة حدثني حمدون بن عباد الفرغاني نا يعقوب بن محمد الزهري نا عبد العزيز بن عمران عن عبد العزيز بن بلال بن عبد الله بن أنيس عن أمه عن أبيه عن عبد الله بن أنيس قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصرة فقال: " ألقني بهذه غدا يوم القيامة فإن أقل الناس يومئذ المتخصرون"، قال: فأوصى بها عبد الله أن تدفن معه فجعلت دون كفنه ثم كفن عليها فدفنت معه ".

فاللهم اجعلنا من هذا القليل المتخصّر، وعليك بمن بدّع وتضجر، وعن السنة أدبر وتقهقر، وعن منهج الخلفاء صدف وتجبّر:

المطلب الثاني: الأدلة الفعلية على استحباب التخصر أي اتخاذ العصا :

دليل أول: خرجه عبد الرزاق في مصنّفه (3/ 185) باب اعتماد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العصا: عن رجل أسلم عن أبي جابر البياضي عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوكأ على عصا وهو يخطب يوم الجمعة إذ كان يخطب إلى الجذع، فلما صنع المنبر قام عليه وتوكأ على العصا أيضا

وهذا إسناد ضعيف، لأن الأسلمي أظنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي, أكثر أهل الحديث على تركه، وقد وثقه الشافعي وابن عقدة وابن الأصبهاني وأثنى عليه ابن عدي، وعليه فيُقبل حديثه في المتابعات، لأن المتروك ما أجمعوا على تركه.

قال السيوطي في التدريب:" لهذا كان مذهب النَّسائي: أن لا يُترك حديث الرَّجل حتَّى يُجمعوا على تَرْكه".

ولمتنه شواهد كثيرة تدل على استمرارية اتخاذ العصا في كل الخطب كما سيأتي :

دليل أو الدليل الثاني: وفيه التفصيل بين الاعتماد على القوس والعصا:

رواه عمار بن سعد وعن رواه ذريته:

1. قال ابن ماجه في سننه: 1107 حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا"،

وبوّب عليه البيهقي في سننه فقال: باب الإمام يعتمد على عصى أو قوس أو ما أشبههما إذا خطب، كما استدل به ابن عادل الحنبلي في تفسيره لسورة الجمعة وقال: وأن يخطب على منبر؛ لأنه أبلغ في إعلام الحاضرين"،

وأما سنده فقد قال البوصيري: إسناده ضعيف لضعف أولاد سعد وأبيه عبد الرحمن".

وقد حدث به عن هشام بن عمار جماعة كثيرة، وتوبع عليه عبد الرحمن بن سعد وأبوه سعد: 

2. قال العراقي في تخريج الإحياء: "روى ذلك الحاكم في المستدرك من رواية عبد الله بن عمار بن سعد القرظي قال حدثني أبي عن جدي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثاً طويلاً فيه:" وكان إذا خطب في الحرب خطب على قوس وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا "،

وعبد الله ضعيف وقد توبع، ولحديثه شواهد أخرى تقويه:

الدليل الثالث: وفيه التوكأ على العصا ونحوها في خطبة الجمعة عام الوفود بعد فتح مكة: وهو دليل متأخر يرد قول التبديعيين:   

قال أبو داود في سننه: باب الرجل يخطب على قوس، 1096 ثم خرج هو وغيره من طرق عن شهاب بن خراش حدثني شعيب بن رزيق الطائفي قال: جلست إلى رجل له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له الحكم بن حزن الكلفي فأنشأ يحدثنا قال:" وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة فدخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله، زُرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا أو أمر لنا بشيء من التمر، والشان إذ ذاك دون، فأقمنا بها أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال :" أيها الناس إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كل ما أمرتم به ولكن سددوا وأبشروا

هذا حديث حسن صححه ابن خزيمة وابن السكن وسكت عليه أبو داود واحتج به، وصححه النووي في تهذيب الأسماء، فقال :" وهو حديث حسن. رويناه فى سنن أبى داود بإسناد صحيح أو حسن ثم ذكره " وحسنه الحافظ ابن حجر في التلخيص 137 وقال:" وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة"، وحسنه الألباني.

وضعفه التبديعيون بدعواهم أنه آحاد في مكان مشتهر، وكم هي أحاديث الآحاد الصحيحة في مواطن مشتهرة، فهلا ضعفوها وضعفوا السنن وتخلصوا منها بدعوى الآحاد والله المستعان.  

ومنهم من راح يلمز زورا في رواته وهما شعيب بن رزيق أو شهاب بن خراش زورا حراما، وهما ثقتان باتفاق الحفاظ.

ومنهم من ادعى بأنه ليس صريحا وهذا عين الكذب، إذ لا أصرح منه في المطلوب:

وأقول لجماعة المقلدة التبديعيين، ممن ادعى كذبا الانتساب لفهم السلف.   

لقد فهم منه كل السلف استحباب حمل العصا ونحوها على المنبر كما فعل أبو داود وبوّب، وقال ابن خزيمة (2/352) بَابُ الاِعْتِمَادِ عَلَى الْقِسِيّ أَوِ الْعِصِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْخُطْبَة، وكذلك بوب عليه البيهقي: باب الامام يعتمد على عصى أو قوس أو ما أشبههما إذا خطب"،

وهو قول السلف من شتى المذاهب:

قال عبد الحق الإشبيلي المالكي في الإحكام: بَاب الْخَطِيب يخْطب متوكئا"،

وكذلك قالت الحنابلة بعد صعود المنبر، فقال البهوتي وابن قدامة في الشرح:"ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن"، ونفس الكلام مذكور في سائر كتب الحنابلة،

وكذلك فهم منه ابن رجب الحنبلي فقال في الفتح 1/138 :" عن الحكم بن حزن الكلفي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم  يقول على المنبر يوم الجمعة..،

وقال الشافعي: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب اعتمد على عصا وقد قيل خطب معتمدا على عنزة، وقيل على قوس، وكل ذلك اعتمادا منه".

وفي المجموع وهو من كتب الشافعية قال النووى: وسننها أن يكون علي منبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر، ولأنه أبلغ في الاعلام ومن سُنَنها إذا صعد المنبر.. قال: ويستحب أن يعتمد علي قوس أو عصى لما روى الحكم بن حزن رضي الله عنه"،

وهذا الحديث المتأخر فيه رد على من ادعى ترك العصا بعد اتخاذ المنبر، لأن اتخاذ المنبر كان في بداية الهجرة، وهذا الحديث كان بعد فتح مكة عام الوفود، حيث وفدت قبائل تميم وبني نصر التي ينتسب إليها الحكم رضي الله عنه، كما قال البخاري: يقال كلفة من تميم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم"،

وقد أخبر هذا الوفد أنه رأى النبي عليه السلام يخطب على العصا والحمد لله رب العالمين .

فها هي الأدلة الصحيحة لمن يذعن لها، وهذا هو كلام سلفية أهل الإسلام وأدلتهم وفهمهم، فهنيئا لمن اتبعهم !

والله المستعان على تلفية بني علمان ممن ردَّ كل سنن نبي الإسلام وتعصب، وخالف كلّ السلف في الفهم وتجنب، ثم ادعى زورا أنه على مذهبهم وتخبط،

ولئن لم تكفهم هذه الأدلة فإنا سنزيدهم بأكثر منها بكثير وإلى الله نتقرب:

الدليل الرابع: حديث ابن مسعود في رؤيته اعتمادَ النبي عليه السلام على عصا:

1/ قال ابن سعد (3/157) أخبرنا المعلى بن أسد نا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغداني عن الشعبي عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائما كل عشية خميس، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة، قال:" فنظرت إليه وهو معتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع"، هذا حديث صحيح، رجاله ثقات، وقد توبع المعلى:

2. فقال الطبراني في الأوسط 2/278 حدثنا أحمد بن عمرو نا أبو كامل الجحدري نا عبد العزيز بن المختار عن منصور بن عبد الرحمن نا الشعبي عن علقمة أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائما كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة، فنظرت إليه وهو معتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع"،

فهذا ابن مسعود رضي الله عنه قد أخبر أيضا أنه كان يرى النبيى عليه السلام يعتمد على عصاه في مطلق خطبه .

دليل أو الدليل الخامس: وفيه الاعتماد على العصا في مطلق الخطب:

خرجه عبد الرزاق 5246 من باب اعتماد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العصا: عن بن جريج قلت لعطاء: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إذا خطب على عصا ؟ قال: نعم كان يعتمد عليها اعتمادا"،

تابعه جعفر بن عون،

وقال الشافعي أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني اللَّيْثُ عن عَطَاء أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا خطب يَعْتمد على عَنَزَته"،

وقال الشافعي في الأم (1– 177)  أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج،

وهو حديث مرسل رجاله ثقات، يتقوى بشواهده:

دليل سادس: خرجه عبد الرزاق 5662 عن معمر قال: سمعت بعض أهل المدينة يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب اعتمد على عصاه اعتمادا".

دليل أو الدليل السابع: وفيه الخطبة على القوس في السفر يوم الجمعة، ويدخل في ذلك السفر للحرب:

1. خرجه أبو الشيخ في أخلاق النبي (ر399) من طريق أبي إسحاق الفزاري عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم يوم الجمعة في السفر متوكئا على قوس قائما"، فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف وقد تابعه أبو شيبة:

2. خرج الطبراني في الكبير 12098 من طريقين عن أبي شيبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم في السفر متوكئا على قوس"، 

3. وكذلك ورواه عبد الرزاق عن بن جريج: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه في سفر وخطبهم متوكئا على قوس"،

ولفظ :" كان .." يفيد الاستمرارية على اتخاذ العصا:   

الدليل الثامن: وفيه استحباب التوكإ على العصا:

قال أبو داود في سننه (1169): حدثنا ابن أبي خلف نا محمد بن عبيد نا مسعر عن يزيد الفقير عن جابر رضي الله عنه قال:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُواكي، فقال: اللهم اسقنا غيثا مغيثاً مُغيثا مَريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل"،

قال الخطابي: قوله "يواكي" معناه التحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في الدعاء، ومن هذا التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها"، والحديث شامل للوجهين، وورد في بعض النسخ:" أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواكي"، وهن النسوة البواكي ولا وجه لها والله أعلم .

الدليل التاسع: وفيه استحباب التخصر، وهو التوكأ على المِخصرة وهي العصا في مطلق الخطب:   

خرجه البغوي وتمام في الفوائد 650 قال: أخبرنا أبو الميمون بن راشد ثنا أبو عمران موسى بن محمد بن أبي عوف ثنا عمرو بن خالد ثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وبيده مخصرة

تابعه أحمد بن ابراهيم بن ملكان عن عمرو بن خالد،

ورواه قتيبة عن ابن لهيعة، وهو ممن ينتقي من حديثه فصار الحديث حسنا:

قال ابن سعد (1/377) أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وقتيبة بن سعيد قالا أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بمخصرة في يده"، ولفظ "كان" يفيد الاستمرارية لغةً، ولفظ الخطبة يشتمل على خطبة الجمعة وغيرها.

ولذلك بوَّب عليه البغوي في شرح السنة:"باب التسليم إذا صعد المنبر والاعتماد على العصا"، وهو نص منه على استعمال العصا في المنبر، وكذلك اتخذها ابن الزبير راوي هذا الحديث كما سيأتي وقد كان رضي الله عنه من صغار الصحابة الذين رأوا النبي عليه السلام وعقِلوه وهو يتخصّر، يتخذ العصا في آخر حياته. 

وسيأتي ما خرجه البخاري عن علي قال:" كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ...".

دليل عاشر: وفيه استحباب خبط العصا والطعن بها والنكتِ أحيانا:

قال العقيلي في ترجمة إسماعيل بن سليمان الرازي أخو إسحاق الغالب على حديث الوهم من حديثه ما حدثناه جعفر بن أحمد بن نعيم قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا إسماعيل بن سليمان قال حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن عبد الله بن عمرو أن النبي عليه السلام كان يطعن في البيت بمخصرته ويقول ها إن هذا البيت مسؤول عن أعمالكم يوم القيامة فانظروا ماذا يخبر عنكم ".

الدليل 11/ حمل العصا في مطلق الخطب:

قال أحمد (1/458) ثنا يَعْقُوب ثنا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَال ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَال:" بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا قُرَشِيٌّ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ صَفْحَةَ وُجُوهِ رِجَالٍ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ وُجُوهِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَذَكَرُوا النِّسَاءَ فَتَحَدَّثُوا فِيهِنَّ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ حَتَّى أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْكُت،

قَال: ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ إِلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ لِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِد"، رجاله ثقات وله متابعة أخرى:

فقال أبو يعلى 5024 حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب مثله، كذا رواه ابن شهاب منقطعا،

وخالفه ابن القاسم: فقال شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبيد اللّه بن القاسم أو القاسم بن عبيد اللّه عن أبي مسعود قال:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته، ولن يزال فيكم حتى تحدثوا أعمالا، فإذا فعلتم ذلك بعث اللّه عليكم أشر خلقه فيلحيكم كما يلتحى القضيب ".

وخالفه حمزة وسفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن القاسم بن الحارث عن عبد الله بن عتبة عن أبي مسعود الأنصاري نحوه.

الدليل 12: وفيه عموم محبة حمل العيدان، لأنها سنة نبي الله موسى وسليمان:  

ذكره ابن الجوزي في الوفا قال: الباب الثامن في ذكر قضيبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك بوّب عليه أبو الشيخ في أخلاق النبي فقال: باب ذكر قضيبه صلى الله عليه وسلم حدثنا أحمد بن عمر نا إسماعيل بن إسحاق عن ابن أبي أويس نا سليمان بن بلال نا محمد بن عجلان عن عياض عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب العراجين، ولا يزال في يده منها شيء، فدخل يوما المسجد وفي يده العرجون، فرأى نخامة في القبلة فحكها بالعرجون "،

ومن هذا الوجه خرجه أبو داود (480) بلفظ:" كَانَ يُحِبُّ الْعَرَاجِينَ وَلَا يَزَالُ فِي يَدِهِ مِنْهَا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ...،

وخرجه أحمد (3/9) عن عِيَاض بْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَرَاجِينَ يُمْسِكُهَا فِي يَدِه.." نحوه،

وهو حديث صحيح، والعرجون هو العود المقوس كالهلال، وقد كان يستعمل في الخطبة وغيرها:

قال ابن الجوزي:"كان له قضيب، وهو اليومَ عندَ الخلفاء"،

ولقد ذكر عامة أهل العلم في كتب الشمائل والسير: أنه عليه السلام كان له قوس يسمى السداد وكان له قضيب شوحط يسمى الممشوق، وكان يعتمد عليه في خطبه،

ثم لما مات حمل الخلفاء تلك العصا وخطبوا بها من بعده، وقد كانت موضوعة في مقصورة المسجد :  

الدليل 12: قال ابن حجر في المطالب: بَابُ اتِّخَاذ الْمِنْبَر: قال أَبو بَكْرٍ في مسنده 99- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَازِمٍ أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَال:" إِنَّ الْعُودَ الَّذِي فِي الْمَقْصُورَة كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ عَلَيْه إِذَا قَام، فَلَمَّا قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِقَ فَطُلِبَ فَوُجِدَ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَتِ الْأَرَضَةُ قَدْ أَخْرَجَتْهُ، فَنُحِتَتْ لَهُ خَشَبَتَانِ وَجُوِّفَتَا، ثُمَّ أُطْبِقَا عَلَيْهِ، ثُمَّ شُعِبَتِ الْخَشَبَتَانِ عَلَيْهِ، فَأَنْتَ إِذَا رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشُّعَبَ فِيه"، في إسناده موسى الزمعي وهو صدوق لين، ولم يُصَرَّحْ في الحديث عن المكان الذي كان يتكئ عليه إذا قام، هل هو المنبر أو المصلى أو غيرهما.

وقد بوب عليه ابن حجر: باب اتخاذ المنبر، وبوب عليه البوصيري باب اتخاذ المنبر وقدره واسم من صنعه وحنين الجذع واتخاذ العصا"، بينما بوب عليه السراج: باب الإمام يتكئ على المشي في الصلاة"،

والحديث أتى بلفظ عام مشترك فيشمتل على الجميع، سواء الإتكاء عليه في الخطبة أو في المصلى،

ولئن كان هذا هو العود نفسُه الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن اسمه كما رُوي عن ابن عباس قال:" كان له قضيب شوحط يسمى المشوق"، قال ابن سعد في الطبقات 1/250: وكان عليه السلام يتوكأ على عصاً يخطب عليها يوم الجمعة وكانت من شوحط"،

وقد تواترت الأحاديث في أنه استعملها الخلفاء الراشدون من بعد النبي عليه السلام في خطبهم حتى كسرها الجهجاه اللعين ثم ضببها الصحابة وأصلحوها وخطبوا بها،  كما سيأتي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الثالث: ذكر التخصر في الخُطب عن النبي عليه السلام، وحمل عصاه للخلفاء من بعده:

الدليل 13: وفيه وما بعده استعمال الخلفاء والصحابة للعصا: وهو حديث متواتر:

قال الإمام البخاري في الصحيح: باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك"،

قال ابن حجر في الفتح: وكان قضيبه صلى الله عليه وسلم من شوحط وكانت عند الخلفاء بعده حتى كسرها جهجاه الغفاري في زمن عثمان"،

وقال ابن كثير في البداية (7/196) :"واستمر عثمان يصلي بالناس... فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر وفي يده العصا التي كان يعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه وأنزله عن المنبر "، وفي هذا أدلة متواترة، فدع عنك تبديعات الفرق المتهالكة:

13/ قال الواقدي: حدثني أسامة ابن زيد عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر فقال له جهجاه: قم يا نعثل، فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شطيَّة منها فيها؛ فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأُمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة.."،

هذا حديث حسن، الواقدي اتهمه الأكثرون، ووثقه آخرون، وقد أفردته بترجمة وخلاصة القول فيه أنه صدوق ما لم يخالف ويتفرد، حجة في المغازي والسير والأحداث كهذا الحديث، كيف وقد تابعه الزهري وجماعة أخرى كما سيأتي.  

وقد خرجتُ الحديثَ بطرقه المتواترة في كتاب " اللمعة في استحباب التحلق يوم الجمعة"، وبينت هنالك أن الجهجاه خارجي وليس بصحابي، وأن سائر الأحاديث تُبين أن الصحابة قد ذبُّوا عن عثمان، لا أنّهم حرضوا عليه، تنزه الصحابة عن ذلك.

ولئن أصروا بغير دليلٍ على أن جهجاها المُحرض على قتل عثمان صحابيٌّ، فليعلموا أن هذا هو عين الضلال والطعن في الصحابة، إذ كيف ينسبون إليهم شيئا بريئون منه، ووالله إنه لمكذوب عليهم،

وليس في خبره أنه أنكر العصا أصلا، بل إنما أنكر إمامة عثمان رضي الله عنه، وخرج عليه وحرض على قتله، ثم كسر العصا عليه، وهو يخطب بها،

ثم ألا يتق الله التبديعيون كيف يقذفون صحابيا بكسر عصا رسول الإسلام، وعلى الخليفة عثمان ..!

وقد بينت الروايات إنكار الصحابة لذلك :" أن الناس صاحوا به"، وأنكروا فعلته،

لكن سبحان الله وحده على شدة عمى أهل الضلال، والله هو الهادي إلى طريق الحق والهدى، وكاشف سحب الضلال والعمى .

وقد رُممت هذه العصا وخطب بها جميع الخلفاء الراشدين، ولما صار الأمر إلى معاوية أراد نقلها إلى الشام ليخطب بها فكسفت الشمس، ومنعته الصحابة من نقلها خارج المدينة، فتركها لأهلها، فبقيت طيلة زمن الصحابة رضي الله عنهم يستعملها جعيع الخطباء إلى زمن عمر بن عبد العزيز فما بعده، كما سيتبين :

دليل أو الدليل 14: وفيه خطبة الخليفة الراشد عمر بعصا النبي عليه السلام:

قَال ابن سعد (5/361 نا محمد بن عمر حَدثنا عَبْد الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ العَزِيْز عَن عَمْرو بنِ مُهَاجِر: رَأَيْتَ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ يَخْطُبُ الأُوْلَى جَالِسا وَبِيَدِهِ عَصَا قَدْ عَرَضَهَا عَلَى فَخِذِهِ، يَزْعُمُوْنَ أَنَّهَا عصَا رَسُوْلِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، سَكَت ثُمَّ قَام فَخَطَبَ الثَّانِيَة مُتَوَكِّئاً عَلَيْهَا، فَإِذَا مَل لَمْ يَتَوَكَأْ، وَحَمَلَهَا حَمْلاً، فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَة وَضَعَهَا إِلَى جَنْبِه"،

قال محمد: أخبرنا ثور بن يزيد عن عمرو بن المهاجر نحوه، وذكره الذهبي في السير 5/135،

وسيأتي طرقٌ أخرى لهذا الأثر، وكل هذه الأدلة وما بعدها تفيد الاستمرارية على حمل العصا والإجماع على مشروعيتها كما سيتبن :

الدليل الواحد 15: خطبة الخلفاء لعصا النبي عليه السلام:

خرجه أبو داود في المراسيل (ر55 ) حدثنا ابن السرح وسليمان بن داود نا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال:" بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر، ثمّ كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يفعلون ذلك

وكذلك رواه سحنون عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب نحوه،

وهذا حديث مرسل رجاله ثقات وله شواهد أخرى ـ منها ما مضى وسيأتي ـ

وبها يصير الحديث صحيحا صريحا في اتخاذ العصا، ومرسل ابن شهاب عن الخلفاء مقبول بدليل ما قاله عراك بن مالك:" أعلمهم جميعا عندي بقضايا أبي بكر وعمر وعثمانَ محمد بنُ شهاب"، كيف وقد تكاثرت بل وتواترت شواهد هذا الحديثِ، وكلها نصوص صريحة في استمراريةِ اتخاذ العصا على المنبر منذ وإلى ما بعد وفاته عليه السلام، وكلها تؤكد صِحة الإجماع الذي نقله ابن العربي والقرطبي وغيرهما، لأنه بيقينٍ يدري كل ذي عقل سليمٍ، أن الصحابة جميعا كانوا يجتمعون في المسجد الجامع لأداء صلاة الجمعة خلف الإمام ، فإذ قد حضروا الصلاة جميعا وراء الخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الناس بالسنة، ورأوهم يتحاملون على العصا لم يُنكر ذلك أحد منهم، فكان ذلك دليلا قاطعا وبرهانا ساطعا على صحة الإجماع ، لا يخفى ذلك إلا على متعصبٍ ، أعمى الله بصيرته فليس يمكن أن يرى الحق أبدا:

وقد بان لنا من خلال هذه الأحاديث أن هذه العصا التي خطب بها النبي عليه السلام صارت إلى أبي بكر ثم إلى عمر فعثمان، إلى أن كسرها جهجاه الخارجي، ثم أُصلحت وصارت إلى عليٍّ فمن بعده من الخلفاء.

الدليل 16/ إصلاح وتضبيب الصحابة لعصا النبي عليه السلام واستمرارية الخطبة بها:

 كما روى الواقدي حدثني أسامة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فذكر قصة جهجاه وكسره للعصا، وفيه: فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة ".

دليل أو الدليل 17: خطبة عمر بن الخطاب بنلك العصا:

ذكره في المجموع شرح المهذب (18/1//0) وابن قدامة في الشرح الكبير (11/190) قالا: وروى محمد بن كعب أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو على المنبر وفي يده عصا: يأ أيها الناس لا يمنعكم اليمين عن أخذ حقوقكم فو الذي نفسي بيده أن في يدي عصا".

الدليل 18: خرجه الحاكم (2/559) عن صالح عن ابن شهاب وحميد عن أنس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: { فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا } قال : فكل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم نقض عصا كانت في يده ؟ فقال: هذا لَعَمْر الله التكلف اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب "،

صححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين .

رواه عليّ بنُ المديني حدثنا الوليد بنُ مسلم ثنا الأوزاعيّ ثنا الزهريُّ قال: حدثني أنس بنُ مالكٍ نحوه،

ثم صارت العصا لعثمان، فكان يحملها في المشي والخُطب حتى قتل رضي الله عنه:

الدليل 19: في خطبة عثمان بعصا نبي الإسلام:

رواه أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد الرَّمْلِيّ ثنا يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِي ثنا الْأَعْمَش [ثنا] عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْب قال:" كان عمار قد ولع بقريش وولعت به فغدوا عليه فضربوه، فخرج عثمان بعصا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس مالي ولقريش وقد عدوا على رجل فضربوه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية"،

قال الهيثمي (7/486): رواه أبو يعلى والطبراني في الثلاثة باختصار القصة، وفيه أحمد بن بديل الرملي وثقه النسائي وغيره وفيه ضعف"، وقد توبع على ذكر العصا:

الدليل العشرون: في خطبة عثمان بعصا نبي الإسلام يوم الجمعة:

له طرق كثيرة عن موسى بن طلحة:

1. قال ابن سعد (3/59) نا محمد بن عمر نا إسحاق بن يحيى عن عمه موسى بن طلحة قال:" رأيت عثمان يخرج يوم الجمعة وعليه ثوبان أصفران فيجلس على المنبر فيؤذن المؤذن وهو يتحدث يسأل عن أسعارهم وقدامهم وعن مرضاهم, ثم إذا سكت المؤذن قام يتوكأ على عصا عقفاء، فيخطب وفي يده عصا ثم يجلس جلسة, فيبتدئ كلام الناس فيسألهم كالمسألة الأولى", الواقدي فيه كلام وهو حجة في السير وقد توبع فصح الحديث:

2. فقال الطبراني في الكبير (93 حدثنا المقدام بن داود ثنا خالد بن نزار ثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة قال: كان عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة يتوكأ على عصا، وكان أجمل الناس وعليه ثوبان أصفران إزار ورداء حتى يأتي المنبر فيجلس عليه"،

خالد بن نزار صدوق، وقد كان هذا الاتكاء على العصا في الطريق وفوق المنبر:

3. قال ابن شبة في تاريخه (3/961) نا أحمد بن عيسى نا ابن وهب نا إسحاق بن يحيى عن موسى بن طلحة قال:" كان عثمان يتوكأ على عصا عقفاء حتى يأتي المنبر يوم الجمعة فيجلس عليه، وحوله المهاجرون والأنصار، فيحدثهم ويحدثونه, ويسألهم عن السعر وعما كان من الخبر, والمؤذنون يؤذنون فإذا سكت المؤذنون قام فخطب وسكتوا، فإذا جلس بين الخطبتين أقبلوا عليه يحدثونه, فيذهبوا عنه برحاء الخطبة وحتى كأنما يرون ذلك عليهم حقا وواجبا ثم يقوم فيخطب..",

4. وقال ابن شبة أيضا: نا مصعب بن عبد الله بن مصعب نا أبي عن عن إسحاق بن يحيى عن موسى بن طلحة قال: "رأيت عثمان خرج يوم الجمعة وعليه ثوبان ممصران وفي يده عصا في رأسها انحناء, فصعد المنبر، وأخذ المؤذنون يؤذنون, والناس يتحدثون, ثم قام فخطب, ثم جلس, ثم قام فخطب",

مدار هذه الأحاديث على إسحاق وهو ضعيف، وقد توبع كما مضت الأحاديث في حمل عثمان للعصا أثناء الخطبة، إلى أن قتله البغاة وكسروا عليه العصا:

الدليل الحادي والعشرون: وفيه عقوبة الجهجاه الذي كسر عصا النبي عليه السلام، وبيان من سلف التبديعيين الخارجيين:

مر ما قال الواقدي: حدثني أسامة ابن زيد عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر فقال له جهجاه: قم يا نعثل، فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شطيَّة منها فيها؛ فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأُمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة.."، وهو حديث حسن له شواهد:

2/ قال ابن كثير (7/196): قال الطبري ـ في تاريخه 2/662ـ : حدثني أحمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع أنّ جهجاهاً الغفاري أخذ عصاً كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة"،

هذا حديث مرسل مشهور صحيح كل رجاله ثقات،

وقد ذكر جمع من أهل العلم كالبلاذري وابن عبد البر بصيغة التمريض أن جهجاها هذا صحابي شهد بيعة الرضوان، وتبعه على ذلك ابن حجر وهو خطأ بَين من وجوه، يجب التنبيه عليه حتى لا يُتهم الصحابة بقتل عثمان :

أحدها أن الله تعالى قد أعاذ جميع الصحابة رضي الله عنهم من المشاركة أو التحريض على قتل عثمان رضي الله عنه، وكلام السلف مشهور وكثير في هذا الباب.

والأمر الثاني: إجماع السلف على أن الركب الذين توجهوا لقتل عثمان ليس فيهم صحابي واحد.

والأمر الثالث: بما أن هذه المسألة خطيرة جدا تتعلق إما بتبرئة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من التحريض على الشر والفتنة، أو قذفهم بها من غير تثبت، لذلك يجب التثبت فيها أكثر حتى لا يُطعن فيمن سبقت لهم من الله الحسنى والرضوان.

والأمر الرابع: أنه من المتقرر في علم المصطلح أن الصحابي من ثبت صحيحا أنه لقي النبي عليه السلام مؤمنا به، وقد اختلف السلف في عدد الشهود على إثبات صحبة الرجل ، أصحها أنه تكفي شهادة صحابي واحد ولو على نفسه إذا روى ذلك تلميذه العدل عنه وشهد له به، وبناءا عليه فقد نظرنا في دعوى من ادعى أن الجهجاه صحابي فوجدناها دعوى بينة الخطأ، ليس ينطبق عليه شئ من شروط الصحبة، فقد بحثنا عنه فلم نجدْ له ذكرا أصلا، لكن وجدنا شبيها لهذه التسمية في خبرين أحدهما مرسل، والآخر باطل لم يصح:

أما المرسل فرواه محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حبان قال: كلّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا:" بلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن بني المصطلق يجمعون له..، وفيه:" وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجَاه بن سعيد يقود له فرسه، فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيُّ على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين.."،

وهذا الحديثُ على ضعفه ليس فيه أي دليل على أن هذا الجهجاه، هو نفُسه الذي حرض على قتل عثمان.

وأما الحديث الثاني فقد تفرد به مُوسَى بْنِ عُبَيْدَة وهو ضعيف ثنِي عُبَيْد بن سلمان الأَغَر عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار عَنْ جَهْجَاهٍ الْغِفَارِي وكان رجلا عظيما طويلا، ـ وذكر قصة إسلامه وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم واستضافته له وشربه سبع حلاب، فلما أسلم شرب حلاب شاة واحدة، فقال له :" الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِد"، كذا قال موسى عن عطاء بن يسار وهو باطل شبه الموضوع، فيه علل كثيرة:

أولاها تفرد موسى الربذي بهذا الطريق، وهو ضعيف جدا، حتى قال أحمد: لا يكتب حديثه،

والعلة الثانية: أنه اضطرب، فقال مرة عن عبيد بن سلمان وقال أخرى عن عبيد الله بن سلمان، وعبيد الأول مختلف في توثيقه، والعلة الثالثة: أن عطاء بن يسار لا تُعرف له روايةٌ ولا سماعٌ من الجهجاه،

والعلة الرابعة هي النكارة والمخالفة: فقد اختلف في اسم صاحب هذه القصة فقيل أبو بصرة أو أبو نضرة الغفاريان، وقيل هو سكين النضري أو رجل جهني وهذان الأصح، لأن هذا الحديث ليس فيه للجهجاه أصلٌ، وإنما هو لسكين الضمري:

فقد رواه فُهَيْرُ بْنُ زِيَاد ومخلد بن يزيد عن ابْن جُرَيْج أُخْبِرْتُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار سَمِعْتُ سِكِّينًا الضَّمْرِي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ "، خرجه عنهم البخاري وابن أبي خيثمة وأبو نعيم، وهذا أصح لأن ابن جريج أوثق،

ولذلك قال البخاري ونقله ابن عبد البر في ترجمة سكين:" ولا يصح جهجاه الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم"،

ومما يؤكد أن الحديث لسكين الضمري لا للجهجاه، ما خرجه الطحاوي في مشكله 5/254 بإسناد صحيح قال: ثنا يُونُس نا ابْن وَهْب أَنّ مَالِكا أَخْبَرَه عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيه عَن أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَافَهُ ضَيْفٌ كَافِر, فَأَمَر له بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا, ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَشَرِبَهُ, ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَشَرِبَهُ, ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَشَرِبَهُ, حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ , ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَم, فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا , ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِد, وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ "،

وقد رواه صَفْوَانَ بْنِ هُبَيْرَة عَنِ ابْنِ جُرَيْج عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيه عَنْ سُكَيْنٍ الضَّمْرِي مثل متنه، وهو الأصح، على أن سكينا من بني ضمرة، وغفار أيضا من بني ضمرة لأن غفار هو ابن مليل بن ضمرة،   

والعلة الخامسة أن حديثَ موسى الربذي الضعيف عن عطاء بن يسار عن الجهجاه الغفاري، قد رواه نفسُه عمرو بن يحيى الثقة عن سعيد بن يسار فقال فيه: عن رجل من جهينة مبهم، وأظنه هو سكين الضمري نفسه، لأن بطونهم متقاربة متداخلة فقد ذكر الزبيدي في تاج العروس مادة: بدر أنه اسم لمكان قيل أنه لبئر حفره رجل من غفار وسكنها قومه، وقيل: بل موضع سكنه رجلٌ مِن بَنِي ضَمْرَةَ فنُسِبَ إليه، وقال الشَّعْبِي: كانت بَدْرٌ بِئْراً لرجل من جُهَيْنةَ فسُمِّيت به"، ولا مانع من سكنها من طرف البطون الثلاثة ثم صارت بلدة واحدة، وعليه قد يكون الرجل الجهني هو نفسه سكين الضمري حتى تتوافق الأحاديث والله أعلم،

خرج رواية الجهني أبو يعلى وابن أبي عاصم في الآحاد من ترجمة جندب الجهني قالا: حدثنا إبراهيم بن حجاج السامي حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن سعيد بن يسار قال: رأيت رجلا من جهينة لم أر رجلا قط أعظم منه ولا أطول منه فقال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في أزمة أو لزبة أصابت الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توزعوهم، فكان الرجل يأخذ بيد الرجلين، وكان القوم يتحاموني لما يرى من عظمي وطولي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وذهب بي إلى منزله فحلب لي شاة فشربت لبنها حتى حلب لي ثم حلب لي أخرى فشربت لبنها ثم حلب لي أخرى فشربت لبنها حتى حلب لي سبعا قال: فذهبت، فلما كان من الغد أسلمت ثم جئت ثم حلب لي شاة واحدة فشبعت ثم رويت فقلت : والله يا رسول الله، ما شبعت قط، ولا رويت قبل اليوم فقال:« المؤمن يشرب في معي والكافر يشرب في سبعة أمعاء"،

وكذلك رواه سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى وهو حديث صحيح كل رجاله أئمة ثقات، والعجب بعد هذا لمن سيترك أحاديث الثقات، ويتبعُ روايةً من الواهيات، ليُثبِت الطعن في الصحابة الذين رضي عنهم رب السماوات.

ولئن كان الحديثُ لغفاريٍّ فإنه لأبي بصرة أو نضلة الغفاريان وليس للجهجاه فيه أصل:

فقد رواه محمد بن معن عن أبيه معن بن نضلة عن [أبي نضلة] نضلة بن عمرو الغفاري رضي الله عنه أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه شوائل له.. والأشبه أنه مرسل،

بينما رواه ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي الهيثم عن أبي بصرة الغفاري في قصة إسلام غفار فذكر نحوه، وابن لهيعة ليِّن وقد اختلف عنه، ويحتمل أن أبا بصرة الغفاري تصحيف صوابه أبو نضلة الغفاري وهو نضلة نفسه الذي سبق والله أعلم، وكلا الطريقين أقوى من حديث موسى الربذي، وإن كان الصحيح أن صاحب القصة هو سكين الضمري والجهني كما تبين والله أعلم.

فدل كل ذلك على وَهْمِ ونكارة رواية موسى الربذي على ضعفه البين، وأن ليس للجهجاه فيه أصل، فقد قال ابن عدي في ترجمة عبيد: قال البخاري: عبيد الأغر القرشي عن عطاء بن يسار لا يصح حديثه، قال ابن عدي: وهذا الذي أشار إليه البخاري إنما هو حديث واحد يروي عنه موسى بن عبيدة"، وذكر في ترجمة موسى أنّ حديثه غير محفوظ وهو بَيِّنُ الضعف، وقال البخاري: ولا يصح جهجاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الأزدي في الضعفاء من ترجمة: جهجاه بن سعيد الغفاري من بني جروة بن غفار:" لا نحفظ أن أحدا روى عنه إلا عطاء بن يسار وحده"، وقال ابن حبان في الثقات: جهجاه بن سعيد الغفاري يقال إن له صحبة ولكن في إسناد خبره رجل ضعيف، يقال له موسى بن عبيدة الربذي"،

فدل ذلك أن جهجاها ليس بصحابي أصلا، وحاشا الصحابة من قتل عثمان. 

وحتى لو ثبت حديث الربذي، فإنه لا يوجد أي دليل على أنه هو نفسه الذي حرض على قتل عثمان، بل هو مغاير له، لأن من أثبت ذلك لم يجزم باسمه فإنه قال: جهجاه الغفاري مدني وهو جهجاه بن مسعود ويقال ابن سعيد بن حرام بن غفار"، فيكونان متغايرين والله أعلم.

وأما قاتل عثمان فهو رجل آخر مجهول قال عنه الفيروز ابادي في القاموس: "وجَهْجاهٌ الغِفارِي ممَّنْ خَرَجَ على عثمان رضي الله تعالى عنه، كَسَرَ عَصَا النبي صلى الله عليه وسلم بِرُكْبَتِه"،

وقد تتبعت طرق حديثه، فلم أجد منها شيئا يدل على صحبته ، إلا ما جاء في المدرجة التالية:  

دليل ثاني وعشرون: في خطبة عثمان بعصا نبي الإسلام:

خرجه ابن شبة في تاريخه (3/1112) عن علي بن محمد عن عبد الله بن مصعب عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج عثمان رضي الله عنه من داره يوم الجمعة...، فناداه بعضهم: أنت السامع العاصي، وقام جهجاه بن سعد الغفاري [– وكان ممن بايع تحت الشجرة -] فقال: هلم إلى ما ندعوك إليه ، قال: «وما هو؟» قال: نحملك على شارف جرباء ونلحقك بجبل الدخان، لست هناك لا أم لك، وتناول جهجاه عصا كانت في يد عثمان رضي الله عنه، وهي عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها على ركبته، ودخل عثمان داره، وصلى بالناس يوم الجمعة سهل بن حنيف، ووقعت في رجل جهجاه الأكلة".

وفي قول أحد الرواة أو الكُتَّاب[ وكان ممن بايع ] إدراج ظاهر، فإنَّ كل الرواة قالوا فيه كما سيتبين:" فقام إليه رجل"، إلا ما ورد في هذه الجملة الاعتراضية ولعلها من بعض النسَّاخ حيث أدرجها من فهمه توهّما، ليُبَيِّنَ من هو الجهجاه على حسب فهمه،

وفي هذا الإسناد  علي وعبد الله بن مصعب وهو ضعيفان، والزيادة مدرجة منكرة لا شك فيها لخلوها من سائر أحاديث الثقات،

وإذ ذلك كذلك فجهجاه هذا هو الخارجي القاتل النعثل الحقير، وليس هو الصحابي الكبير، وهل يفرح أحد لقومٍ سلفهم جهجاه اللعين، الذي عاقبه رب العالمين، بالآكلة لكسره عصا النبي الأمين، على الخليفة الكريم، وقد أنكر عليه صنيعه كل المسلمين :   

دليل  سابع وعشرون: قال البخاري في التاريخ الأوسط (1/79) حدثنا قتيبة ثنا بن فليح بن سليمان عن أبيه عن عمته عن أبيها وعمها أنهما حضرا عثمان قال: فقام إليه جهجاه بن سعيد الغفاري حتى أخذ القضيب من يده قضيب النبي صلى الله عليه وسلم فوضعها على ركبتيه ليكسرها، فشقها فصاح بها الناس، ونزل عثمان حتى دخل داره، ورمى الله الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات"، وهذا إسنادٌ ضعيف ومجهول، لكن له شواهد أخرى، منها:

24/ قال ابن شبة (3/1110 ثنا موسى بن إسماعيل ثنا المهدي بن ميمون ثنا ابن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام قال: بينما عثمان رضي الله عنه يخطب الناس إذ قام إليه رجل فنال منه، فنهاه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال له رجل من أصحابه: لا يمنعك مكان ابن سلام أن تسب نعثلا فإنه من شيعته"، [اقتلوا نعثلا قتله الله]، وهذا حديث صحيح متصل كل رجاله أئمة ثقات.

دليل ثالث وعشرون: وفيه تكسير الجهجاه لعصا نبي الإسلام:

خرجه ابن المبارك وأحمد بن إبراهيم وأبو بكر (7/442) ثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع أنّ [رجلا يقال له] جهجاها الغفاري تناول عصاً كانت في يد عثمان رضي الله عنه فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بآكلة"،

كذا أرسله هؤلاء عن نافع:

وخالفهم محمد بن سعد فوصله بذكر ابن عمر.

تابعه على وصله الإمام مالك وسليمان بن بلال وغيرهما كما سيتبين :

الدليل الرابع والعشرون: وفيه عقاب الله للجهجاه كاسر العصا:

خرجه ابن عساكر (39/330) عن محمد بن سعد قال : أنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: بينما عثمان بن عفان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبته، فدخلت منها شظية في ركبته فوقعت فيه الأكلة"،

هذا حديث صحيح صريح في اتخاذ العصا أثناء خطبة الجمعة، وليس فيه أيضا نسبة جهجاه، وقد توبع ابن سعد على وصله :

. قال ابن حجر في الصحابة من ترجمة جهجاه: ورواه ابن السكن من طريق سليمان بن بلال وعبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر مثله"،

تابعهم على وصله الإمام مالك :

. فقال أبو نعيم في الدلائل (1/581) ثنا محمد بن أحمد بن موسى البابسيري ثنا عبد الله بن أبي داود ثنا هشام بن خالد ثنا الوليد ثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أن جهجاه الغفاري قام إلى عثمان وهو على المنبر يخطب فأخذ العصا من يده وضرب بها ركبته وشق ركبة عثمان وانكسرت العصا فما حال الحول على جهجاه حتى أرسل الله في يده الآكلة فمات منها"،

وهذا حديث حسن صحيح متصل، البابسيري هو أبو بكر الواسطي، روى عنه الحفاظ، وهو الذي حدث بكتاب تاريخ المفضل الغلابي عن الاحوص بن المفضل عن أبيه، كما ذكر السمعاني، وذكر أنه سمع عنه هذا الكتاب، وتوثيقه ضمني لاحتجاج الحفاظ بالكتاب ولأنه من مشايخ الطبراني، ولِما ذكر الحافظ في اللسان من ترجمة الأحوص بن المفضل قال: ذكره الخطيب وأورد له في المؤتلف والمختلف حديثا منكرا ليس في سنده من يتهم به غيره،

قال الخطيب: حدثنا أبو العلاء الواسطي ثنا أبو بكر البابسيري بواسط ثنا أبو أمية الأحوص فذكره، فكأن البقية ومنهم البابسيري ثقات عنده،

ثم وجدت توثيقه الصريح في سؤالات السلفي للحوزي قال: منسوب الى محلة من شرقي واسط حدث عنه علي العجمي وغيره وكان لا بأس به".

ولو كان هو محمد بن محمد بن أحمد أبو جعفر المقرئ فإنه في طبقته وقد قال عنه الخطيب: حدث عن الاحوص بن المفضل الغلابي وحدثنا عنه أبو نعيم وكان ثقة"، والبقية ثقات، ولحديثه متابعات :

. فقال ابن حجر في الصحابة من ترجمة جهجاه:" روى الباوردي من طريق الوليد بن مسلم عن مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر قال: قدم جهجاه الغفاري إلى عثمان وهو على المنبر.. نحوه، وله شواهد :

الدليل 25: في تكسير التبديعي لعصا نبي الإسلام:

خرجه ابن عساكر (39/330) وابن شبة (3/1112) عن حماد بن زيد ثنا يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار:« أن رجلا يقال له جهجاه أو جهجا الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقع في ركبته الآكلة."، رجاله ثقات وله شواهد أخرى:

الدليل 26: خرج ابن شبة 3/1110 عن يوسف بن الماجشون قال أخبرني عقبة بن مسلم المدني: أن آخر خرجة خرجها عثمان يوم جمعة وعليه حلة حبرة مصفرا رأسه ولحيته بورس، قال: فما خلص إلى المنبر حتى ظن أن لن يخلص، فلما استوى على المنبر حصبه الناس، وقام رجل من بني غفار يقال له الجهجاه فقال: والله لنغربنك إلى جبل الدخان".  

وفي الباب شواهد أخرى...  

فها قد تكاثرت الأحاديث في حمل عثمان رضي الله عنه لعصا النبي عليه السلام والخطبة بها، ثم حمل العصا بعدَه علي رضي الله عنه بعد أن ضببوها يوم الفجمعة يوم مقتل عثمان:

دليل أو الدليل 27:

قال البخاري في تاريخه من ترجمة عبد الله بن على بن بعجة قال إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن علي الرافعي سمع عليّ بن عبد الله بن بعجة [بن عبد الله بن بدر]عن أبيه عن جده قال: كأني أنظر إلى على بن أبي طالب رضي الله عنه يوم قتل عثمان رضي الله عنه مقبلا على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم الدلدل عليه ثوبان قطريان متوشح نفسه وفي يده قوسه وعليه عمامة خز فاسه حطب المسجد فخطب على قوسه

قال البخاري عن ابن بعجة: فيه نظر"، لأن علي بن عبد الله لم يوثقه غير ابن حبان، وقد روى عنه اثنان إبراهيم وابن جريج، وعبد الله بن بعجة مجهول، وبعجة بن عبد الله ثقة.

دليل أو الدليل 28: مضى أن معاوية حاول جلب العصا التي كان النبي عليه السلام يخطب عليها في المدينة إلى الشام، حتى منعه الكسوف وبعض الصحابة، فتركها في المدينة وخطب بغيرها، وأقر اتخاذها، كما:

قال يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ 2/290 نا عبد الله بن يوسف نا محمد بن مهاجر عن العباس بن سالم عن مدرك بن عبد الله أو أبي مدرك قال: نزلنا [غزونا] مع معاوية مصر فنزلنا منزلا فقال عبد الله بن عمرو بن العاص لمعاوية يا أمير المؤمنين أتأذن لي أنا أقوم في الناس فأذن له فقام على قوسه [فرسه] فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ..."، الحديث، خرجه عنه ابن عساكر، ومدرك وثقه ابن حبان فقط .

الدليل 29: وصحت الخطبة بالعصا عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في خلافته:  

فقد مضى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بمخصرة في يده "، وطبق ذلك :  

فخرج عبد الرزاق 5659) باب خروج من مضى والخطبة وفي يده عصا عن الثوري عن هشام بن عروة قال: رأيت عبد الله بن الزبير يخطب وفي يده عصا",

وخرجه الخطيب (16/56) عن منجاب أخبرنا على بن مسهر عن هشام قال رأيت عبد الله بن الزبير بمكة يصعد المنبر يوم الجمعة وفي يده عصا فيسلم ثم يجلس على المنبر ويؤذن المؤذنون فإذا فرغوا من أذانهم قام فتوكأ على العصا فخطب فإذا فرع من خطبته جلس من غير ان يتكلم ثم يقوم فيخطب فإذا فرغ من خطبته نزل"،

وأورد نحوه الذهبي في السير (11/52)،

دليل أو الدليل الثلاثون: خطبة عبد الله بن عمر بالمخصرة:

قال الأزرقي في أخبار مكة (2/137) حدثني جدي ثنا إبراهيم بن محمد عن أبان بن أبي عياش عن عبد الرحمن بن سابط أنه سمع عبد الله بن عمر وهو جالس في الحجر يطعن بمخصرته في البيت وهو يقول:« انظروا ما أنتم قائلون غدا إذا سئل هذا عنكم وسئلتم عنه، واذكروا أن عامره لا يتجر فيه بالربا ، ولا يسفك فيه الدماء، ولا يمشي فيه بالنميمة»

الدليل الواحد والثلاثون: ومن المتخصرين جرير رضي الله عنه:

قال أبو بكر باب الْعَصَا يَتَوَكأُ عَلَيْهَا إِذَا خَطَبَ: ثنا وكيع عن سفيان عن واصل عن أبي وائل: أن كعبا رأى جريرا وفي يده قضيب فقال: إنّ هذا لا يصلح إلا لراع أو والي"،

هذا أثر صحيح إن لم يدلسه سفيان، وهو غير صريح في المكان الذي حمل فيه جرير رضي الله عنه العصا أهو المنبر أو غيره، ولئن كان في المنبر فإن فيه استحباب حمل العصا للإمام، لأنّ الذي كان يحمل القضيب هو جرير بن عبد الله رضي الله عنه وهو صحابي وفِعْله سنة، وكعبٌ التابعي لم ينكر اتخاذ العصا أصلا، بل أثبت حملها للإمام، وهو الوالي والراعي آنذاك، ويدخل فيه كل من ينوبه في الإمامة. 

وقد روى كعب نفسه أنه أول من خطب بالعصا هو نبي الله إبراهيم كما مر.

الدليل 32: خطبة ابن مسعود بالعصا:

قال أحمد في المسند 1/394 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزيِدَ وَيُونُسُ قَالَا حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ الْفُرَات عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْأَعْيَنِ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ قَال: بَيْنما ابْن مَسْعُود يَخْطُب ذَات يَوْم فَإِذَا هُوَ بِحَيَّةٍ تَمْشِي عَلَى الْجِدَارِ فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ ثُمَّ ضَرَبَهَا بِقَضِيبِهِ أَوْ بِقَصَبَة حَتَّى قَتَلَهَا ثُمّ قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:" مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلًا مُشْرِكًا قَدْ حَلَّ دَمُه"،

وقال أحمد 1/421 نَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْفُرَات ثنا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْأَعْيَنِ الْعَبْديِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ قَال:" بَيْنَمَا ابْنُ مَسْعُودٍ يَخْطُبُ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ مَرَّ بِحَيَّةٍ تَمْشِي عَلَى الْجِدَارِ فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ ثُمَّ ضَرَبَهَا بِقَضِيبِهِ حَتَّى قَتَلَهَا ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلًا مُشْرِكًا قَدْ حَلَّ دَمُه"،

وقال أبو يعلى:" فقطع خطبته وضربها بعصية"، قال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار بنحوه والطبراني في الكبير مرفوعاً وموقوفا.. وجال البزار رجال الصحيح".

ومرّ حديث الشعبي عن علقمة أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائما كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها يقول قال رسول الله غير مرة واحدة، قال: فنظرت إليه وهو معتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع".

وإذ قد صح اتخاذ العصا عن كل هؤلاء الصحابة والخلفاء الراشدين، وبحضرة جميع المسلمين من الصحابة والتابعين لم ينكر ذلك أحد منهم، فكان ذلك من أصح إجماع في الدنيا والله المستعان على من عمي وغلا وبدّع ما أجمع عليه المسلمون وخرج عنهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الخامس: ذكر أدلةٍ فيها الاعتماد على العصا في خطبتي العيد وخطب أخرى متفرقة: وإن لم تكن هذه الأدلة في خطبة الجمعة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لذلك استدل السلف بأحاديث فيها حمل العصا في مواطن مُعينة وعمّموها على كل خطبة كما سيتبين من تبويباتهم وأقوالهم:

الدليل الأول: وفيه استحباب الطعن أو الخبط بالعصا أحيانا على المنبر: 

خرجه مسلم في الصحيح 2942 عن فاطمة وفيه :" ... فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي، منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر، وهو يضحك، فقال: «ليلزم كل إنسان مصلاه»... ثم ذكر الخطبة وقصة تميم والدجال ... قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر: «هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة ..."، وذكر الحديث،  وتميم متأخر الإسلام، أسلم سنة تسع، مما يدل أن الحديث كان متأخرا بعد سنة تسع والحمد لله قاهر التبديعيين .

الدليل الثاني: أنه عليه السلام كان يحمل العصا أثناء خطبة فتح مكة،

وذلك في آخر حياته: كما قال أبو الوليد الأزرقي في أخبار مكة (1/120): باب ما جاء في أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها حدثني جدي ـ عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد ـ حدثنا سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج أخبرني ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن علي بن عبد الله بن عباس قال: لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وإن بها ثلاثمائة وستين صنما، قد شدها إبليس بالرصاص، وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، فكان يقوم عليها، ويقول:« جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» ثم يشير إليها بقضيبه، فتتساقط على ظهورها"،

ورواه وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن علي بن عبد الله بن العباس عن بن عباس متصلا، خرجه عنه الطبراني في الصغير2/272،

وله شواهد أخرى، فقال قال أبو عوانة في صحيحه من باب صفة فتح مكة: حدثنا عبد السلام بن أبي فروة النصيبي وأحمد بن الحسن بن الهيثم قالا: ثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بقضيب معه ويقول:« جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا»، قال: حثنا الصغاني قثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا ابن أبي نجيح بإسناده مثله، وقال: فجعل يطعنها بعود في يده"،

الدليل الثالث: وفيه الاعتماد على العصا في خطبتي العيد، والعبرة بعموم اللفظ والاعتماد في الخطب كما فهم السلف وبوَّبوا،

فقال أبو بكر: باب العصا يتوكأ عليها إذا خطب، وقال عبد الرزاق 5658 باب خروج من مضى والخطبة وفي يده عصا: عن ابن عيينة عن أبي جناب سمعت يزيد بن البراء بن عازب يحدث عن أبيه قال:" لما كان يوم الأضحى أتى النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فنُوول قوسا فخطب عليها"،

ومن طريقه خرجه أبو داود (1145) وبَوَّب عليه: باب يخطب على قوس"، وبوّب عليه البيهقي:" باب الخطبة على العصا"، وقال الشوكاني في النيل (3/319) وعبيد الله في مرعاة المفاتيح (5/58):" وفي الحديث مشروعية الاعتماد على قوس أو عصا حال الخطبة ".

قال ابن حجر في التلخيص:"وصححه بن السكن"، وحسنه الألباني.

الدليل الرابع: الاتكاء على العصا في خطبة العيد:

قال أحمد (3/314) ثنا أبو معاوية ثنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة قبل الخطبة في العيدين بغير أذان ولا إقامة قال ثم خطب الرجال وهو متوكئ على قوس، قال: ثم أتى النساء فخطبهن وحثهن على الصدقة قال فجعلن يطرحن القرطة والخواتيم والحلي إلى بلال قال ولم يصل قبل الصلاة ولا بعدها"، وهذا حديث صحيح رجاله أئمة ثقات، لا معنى لكلام من طعن في عبد الملك.

دليل أو الدليل الخامس: قال الحاكم (3/703) حدثنا أبو بكر بن إسحاق الإمام، وعلي بن حمشاذ العدل، قالا: ثنا بشر بن موسى الأسدي ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ثنا عبد الرحمن بن عمار بن سعد القرظ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثني أبي عن جدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمر بلالا أن يدخل إصبعه في أذنه وقال: إنه أرفع لصوتك «، وإن أذان بلال كان مثنى مثنى، وإقامته مفردة، وقد قامت الصلاة مرة مرة، وإنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الفيء مثل الشراك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيدين سلك على دار سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ثم على أصحاب الفساطيط، ثم يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم كبر في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة، ثم خطب الناس، ثم انصرف من الطريق الآخر من طريق بني زريق فذبح أضحية عند طرف الرقاق بيده بشفرة، ثم خرج إلى دار عمار بن ياسر ودار أبي هريرة بالبلاط، وكان يخرج إلى العيدين ماشيا ويرجع ماشيا، وكان يكبر بين أضعاف الخطبة ويكثر التكبير في الخطبة ويخطب على عصا"،

الدليل السادس: وفيه حمل على العصا عند قراءة القرآن والوعظ، والعبرة بالعموم كما بوب عليه ابن خزيمة فقال: باب استحباب الاعتماد في الخطبة على القسي أو العصا استنانا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخرجه هو والطبراني في الكبير 4127 وغيرهما من طرق عن مروان بن معاوية ح وقال الدوري 120 حدثنا يحيى حدثنا مروان بن معاوية حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبى جبل عن أبيه أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على قوس [أو عصا] في مشرق ثقيف وهو يقرأ والسماء والطارق حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام قال فدعتنى ثقيف وقالت ماذا سمعت من هذا الرجل قال فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم حق ما يقول لاتبعناه"،

قال الهيثمي: عبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد وبقية رجاله ثقات"، وقد توبع مروان:

فقال ابن أبي عاصم في الآحاد: 1274 حدثنا الحسن بن علي ثنا أبو عاصم عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل أو جبلة عن أبيه ـ شك أبو عاصم ـ قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرفة ثقيف وهو متكي على قوس فقرأ والسماء والطارق فحفظتها منه في الجاهلية"، وقد صححه ابن خزيمة واستدل به على عموم استعمال العصا.

الدليل السابع:

خرجه البخاري 4665 ومسلم 2647 عن علي قال:" كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة..."، الحديث ، وفيه استحباب حمل المخصرة وحملها حتى في المواعظ والجلوس فيها ، وكذلك في الخطب القائمة كما مر في استحباب التخصر.   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث السادس: ذكر أدلة باطلة أو موضوعة:

وإنما ذكرتها لتبيين أمرها، وحتى يعلم المخالفون أن ليس لهم على تبديعاتهم أي دليل لا صحيح ولا ضعيف بل ولا حتى موضوع ولا من قول صاحب ولا تابع ولا أحد من السلف طيلة أزمنة عديدة ودهور مديدة، إلى أن جاء هذا الزمن والله المستعان:

حديث أول: خرجه ابن عدي في ترجمة أبي البختري وهب الوضاع عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن جده عن علي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة يوم الجمعة وكان إذا ركب المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فسلم عليهم وكان يحمل المخصرة ويتوكأ على المنبر"،

قال: هذا يرويه أبو البخترى عن الحسين بن عبد الله والحسين قريب من أبي البخترى في الضعف ويحتمل البلاء منه".

حديث ثان: قال الطبراني في الكبير 354 حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا محمد بن سعيد الاصبهاني ثنا عقبة بن خالد عن موسى بن ابراهيم ثنا أبي عن السلولي عن معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم عليه السلام"،

وخرجه أبو يعلى الموصلي نا أبو سعيد الأشج نا عقبة نا موسى بن إبراهيم التيمي به، ورواه يزداد بن عبد الرحمن الكاتب نا أبو سعيد عبد الله بن سعيد نا عقبة بن خالد حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه عن السلولي مثله. قَالَ أَبو حاتم: مُنْكَر كَأَنَّه مَوْضُوع وَمُوسَى ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا وَأَبُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِي لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ وَلا مِنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَرَوَى عَنْ أَنَسٍ حَدِيثًا وَاحِدًا"،

وقال الهيثمى (2/181) رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو ضعيف جداً، وقد رواه عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيم عَنْ مُعَاوِيَة بْنِ عَبْدِ الله عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّد عن كَعْب الْأَحْبَار قال:" أول من اتخذ المنبر والعصا إبراهيم"،

حديث ثالث: رواه عثمان بن عبد الرحمن عن المعلى بن هلال عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال:" التوكؤ على عصا من أخلاق الأنبياء، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عصا يتوكأ عليها ، ويأمرنا بالتوكي على العصا". المعلى وضاع، قال القاري: كلام صحيح ليس له أصل صحيح، وفي الباب غير ذلك لا معنى لذكرها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

المبحث السابع: ذكر ما جاء في حمل العصا عن التابعين: وهم القرن الثاني من القرون المفضلة:

منهم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: وذلك بحضرة جميع الناس من صحابة وتابعين، 

فقال ابن سعد 5/361 أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن عمرو بن المهاجر قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب يوم الجمعة خطبتين ويجلس ويسكت فيهما سكتة، يخطبنا الأولى جالسا وبيده عصا قد عرضها على فخذيه، يزعمون أنها عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خطبته الأولى وسكت سكتة قام فخطب الثانية متوكئا عليها، فإذا مل لم يتوكأ وحملها حملا، فإذا دخل في الصلاة وضعها إلى جنبه"،

قال: أخبرنا محمد بن عمر نا ثور بن يزيد عن عمرو بن المهاجر أنه رأى عمر بن عبد العزيز إذا سلم يوم الجمعة حمل العصا إلى منزله ولا يتوكأ عليها، وإذا خرج بها من منزله حملها، فإذا خطب اعتمد عليها، فإذا قضى خطبته ودخل في الصلاة وضعها إلى جنبه"، الواقدي حجة في أحاديث السير وقد توبع:

قال أبو بكر 5220 حدثنا وكيع عن طلحة بن يحيى قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب وبيده قضيب"،

وقال حدثنا وكيع عن طلحة بن يحيى قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ وهو على المنبر: {أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} [الزمر: 54] وفي يده عصا ".

وهي عصا النبي عليه السلام التي كسرها سلف سلفية بني علمان وهو الجهجاه ثم ضببها الصحابة وأصلحوها:

قال أبو نعيم حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا أحمد بن الحسين ثنا أحمد بن إبراهيم ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حزم حدثني رجل يقال له زيد أنه سمع عمر بن عبد العزيز يوم عيد وجاء راكباً فنزل ونزل من معه... فصعد المنبر فأتى بعصا مضببة بفضة عرضها بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تلا آيات من كتاب الله، ثم قال: أيها الناس ...ثم كان آخر كلمة تكلم بها حين نزل: لولا سنة أحييها أو بدعة أميتها لم أبال أن لا أبقى في الدنيا فواقا"،

فهل عند كل السلف أن الخليفة عمر ممن كان يحي السنن، أفكان عند هؤلاء أنه مميتها ومحيي البدع، وقد أقره جميع الصحابة والتابعين على حمل العصا، أفاكتشف هؤلاء أن السلف كلهم كانوا على بدعة، وهم على سنة.. ؟؟؟

2/ وقال الدينوري في جواهر العلم 5/270 ثنا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الله نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَة عَن إبْرَاهِيمَ بْن الْفَضْلِ بن سلمان مَوْلَى هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِي قَال: بَيْنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَة إِذ سَقَطَت عَصًا كَانَتْ مَعَهُ مِنْ يَدِه، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَرِهَهُ ، فَتَنَاوَلَهَا الْفَضْلُ بْنُ سَلْمَانَ وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ ؛ فَمَسَحَهَا وَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا..."،

3/ وقال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة الشيخ أبي عمر المقدسي (3/109):" ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق والجماعة في خيمة، فجاء العادل إلى زيارته وهو في الصلاة، فما قطعها ولا التفت إليه ولا ترك ورده، وكان يصعد المنبر في الجبل، وعليه ثوب خام مهدول الجيب، وفي يده عصا والمنبر يومئذ ثلاث مراق، وكان يجاهد في سبيل الله، ويحضر الغزوات مع صلاح الدين".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثامن : ذكر ما جاء من ذلك عن العلماء وسائر مذاهب أهل السنة:

مرَّ عن الإمام ابن العربي والقرطبي والنووي وابن رجب وغيرهم ممن نقل الإجماع على استحباب حمل العصا في خطبة الجمعة، لفعل الصحابة ذلك أمام الملإ بدون مخالف، ولتأكيد صحة هذا الإجماع أحببت أن أنقل بعض الأقوال عن سائر مذاهب أهل السنة :

ذكر مذهب أهل الحديث: لقد مرت تبويباتهم جميعا أثناء هذا البحث وكلهم بوبوا على مشروعية الاعتماد على العصا في خطبة الجمعة، والحمد لله .

ذكر مذهب المالكية ومن سبقهم من تابعي أهل المدينة: خرج سحنون في المدونة 1/232 عن ابن وهب.. عن ابن شهاب قال:.. وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك"، قال ابن وهب وقال مالك: وذلك مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصي يتوكؤون عليها في قيامهم وهو الذي رأينا وسمعنا"،

وقال خلف في تهذيب المدونة: ويستحب للإمام أن يتوكأ على عصا غير عود المنبر إذا خطب."،

وقال المواق في التاج:" مِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِك: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا غَيْرِ عَمُودِ الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ وَيُقَال: إنَّ فِيهَا شَغْلًا عَنْ مَسِّ اللِّحْيَةِ وَالْعَبَثِ بِالْيَد"،

وقال ابْن حَبِيب: وَالْقَوْسُ كَالْعَصَا وَسَوَاءٌ خَطَبَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَمْ إلَى جَانِبِه"،

وقال الخرشي في شرح مختصر خليل: وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَكَّأَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى عَصا أَوْ قَوْسٍ غَيْرَ عُودِ الْمِنْبَرِ وَلَوْ خَطَبَ بِالْأَرْض، وَيَكُونُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ "،

ذكر مذهب الشافعية: قال الشافعي في الأم: وإن أذن المؤذن قبل ظهور الإمام على المنبر ثم ظهر الامام على المنبر فتكلم بالخطبة الاولى ثم جلس ثم قام فخطب أخرى أجزأه ذلك.. قال: ويعتمد الذي يخطب على عصا أو قوس أو ما أشبههما لأنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عصا"، ثم ذكر بعض الأحاديث التي مرت، وقال في المجموع: وسننها أن يكون علي منبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر، ولأنه أبلغ في الاعلام ومن سنها إذا صعد المنبر.. قال: ويستحب أن يعتمد علي قوس أو عصى لما روى الحكم بن حزن رضي الله عنه"،

وقال ابن حجر الهيثمي: وَأَنْ يَعْتَمِد فِي حَالِ خُطْبَتِه عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصا وَنَحْوِه كَالْقَوْسِ لِلِاتِّبَاع، وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ الدِّينَ قَامَ بِالسِّلَاحِ وَيَقْبِضُ ذَلِكَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى"، ونفس الشئ ذكره سائر الشافعية.

مذهب الحنابلة: وكذلك قال باستحباب العصا جميع الحنابلة، فبعد ذكرهم استحباب الصعود على المنبر: قال البهوتي وابن قدامة في الشرح:"ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن"، ونفس الكلام مذكور في سائر كتب الحنابلة، وممن ذكر ندبه البهوتي وابن مفلح في الفروع و سائر الحنابلة.

مذهب الحنفية: قال السرخسي في المبسوط من كتاب الإستسقاء:" وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى عَصًا وَأَنْ يَتَنَكَّبَ قَوْسًا بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَهَذَا لِأَنَّ خُطْبَتَهُ تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَصًا".

وقال السمرقندي في التحفة عن صفة خطبة العيد: ولكن يخطب على الأرض قائما معتمدا على قوس أو سيف مستقبلا بوجهه إلى الناس وهم مقبلون عليه ويستمعون خطبته وينصتون كما في خطب الجمعة، وإن توكأ على عصا فحسن"، وكذلك قال في بدائع الصنائع،

وقال في البحر الرائق وحاشية رد المحتار عن صفة خطبة الكسوف:" وَلَوْ قَامَ وَدَعَا مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ كَانَ أَيْضًا حَسَنًا"، ونفس الشئ مذكور في سائر كتب الحنفية.

أما عن خطبة الجمعة فقال في الحاوي القدسي: إذا فرغ المؤذنون قام الإمام والسيف في يساره وهو متكئ عليه"، وعليه العمل عند سائر الحنفية، إلا ما ذُكر من كراهة حمل العصا عن صاحب الخلاصة ومع ذلك فقد تعقبوه،

فقال ابن عابدين في حاشية رد المختار: قَوْلُهُ وَفِي الْخُلَاصَة الخ، اسْتَشْكَلَهُ فِي الْحِلْيَةِ بِأَنَّهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَام، أَيْ فِي الْخُطْبَةِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْس"،

وَنَقَل الْقُهُسْتَانِيُّ عَنْ الْمُحِيطِ أَنَّ أَخْذَ الْعَصَا سُنَّةٌ كَالْقِيَام"،

وقال الطحطاوي في حاشيته متعقبا ما في الخلاصة: وناقش فيه ابن أميرحاج بأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام خطيبا بالمدينة متكئا على عصا أو قوس كما في أبي داود، وكذا رواه البراء بن عازب عنه صلى الله عليه وسلم وصححه ابن السكن"،

بينما فصل بعض متأخريهم بين البلدة المفتوحة بالسيف فإنه يخطب به لتذكيرهم به، وبين غيرها فيعتمد على العصا ونحوها، ولم يذكروا لهذا التفصيل دليلا مُقنعِا، فقال ابن نجيم في البحر الرائق:" مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ الْخَطِيبُ عَلَى مِنْبَر.. وَفِي الْمُضْمَرَاتِ مَعْزِيًّا إلَى رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْخَطِيبَ يَتَقَلَّدُ سَيْفًا مَا قَدْ سَمِعْت الْفَقِيهَ أَبَا الْحَسَن يَقُول: كُلّ بَلْدَة فُتِحَت عَنْوَة بِالسَّيْفِ يَخْطُبُ الْخَطِيبُ عَلَى مِنْبَرِهَا مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْف يُرِيهِمْ أَنَّهَا فُتِحَتْ بِالسَّيْف... وَكُلُّ بَلْدَةٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا يَخْطُبُونَ فِيهَا بِلَا سَيْف، وَمَدِينَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ فَيَخْطُبُ الْخَطِيبُ بِلَا سَيْفٍ وَتَكُونُ تِلْكَ الْبَلْدَةُ عُشْرِيَّةً وَمَكَّةَ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ فَيَخْطُبُ مَعَ السَّيْف"،

قال: وَهَذَا مُفِيدٌ لِكَوْنِهِ يَتَقَلَّد بِالسَّيْف لَا أَنَّهُ يُمْسِكُهُ بِيَدِهِ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَف مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَا فِي الْخُلَاصَةِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَال: وَيُكْرَه أَنْ يَخْطُبَ مُتَّكِئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصا، لَكِنْ قَالَ فِي الْحَاوِي الْقُدْسِي: إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ الْإِمَامُ وَالسَّيْفُ بِيَسَارِه وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْه"، قال: وهُوَ صَرِيح فِيه إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ السَّيْفِ وَغَيْرِه،

وَفِي الْمُجْتَبَى وَيَخْطُبُ بِالسَّيْفِ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي فُتِحَتْ بِالسَّيْف".

خاتمة: وفي الختام أُذَكِّر بخلاصة هذا البحث، فإن الإعتماد على العصا في خطبة الجمعة وغيرها سنة مسنونة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر حياته ، ثم فعلها الخلفاء الراشدون بعد مماته، وكذلك خطب بها سائر الصحابة والتابعين، بحضرة جميع المسلمين، لم ينكرها أحد من المؤمنين، طيلة أزمنة عديدة، ودهور مديدة، وقد نقل ابن العربي والقرطبي الإجماع على مشروعيتها، ومن المعلوم أن من شروط نقض الإجماع، تبيين المُخالف من قبل زمن انعقاد الإجماع، وقد صح هذا الإجماعُ منذُ زمنِ أبي بكر فعمر فعثمان فمن بعدهم، ولا يُعلم عن أحدٍ من المتقدمين أنه أنكرها، إلا شبهةً بيَّنا فسادها تتمثل في كسر جهجاه الخارجي لعصا النبي عليه السلام وهي التي كان يخطب عليها أبو بكر وعمر، فكسرها من يد عثمان حتى صاح الناس به، ثم أنزله الخبيث على المنبر وحرّض على قتله، ومع ذلك فلم يُنكر جهجاه العصا لذاتها، بل بسبب إنكاره إمامة عثمان رضي الله عنه، فكان جزاؤه أن عاقبه الله بالآكلة، ثم لم نجد لهم ما يتعلقون به إلا كلاما لابن القيم قد بينا تناقضه فيه، وأن الصواب أن ابن القيم موافق للسلف، وكذلك كلاما ذكره صاحب الخلاصة من الأحناف من كراهة ذلك، ومع ذلك فقد تعقّبه الأحناف عليه، ولن يفرح به التبديعيون لأنهم يقولون ببدعية العصا، وفرقٌ كبير بين البدعة المحرمة، والكراهة الجائزة، كيف وهو مخالفٌ لإجماع جميع المسلمين، الأولين منهم والآخرين، وفعله الخلفاء الراشدون، والصحابة المرضيون، وقال به الفقهاء والمُحدثون، حتى ظهرت شرذمة فبدعت ما كان عليه السلف وكابرت، وعن كل الأحاديث والآثار قد عَمِيَت، بعد أن اكتشفت في ظنها أن الأمة كلها قد جَهِلت، وفي البدعة قد وقعت، حتى أتوا هم،

فيا ترى هل كل السلف على حقٍّ أم هُم ، والله المستعان وعليه التكلان.

                   

                                 كتبه أبو عيسى الطاهر الزياني 

    

تعليقات

  1. راجع كتابي:" المخبر في عدد درجات المنبر "، له علاقة بهذا الكتاب على الرابط:
    https://elzianitaher.blogspot.com/2020/06/blog-post.html?showComment=1595791060145#c8384853768654999210

    ردحذف

إرسال تعليق

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني