الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

                     الفروق بين الدعاء والتوسل والتبرك المشروع والممنوع

 

                                          كتابة: الطاهر زياني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله رب العالمين، والخلائق أجمعين، المتفرد الأحد، الفرد الصمد، بلا شريك ولا ولد، تفرد بأفعاله وربوبيته، من خلق ورزق وتدبير، وإحياء وإماتة وتسيير، ثم أمر عباده باتخاذ الوسيلة إليه، وإخلاص الدعاء والعبادة له، بأن يفردوه في الدعاء وحده، وألا يشركوا به أحدا غيره، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، ولا وليا صالحا.     

لأنه سميع قريب، عليم مجيب، بصير متعال، متصف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، 

لم يحتجب عن خلقه حتى يتخذوا له الوسائط، ولم يقصرْ بسعة بصره وسمعه حتى يجعلوا له من الأولياء والمقبورين، بل هم عن السمع والعلم من المعزولين.

وإن أكبر ما يوقعُ الناس في الشرك هو صرفُهم لأنواع العبادة المختصة بالله لغير الله تعالى، وعلى رأس تلك العبادات، عبادة الدعاء، لله رب الأرض والسماء، القائل في محكم الكتاب: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}[غافر].

ونظرا لخطورة هذا الأمر، فيجب على كل مسلم إخلاص الدين والعبادة والدعاء لله تعالى، وتعلم ذلك، لتجنب الشرك وخفاياه، لأن الأمر جنة أو نار، إسلام أو كفر بالجبار.

وقد قسمت هذا المبحث كالتالي:

المبحث الأول: تأصيل المسألة في أنواع الدعاء والمسألة، وبيان أوجه الاتفاق والاختلاف:

المطلب الأول: مفهوم الشرك الأكبر، وذكر أنواع المسألة والاستغاثة وبيان الأصل فيها:

المسألة الأولى: أنواع المسألة والاستغاثة وبيان الأصل فيها:

المسألة الثانية: مفهوم الشرك وأنواعه،

المسألة الثالثة: هل الندبة بنداء شخصية شرك؟ وبيان مالا يدخل في الشرك

 

المطلب الثاني: إبطال شبه المشركين، في دعاء غير رب العالمين:

الشبهة الأولى: أنهم يدعون الأرواح الحية الصالحة:

الشبهة الثانية: دعواهم أن النبي عليه السلام والأنبياء أحياء في قبورهم:

الشبهة الثالثة: دعواهم أنهم يدعون الجن الصالح أو الملائكة الأحياء:

المطلب الثالث: بيان أن الدعاء هو أرفع أنواع العبادات، بل هو العبادة نفسها:

المطلب الرابع: مفهوم التوسل إلى الله بالأنبياء والأولياء، وبيان أنواعه والأصل فيه:

المبحث الثاني : ما ورد في المنع من التوسل إلى الله إلا بالأشياء الثلاثة المذكورة :

المطلب الأول: الجنس الأول: دعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وحقوقه وأفعاله، وإخلاصه بذلك وحده:

المسألة الأولى: دعاء الله بأسمائه وصفاته وأفعاله:

المسألة الثانية: ما ورد في التوسل إلى الله بحقوقه، أو بحقوق الأنبياء والصالحين عليه:

المطلب الثاني: الجنس الثاني: ما ورد في التوسل إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة، كالتوسل بالإيمان بالنبي عليه السلام ومحبته، أو بحقوق الصالحين:

المسألة الأولى: ما ورد في التوسل إلى الله بحقوق الصالحين وهي العبادة والإيمان بالله وحده:

المسألة الثانية: سؤال الإنسان الحي أو القسم عليه بحق النبي عليه السلام أو حق غيره:

المسألة الثالثة: التوسل إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة ومنها التوسل بالإيمان بالنبي عليه السلام ومحبته

المطلب الثالث: الجنس الثالث: ما ورد في التوسل بدعاء الأنبياء والأولياء الأحياء الحاضرين دون الأموات الغائبين:

المسألة الأولى: تعظيم أمر الاستشفاع بغير الله وبيان أنه لا يكون إلا من الأحياء، وأن الأولى تركه:

المسألة الثانية: التوسل إلى الله بالنبي عليه السلام أو بدعاء غيره من الأحياء الصالحين:

المبحث الثالث: ما ورد في التوسل إلى الله بذات النبي عليه السلام، أو بجاهه وحرمته، وما ورد في النهي عن تعظيمه:

المطلب الأول: ما ورد في التوسل إلى الله بحرمة نبيه وجاهه وبيان أدلة مشروعيته:

المطلب الثاني: ما ورد في التوسل بذات النبي عليه السلام:

المسألة الأولى: ما ورد من أدلة في التوسل بذات النبي عليه السلام:

المسألة الثانية: ما ورد عن السلف من توسل بذات النبي عليه السلام:

المبحث الرابع: بيان شرك الاستغاثة والدعاء بقضاء الحاجات من غير الله عز وجل، وسد الطرق المفضية للشرك:

المطلب الأول: ما ورد من نهي عن المبالغة في مدح وإطراء النبي عليه السلام وغيره، واتخاذ القبور مساجد، سدا لذريعة الشرك الأكبر بالله:

المطلب الثاني: ما ورد من اختلاف في دعاء الله وحده عند القبر النبوي ولو من غير توسل بالنبي، وبيان هل يمس القبر ويستقبله أم لا؟ :

المطلب الثالث: بعض أدلة تحريم المسألة والدعاء والاستغاثة التعبدية بغير الله وحده، وبيان أن الأموات لا يستجيبون بل لا يسمعون بعد أيام الافتتنان:      

المطلب الرابع: تفنيد شبه المشركين في استغاثتهم بغير رب العالمين، وبيان أنها محمولة على الاستغاثة بالأحياء أو بمن يُرجي سماعه من غائب:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الخامس: ما ورد في التبرك بالأشياء المقدسة:

المطلب الأول: مفهوم التبرك وأنواعه:

المطلب الثاني: بيان مواطن التبرك المشروع والممنوع:

المطلب الثالث: مس القبر النبوي للتبرك به وذكر الاختلاف في ذلك

المطلب الرابع: التبرك بالصالحين من غير الأنبياء:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الأول: تأصيل المسألة في أنواع الدعاء والمسألة، وبيان أوجه الاتفاق والاختلاف:

. اتفق العلماء على أن أرفع أنواع العبادة هو الدعاء لله تعالى وحده، لتكاثر الأدلة بذلك.

. كما اتفقوا على أن الأصل في العبادات هو المنع والتوقيف، إلا أن يأتي الدليل بها.

وكذلك أتفقوا على أنه من صرف أي نوع من أنواع التعبدات الاعتقادية أو الفعلية أو القولية لغير الله فقد أشرك بالله تعالى، بنفس هذا الصرف والفعل.

وأما دعاء الله وحده لا شريك له، لكن متوسلا إليهم بجاه الأنبياء والصالحين، فالأصل في كل العبادات هو التوقيف والمنع حتى يأتي الدليل.

المطلب الأول: مفهوم الشرك الأكبر، وذكر أنواع المسألة والاستغاثة وبيان الأصل فيها:

المسألة الأولى: أنواع المسألة والاستغاثة وبيان الأصل فيها:

إن الأصل في المسألة أن تكون لله وحده، لأن مسألة الله عبادة وقربة، ومسألة غيره مذلة وخيبة،

خرج أحمد (1/293) والترمذي (2516) وصححه عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ e: يَوْمًا فَقَالَ:" يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".

وقد طبق الصحابة رضي الله عنهم هذا الحديث حتى قال عوف بن مالك:" بايعنا رسول الله ص فقال: لا تسألوا الناس شيئا"، قال: فلقد رأيت أولئك النفر يسقط سوطه وهو على بعيره، فما يسأل أحدا يناوله إياه".]

وهذه العبادة تورث في النفس التوكل على الله أولا، ثم الإعتماد على النفس فقط في قضاء الحاجات، وهذا الشيء وحده كفيل بنهوض الأمة في مختلف المجالات.

ومع ذلك قد فصل الإسلام في أمر الاستعانة والامسألة والاستغاثة، مفرقا بين التعبدية من غيرها.

فمنها المسائل الشركية، والمحرمة، والمكروهة والمشروعة والتعبدية الواجبة.

أما المسألة والاستغاثة المحرمة: فهي التسول والتذلل للغير بمسألتهم والاستنجاد بهم، لما خرج الترمذي 653 وغيره عن حبشي بن جنادة السلولي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع وهو واقف بعرفة، أتاه أعرابي، فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه، فأعطاه وذهب، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله، كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، ومن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر»

ومن الممنوعة: طلب الأشياء من العباد الأحياء فيما لا يقدرون عليه، لأنها نوع من التذلل أيضا بلا فائدة، فإن الناس يكرهون بطبعهم من يتسولهم.

كما روى سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه قال : جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلنى على عمل إذا عملته أحبنى الله و أحبنى الناس ، فقال : " ازهد فى الدنيا يحبك الله ، و ازهد فيما عند الناس يحبك الناس " .

وأما الاستغاثة والاستعانة والمسألة المشروعة: فهي طلب المحتاج أو المضطرِّ الغوثَ والنجدةَ والعون من حي موجود أو يمكن أن يوجد، حتى ينقذه أو يُعينه على قضاء حاجته.

وأما الاستغاثة التعبدية: التي فيها تقديس المسؤول والتذلل التعبدي له، ودعائه رغبة ورهبة فهذه لا تكون إلا من الله وحده لا شريك له، لا واسطة بينه وبين عباده في ذلك، لا ملك مقرب ولا نبي مرل ولا ولي صالح...

وصرفها لغير الله ردة عن الإسلام، ولو زعم صاحبها أنه لا يعبد المدعو، لأن نفس الدعاء عبادة كما في الأدلة الكثيرة... 

كما أن الكفر عند المسلمين منه الاعتقاد والقول والفعل... كيف وأن الذين يدعون غير الله يخشعون ويخضعون عند دعائهم، بينما تراهم يتراقصون في المساجد وسائر التعبدات والله المستعان

ومن ذلك الاستغاثة والمسألة وطلب العون من الأموات، فإذا كان الإسلام علمنا الاعتماد على الله والتوكل عليه، واللجوء له، وجعل الأصل في المسائل هو المنع، ولو كانت من الأحياء، فما بالكم بمسألة الأموات، وطلب الخير والنجاة منهم.

بل المشروع هو زيارتهم والدعاء لهم بالمغفرة والجنة، ولو كانوا من أفضل خلق الله كالصحابة أولياء الله من شهداء أحد وغيرهم:

خرج مسلم في الصحيح (974) عن عائشة قالت: ألا أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعني، قلنا: بلى..، قال: " فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم "، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية"

وغير ذلك من الأدلة الكثيرة الحاثة على دعاء الله تعالى، بالمغفرة للمسلمين، والأولياء الصالحين.  

المسألة الثانية: مفهوم الشرك وأنواعه:  

1. إن الشرك في الربوبية: هو اعتقاد متصرف مع الله في أفعاله المختصة به، كالخلق والرَّزق والتدبير والإحياء والإماتة والبعث والنشور ومحاسبة الناس...

2. وأما الشرك في صفات الرب، فهو في تعطيلها، أو اعتقاد وجود شخص يملك صفات الربوبية على معنى الكمال والجلال الذي يختص به الرب وحده في أوصافه.

فالعبد مثلا سميع، والله سميع، لكن سمع المخلوق محود مختلط، وسمع الله واسع لا بلا حدود، ولا يختلط عليه صوت من صوت... يسمع كل الموجودات في آن واحد من غير أن يختلط أو يغيب عليه شيء وهكذا،

فمن أعطى لمخلوق هذه الصفة فقد كفر...

وهذا النوع من التوحيد يُقر به معظم الناس والخلائق، حتى إبليس اللعين، فإنه يؤمن بأفعال رب العالمين، لكنه كفر في أفعاله، واستكباره على عبادة ربه، وعدم الانقياد لأوامره، كما قال تعالى :{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}[الإسراء]

وهذا فرعون اللعين، كان يقر في نفسه بوجود الله وإنزاله الآيات، فقال رب السماوات: { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء]

وكذلك كان الكفار، يعلمون بخلق الله الجبار، فقال تعالى :{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) } [العنكبوت]

والآيات في هذا الباب كثير جدا.  

ومن هنا تعلم بأن معظم الشرك الأكبر يقع في العبودية وأفعال البشر:

3. ذلك أن الشرك في العبادة: هو عبادة غير الله جل في علاه، أو صرف أي نوع من أنواع التعبدات المحضة بالله لغير الله، أو هو طلب ما يختص به الله من غير الله.

لأن ما عند الله لا يُطلب إلا من الله، ولو كان ملكا مرسلا أو نبيا مرسلا، أو وليا صالحا، كأن تقول: يا رسول الله امنحني كذا، أو يا سيدي فلان اعطني كذا.... لأن ذلك من الشرك الأكبر.

ومن ذلك الاستعاذة وطلب الجنة والمغفرة وإنزال المطر، والرزق بمولود... من غير الله تعالى أيا كان، فهو كفر اتفاقا،

بينما يعتقد القبوريون المشركون أن نفس السجود والدعاء... من العظام والمقبورين، أو من الأنبياء والمرسلين، لا يكون كفرا، إلا إذا اعتقد الداعي فيهم الربوبية، وهذا ضلال كفري مبني على ضلال لهم قديم استلهموه من الجهمية القائلين بأن الكفر هو الاعتقاد فقط، وأما الأقوال والأفعال فلا كفر فيها.

وقد كذبهم الله في دعواهم، وأخبر بأن مجرد الدعاء من غير الله يكون كفرا أكبر، ولو لم يعتقد الداعي الربوبية في المدعو أو المقبور، فقال تعالى:{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}  

فأخبر تعالى بأن المشركين لا يعتقدون الربوبية في أوليائهم، بل يتخذونهم فقط واسطة لتكون بينهم وبين الله.

وهل الله أيها المشركون أصم لا يسمع، أو أعمى لا يبصر، أو غضوب لا يرضى ولا يرحم ولا يقبل توبة أحد حتى تتخذوا له واسطة لا تسمع ولا تبصر لتقربكم منه !! وهو من نهاكم عن اتخاذها!!

وأما السجود فينقسم إلى سجود تحية وإكرام، وقد كان هذا واردا في شرع من قبلنا كسجود الملائكة لآدم، وإخوة يوسف ليوسف،.. ثم نسخه شرعنا سدا لذريعة التعظيم والشرك، فصار معصية منهيا عنها في شرعنا.

خرج الترمذي 2728  وحسنه عن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا»، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: «لا»، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم»

قال الذهبي في معجم شيوخه:" ألا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: «لا» قال الذهبي: فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير، لا سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم".

وأما سجود العبادة والتعظيم والوقوع الأكبر على الأرض: فهو من خصائص الربوبية فقط، ومن فعله مختارا لغير الله فقد كفر، استحل أو لم يستحل، لأن الكفر منه اعتقاد ومنه قول ومنه عمل كهذا، باتفاق الملل كلها كما قال تعالى عن الهدهد:{ جَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل]

ولم يفرق الله بين من سجد لمخلوق دون آخر، فكله كفر بالله، والسجود الأكبر من خصائص الرب وحده، ولذلك كتب لهم نبي الله سليمان{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}

ولذلك قال الذهبي في معجم شيوخه في ترجمة أحمد بن المنعم مفرقا بين السجودين، سجود المعصية وسجود التعظيم الشركي:" ألا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: «لا» فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير، - لا سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل-، لا يكفر به أصلا، بل يكون عاصيا فليعرف أن هذا منهي عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر ".

فاستثنى الإمام الذهبي سجود التعظيم من سجود المعصية فقال:" لا سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم..."،  

فمقصود الذهبي من السجود الذي لا يكفر به هو سجود الانحناء الذي ذكر الذهبي نفسه بأنه معصية، لأنه استثنى سجود التعظيم الشركي في جملة اعتراضية، ثم عاد للكلام عن سجود المعصية والانحناء المنسوخ في ديننا فقال عنه:" -، لا يكفر به أصلا، بل يكون عاصيا فليعرف أن هذا منهي عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر ".

ومن المعلوم أن الصلاة لله عند القبر ليست كفرا بل معصية منهيا عنها سدا لذريعة الشرك، لما في الصلاة من سجود وركوع عند القبر، ومن سجد لله أمام قبر فقد عصى، فكيف بمن يسجد لصاحب القبر سجود تعظيم وتبجيل له عياذا بالله من هذا الكفر.  

والكفر والإيمان عند أهل السنة اعتقاد وقول وعمل خلافا للجهمية.

المسألة الثالثة: هل الندبة بنداء شخصية شرك؟ وبيان مالا يدخل في الشرك

لا تدخل الندبة في التعبدي أصلا، لأنها أسلوب عربي فصيح، يراد به الندبة والتمني بخروج شخصية عظيمة والتحسر على حال المسلمين، كقول المسلمين:" واصلاح الدين... كما ذكرت في كتابي " الندبة والنداء...".

فإنك لا تستغيث من هذه الشخصية ولا تطلب منها المدد ولا أي شيء، بل تتمنى خروج شخصية مثلها كما بينت.

وكذلك طلب شيء من الأحياء أو فيما يقدرون عليه، ففيه التفصيل السابق، لأن الأصل في المسألة هو المنع إلا للضرورة أو الحاجة. 

وكذلك لا يدخل في الشرك طلب النجدة والغوث من المضطر لأي بشر، ولو كان غير موجود، رجاء أن يسمعه أحد فينقذه: كمن ينادي في الفلاة أو الغرق أو الاحرق أو الاضطرار: النجدة يا عباد الله أعينوني أغيثوني...

وبهذا يتبين بأن الشرك ليس هو كما يعتقده القبوريون المشركون، بأنه عبادة غير الله فقط أو جعله ربا، ثم زعمهم أنهم يعبدون الله ، وأما صرف النذور والقسم والذبح والدعاء... للأولياء، فليس شركا عندهم، وإنما هو توسط لله فقط.

فقد أجاب الله الأحد عن شبهتهم، فقال في وصف المشركين الكفار :{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} [الزمر]

وقال الله عز وجل في الحديث القدسي:" وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء".

مع أن هؤلاء المشركين الكفار يقدّسون معبوديهم ويتباكون عندهم ويخشعون بحضرتهم ما لا يخشعون بحضرة بارئهم ... بل تراهم يتراقصون ويتمايلون بحضرة ربهم والله المستعان.

وستاتي بعض الأدلة على وجوب دعاء الله وحده لا شؤيك له في آخر مبحث.

المطلب الثاني: إبطال شبه المشركين، في دعاء غير رب العالمين:

الشبهة الأولى: أنهم يدعون الأرواح الحية الصالحة:

حيث زعم بعض المشركين، بأن دعاءهم للعظام النخرة، أو أبدان الأنبياء، فليس دعاءً للأبدان، وإنما هو دعاء لأرواحهم الحية الموجودة معنا، وأنهم لا يعتقدون بربوبيتها، بل يتوسطون بها كما أسلفنا.

فهذا زيادة في الكفر من أوجه:

أولاهما: أن دعاء غير الله تعالى فيما يختص به وحده، كفر قولي بالله وحده، والكفر قول واعتقاد وفعل، مع أن هؤلاء يعظمون المدعوين كتعظيمهم الله بل أشد، ولذلك تراهم لا يخشعون في الصلاة، وربما يتراقصون في المساجد، ثم كلهم خشوع متباكين أمام العظام النخرة.

والثاني: أن الواجبَ الشرعي، والسنة النبوية اتجاه كل الأموات هو زيارة قبورهم والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة كما في أحاديث زيارة القبور الكثير والدعاء لأهلها.

لا أن يُتوسط بهم لطلب الرحمة، فضلا عن طلب الرحمة منهم، لأنهم أموات مغيبون، في قبورهم نائمون، وفي البرزخ لا يسمعون، كما في:  

الوجه الثالث: أن في هذا لتكذيبا لرب العالمين، وللنبي الكريم، فقد قال تعالى لنبيه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}[النمل]

وقال الله السميع العليم :{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر]

وواجب المسلم هو الدعاء للأموات، لا دعاءهم من دون الله.

خرج مسلم في الصحيح (974) عن عائشة قالت: ألا أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعني، قلنا: بلى..، قال: " فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم "، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية"

وغير ذلك من الأدلة الكثيرة الحاثة على دعاء الله تعالى، بالمغفرة للمسلمين، والأولياء الصالحين.

إضافة إلى تواتر الأدلة بأن الأموات بعد موتهم هم بين حالتين ذكرتهما في كتاباي:

"الإصباح في فتنة القبر ومستقر الأرواح".

وكتاب:" البينات في تلاقي الأرواح وتزاور الأموات ".

فأما حديثو الوفاة، فيسمعون الأحياء منذ وفاتهم حتى دفنهم وانصراف الناس عنهم، كما في مخاطبة النبي عليه السلام لقتلى بدر، وقوله : «والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»،

ومع ذلك فقد أنكرت سيدتنا عائشة هذا الحديث عن ابن عمر ووهمته فيه، فذكر ذلك لعائشة، فقالت : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ، ثم قرأت : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية ،

وقد ورد في حديث انصراف المشيعين:" يسمع خفق نعالهم".

فأما إذا انصرفوا عنهم أتاهم الملكان لفتنة القبر والسؤال، ومن ثَم ينقطع علمهم بالعالم الخارجي، فيُفتنون في قبورهم، ثم ينام أهل الجنة نوم العروس، وينام أهل النفاق نومة المنهوش كما في الأحاديث الكثيرة المذكورة في الكتابين السالفيْن. 

وقد أخبر تعالى بوفاة الأنبياء جميعا، فقال تعالى :{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) }[آل عمران]

. وقال تعالى لنبيه:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}[النمل] وقد ذكرنا أن هذا الإسماع ممتنع بعد الدفن والانصراف، وأما قبل ذلك فيمكن، لمناداته عليه السلام لقتلى بدر من المشركين قبل دفنهم.

. قال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} [فاطر]. ففرق الله بين الأحياء والأموات، ثم أخبر بأن الأموات لا يسمعون بعد إقبارهم وانصراف الناس عنهم، فكيف بمن يدعو ميتا بعد موته ونخر عظامه بمئات السنين.  

. وأخبر تعالى بأن كل الأولياء لا يسمعون، ولو سمعوا لا يستجيبون، فقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر]

"لو" في اللغة حرف امتناع لامتناع، بمعنى يمتنع سماع الأموات لاستغاثات الأحياء إطلاقا، وعلى فرض سماعهم، يستحيل أن يستجيبوا لأحد كما أخبر رب العالمين.   

. وقال تعالى:{ إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} فأخبر تعالى أنه لا يستجيب الدعاء إلا من يسمع، وأن الأموات مبعثهم عند الله تعالى، ولا علم لهم بما يقع الآن.

الشبهة الثانية: دعواهم أن النبي عليه السلام والأنبياء أحياء في قبورهم:

والجواب الأولي، أنهم حتى ولو كانوا أحياء، فلم يعط الله الإذن بالدعاء لأحد من دونه، بل أمر تعالى بإخلاص الدعاء له، وعدم اتخاذ الشريك.

والجواب الثاني: أننا لا نسلم بحياتهم في قبورهم، وسماعهم لأدعية الأحياء، لأن مطلق السماع والعلم والرؤية... من خصائص الربوبية فقط، 

والجواب الثالث: حتى لو كانوا أحياء لما كان في ذلك مسوغا لدعائهم من دون الله، وحتى النبي عليه السلام، فقد أمرنا الله بأن ندعُوَ له ونصلي عليه، ونسألَ اللهَ أن يرزقه الشفاعة والوسيلة والفضيلة والمقام المحمود بقربه يوم القيامة، ولم يأمرنا أن نسأل الوسيلة منه، ولا أن نستغيث به، ولا أن نجعل ذاته هي الوسيلة، فقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) }[الأحزاب]

 خرج البخاري 614 ، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة "

وقد تكاثرت الأدلة الحاثة على توحيد الله في الدعاء التعبدي تكاثرا لا مجال للتشكيك في مدلوله، وتوحيد الرب وحده لا شريك له، وعدم صرف ذلك ولو للنبي عليه السلام.

قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}[الجن]

وقال تعالى: { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }[يونس]

وقد وردت بعض الأخبار في حياة الأنبياء، أو ردهم السلام على من سلم عليهم، لا من دعاهم من دون الله.

الدليل الأول: ما ورد في رد الروح على النبي عليه السلام عندما يزوره أحد في قبره فيسلم عليه، إن صح بذلك الحديث.

خرج أبو داود 2041 وغيره من طرق عن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة بن شريح عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام»،

قال العراقي: " جيد "، وقال الحافظ: " رجاله ثقات ".

وقال الألباني:" وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات؛ غير أن حميد بن زياد قد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، ولا ينزل ذلك حديثه عن مرتبة الحسن. وإلى ذلك

أشار الحافظ بقوله:" صدوق يهم "

وهذا الحديث معلول بثلاثة علل:

أولاها: أبو صخر مختلف في توثيقه، وليس هو مما يعتمد عليه وحده خاصة في أحاديث الاعتقاد والله أعلم.

والثانية: الاختلاف في متنه، وتراجع راويه عن لفظه:

فقد رواه عبد الله بن يزيد على وجهين،

أحدهما هو السابق، ثم تراجع عن هذا اللفظ، فرواه بلفظ التقييد بالزيارة لقبره فقط فقط:

لما روى عبد الله بن خالد الحزوري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يزيد، يقول: سمعت المقرئ عبد الله بن يزيد يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» فقال: هذا في الزيارة , إذا زارني فسلم علي رد الله علي روحي حتى أرد عليه ".

وليس في هذا الحديث توسلٌ به أصلا، فضلا عن دعائه عليه السلام من دون الله، وإلا لما كان بيننا وبين النصارى وغيرهم فرق في الشرك.

والعلة الثالثة: غرابة هذا المتن في رد الروح، فقد ورد في سائر الأحاديث أن الملائكة هي من تبلغه عن أمته السلام جملة، لا أنه هو من ترد روحه، وأنه يسلم على كل أحد، فأنى له إجابة كل ذلك، وملايين المسلمين يسلمون عليه يوميا، ولا يمكن إجابة واستماع جميع الناس إلا من الرب وحده، وإنما الرب هو الذي أمر الملائكة بإبلاغه ذلك: .     

. .كما روى أبو نعيم , ثنا سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام»

وخرج أبو داود 2042 وغيره عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم».

. وروى الأصمعي وغيره عن محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله بها ملكا يبلغني، وكفى أمر آخرته ودنياه وكنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة ".

بينما رواه العلاء بن عمرو الحنفي بالسماع للقريب ولم يصح:

فقال حدثنا أبو عبد الرحمن وهو السدي عن الأعمش به بلفظ من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا أبلغته ".

والسدي متكلم فيه، وقد حكم عليه ابن الجوزي وابن عبد الهادي بالوضع.

وقال العقيلي : لا أصل له من حديث الأعمش ، وليس بمحفوظ ".

وسيأتي حديث أوس قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» . قالوا: وكيف صلاتنا تعرض عليك وقد أرمت؟ ...

 الدليل الثاني: ما ورد أن الأنبياء أحياء في قبورهم: لكنهم في عالم البرزخ، ولا علاقة للبرزخ بعالم الشهادة، ولا علاقة لحياة الأنبياء في البرزخ بدعائهم من دون الله عياذا بالله.

رواه البيهقي في حياة الأنبياء عن أبي أحمد عبد الله بن عدي الحافظ في كتاب الضعفاء من ترجمة الحسن قال : ثنا قسطنطين بن عبد الله الرومي: ثنا الحسين بن عرفة حدثني الحسن بن قتيبة المدائني ثنا المستلم بن سعيد الثقفي عن الحجاج بن الأسود عن ثابت البناني ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون   "،

قال: هذا يعد في أفراد الحسن بن قتيبة المدائني".

والقسطنطين شيخ ابن عدي تفرد بالرواية عنه فيما ذكره الخطيب، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فهو مجهول.

قال البيهقي:" وقد روي عن يحيى بن أبي بكير عن المستلم بن سعيد عن الحجاج عن ثابت عن أنس بن مالك

قال البيهقي وهو فيما أخبرنا الثقة من أهل العلم قال : أنبأ أبو عمرو بن حمدان قال أنبأ أبو يعلى الموصلي ثنا أبو الجهم الأزرق بن علي ثنا يحيى بن أبي بكير ثنا المستلم بن سعيد عن الحجاج عن ثابت عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون »

قال:" وقد روي من وجه آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفا

. قال البيهقي- أخبرناه أبو عثمان الإمام رحمه الله أنبأ زاهر بن أحمد ثنا أبو جعفر محمد بن معاذ الماليني ثنا الحسين بن الحسن ثنا مؤمل ثنا عبيد الله بن أبي حميد الهذلي عن أبي المليح عن أنس بن مالك قال : « الأنبياء في قبورهم أحياء يصلون » موقوفا.

ورواه أبو حامد أحمد بن علي الحسنوي إملاء ثنا أبو عبد الله محمد بن العباس الحمصي بحمص ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا إسماعيل بن طلحة بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت عن أنس ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكنهم يصلون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور ". ولم يصح.

والصحيح ما خرجه مسلم في الصحيح 2375 عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وسليمان التيمي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره "

وورد أنه رآه أيضا في المعراج في السماء السادسة حين فرض الله عليه الصلوات.

ورأى نبي الله عيسى، وصلى بالأنبياء في بيت المقدس.

وإنما هي أرواحهم في أشكال أجسادهم، حاشا نبي الله عيسى، فإنه لم يمت حتى يقتل الدجال.

وأما أجساد باقي الأنبياء فهي في قبورهم، لا يعلمون من عالم الشهادة إلا ما أعلمهم ربهم.

وهل يأكلهم الدود:

1/ خرج الحاكم (1/413) وصححه وابن خزيمة في الصحيح 1733 عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» . قالوا: وكيف صلاتنا تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: «إن الله عز وجل قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»

2/ بينما خرج الحاكم (2/439) وصححه عن أبي نعيم ثنا يونس بن أبي إسحاق أنه تلا قول الله عز وجل: {وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون} [الشعراء: 52] الآيات. فقال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعهدنا ائتنا» فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حاجتك؟» فقال: ناقة برحلها ويحلب لبنها أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجز هذا أن يكون كعجوز بني إسرائيل فقال له أصحابه: ما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ فقال: " إن موسى حين أراد أن يسير ببني إسرائيل ضل عنه الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا؟ قال: فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف عليه السلام حين حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى تنقل عظامه معنا. فقال موسى: أيكم يدري أين قبر يوسف؟ فقال علماء بني إسرائيل ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها موسى فقال: دلينا على قبر يوسف قالت: لا والله حتى تعطيني حكمي. فقال لها: ما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة. فكأنه كره ذلك قال: فقيل له أعطها حكمها، فأعطاها حكمها فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوا قالت لهم: احفروا فحفروا فاستخرجوا عظام يوسف فلما أن أقلوه من الأرض إذ الطريق مثل ضوء النهار «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»

 وصححه ابن حبان فخرجه في صحيحه (723) عن ابن فضيل حدثنا يونس بن عمرو عن أبي بردة عن أبي موسى،

وقيل المراد بالعظام هنا هي الأبدان والله أعلم.

وعلى أي حال لا علاقة للحياة البرزخية، بالحياة الدنيوية، ولا بدعاء الأرواح ولا الأنبياء من دون الله تعالى.

الشبهة الثالثة: دعواهم أنهم يدعون الجن الصالح أو الملائكة الأحياء:

أما دعواهم في طلب الغوث من صالح الجن أو من الملائكة، لأنهم أحياء وأنهم يروننا ولا نراهم، فهذا شرك وتأل على الله،

فهلا دعوا الجن كعبدة الشياطين، بدعوى أنهم يروننا ولا نراهم... 

فإن قالوا: لا ندعو إلا صالحي الجن، فكيف السبيل إلى معرفتهم؟!، وتمييز كذبهم؟!،

وهذا فتح لباب السحر والشعوذة عياذا بالله،

والجن المسلم ليس له همّ إلا عبادة ربه والتفرغ لمشاغل حياته، ولم يعط الله الإذن بدعائهم من دون الله.

ولئن قالوا: ندعو الملائكة وهم أحياء، استدلالا بالحديث الضعيف الذي سيأتي في آخر البحث وفيه: "أغيثوا يا عباد الله".

والجواب الأولي، هو العجب من ترك الأدلة الواضحات، في دعاء رب الملائكة والسماوات، ثم الاستدلال بحديث ضعيف في أمور الاعتقاد، مع أن هؤلاء المشركين، ينكرون حتى أحاديث الآحاد الصحيحة إذا خالفت هواهم، فكيف بهم يستدلون بالمنكرات، نصرت لدعاء غير رب السماوات.

ولم يكل الله أمر الدعاء والاستغاثة بالغيبيات، إلا من خالق السماوات.

ولذلك سيتبرؤون يوم القيامة من كل من دعاهم، بوسوسة من الشيطان، من غير إذن من الرحمان، القائل في القرآن :{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [سبأ]

والملائكة الكرام، لهم وظائف محددة من الله السلام، منها حفظ الإنسان، بعلم من الرحمان، وواجبنا نحوهم هو الإيمان والتصديق والتبجيل لهم، لا دعاءهم مع الله، والاستغاثة بهم من دون الله. 

ألا ترون بأن الله تعالى قد أمر المسلمين، بالاستغاثة به، ثم وعدهم بأنه سيرسل الملائكة عونا لهم، معلما إيانا أن الدعاء والغوث من الله، الذي يرسل المدد من الملائكة أو غيرهم، فقال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال]

وقد كان نبي الإسلام يستغيث بالله وبصفاته، قبيل هذه الغزوة رافعا يديه كما صحت بذلك الأخبار.

وهذا نبي الله إبراهيم لما رماه الجبار في النار، توجه إلى الله طالبا منه العون، فأرسل الله له جبريلا معينا، كما روى كعب:"لما أُلقِي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقالألك حاجة؟ فقال إبراهيمأما إليك فلا، حسبي من سؤالي علمه بحالي ».

وأخبر تعالى أن الجن لا يسمعون كل شيء فقال:{ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} [الشعراء]

ولئن فرق المشركون بين الدعاء والعبادة، فقد كذبهم الله في جعله الدعاء هو العبادة:

المطلب الثالث: بيان أن الدعاء هو أرفع أنواع العبادات، بل هو العبادة نفسها:

  يزعم عُبّاد العظام أن دعاءهم للأموات ليس عبادة، فهو ليس شركا، وقد كذبهم الله ورسوله في ذلك: 

حيث أخبر الشارع العليم، أن أكبر التعبدات القولية التي تفصل بين الشرك والتوحيد هي إخلاص عبادة الدعاء لله وحده لا شريك له، لأن الدعاء هو العبادة نفسها.

ألا ترون أن الله قال عن المشركين: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}[غافر]

خرج ابن منده في كتاب التوحيد 320 والحاكم وصححه (1/667) وابن حبان في صحيحه 890 عن سفيان عن منصور عن ذر بن عبد الله عن يسيع الحضرمي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه

وخرجه الترمذي 2969 وصححه من طريق الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير.. مثله.

قال الحاكم:" ولهذا الحديث شاهد بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عباس

ثم خرج من طريقين:

عن كامل بن العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس،

وعن أبي يحيى عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أفضل العبادة هو الدعاء» ، وقرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60]

ومن تأمل في الألوف المؤلفة من أدعية النبي عليه السلام لوجدها تبدأ بسؤال الله تعالى أو بأحد أسمائه وصفاته.

:" الله إني أسألك من كذا..، اللهم ارزقني كذا، اللهم جنبني كذا...، اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد ..."...

المطلب الرابع: مفهوم التوسل إلى الله بالأنبياء والأولياء، وبيان أنواعه والأصل فيه:

إن الدعاء هو التوجه إلى المدعو باسمه مباشرة، فإذا كان من الله فهو التوحيد، وإذا كان من غيره فهو الشرك، كأن تقول يا الله يا رحمان... أو تقول في الشرك: يا رسول الله، يا سيدي فلان...

وأما التوسل فهو اتخاذ القربة إلى الله تعالى، بأشياء معينة،

. وقد اتفقوا على أن الدعاء والمسألة واتخاذ الوسيلة إلى الله أمر توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه، إذ لا بد له من دليل شرعي.

وقد أمرنا الله تعالى باتخاذ الوسيلة الشرعية إليه، استدلالا بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) }[]

وقال أيضا: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [سورة الإسراء: 57].

وخرج الحاكم (2/341) عن أبي وائل عن حذيفة أنه سمع قارئا يقرأ " {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة: 35] قال: القربة، ثم قال: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله وسيلة "

قال الطبري: وابتغوا إليه الوسيلة"، يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه... يعني بـ"الوسيلة"، القُرْبة "،

وإذا كانت الوسيلة هي القربة، فإن التقرب إلى الله بأي شيء لا يكون إلا بتوقيف وتحديد من الشارع فإذ هو عبادة وقربة، فإن الأصل في العبادات هو المنع والتوقيف إلا بدليل صحيح.

ولم يرد إلا في التوسل إلى الله بسؤاله تعالى باسم من أسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو بسؤاله بالإيمان والعمل الصالح والاتباع لسنة النبي عليه السلام، أو بطلب الدعاء من حيٍّ صالح لبركة دعائه. 

ومن ذلك التوسل إلى الله بالإيمان برسول الله، أو بحق الله على نبيه وهو الرحمة، أو بحق النبي على ربه، وهو إدخاله الجنة، فالأول توسل بالأعمال، والثاني توسل بصفات الرب وأفعاله كما سيأتي.  

وأما التوسل إلى الله بالأولياء الصالحين الميتين، فلم يرد عليه دليل من الشرع المتين، ولا قال به أحد من المسلمين المتقدمين، فهو إذا بدعة ضلالة باتفاق.

وأما التوسل إلى الله بذات النبي الكريم، أو بمَلَك أمين، فإن ذاتهم شريفة عند الله، لكن هل نتوسل بها إلى الله، كأن تقول:" الله إني أتوسل إليك بالنبي الكريم...

فإن هذا التوسل لا بد من دليل، لأنه عبادة، ولم يأت ذلك إلا في حديث أبي جعفر الآحاد المضطرب المختلف في سنده ومتنه، وليس هو مما يُعتمد فيه في العقيدة، حتى عند المتوسلين، لكنهم بكل شبهة يقبلون.

بل إنهم يُعَدّون بذلك قياسا إلى الأولياء الصالحين أو الصالحات، فيقولون: اللهم .. إني أتوسل إليك بسيدي فلان... أو جاهه...

وهذه الوسيلة لم تثبت ولم ترد في الشرع ولا في أقوال السلف.

وأما التوسل إلى الله بالنبي عليه السلام فقد أجازه قوم من المتأخرين، لمكانة جاه النبي عليه السلام عند ربه،

ومنعها آخرون سدا لذريعة الشرك وعدم ورود الشرع بها.

فأما من منعها فلأن الصحابة لم يكونوا يسألون الله بالنبي عليه السلام بعد موته، ولذلك لجأوا في الاستسقاء إلى العباس وغيره من الأحياء الصالحين، ولم يثبت عن أحد منهم أنه توسل بالأنبياء المرسلين.

بل ثبت في الصحاح من رواية الثقات الأثبات أن عمر رضي اللّه عنه قال في خطبة الاستسقاء بحضرة جميع الصحابة: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا».

ولم يعترض عليه أحد في ترك التوسل بالنبي عليه السلام بعد مماته، ولا قال له أحد: بأن هذا التوسل مشروع يا عمر، أو لماذا تركته، فكان في هذا إجماعا سكوتيا على ترك التوسل بالنبي عليه السلام بعد موته ؟؟؟ .

قال الزحيلي في تفسيره للآية: وأما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا أو غائبا فغير جائز، قال الألوسي: فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة، فقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء اللّه تعالى بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» .

ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم- وهم أحرص الخلق على كل خير- أنهم توسلوا إلى الله برسول الله، فضلا عن غيره من المقبورين.

وحتى من استدل بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)}[النساء]

فهي دليل على منع التوسل، والاكتفاء بطلب المغفرة من الله، حيث قال:{ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ}، ولم يأمرهم تعالى لا بطلب المغفرة من رسول الله كما يفهمه المشركون، ولا طلب منهم التوسل برسول الله كما يفعلمه المتوسلون، بل كل ما في الآية هو طلب المغفرة من الله بحضرة رسول الله في حياته، حيث يدعو للتائب الظالم لنفسه، حيث قال تعالى :{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } وإذ تفيد الظرفية لما مضى من الزمن، ولم يقل:" إذا"، التي تفيد الاستقبال.  

وحتى من عداها خطأ للاستقبال بعد مماته عليه السلام، فهو تأويل مستبعد، ومع ذلك فليس فيه التوسل برسول الله، بل فيه الدعاء إلى الله أمام قبر رسول الله، هذا إن حملناه على العموم.

مع أن العموم لا يصح، لأنه لم يثبت أن النبي عليه السلام سيعرف دعاءك ومكانك ويراك، ول اثبت أنه سيدعو لك وهو ميت في قبره، ولم يثبت أنه سيرد على الجي، إلا في حديث التسليم عليه في قبره، وأنه يرد السلام، مع الكلام في هذا الحديث كما سيأتي.  

وفيما يلي هذه أدلة وأحاديث الباب، وبيان تعارض طرق حديث الأعمى، فأقول :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثاني : ما ورد في المنع من التوسل إلى الله إلا بالأشياء الثلاثة المذكورة :

وهي سؤال الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وحقوقه، أو بسؤاله بالإيمان والعمل الصالح، أو بطلب الدعاء من حيٍّ صالح كما في استسقاء الصحابة رضي الله عنهم بالعباس ، وهو أمر تكاثرت به النصوص الشرعية وتواترت تواترا مستفيضا لا يخفى على أحد :  

المطلب الأول: الجنس الأول: دعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وحقوقه وأفعاله، وإخلاصه بذلك وحده:

المسألة الأولى: دعاء الله بأسمائه وصفاته وأفعاله:

وهو أرفع أنواع الدعاء من عبد ضعيف، إلى رب سميع عليم قريب مجيب،

الدليل الأول: خرج البخاري 2992 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على واد، هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده»

الدليل الثاني وتوابعه: حيث تكاثرت الأدلة الشرعية من نصوص قرآنية، وسنن نبوية على وجوب طلب الله وحده، وتبيين أن الدعاء هو العبادة:

1/ فمن ذلك أمر الله بدعائه بأسمائه وصفاته:

قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف]

وقال :{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الإسراء 110]

وقال :{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}[طه]...

2/ ومن ذلك تصريح الرب بقوته، وبضعف عباده وأنبيائه، وبيان دعاء الناس لربهم في الضراء، فلما يُجاب لهم، يشركون به في الشكر والدعاء في أشخاص لا يملكون شيئا، ولا يسمعون أصلا، 

قال تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} [الأعراف]

3/ ومن ذلك أمر الله لأنبيائه في حصر الدعاء إلى الله تعالى وحده، وبيان أنه هو العبادة: { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) }[الرعد]

3/ ومن ذلك تصريح الله بأن الدعاء هو العبادة: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)}[مريم]

مع قوله عليه السلام:" الدعاء هو العبادة"

4/ ومن ذلك حصر الدعاء والطلب من الله تعالى وحده، وما واجبنا نحو الأنبياء الذين لا يملكون شيئا، إلا اتباعهم فيما بلغوا والإيمان برسالتهم لا غير،

قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ}[الجن]

5/ ومن ذلك تصريح الجبار بأنه هو من يملك الدعاء الحق، بلا منازع له فيه، وأن من دعا غير الله فلن يستجيب له في شيء، كما قال تعالى:{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}[الرعد]

6/ ومن ذلك تصريح الله بأن منهج الأنبياء عبادة الله وحده بلا شريك لا ينفع ولا يضر : { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}[يونس]

7/ ومن ذلك أمر الله لنبيه بعدم دعاء غيره، وبيان عجز الشياطين: { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)}[الشعراء]

5/ ومن ذلك أمر الله لنبيه بدعاء الله وحده لأنه الحي الذي لا يموت ولا يهلك، وغيره يموت: قال تعالى{ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) }[القصص]

6/ ومن ذلك أمر الله لعباده بإخلاص الدعاء والعبادة والأعمال لله تعالى وحده لا شريك له، وتحريم اتخاذ الوسطاء والأولياء بين الله وعباده لأنه سميع قريب، وهو أغنى الأغنياء عن الشرك كما أخبر عن نفسه في الحديث القدسي:

قال جلا وعلا: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}[الزمر]

والإخلاص هو المبالغة في دعاء الله وحده لا شريك له، مع الخلص من كل مدعو مما سوى الله:

كما قال تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }[الأعراف 29]

وقال جل وعلا: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)}[الزمر]

وقال تعالى :{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}[غافر]

وقال :{ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}[غافر]

وقال: { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}[]

وقال تعالى:{ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) }[البينة]

6/ ومن ذلك إخبار الله بأن العباد في لحظات الاضطرار يخلصون الدعاء لله الجبار، فقال العزيز القهار: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [يونس]

وقال:{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) }[العنكبوت]

وقال :{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) }[لقمان]

الدليل الثالث: تصريح الله بأن المشركين لا يعبدون الأصنام ولا الأولياء لذاتهم، بل يجعلونهم وسائط للقرب من الرب، والله السميع العيم القريب ليس أصم ولا جاهلا حتى تجعل له واسطة، قال العليم الخبير:

قال الله تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) } [الزمر]

فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى وولايته ومحبته , سوى عبادة الرب وطاعته.

الدليل الرابع وتوابعه: تواتر الأدلة في طلب الملائكة والأنبياء والصالحين، لربهم بأسمائه وصفاته وأفعاله:

1/ قال تعالى :{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) }[الإسراء]

2/ خرج ابن حبان في الصحيح 2372 عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" "ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا".

3. ومن ذلك سؤال الملائكة بأفعال الرب:

خرج البخاري 3464 غن أبي هريرة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله عز وجل أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، - أو قال: البقر، هو شك في ذلك: إن الأبرص، والأقرع، قال أحدهما الإبل، وقال الآخر: البقر -، فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال الغنم: فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال رجل مسكين، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك،

أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت،

وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت،

وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك "

4/ وخرج ابن حبان في الصحيح 509 عن السائب:" كنا جلوسا في المسجد فدخل عمار بن ياسر فصلى صلاة خففها، فمر بنا، فقيل له: يا أبا اليقظان، خففت الصلاة!. قال: أفخفيفة رأيتموها؟ قلنا: نعم. قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء قد سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مضى. فاتبعه رخل من القوم. قال عطاء: اتبعه- يعني أبي، ولكنه كره أن يقول اتبعته- فسأله عن الدعاء، ثم رجع فأخبرهم بالدعاء: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي".

5/ وخرج البخاري في صلاة الاستخارة 6382 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني " قال: «ويسمي حاجته»

6/  وخرج ابن خزيمة في الصحيح 724 محجن بن الأدرع، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول: " اللهم إني أسألك بالله الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد غفر له، غفر له، ثلاث مرات» ..

المسألة الثانية: ما ورد في التوسل إلى الله بحقوقه، أو بحقوق الأنبياء والصالحين عليه:

أما التوسل بحقوق الله تعالى، فهو من جنس التوسل إلى الله بصفاته وأفعاله، بتحقيق وعده، وتنفيذ عهده، والغمر برحمته وفضله وإحسانه وجناته، وتثبيته وإجابة دعائه.

وأما التوسل إلى الله بحقوق الأنبياء والصالحين من عباده فهو توسل إلى الله بالعبادة والأعمال الصالحة.

كما خرج إسحاق 266 عن أبي إسحاق عن كميل عن أبي هريرة، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا» بين يديه وعن يمينه ويساره، ثم مشى ساعة، فقال: يا أبا هريرة «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟، قل لا حول ولا قوة ولا ملجأ من الله إلا إليه» ، ثم مشى ساعة، فقال: «يا أبا هريرة هل تدري ما حق الله على الناس وحق الناس على الله؟ حق الله على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق الناس على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم» .

وخرجه ابن ماجه 4296 عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار، فقال: "يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم".

خرجا في الصحيح عن حارثة عن النبي صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلّ جواظ مستكبر" ويروى: "كل جواظ زنيم متكبر".

قال العلماء:" معنى" أقسم على الله: أن يقول بحقك يا رب فافعل كذا،

وقال أحمد: سمعت أبا الحسن بن فراس بمكة يدعو بهذا الدعاء :"اللهم بحقك، فلا حق أعظم منك عليك، وبحق أسمائك الحسنى عليك، وبحق ما أنزلته من كتابك، وقلت وقولك الحق {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } اللهم احفظني بما حفظت به الذكر ".

المطلب الثاني: الجنس الثاني: ما ورد في التوسل إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة، كالتوسل بالإيمان بالنبي عليه السلام ومحبته، أو بحقوق الصالحين:

فأما هذا التوسل إلى الله بحقوق الأنبياء والصالحين من عباده، فهو توسل بالأعمال الصالحة من توحيد ونبذ للشرك به:

كما مضى من حديث معاذ وأبي هريرة، قال: ...هل تدري ما حق الله على الناس وحق الناس على الله؟ حق الله على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق الناس على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم».

وفي ذلك أدلة:

المسألة الأولى: ما ورد في التوسل إلى الله بحقوق الصالحين وهي العبادة والإيمان بالله وحده:

دليل أو الدليل الأول: سؤال الله تعالى  بحقوقه على الأنبياء والسائلين وحق الممشى إلى العبادات: 

خرجهابن ماجه (778) والشجري 1172 عن فضيل بن مرزوق وعمرو بن عطية عن عطية عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة " ،

لفظ الشجري :" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قضى صلاته، قال: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، فإن للسائلين عليك فيها حقا، أيما عبد، أو أمة من أهل البر والبحر، تقبلت دعوتهم أو استجبت دعوتهم، أن تشركنا في صالح ما يدعو، وأن تعافينا وإياهم، وأن تقبل منا ومنهم وأن تتجاوز عنا وعنهم، إنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين» ، وكان يقول: «ما تكلم بهذا أحد من خليقة الله عز وجل إلا أشركه في دعوة أهل بحرهم وأهل برهم فعمتهم وهو في مكانه»

في سنده العوفي وفيه ضعف.

وعلى تقدير صحته فإن حق السائلين عليه تعالى أن يجيب دعاءهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم كما هو منصوص في الحديث، وهو سؤال الله تعالى إما بوعده الثابت المتحقق الوقوع فضلاً لا وجوباً، وهو من صفاته الفعلية كما في قوله تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } [ الروم : 47 ] ،

أو هو سؤال الله تعالى بالأفعال الصالحة، مع وعد الله تعالى بالإثابة عليها.

فإن هذا أمر مشروع كما أسلفنا.

دليل ثاني: توسل آدم بحق النبي عليه السلام ولم يصح:

رواه الحاكم (/672) والبيهقي في الدلائل عن أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري قال أبو الحسن هذا من رهط أبي عبيدة بن الجراح أخبرنا إسماعيل بن مسلمة أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فقال الله عز وجل: ياآدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد، قال: يارب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك غلا أحب الخلق إليك فقال الله صدقت ياآدم إنه لأحب الخلق إلي وإذا سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك".

صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بأنه موضوع، وصدق، فهو حديث باطل سندا، ومنكر متناقض متنا، لا شك أنه مختلق من وضاعي المبالغة في المدح النبوي وإطرائه.

دليل ثالث: توسل النبي عليه السلام إلى ربه بحق الأنبياء: وهو من جنس التوسل بأفعال ووعد الله تعالى.

قال الطبراني في الكبير 871 والأوسط 189 - حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة حدثنا روح بن صلاح حدثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك قال:" لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي دخل عليها رسول الله فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسونني وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة ثم أمر أن تغسل ثلاثا وثلاثا فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه عليها رسول الله بيده ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إياه وكفنت فوقه، ثم دعا رسول الله أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود ليحفروا فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه وقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين، ثم كبر عليها أربعا ثم أدخلوها القبر هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم".

قال: لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا سفيان الثوري تفرد به روح بن صلاح ".

لكن أين أصحاب الثوري الكثر الثقات من هذا الحديث حتى لا يرووه، ليتفرد به راو مجهول، وفيه كلام معلول.

وقد رواه أبو نعيم في الصحابة بغير زيادة التوسل بالحق، من طريق الحسن بن بشر، ثنا سعدان بن الوليد، بياع السابري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: لما ماتت فاطمة أم علي رضي الله عنه نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه، فلما سوى عليها التراب قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيناك صنعت شيئا ما رأيناك صنعت بأحد، قال: " إني ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها ليخفف عنها عذاب القبر ".

دليل رابع: سؤال أهل الكتاب بحق النبي عليه السلام قبل مبعثه:

قال تَعَالَى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} {89} .

خرج الحاكم (2/289) عن يوسف بن موسى، ثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله: {وكانوا من قبل يستفتحون} [البقرة: 89] بك يا محمد على الكافرين «. . . .» قال:" أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب من حديثه "

قال الذهبي: لا ضرورة في ذلك أي لإخراجه فعبد الله متروك هالك ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثانية: سؤال الإنسان الحي أو القسم عليه بحق النبي عليه السلام أو حق غيره:

1/ بحيث يجوز أن تسأل أي بشر بحق الله أو بحق غيره عليه، كأن تقول: أسألك بالله وبالرحم كما في الآية: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء]

وصلة الرحم من أجل الأعمال الصالحة التي يُتوسل بها إلى الله.

كأن تقول:" اللهم إني أسألك بحق الرحم... أو بصلتي للرحم ابتغاء وجهك... ونحو ذلك

الدليل الثاني: خرجه الحاكم (2/578) عن عكرمة بن عمار اليمامي عن أبي زميل سماك الحنفي قال: حدثني مالك بن مرثد عن أبيه قال: قلت لأبي ذر رضي الله عنه: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، قلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان، أم في غير رمضان؟ قال: «بل في رمضان» قلت: أخبرني يا رسول الله، أهي مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبض الأنبياء رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: «لا، بل إلى يوم القيامة» قلت: يا رسول الله، أخبرني في أي رمضان هي؟ قال: «في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها» فقلت: أقسمت عليك بحقي عليك يا رسول الله، في أي عشر هي؟ قال: فغضب علي غضبا شديدا ما غضب علي قبل ولا بعد مثله، وقال: «لو شاء الله لأطلعكم عليها التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها»

قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي،

وإنما كان غضب النبي عليه السلام عن زيادة الاستفصال حول ليلة القدر، لا على القسم بحق أبي ذر على النبي عليه السلام، وهذا الحق، هو التبليغ والبيان لكلام الله تعالى.

الدليل الثالث: خرجه ابن خزيمة في الصحيح 2482 عن عقبة بن مسلم حدثه أن شفيا حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت: أنشدك بحق وحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمته، ... حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتل في سبيل الله، ورجل كثير المال..."،

وأما التوسل بذات النبي عليه السلام أو جاهه ومكانته، فمنع من ذلك جمهور السلف، وأجازه بعضهم وهو قول جمهور الأشاعرة.

وقد سئل العز بن عبد السلام عن التوسل بالذات الفاضلة ؟ فقال : إن صح حديث الأعمى فهو مقصور على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون من خصوصياته ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثالثة: التوسل إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة ومنها التوسل بالإيمان بالنبي عليه السلام ومحبته:

اتفق السلف على مشروعية التوسل إبى الله بالإيمان واتباع النبي عليه السلام،

ثم اختلفوا في مشروعية التوسل بحق أو مكانة النبي عليه السلام وجاهه:

فأما التوسل بحق الرسول أو غيره، فهو داخل في جملة التوسل المشروع، إما بصفات الله وتحقيق وعْده الذي لا يخلفه، أو هو داخل في التوسل بالأعمال الصالحة كما ذكرنا. 

وأما التوسل بذات النبي عليه السلام أو جاهه ومكانته، فمنع من ذلك جمهور السلف، وأجازه جمهور الأشاعرة.

وقد سئل العز بن عبد السلام عن التوسل بالذات الفاضلة ؟ فقال : إن صح حديث الأعمى فهو مقصور على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون من خصوصياته ".

وأما التوسل بالإيمان والعمل الصالح واتباع الأنبياء فهو متفق عليه بين المسلمين:

1/ قال تعالى:{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران]

وقال تعالى في وصف المؤمنين: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}[آل عمران]

وقال: { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)} [آل عمران] وغير ذلك من الأدلة.

إضافة إلى حديث أصحاب الغار الذي خرجه البخاري 3465 /5974 ومسلم 2743 عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها، لعل الله يفرجها عنكم،

فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم، حلبت، فبدأت بوالدي، فسقيتهما قبل بني، وأنه نأى بي ذات يوم الشجر، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة، فرأوا منها السماء،

وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم،

وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها، فخذها فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت: إني لا أستهزئ بك، خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي وخرجوا يمشون"،

المطلب الثالث: الجنس الثالث: ما ورد في التوسل بدعاء الأنبياء والأولياء الأحياء الحاضرين دون الأموات الغائبين:

المسألة الأولى: تعظيم أمر الاستشفاع بغير الله وبيان أنه لا يكون إلا من الأحياء، وأن الأولى تركه:

الدليل الأول: تعظيم النبي عليه السلام لأمر الاستشفاع والتوسل بغير الله تعالى، ولو كان من نبي مرسل،  أو ولي صالح، سدا للذريعة مع جوازه، وبيان أن غير الحي أولى بالمنع من التوسل بالحي:

إلا أن حديث جبير بن مطعم قد حدث في سنده اختلاف:

1/ رواه وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق واختلفوا عنه:

أ. فرواه محمد بن المثنى وعبد الأعلى بن حماد ومحمد بن بشار فقالوا فيه:

حدثنا وهب بن جرير بن حازم حدثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة وجبير بن محمد ، بدل عن جبير :

. فخرجه أبو الشيخ في العظمة 2/555 ثنا محمد بن العباس حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وهب بن جرير بن حازم حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة وجبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده جبير بن مطعم رضي الله عنهم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله عز وجل، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في أصحابه، ثم قال: «ويحك، تدري ما الله؟، إن عرشه على سماواته وأرضيه هكذا مثل القبة، وإنه يئط به أطيط الرحل بالراكب»

وقال ابن أبي شيبة في العرش 11 حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاع العيال، وهلكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله عليه السلام: "ويحك تدري ما تقول"؟

تابعه ابن أبي عاصم في السنة ثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي ومحمد بن المثنى قالا ثنا وهب ابن جرير ثنا أبي قال سمعت محمد بن اسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد عن أبيه عن جده قال .

.وقال البخاري في التاريخ وقال لى محمد بن بشار وغيره: حدثنا وهب عن ابيه عن ابن اسحاق عن يعقوب وجبير

 وفال البزار أخبرناه محمد بن المثنى أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي سمعت محمد بن إسحاق: سمعت يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده،

قال البزار: هكذا حدثناه أبو موسى وبندار، وعبد الأعلى بن حماد تابعهم عليه، فاتفقوا كلهم على هذا الإسناد، لأن نسخة وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق، كانت لعبد الأعلى بن حماد، فكان في كتابه هكذا ونسخ أبو موسى وبندار من كتاب عبد الأعلى فوقع في كتبهم هكذا .

ب. أ. بينما رواه سلمة بن شبيب ومحمد بن علي ومحمد بن يزيد وحفص بن عبد الرحمن وابن معين وابن المديني وابن بشار فقالوا فيه: نا وهب بن جرير حدثني أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن أبيه عن جده ، بدل واو المعية، وهو الأصحّ .

. قال البزار (8/355) حدثناه سلمة بن شبيب ومحمد بن علي بن الوضاح قالا: أخبرنا وهب بن جرير حدثني أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد [ بن جبير] بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك تدري ما تقول؟»، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى عرف ذلك في وجهه ووجوه أصحابه، وقال: «ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد، إن الله أعظم من ذلك»

قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه ولم يقل فيه محمد بن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة ".

وقد خرجه أبو عوانة مستخرجه الصحيح على مسلم ثنا أبو الأزهر نا وهب بن جرير به. 

وقال الطبراني في الكبير (2/128) 1547 - حدثنا زكريا بن يحيى الساجي ثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي ح، وثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن معين ( ح ) وثنا معاذ بن المثنى ثنا علي بن المديني قالوا ثنا وهب بن جرير حدثني أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال :" جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاع العيال وهلكت الأموال ونهكت الأنعام فاستسق الله عز و جل لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ويحك تدري ما تقول؟ فسبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك تدري ما الله عز و جل ؟ إن عرشه على سماواته وأرضه هكذا، وقال بإصبعيه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب .

وخرجه أبو داود عن عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد عن وهب مثله .

كذلك رواه الدارمي في الرد محمد بن بشار العبدي ثنا وهب بن جرير ثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده .

تابعهم محمد بن يزيد وحفص بن عبد الرحمن قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة , عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: ...

وهذا الحديث في تحريم الاستشفاع بغير الله تعالى، أصح سندا من حديث الأعمى في التوسل بالنبي عليه السلام كما سيأتي.

الدليل الثاني: تصريح النبي عليه السلام بأن الاستشفاع والتوسل لا يكون إلا من الأحياء الحاضرين:

خرجه البزار (8/333) عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان مطعم بن عدي حيا، ثم استشفعني في هؤلاء النتنى لشفعته فيهم»

قال البزار : وهذا الحديث صحيح الإسناد، ولا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه متصل صحيح الإسناد من غير هذا الوجه "،

فلو كان الاستشفاع بالأموات الصالحين جائزا، لأمرهم النبي عليه السلام بالاستشفاع بابن عدي أو غيره.

وهذا الحديث خرجه البخاري (3139/4024 ) عن محمد بن جبير عن أبيه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»

الدليل الثالث: جواز الاستشفاع بالنبي عليه السلام في حياته: لكن في قضاء حوائج الناس بعضهم من بعض: 

خرج البخاري 2405  عن جابر رضي الله عنه، قال: أصيب عبد الله، وترك عيالا ودينا، فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضا من دينه فأبوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستشفعت به عليهم، فأبوا، فقال: «صنف تمرك كل شيء منه على حدته، عذق ابن زيد على حدة، واللين على حدة، والعجوة على حدة، ثم أحضرهم حتى آتيك»، ففعلت، ثم جاء صلى الله عليه وسلم فقعد عليه، وكال لكل رجل حتى استوفى، وبقي التمر كما هو، كأنه لم يمس ".

وليس في هذا الحديث استشفاع بالنبي عليه السلام إلى ربه، وإنما هو أمر جائز بين الناس بعضهم مع بعض كما في:

الدليل الرابع وتوابعه: تكاثر الأدلة في طلب الصحابة الدعاءَ من النبي عليه السلام في حياته واستشفاعهم به في حل قضاياهم مع الناس:

خرج حميد في الأموال  ثنا النفيلي أنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن وفد هوازن لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنُنْ علينا، مَنَّ الله عليك. ....

 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أموالنا ونسائنا فرُد علينا أبناءنا ونساءنا. فقال: " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم الناس " فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب، فهو لكم» وقال المهاجرون: وما كان لنا، فهو لرسول الله. وقال الأنصار مثل ذلك. وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم، فلا. وقال عيينة مثل ذلك. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم، فلا. قال بنو سليم: أما ما كان لنا، فهو لرسول الله. قال: يقول العباس: وهنتموني. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي، فله ست قلائص من أول فيء نصيبه» . فرد إلى الناس أبناءهم ونساءهم ".

وهذا من جنس التوسط المشروع، حيث يُشرع لكل شخص أن يتوسط لدى غيره لقضاء أموره، حاشا التوسط لدى القاضي لإسقاط عقوبة أو حد بلوغه القاضي، فهو سفاعة سيئة ممنوعة.

وأما التوسل إلى الله بالنبي عليه السلام أو بغيره من الأحياء الصالحين ففي ذلك أدلة:

المسألة الثانية: التوسل إلى الله بالنبي عليه السلام أو بدعاء غيره من الأحياء الصالحين:

الدليل الأول: توسل الصحابة بدعاء النبي عليه السلام في حياته لربه، ثم تركهم التوسل به عليه السلام بعد موته، ولجوئهم إلى التوسل بدعاء عمه العباس الحي الحاضر، وتركهم التوسل بالأفضل لما مات:

خرج البخاري في الصحيح 3710/1010 عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»، قال: فيسقون".

فها قد ثبت أن عمر رضي اللّه عنه قال في خطبة الاستسقاء بحضرة جميع الصحابة: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا».

فانظر يا مسلم رحمك الله كيف ترك الصحابة بإجماعهم التوسل حتى بأفضل خلق الله محمد عليه السلام بعد مماته، ولجأوا إلى التوسل بدعاء المفضول وهو العباس، لحياته مع صلاحه ومنزلته، بحيث يدعو ويدعون معه , فيكون هو وسيلتهم المشروعة إلى الله تعالى.

ولم يعترض أحد من الصحابة على عمر في ترك التوسل بالنبي عليه السلام بعد مماته، ولا قال له أحد بأن هذا التوسل مشروع يا عمر وأنت تركته.

وهذا نص مبين على أن التوسل كان بالدعاء لا بالذات، لأن ذات النبي عليه السلام أشرف من ذات العباس، وإنما عدل الصحابة عن التوسل بالنبي عليه السلام ودعائه لأنه صار ميتا، فتوسلوا بدعاء المفضول وهو عمه الحي: 

وإذا كان المخالفون لا يرضون بتفاسير ابن تيمية للحديث:

فقد قال الإمام الألوسي في تفسيره للآية:" فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره ، بل كانوا يقولون : اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا ، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس ، وهم يجدون أدني مساغ لذلك ، فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع ، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره".

وصفة ذلك التوسل بدعاء العباس ما رواه ابن أبي حاتم قال: ثنا محمد بن عزيز حدثني سلامة عن عقيل عن زيد بن أسلم وأبي إسحاق عمن أخبرهما عن ابن عباس، وبعضهم زاد في الحديث على بعض قال: لما كان عام الرمادة استسقى عمر بن الخطاب بالناس فأخذ بيد العباس بن عبد المطلب ثم قال: اللهم إنا نستشفع بك وإليك بوجه عم نبيك لما رأى نواحي إلا سقاهم الله عز وجل، وخطب عمر الناس فقال: يا أيها الناس ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى لوالده فيعظمه ويبجله ويبر له قسمه، ولا ينسى له غيبة ".

وروى عباس بن هشام عن أبيه عن جده عن أبي صالح عن ابن عباس قال :" استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة فقال: إن هؤلاء عبادك وبنو إمائك أتوك راغبين إليك متوسلين إليك بعم نبيك فاسقنا سقيا نافعة تعم العباد وتحيي البلاد، اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم ونستشفع إليك بشيبته، فسقوا ففي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب :

بعمي سقا الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمر

توجه بالعباس في الجدب راغبا ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر

ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر نفتخر

فإن ظاهر هذا الصنيع أنهم كانوا يتوسلون بالنبي عليه السلام في حياته فقط، وأما بعد مماته فقد تركوا ذلك ، وتوسلوا بدعاء الأحياء كالعباس في هذا الحديث .

الأثر الثاني: استسقاء الصحابة بدعاء يزيد بن الأسود لصلاحه وحياته:

رواه الحكم بن نافع عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر :" أن الناس قحطوا بدمشق فخرج معاوية يستسقي بيزيد بن الأسود "،

وهذا لأنه كان صالحا وحيًّا يعيش معهم ، فتوسلوا بدعائه لهم، ولو كان التوسل بالنبي عليه السلام جائزا، لما تركوا التوسل به والذهاب إلى من دونه وهو يزيد، كما فعل عمر أيضا. 

وروى الإمام أحمد في الزهد ( 392 ) في ترجمة أبي مسلم الخولاني عن محمد بن شعيب وسعيد بن عبد العزيز قال : " قحط الناس على عهد معاوية رحمه الله فخرج يستسقي بهم فلما نظروا إلى المصلى قال معاوية لأبي مسلم : ترى ما داخل الناس فادع الله قال : فقال : أفعل على تقصيري فقام وعليه برنس فكشف البرنس عن رأسه ثم رفع يديه فقال : اللهم إنا بك نستمطر وقد جئت بذنوبي إليك فلا تخيبني قال : فما انصرفوا حتى سقوا ...".

وقال البيهقي في الشعب () أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى قالا: نا أبو العباس الأصم نا الربيع بن سليمان نا أيوب بن سويدنا أبو زرعة قال: خرج الضحاك بن قيس فاستسقى بالناس، ولم يمطروا ولم يروا سحابا قال الضحاك: أين يزيد بن الأسود؟ فقال: هذا أنا. قال: نعم فاستشفع لنا إلى الله عز وجل أن يسقينا فقام فعطف برأسه على منكبيه وحسر عن ذراعيه فقال: اللهم إن " عبادك هؤلاء استشفعوا بي إليك فما دعا إلا ثلاثا حتى مطروا مطرا كادوا يغرقون منه ثم قال: إن هذا شهرني فأرحني فما لبث بعد ذلك إلا جمعة حتى مات ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثالث: ما ورد في التوسل إلى الله بذات النبي عليه السلام أو جاهه وحرمته، وما ورد في النهي عن تعظيمه:

ذكرنا الفروق بين التوجه بالدعاء الشركي مباشرة للنبي عليه السلام وطلب الغوث والفرجة منه، كأن تقول: يا محمد أغثني واعطني .... 

وبين التوسل المختلف فيه وهو طلب الدعاء من الله متوسلا بنبيه كأن تقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك..."،

وبين التوسل المشروع وهو التوسل إلى الله بالإيمان بالنبي عليه السلام وحقه واتباعه... فهو مشروع اتفاقا. 

لنتكلم الآن على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل إلى الله بذات النبي عليه السلام أو جاهه وحرمته، فإن بعض الجهلة يجعلون من الاختلاف فيه ذريعة إلى الاستغاثة ودعاء النبي عليه السلام من دون ربه، كما يفعله النصارى مع المسيح، وكما يفعله الروافض مع الحسين، وكما يفعله المشركون مع أوليائهم، ليقربوهم إلى الله زلفى...

إضافة إلى وجود الفرق بين التوسل إلى الله بذات النبي عليه السلام، وبين التوسل إلى الله بجاهه وحرمته، لأن التوسل بالذات الشريفة هو الذي قد يكون مطية للشرك، فيقول الداعي: يا رسول الله أغثنا...

وأما التوسل بالجاه والحرمة فليس مطية للشرك، لأن الداعي لن يستطيع أن يقول: يا رحمة أو يا جاه رسول الله أغثني....

لذلك فرقنا بين المسألتين:

مسألة التوسل إلى الله تعالى بذات النبي عليه السلام أو جاهه، كأن تدعو الله وحده، لا النبيَّ عليه السلام، فتقول مثلا: اللهم إني أسألك بمحمد أو جاه محمد... ، فإن هذا هو بيت القصيد والاختلاف،

1/ فمنع الجمهور من التوسل إلى الله بذات النبي عليه السلام سدا لذريعة الشرك، لأنه باب يفتح الشرك بطلب الأشياء من النبي عليه السلام مباشرة والتعدية إلى غيره كما هو واقع.

بل إن بعض السلف منعوا حتى الدعاء عند القبر النبوي كما مر. 

وفرَّق آخرون بين التوسل بالذات فمنعوها، وبين التوسل بالجاه والمكانة فأجازوها، وأرجعوها إلى صفات الله وأفعاله وهو قول وجيه:

المطلب الأول: ما ورد في التوسل إلى الله بحرمة نبيه وجاهه ومكانته وبيان أدلة مشروعيته:

ذكرنا أنه لا يدخل في باب ذريعة الشرك والتأدلة إليه، لأنك لا تستطيع أن تقول:" يا جاه رسول الله أو يا حرمة وسول الله الغوث...

بل إن هذا التوسل قد يكون من جنس التوسل إلى الله إما بصفاته، أو بالأشياء المقدسة والأعمال الصالحة. 

. حيث أجاز الإمام أحمد في أحد قوليه والألوسي وجماعة من السلف التوسل بالجاه والحرمة لا الذات، وجعلوها من جنس دعاء الله بصفاته، لأن الجاه والحرمة بمعنى محبة الله لنبيه، فكأنك توسلت إلى الله بصفة حبه للنبي عليه السلام،

فقال الألوسي:" وبعد هذا كله أنا لا أرى بأساً في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حياً وميتاً ، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته ، فيكون معنى قول القائل : إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي ، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي ، ولا فرق بين هذا وقولك : إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضاً إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا ، بل لا أرى بأساً أيضاً بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت "،

قال:" نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم . ولعل ذلك كان تحاشياً منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام شيء ، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في «الصحيح» ، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم كما يزعمه البعض في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وسلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة ، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ".

وجاء في آخر المسند للإمام أحمد:" وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لتتمة كمال المسند بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك غرة جمادى الأولى سنة السادسة والتسعين بعد المئتين وألف هجرية".

وروى يعقوب بن أحمد بمصر: سَمِعتُ عبد الرحمن بن محمد -مولى بني أُميَّة- يقول: زاد نيلُ مصرَ حتى خَشِيَ الناسُ الغرقَ، قال: فوَقَفتُ عليه، فقلتُ: بحُرمةِ عمرَ بن الخطاب عليك إلاَّ سَكَنتَ فسَكَنَ ".

ومع ذلك فقد وردت بعض الآثار القليلة المتكلم فيها على مشروعية ذلك:

أثر أول: جاء في مسند الفردوس عن عمر وَعلي:" إِذا شجاك شَيْطَان أَو سُلْطَان فَقل يَا من يَكْفِي من كل أحد وَلَا يَكْفِي مِنْهُ أحد يَا أحد من لَا أحد لَهُ يَا سَنَد من لاسند لَهُ انْقَطع الرَّجَاء إِلَّا مِنْك فَاكْفِنِي مِمَّا أَنا فِيهِ وأعني على مَا أَنا عَلَيْهِ مِمَّا قد نزل بِي بجاه وَجهك الْكَرِيم وبحق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْك آمين ".

أثر ثاني: أثر ابني الزبير ومروان وابن عمر في التوسل بالحرمة وحقوق المطيعين:

خرج اللالكائي في كرامات الأولياء ر93 عن ابن أبي الدنيا في المجابين عن أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال: ثنا إسماعيل بن أبان العامري: ثنا سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي قال: لقد رأيت عجبا، كنا بفناء الكعبة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم كل واحد منهم فليأخذ بالركن اليماني ويسأل الله تعالى حاجته فإنه يعطى من سعة، قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول من ولد في الهجرة،

فقام فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك صلى الله عليه وسلم أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز ويسلم عليّ بالخلافة، وجاء حتى جلس.

فقالوا: قم يا مصعب بن الزبير،

فقام حتى أخذ بالركن اليماني فقال: اللهم إنك رب كل شيء وإليك مصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني سكينة بنت الحسين،

وجاء حتى جلس قالوا: قم يا عبد الملك بن مروان،

فقام فأخذ الركن اليماني فقال: اللهم رب السموات السبع والأرضين السبع ورب الأرض ذات النبت بعد القفر أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس،

ثم قالوا: قم يا عبد الله بن عمر،

فقام حتى أخذ بالركن اليماني فقال: اللهم إنك رحمن رحيم أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك أن لا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة،

قال الشعبي: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت كل رجل منهم قد أعطي ما سأل، وبشر عبد الله بن عمر بالجنة ورئيت له ".

علة الحديث هو إسماعيل بن أبان وهو متروك، وأما أحمد بن عبد الأعلى فقد وثقه ابن حبان وعرفه فقال: وكان ممن تفقه على مذهب أهل المدينة ويذب عن أقاويلهم".

المطلب الثاني: ما ورد في التوسل بذات النبي عليه السلام:

وهذا الذي منع منه جمهور السلف كما قال الألوسي سدا لذريعة الشرك، لأن الداعي المتوسل لما يقول:" اللهم إني أسألك بنبيك... قد يغفل فيشرك فيقول:" يا رسول الله أغثني أعني...

بخلاف المتوسل بحق النبي أو بجاهه وحرمته فلا يستطيع أن يقول: يا حرمة رسول الله... أعني...

وهو قول العز بن عبد السلام واشترط عليه صحة حديث الأعمى التالي، وهو رواية عن أحمد، وبها قال جمهور الأشاعرة.

4/ بل إن جمهور الأشاعرة على مشروعية التوسل حتى بالأولياء الصالحين. وقد غلا بعضهم حتى زعم بأنه عليه السلام حي في قبره يسمع ويرى، وكذلك الأولياء. 

والصحيح أن يُقتصر في الخلاف على دعاء الله تعالى متوسلا إليه بذات النبي عليه السلام فقط من غير قياس غيره عليه كما قال العز بن عبد السلام:

والأولى ترك هذا التوسل لما سبق من فعل الصحابة زمن عمر رضي الله عنه، فقد تركوا التوسل به عليه السلام، ولجأوا إلى التوسل بعمه العباس.

وقد استدل المجيزون للتوسل، بأحاديث آحاد واهية ومضطربة، إما فيها هذا التوسل البدعي، وإما بأدلة فيها التوجه بالدعاء مباشرة إلى المدعو، الذي بين الله كثيرا في كتابه أن دعاء غير الله شرك أكبر، وربما حدث في بعض الأدلة خلط بينهما معا.

مع أن هؤلاء يردون أحاديث الآحاد الثقات حتى في الفقه، إلا أنهم يستدلون بأحاديث الآحاد الضعيفة ولو في الاعتقاد، فسبحان الله !!

 المسألة الأولى: ما ورد من أدلة في التوسل بذات النبي عليه السلام:

الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى :{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) } [النساء]

قال ابن كثير في التفسير:" وقد ذكر جماعة منهم: الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم ...

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ...

ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبى، إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له ".

والجواب من أوجه:

1/ أن مثل هذه الحكاية مجهولة عن أعرابي مجهول كما مر.

وهذه الحكاية إنما ذكروها ذِكرا بلا سند، كما ذكروا الإسرائيليات وبعض الخرافات في كتبهم لمجرد الاطلاع.

2/ / ولا يجوز أن يُحتج بالمنامات على إثبات حكم شرعي، خاصة في مجال العقيدة.

3/ أن الآية نزلت في وجوب التحاكم إلى النبي عليه السلام في حياته، والتحاكم إلى دينه وسنته بعد موته، ووجوب استغفار وتوبة من رفض التحاكم إلى الشرع، ولا علاقة لها بالمجيء للتوسل بالنبي عليه السلام بعد موته:

ذكر ابن كثير في تفسير الآية: خرج الطبراني عن ابن عباس. قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز وجل: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك [يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} إلى قوله: {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا }

وعن  مجاهد قال" {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ إِلَى قوله عَزَّ وَجَلَّ: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، فِي اليهودي والمسلم الَّذِينَ تحاكما إِلَى كعب بْن الأشرف "

4/ إضافة إلى مخالفة هذه الحكاية لما تواتر عن الصحابة واشتهر في تركهم الاستشفاع والتوسل بالنبي عليه السلام بعد موته، ولجوءهم إلى التوسل بمن دونه وهو حي،

بل إن الآية واردة في حالة حياة النبي عليه السلام، ووجوب توبة المنافقين بحضرة النبي عليه السلام وطلب السماح منه بسبب أذيته ورفض التحاكم إليه.

5/ أن حرف " إذ"، في اللغة هو للظرفية الزمانية الماضية، أي أن هذه الآية كما ذكرنا في حياته عليه السلام، ولذلك لم يقل : إذا"، التي تدل على الاستقبال.

دليل ثاني: حديث مالك الدار في مخاطبة النبي عليه السلام، وأمره بالدعاء لأمته بالسقيا:

وليس فيه أنه دعا رسول الله من دون الله، بل وليس فيه أنه قال: اللهم إنا نتوسل إليك بنبيك.... بل كل ما فيه أنه ذهب للقبر النبوي، وطلب منه أن يدعوَ الله للمسلمين، لاعتقاده أنه يسمع طلبه ...

قال أبو بكر في مصنفه (6/356) حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار قال: وكان خازن عمر على الطعام، قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: " ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مستقيمون وقل له: عليك الكيس، عليك الكيس "، فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه ".

صححه ابن كثير وابن حجر.

لكن هذه القصة باطلة للعلل التالية:

أولاها: مخالفتها لما ثبت في القرآن من أن النبي عليه السلام ميت، وأنه لا يسمع من خاطبه ولا يعلم شيئا عن هذه العالم إلا ما أعلمه ربه في حياة البرزخ، إلا ما ورد في رد السلام على من سلم عليه، مع أنه لم يصح كما أسلفنا.

والثاني: لو سلمنا أنه ورد في التوسل بالنبي عليه السلام في زمن عمر، فإنه مخالف لما ورد في الصحيحين في ترك عمر بن الخطاب نفسه ومعه الصحابة الاستسقاء بالنبي عليه السلام بعد موته، ولجوئهم إلى الاستسقاء بالعباس الحي كما أسلفنا.

فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك أن عمر خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي يقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم ".

3/ ثم إن الرَّجل الذي أتى إلى قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو لأمته، هو رجل مجهول، وليس هو بلال بن الحارث كما روى بعض المتهمين، وفيها إشعار بعدم سماع مالك من هذا الرجل لقوله: جاء رجل... فأُتي في المنام فقيل له...  .

4/ كما أن مالك الدار وإن كان معروفا بأنه كان مولى لعمر، جعله على ميرة أهله، وعلى هذا يتنزل قول الخليلي: روى عنه التابعون وأثنوا عليه"، ثم لم يبين من أثنى عليه، وهو محمول على الثناء على ديانته، لكن حاله في الضبط والرواية تبقى مجهولة، فقد ذكره الحفاظ بغير تعديل ولا تجريح، ولذلك قال الهيثمي:" ومالك الدار لم أعرفه"ـ

وأما قَول أَبي بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ: مَالِكُ الدَّارِ هَذَا هُوَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، وَسُمِّيَ مَالِكُ الدَّارِ، لِأَنَّ عُمَرَ وَلَّاهُ دَارَ الصَّدَقَةِ"، فهذا خطأ منه.

فقد قال عبد الله بن أحمد في العلل: "أملى علي أبي فقال هذه تسمية من روى عن عمر بن الخطاب من أهل مكة .... ومالك بن أوس بن الحدثان وعبيد الله بن عدي بن الخيار وأبو عبيد مولى بن أزهر ومالك الدار ". ففصل بينهما.

وقال البخاري وأبو عبد الله المقدمي في التاريخ: مالك الدار خازن عمر بن الخطاب هو مالك بن عياض حميري".

5/ فيه علة الإرسال:

قال الخليلي في «الإرشاد» (1/ 316): يُقال: إن أبا صالح سَمِعَ مالك الدَّار هذا الحديث، والباقون أرسلوه "، .

ومنهم من يرويه عن مالك بن أنس، وهو حديث منكر المتن أيضا:

6/ كما أن أبا معاوية يخطئ في حديث الأعمش،

7/ وفيه الأعمش يدلس وقد عنعن، ولا تقبل عنعنته إلا في الصحيحين، خاصة في أحاديث العقيدة، وليت شعري! كيف يرد الأشاعرة أحاديث الآحاد الثقات الصحيحة في العقيدة، ثم يستدلون بأحاديث الآحاد المعلولة ؟! فالأولى أن تكون أشد رفضا لو كان الأشاعرة يعقلون؟ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دليل ثالث: حديث الأعمى في جواز التوسل بالنبي عليه السلام خاصةً:

وهو حديث آحاد معلول مداره على أبي جعفر، ثم اختلفوا في تعيينه هل هو الخطمي أم غيره، وهل هو عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أم هو عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن الصحابي عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في ".

وأما متنه فليس بحجة على التوسل بالنبي عليه السلام بعد موته، بل إن هذا الاستشفاع والأمر بالتوسل بمحمد عليه السلام، كان في زمن النبي عليه السلام، وفي حياته بعلمه، وبإقرار منه،

إلا ما ورد في روايتيْن هما أشد نكارة من غيرهما:

أولاهما: في قوله:" يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي..."، فهو خطاب للنبي محمد عليه السلام مباشرة، ثم توجه به إلى ربه حتى برد بصره، لا أنه طلب منه هو الشفاء، وهذا أمر قد يلتبس على العوام فيتوجهون بالخطاب إلى النبي عليه السلام بكشف الضر وهذا شرك أكبر باتفاق.. 

والنكارة الثانية: زيادة شبيب بفعل عثمان بن حنيف لذلك بعد موت النبي عليه السلام، فهي زيادة لا تصح أصلا، بل إن أصل هذا الحديثَ قد أُعلَّ بعلتين، بل بثلاث :

أولاها: الشذوذ والمخالفة وتفرد أبي جعفر به:

وإذا كان الأشاعرة يردون أحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة حتى في الفقه، فكيف بهم يقبلون حديثا آحادا مضطربا، مع مخالفته للأدلة الكثيرة الناصة على عدم اتخاذ واسطة في الدعاء والمسألة بين الله وبين أحدٍ من خلقه كما أسلفنا.

ولذلك نجد حتى بعض الصحابة يرفض بعض أحاديث صحابة آخرين إذا رأوها معارضة للقرآن والنصوص المشهورة، بغض النظر عن الموقف الأصح، وهذا ما يسمى بالشذوذ في علم المصطلح:

فمن ذلك قول عمر في شأن فاطمة:" لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري هل حفظت أم نسيت ".

ومن ذلك رد عائشة لحديث أبي هريرة في سماع قتلى بدر للنبي عليه السلام، لمعارضتها القرآن وأنه عليه السلام لا يسمع الموتى كما مر، مع أن حديث أبي هريرة محمول على سماع الميت الحديث الوفاة فقط....

فمن باب أولى أن يُحكم لهذا الحديث بالشذوذ، لمخالفته الأدلة القرآنية الكثيرة والأحاديث المتظافرة في دعاء الله وحده، وابتغاء الوسيلة إليه بأسمائه وصفاته، وطاعته، أو دعاء الأحياء الصالحين فقط، أو التوسل بحق النبي عليه السلام وحرمته وجاهه التي لا يلتبس أمرها بالشرك الأكبر، وقد رأيت حتى بعض طلبة العلم من الأشاعرة لا يفرقون بين طلب العون من النبي عليه مباشرة وبين التوسل به:

والعلة الثانية : تفرد أبي جعفر به: وهو مهمل، اختلفوا في تعيينه ،

1/ فزعم بعضهم أن أبا جعفر ليس هو الخطمي الثقة، وهذا يعني أن من قال في روايته أنه "الخطمي"، فقد وهِم، لظنه أنه هو، أو أنه تفسير مدرج من بعض الرواة أو النساخ وهو وهْم منه، ثم تبعه عليه آخرون.

فهل هو إذا عيسى الرازي التميمي المُليّن، وهذا بعيد، لأنه ليس بمدني أصلا ، وأما هذا فقد ورد تعيينه بأبي جعفر المدني، وورد في طرق أخرى الخطمي.

وإذا كان هو المدني، فهل أبو جعفر المدني هذا شخص مجهول، ولو روى عنه شعبة وحماد .

أم أن المدني هو الخطمي الثقة كما قال بعضهم:

لكن قال أبو الحسن ابن المديني عن الخطمي:" هو مدني قدم البصرة وليس لأهل المدينة عنه أثر ولا يعرفونه "، مما يبين أنه ليس الخطمي.

2/ إلا أن الأكثرين زعموا أنه هو أبو جعفر الخطمي البصري الأنصاري عمير بن يزيد الصدوق كما وقع في بعض الروايات، كما سنبين. 

والعلة الثالثة: الاضطراب، لأنه قد اختلف على أبي جعفر هذا، في سند هذا الحديث على وجهين، هل هو عن عمارة أم عن أبي أمامة :

الوجه الأول : روايته عن عمارة بن خزيمة لا عن أبي أمامة : حدث بذلك حماد وشعبة :

وعمارة بن خزيمة ذكره البخاري وابن أبي حاتم وغير واحد بلا جرح ولا تعديل، حتى زعم ابن حزم في المحلى أنه مجهول.

لكن وثقه النسائي وابن حبان كعادته، وابن سعد وقال: قليل الحديث.

ومع قلته فقد روى أحاديث مضطربة، منها هذا، ومنها حديث الاستنجاء، وحديث:" الروح يلقى الروح، أو لا يلقى الروح"، مما يعني أن في تفرده نظر، ولا يحتمل منه التفرد.  

1.   فأما رواية حماد:

فقد قال النسائي في الكبرى 10419 - أخبرنا محمد بن معمر حدثنا حبان حدثنا حماد أخبرنا أبو جعفر عن [عمارة بن خزيمة] عن عثمان بن حنيف: أن رجلا أعمى أتى النبيَّ صلى الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجل أعمى، فادع الله أن يشفيني، قال: «بل أدعك» قال: ادع الله لي، مرتين أو ثلاثا، قال: " توضأ ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله أن يقضي حاجتي، أو حاجتي إلى فلان، أو حاجتي في كذا وكذا، اللهم شفع في نبيي، وشفعني في نفسي "، ولم يعين أبا جعفر:

وقد تابعه مؤمل، وعيّن أبا جعفر الخطمي، فقال: ثنا حماد نا أبو جعفر الخطمي به، خرجه عنه أحمد (4/138)، لكن مؤمل سيء الحفظ، وقد توبع على التعيين:

فقال البخاري في التاريخ من ترجمة عثمان :" قال شهاب: حدثنا حماد بن سلمة: عن أبى جعفر الخطمى عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: أتى أعمى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: ادع الله تعالى أن يرد بصري ..

وقد ذكروا أن حماد بن سلمة يروي عن أبي جعفر الخطمي.

ومعنى قوله :" اللهم فشفعه في " أي اللهم اجعله يشفع فيَّ ويتذكرني في الدعاء ،

ومعنى قوله " وشفعني فيه " أي أدعوك أن تتقبل دعاء النبي عليه السلام لي.

وهذا كما في الحديث :" ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه " وفي رواية :" ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه " أي تقبل الله دعاءهم له.

2. وأما رواية شعبة عن أبي جعفر، فهي رواية مشهورة عنه من طريق عثمان بن عمر وروح عنه : 

أ: فأما رواية عثمان بن عمر:

فقد خرجها الترمذي 3578 والنسائي مهملة 10420 - أخبرنا محمود بن غيلان حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم شفعه في»،

تابعه أحمد (4/138) وعبد بن حميد في مسنده ومحمد بن بشار نا عثمان بن عمر نا شعبة عن أبي جعفر قال سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف ... مهملا عند الطوسي.

وبينه آخرون عن عثمان بن عمر، وقالوا: أبو جعفر المديني:

كما هي رواية ابن خزيمة في صحيحه (12)

وقال الحاكم (1/458) حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس بن محمد الدوري ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافني فقال : إن شئت أخرت ذلك وهو خير وإن شئت دعوت قال : فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء فيقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم شفعه في وشفعني فيه"،

قال :" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه "،

ومن طريقه خرجه عنه البيهقي في الدلائل وقال فيه معيِّنا :" ..عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي جعفر الخطمي قال سمعت عامر بن خزيمة ..".

ب: وأما رواية روح عن شعبة :

فقال أحمد (4/138) ثنا روح ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا نبي الله ادع الله ان يعافيني فقال: إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك، قال: لا بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم اني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى وتشفعني فيه، وتشفعه في"، قال: فكان يقول هذا مرارا ثم قال بعد: أحسب أن فيها "ان تشفعني فيه "، قال: ففعل الرجل فبرأ". 

تابعه أحمد بن الوليد الفحام حدثنا روح بن عبادة حدثنا شعبة عن أبي جعفر المدني قال: سمعت عمارة يحدث عن عثمان به .

ج: ورواه الحاكم عن الحسن بن مكرم، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة، وأخبرنا أحمد بن جعفر، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي جعفر المدني قال: سمعت عمارة بن خزيمة، يحدث، عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه،

الوجه الثاني : رواية أبي جعفر عن أبي أمامة بدل عمارة :

حدث بذلك هشام وروح كما قال النسائي :" خالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فقالا: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف ".

إضافة إلى ابن شبيب.

وزاد بعضهم عن سليمان عن أبي أمامة، مما يبين أن أبا جعفر لم يسمعه من أبي أمامة بن سهل:

1/.فأما زيادة سليمان فيه:

فقد قال أبو نعيم في الصحابة من ترجمة عثمان: حدثنا سليمان بن أحمد: حدثنا إدريس بن جعفر ثنا عثمان بن عمر بن فارس، ح وحدثنا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر الخطمي[ثنا سليمان] عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف.

ورواه غيره لم يذكر فيه سليمان:

2/ فأما رواية شبيب بن سعيد، فقد وقع فيها زيادة غريبة في المتن زمن عثمان، وفيها اختلاف في السند على شبيب، وهو صدوق الكتاب، يهم إذا حدث من غير كتبه:

وقد قال علي بن المديني عن شبيب: ثقة ، كان من أصحاب يونس بن يزيد ، كان يختلف في تجارة إلى مصر ، وكتابه كتاب صحيح ، وقد كتبها عنه ابنه أحمد "،

وأما روايته لهذا الحديث: 

أ: فقد قال يعقوب بن سفيان الفسوي في مشيخته (ر113) ثنا أحمد بن شبيب بن سعيد ثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رحمه الله في حاجة فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي ويقضي حاجتي واذكر حاجتك، ثم ارجع حتى أروح فانطلق الرجل فصنع ذلك ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب واخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال له حاجتك فذكر له حاجته فقضاها، فقال ما فهمت حاجتك حتى كان الساعة أنظر ما كانت لك من حاجة ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فأخبره فقال ما كلمته ولكني سمعت رسول الله وجاء إليه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له رسول الله (أو تصبر) فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي فقال النبي (ائت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري اللهم شفعه في وشفعني في نفسي) قال عثمان بن حنيف: والله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط) "،

خرجه عنه عبد الغني المقدسي في الدعاء (108)، والبيهقي في الدلائل .

أحمد بن شبيب وثقه غير واحد وضعفه الأزدي وقال ابن عبد البر: أحمد بن شبيب عن ابيه متروك،

وقد توبع أحمد بن شبيب هذا، لكن اختلفوا في ذكر روح، فلم يذكره ابن وهب، كما اختلفوا في تعيين شيخ ابن وهب :

ب: فقيل هو: أبو سعيد نفسه شبيب:

قال أبو نعيم: حدثنا أبو عمرو ثنا الحسن ثنا أحمد بن عيسى ثنا ابن وهب أخبرني أبو سعيد واسمه شبيب بن سعيد من أهل البصرة/ عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف [أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان لا يلتفت إليه، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي، فتقضي لي حاجتي، تذكر حاجتك، ثم رح حتى أروح، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان، فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ؟ فذكرها له، فقضاها ثم قال: ما فهمت حاجتك حتى كان الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجته، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته،] ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أو تصبر ؟ " فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات " قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط ",

قال: رواه عباس الدوري عن عون بن عمارة، عن روح بن القاسم ذكره بعض المتأخرين عنه في جملة حديث شعبة، وحماد عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان وحديث روح هو عن أبي أمامة، عن عمه ",

قلت: ولم يذكر أحمد بن عيسى في روايته عن ابن وهب شيخه روح بن القاسم فيه، بل رواه ابن وهب عن شبيب عن أبي جعفر مباشرة وهو وهْم.

وقد ذكره غيره، لكن اختلفوا في شيخ ابن وهب فيه كما أسلفنا:

فقال الطبراني في الدعاء والصغير 508 - حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن [روح بن القاسم] عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف:" ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلي فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ربي جل وعز فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إلي حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له عثمان ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم ان الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا عليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتصبر فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات"، قال عثمان: فو الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط",

وقال مرة أخرى: حدثنا طاهر بن عيسى المقرئ المصري، ثنا أصبغ بن الفرج، ثنا ابن وهب، [عن أبي سعيد المكي] عن شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف...

ففصل بين أبي سعيد وشبيب، وجعله غيره واحدا.

وفي إسناده طاهر بن عيسى فيه جهالة، لكن صححه الطبراني فقال: لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عن بن أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأبلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس بن شعبة، والحديث صحيح"،

وكذلك صححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وابن خزيمة.

وقال الحنائي :" وهكذا رواه عبد المتعال بن طالب عن ابن وهب عن أبي سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف ".

لكن رواية شبيب البصري في غير البصرة فيها غلط كثير إذا روى خارج البصرة، كما قال ابن عدي: "له نسخة عن يونس بن يزيد عن الزهري يرويها عنه ابنه أحمد ، وهي أحاديث مستقيمة، وروى عنه ابن وهب أحاديث مناكير ، فلعل شبيباً حدّث بمصر في تجارته إليها ، كتب عنه ابن وهب من حفظه ، فيغلط ويهم".

ج: ومن ذلك متابعة اسماعيل بن شبيب وهو مجهول العين لا يقبل في المتابعات، ذكرها عن شبيب:

خرجها البيهقي في الدلائل (6/167) عن الشاشي عن أبي عروبة حدثنا العباس بن الفرج حدثنا إسماعيل بن شبيب ثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ان رجلا كان يختلف الى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجته وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد ني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي، واذكر حاجتك، ثم رح حتى أرفع، فانطلق الرجل وصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء البواب، فأخذ بيده فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: انظر ما كانت لك من حاجة، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوتصبر؟» ، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد، وقد شق علي "، فقال: " ائت الميضأة فتوضأ، وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي " قال عثمان: فوالله ما تفرقنا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضرر"، فذكره بالقصتين كما سبق ،

والخلاصة أنه تفرد بهذه القصة شبيب، ولم يسمعها شبيب عن أبي جعفر، بينهما واسطة روح وربما غيره أيضا، ولم يذكر الأكثرون والأوثق حدوث هذه القصة زمن عثمان بن عفان كما في :

3/ رواية روح بن القاسم البصري:

ب/1: خرجها الحاكم مصححا لها أيضا من طريق أبي عبد الله الصائغ أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي حدثني أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المدني وهو الخطمي [عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف] عن عمه عثمان بن حنيف قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال : يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائت الميضاة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي، قال عثمان: فو الله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط"،

توبع محمد الصائغ :

2/ قال أحمد بن محمد بن إسحاق ابن السني في عمل اليوم والليلة: 628 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَرُوبَةَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ فَرَجٍ الرِّيَاشِيُّ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى الثَّوْرِيُّ قَالَا: ثنا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا أَبِي عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ وَهُوَ الْخَطْمِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ضَرِيرٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَصْبِرُ» ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ، وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ايتِ الْمِيضَاةَ فَتَوَضَّأْ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَا نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَتُجْلِي عَنْ بَصَرِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي "

قَالَ عُثْمَانُ: وَمَا تَفَرَّقْنَا، وَلَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ضَرِيرًا قَطُّ ".

3/ تابعه عون عن روح، وقد اختلفوا عليه أيضا:

أ: فقال أبو نعيم حدثناه أبو محمد بن حيان ثنا أبو العباس الهروي، ثنا محمد بن عبد الملك، ثنا عون بن عمارة ثنا روح بن القاسم أنه حدثهم عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن عمه عثمان بن حنيف الحديث، ولم يفرده من حديث عمارة، وهو ابن أبي أمامة".

وقد ورد بزيادة أخرى في السند:

ب: فقال الطبراني في الدعاء 1053 - حدثنا الحسين بن إسحاق ثنا عباس بن محمد الدوري ثنا عون بن عمارة عن روح بن القاسم [عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] أن رجلا كانت له حاجة إلى عثمان رضي الله عنه فذكر مثل حديث شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم "،

فذكر القصة زمن عثمان، لكن قال الطبراني:" وهم عون في الحديث وهما فاحشا "،

وقال ابن القيسراني في تحفة الحفاظ عن هذا الحديث ر266:" وَعَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ غَيْرُ حُجَّةٍ ".

وقد عدّ ابن حبان في المجروحين هذه الرواية من مناكير عون بن عمارة, 

وقد اختلفوا عنه، والصواب فيه بغير ذكر القصة ولا الزيادة.

ج: . فقال الحاكم (1/707) أخبرنا حمزة بن العباس العقبي ببغداد ثنا العباس بن محمد الدوري ثنا عون بن عمارة البصري ثنا روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن [ أبي أمامة بن سهل بن حنيف] عن عمه عثمان بن حنيف رضي الله عنه : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني دعاء أدعو به يرد الله علي بصري فقال له : قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي اللهم شفعه في وشفعني في نفسي، فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر "،

قال: تابعه شبيب بن سعيد الحبطي عن روح بن القاسم زيادات في المتن والإسناد والقول فيه قول شبيب فإنه ثقة مأمون ".

لكن قد مضت علته وعلة حديث شبيب.

الرواية 4/ رواية هشام عن أبي جعفر:

فقد قال النسائي 10421 - أخبرني زكريا بن يحيى حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن أبي جعفر [عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف] عن عمه –عثمان - : أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: «أو أدعك؟» قال: يا رسول الله إنه شق علي ذهاب بصري، قال: " فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن تكشف لي عن بصري، شفعه في وشفعني في نفسي " فرجع وقد كشف له عن بصره "،

وقد ورد بالشك في تسمية أبي جعفر:

فقال الحنائي في فوائده (1/538) :" فرواه محمد بن المثنى عن معاذ بن هشام حدثني أبي عن أبي جعفر يزيد بن عمير أو عمير بن يزيد عن أبي أمامة بن سهل عن عمه "،

وقال البخاري في التاريخ :" وقال ابن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثنى ابي: عن ابى جعفر يزيد بن عمير أو عمير بن يزيد عن أبي امامة بن سهل رضى الله عنه: عن عمه "، فشك في التسمية.

فحصل بهذا أن الحديث من مفاريد أبي جعفر، وقد اختلفوا في تعيينه، هل هو الخطمي، أم غيره؟ وهل المديني هو الخطمي أو غيره؟

وقد اختلفوا عنه على وجهين:

فيا ترى : أي الروايتين أصح: رواية  حماد وشعبة نا أبو جعفر عن [عمارة بن خزيمة] عن عثمان بن حنيف:

أم هي رواية هشام الدستوائي وروح بن القاسم: عن أبي جعفر عمير [عن أبي أمامة بن سهل] عن عثمان بن حنيف ؟

وكذلك ما الأمر في زيادة شبيب لذكر القصة زمن عثمان ؟

أم الكل محفوظ والحديث صحيح كما قال الحاكم وابن خزيمة والترمذي ؟

وهل نعمل هنا بالترجيح، وإن عملنا به فأي الوجهين أقوى ؟

قال ابن أبي حاتم : 2064- وسمعت أبا زرعة وحدثنا بحديث: اختلف شعبة وهشام الدستوائي :

فروى شعبة عن أبي جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف ، أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يعافيني ، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويدعو : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي ، اللهم شفعه في ".

قال: هكذا رواه عثمان بن عمر عن شعبة حدثنا به أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان عن عثمان بن عمر.

ورواه معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم

فسمعت أبا زرعة يقول : الصحيح : حديث شعبة "،

ثم قال ابن أبي حاتم :" حكم أبو زرعة لشعبة ، وذلك لم يكن عنده أن أحدا تابع هشام الدستوائي، ووجدت عندي عن يونس بن عبد الأعلى عن يزيد بن وهب عن أبي سعيد التميمي يعني شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث هشام الدستوائي وأشبع متنا ، وروح بن القاسم ثقة يجمع حديثه "، ثم قال :" فاتفاق الدستوائي وروح بن القاسم يدل على أن روايتهما أصح "،

وكذلك قال علي بن المديني :" وما أرى روحَ بنَ القاسم إلا قد حفظه "

وإذا كانت الأصح فإنها بمعنى الأولى والأقوى، لا أنها صحيحة للعلل السابقة.

وقال البخاري في التاريخ : قال شهاب حدثنا حماد بن سلمة: عن أبى جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة بن ثابت: عن عثمان بن حنيف اتى اعمى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: ادع الله تعالى ان يرد بصرى، قال: أو أدعك ؟ قال: لا، بل ادع الله، قال ثلاثا، ثم قال: توضأ وصل ركعتين وقل: " اللهم انى اسألك وأتوجه اليك " ففعل فردبصره،

وقال علي حدثنا عثمان بن عمر سمع شعبة: عن أبى جعفر المدينى سمع عمارة بن خزيمة بن ثابت: عن عثمان بن حنيف،

وقال ابن المثنى حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبى: عن أبى جعفر يزيد بن عمير - أو - عمير بن يزيد عن ابى امامة بن سهل رضى الله عنه: عن عمه،

وقال عبد المتعال بن طالب حدثنا ابن وهب عن ابى سعيد عن روح بن القاسم: عن ابى جعفر المدينى عن ابى امامة بن سهل بن حنيف: عن عمه عثمان ابن حنيف رضى الله عنه، هو المدنى، عامل عمر على العراق، بقى إلى زمن معاوية ".

أم أن الحديث مضطرب لم يضبطه أبو جعفر ؟ إضافة إلى الاختلافات الأخرى في ذكر بعض الرواة من عدمهم.

وإذا كان البعض يرد أحاديث الآحاد الصحيحة التي لا غبار عليها، فما بالهم يستدلون بهذا الحديث الآحاد مع اضطرابه ومخالفته للنصوص المتواترة.

ومما يزيد من تعليله وبطلانه معارضته للأدلة المتواترة، مع حديث العباس السابق في ترك الاستشفاع بالنبي عليه السلام بعد موته، ولجوء الصحابة إلى دعاء العباس الحي.

دليل رابع: وفيه التوجه إلى الله بنبيه، لنيل رحمة الله، خلافا لمن يتوجه إلى النبي عليه السلام بأن يفرج عنه ويرحمه ويشفيه كما يفعله المشركون.

قال ابن أبي الدنيا في مجابو الدعوة (85) 127 - حدثنا أبو هشام سمعت عن كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة قال:" جاء رجل إلى عبد الملك بن حيان بن سعيد بن الحسن بن أبجر، فجس بطنه، فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: هو الدبيلة، فتحول الرجل، فقال: الله، الله، ربي لا أشرك به أحدا، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربك وربي أن يرحمني مما بي رحمة يغنيني بها عن رحمة من سواه - ثلاث مرات ثم دعا إلى ابن أبجر، فجس بطنه، فقال: برأت، ما بك علة ".

هذا أثر باطل: أبو هشام الرفاعي قال عنه البخاري: يتكلمون فيه، وثال ابن نمير:" كان أضعفنا طلبا واكثرنا غرائب"، وقال أبو حاتم: ضعيف يتكلمون فيه، هو مثل مسروق بن المرزبان".

وأما كثير بن محمد بن كثير فمجهول، والإسناد إليه منقطع، لأنه قال: هشام سمعت عن كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة ".

ومع بطلان هذه الأحاديث، فإنه يزيد من بطلانها التباس أمر التوجه أو التوسل به عليه السلام المختلف فيه مع الدعاء الشركي الذي هو طلب الأشياء من النبي عليه السلام، وقد التبس ذلك حتى على طلبة العلم من الأشاعرة فكيف بالعوام،

وقد ذكرنا ونذكر الفرق بين التوجه إلى الله بنبيه، لنيل رحمة الله، خلافا لمن يتوجه إلى النبي عليه السلام بأن يفرج عنه ويرحمه ويشفيه كما يفعله المشركون.

وقد استدل المجيزون للتوسل ببعض الآثار عن السلف:

المسألة الثانية: ما ورد عن السلف من توسل بذات النبي عليه السلام:

أثر أول: نسبوه للإمام مالك في جواز التوسل:

سبق ما تواتر عن الإمام مالك من رواية الثقات، ومن كتب أصحابه، نهيه حتى عن المكث عند القبر والدعاء عنده، بل يسلم وينصرف، ونقلوا عنه أنه حتى لا يستقبل القبر، وورد عنه استقباله، لكن يدعو الله ويسلم وينصرف.

حتى إن مالكا نهى عن تقصد زيارة القبر، بل ونهى عن لفظة:" زرث قبر النبي".

ونقل كل ذلك عن السلف قبله من أهل المدينة، مما يدل على أن التابعين لم يفعلوا هذا الفعل، بل كانوا يتوسلون بالأحياء كما في قصة عمر. 

. لكن روى القاضي عياض في ( الشفاء ) قال حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري، وأبو القاسم أحمد بن بقي الحاكم وغير واحد فيما أجازونيه ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث حدثنا أبو الحسن علي بن فهر حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج  حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل  حدثنا ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين ملكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله عز وجل أدب قومه فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ } (الحجرات 002) ومدح قوماً فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } (الحجرات 003) وذم قوماً فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } (الحجرات 004) وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً ، فاستكان لها أبو جعفر ، وقال يا ابا عبد الله : استقبل القبلة وأدعو أم استدبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام ( إلى الله يوم القيامة ) بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك قال الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } (النساء 064)",

لكن هذا سند مظلم مجهول، وأثر موضوع مكذوب عن الإمام مالك، منكر، مخالف لما رواه الثقات عنه من نهي حتى عن دعاء الله أمام القبر.

علي بن الحسن بن فِهْر فقيه مالكي، وشيخ للبيهقي، لكن لم يأت فيه توثيق صريح. 

أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج هو الصماح راو مجهول العين.

وكذلك عبد الله بن المنتاب رجل مجهول العين والله أعلم.

ومحمد بن حميد راوي متروك متهم بالكذب، ولم يدرك الإمام مالكا أصلا.

ولذلك قال ابن عبد الهادي في الصارم المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي :" المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناد عن مالك ليست بصحيحة عنه، وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطئ في هذا القول خطأ فاحشاً، بل إسنادها إسناد ليس بجيد ، بل هو إسناد مظلم منقطع ، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه ،بل روايته عنه منطقة غير متصلة".

قال:" وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم قال :فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشاً ووهم وهماً قبيحاً .

فإن محمد بن حميد المعمري رجل متقدم لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل راوي الحكاية عن ابن حميد، بل بينهما مفازة بعيدة، وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ومعمر الثوري ، وتوفي سنة اثنتي وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري كان خيثمة وابن نمير وعمرو والناقد وغيرهم ، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين ومائتين فرواية يعقوب بن إسحاق عنه ممكنة بخلاف روايته عن المعمري ، فإنها غير ممكنة ، وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي ، وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية من غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب ".

وكذلك ذكر الرشيد العطار في الرواة عن مالك أن الراوي هو محمد بن حميد المتروك.

قال يعقوب بن شيبة الدوسي: محمد بن حميد الرازي كثير المناكير ، وقال البخاري: حديثه فيه نظر ، وقال النسائي:" ليس بثقة ، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة، وقال فضلك الرازي:عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث، لا أحدث عنه بحرف، وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري: سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان، وقال صالح بن محمد الحافظ: كان كل ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن أبي قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة ، ثم قال : كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه .

وقال ابن تيمية في المجموع:" وهذه الحكاية منقطعة ؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكا لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة . وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث كذبه أبو زرعة وابن وارة وقال صالح بن محمد الأسدي : ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه . وقال يعقوب بن شبيبة : كثير المناكير . وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن حبان : ينفرد عن الثقات بالمقلوبات ".

قال:" وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين . وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين وفي الإسناد أيضا من لا تعرف حاله. وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه ".

وقال ابن تيمية في الاقتضاء:" ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعو عنده ، وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف "،

فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة، أو مغيرة ، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه "،

أثر 2/ قول الإمام أحمد في التوسل إلى الله بذات النبي عليه السلام:

قال ابن تيمية في الإخنائية : وفي منسك المروذي الذي نقله عن أحمد أنه قال في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تستقبل الحائط، وخذ مما يلي صحن المسجد فسلم على أبي بكر وعمر.

وقال: فإذا أردت الخروج فأت المسجد وصل ركعتين وودع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل سلامك الأول، وسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحول وجهك إلى القبلة وسل الله حاجتك متوسلاً إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم تقض من الله عز وجل ".

أثر 3/ أثر الأعرابي المجهول: رواه نصر بن إبراهيم المقدسي ثني أبو الْحَسَنِ السُّلَمِيُّ أنبا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الإِمَامُ ثنا أبو مُحَمَّدٍ الْوَرْد ثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيم يَقُولُ: كُنْتُ حَاجًّا فِي بَعْضِ السِّنِينَ, فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا بِأَعْرَابِيٍّ يَرْكُضُ عَلَى بَعِيرِهِ حَتَّى أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَعَقَلَ بَعِيرَهُ , ثُمَّ دَخَلَ يَؤُمُّ الْقَبْرَ , فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي, لَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا, وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا, أَعْلَمَكَ فِيهِ عِلْمَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ , فَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ , وَهَا أَنَا قَدْ أَتَيْتُكَ مُقِرٌّ بِالذُّنُوبِ مُسْتَشْفِعٌ بِكَ عَلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ".

وهذا إسناد باطل مجهول، عن أعرابي مجهول، واعجب بقوم كيف تترك عندهم سنة أمير المؤمنين عمر في صحيح البخاري، بآثار مجهولة والله المستعان.

أثر 4/ قصة ابن المقري والطبراني في استغاثتهم بالنبي عليه السلام لدفع الجوع:

قال الذهبي في تذكرة الحفاظ من ترجمة ابن المقري:" ورُوي عن أبي بكر بن أبي علي قال: كان ابن المقرئ يقول: كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ بالمدينة فضاق بنا الوقت فواصلنا ذلك اليوم فلما كان وقت العشاء حضرت القبر، وقلت: يا رسول الله الجوع، فقال لي الطبراني: اجلس، فإما أن يكون الرزق أو الموت، فقمت أنا وأبو الشيخ فحضر الباب علوي ففتحنا له، فإذا معه غلامان بقفتين فيهما شئ كثير وقال: شكوتمونى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأيته في النوم فأمرني بحمل شئ إليكم".

وهذه قصة باطلة مذكورة بصيغة التمريض للتضعيف، وبلا إسناد، لمجرد الذكر والاطلاع، كما هو عادة المحدثين أن يذكروا في ترجمة الراوي كل ما ورد في شأنه. 

وصاحب القصة عبد الملك بن حيان بن سعيد مجهول ومن المتأخرين.

أثر خامس/ وقال السمهودي: وفي المستوعب لأبي عبد الله السامريّ الحنبلي :" ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره وذكر السلام والدعاء ومنه اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام :{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية، وأني أتيت نبيك مستغفرا، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته اللهم أني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم إلخ ".

وهذا القول صار مشتهرا بين المتأخرين من أصحاب المذاهب، وقد أطال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في الرد عليه في التوسل والوسيلة، وذكر أن المتقدمين من الأئمة ما أجازوا ذلك بل أنكروه .

. إلا أن الحافظ ابن كثير حكى ما قد يومئ بتراجع شيخ الإسلام ابن تيمية عن إنكار التوسل، لكن تحت التهديد والوعيد من الحكام:

أثر سادس: رجوع ابن تيمية عن قوله تحت التهديد:

قال ابن كثير في البداية (14/51) :" ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة، استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر..."،

قال: وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين بن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن، فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة ...

ثم ذكر ابن كثير بأن السلطان أمر القضاة والعلماء أن يجتمعوا بابن تيمية ليناقشوه، لكنهم خافوا من مناقشته لسعة علمه فقال:" ... ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدين بن رفع وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدا من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور ...".

ثم ذكر مناقشة الصوفية له في مسألة ابن عربي، والتوسل فقال:

قال البرزالي: وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلّموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردّوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال: لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله، فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شئ، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب ... ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس ...".

ولست أدري هل هذا تراجع منه ؟ أم أنه قاله خوفا من السلطان، لكن الأظهر أنه أجاز التوسل والاستشفاع به أي بالإيمان به وبطاعته، لأن شيخ الإسلام قد قال في كتبه : ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك ، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا ؛ لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم "،

فإذ لم يقل بمشروعية هذا التوسل: لا الصحابة ولا السلف الأولون ففيه نظر وتوقف، خاصة مع إخبار عمر رضي الله عنه بأنهم تركوا التوسل بعد وفاته عليه السلام، مع الشك في ثبوت حديث عثمان بن حنيف في الجواز وكونه مضطربا من راويه ، وعلى كل المسألة فيها غموض واشتباه، ولذلك لم ير ابن تيمية توريط نفسه بالسجن بسببها للاختلاف فيها، بخلاف الاستغاثة المباشرة الشركية، والله أعلم بالصواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الرابع: بيان شرك الاستغاثة والدعاء بقضاء الحاجات من غير الله عز وجل، وسد الطرق المفضية للشرك:

مرّ أن الدعاءَ من غير الله شرك أكبر، ولو كان المدعو ملكا مقربا أو نبيا مرسلا أو وليا صالحا، لأن ما عند الله لا يطلب إلا من الله، وأن صرف أي عبادة مختصة بالله لغير الله شرك أكبر، كعبادة الدعاء والاستغاثة والصلاة والنذر والذبح والسجود...

وقد فصل العلماء في أنواع الدعاء المشروع، كدعاء الله بأسمائه وصفاته وحقوقه وأفعاله..، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، ودعاء الصالحين، وفرقوا حتى بين التوسل بحرمة النبي عليه السلام وجاهه فأجازوها، وبين التوسل بذاته فمنعها الأكثرون، سدا لذريعة الشرك والتقديس والسؤال المباشر الشركي من النبي عليه السلام بقضاء الحاجات.  

ولذلك تنوعت الأدلة الحاثة على سد أي شيء يفضي للشرك:

المطلب الأول: ما ورد من نهي عن المبالغة في مدح وإطراء النبي عليه السلام وغيره، واتخاذ القبور مساجد، سدا لذريعة الشرك الأكبر بالله:

الدليل الأول: قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) }[الكهف]

وقال: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)} [فصلت]

الدليل الثاني: تصريح الله بأن النبي عليه السلام مجرد بشر مرسول، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضررا، فكيف يـجلبه لغيره. 

قال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ }[الجن]

قال تعالى :{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) }[الأعراف]

وقال :{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}[يونس]

وغير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تبين أن النبي عليه السلام أو غيره بشر لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

الدليل الثالث: قال تعالى ردا على من غلا في شأن نبيه عيسى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}[المائدة]

الدليل الرابع: خرجه البخاري 3445 عن ابن عباس، سمع عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله، ورسوله»

وخرج البيهقي عن آدم بن أبي إياس حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا ثابت البناني عن أنس بن مالك قال رجل لرسول الله: يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله: يا أيها الناس أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". 

الدليل الخامس وتوابعه: وصية النبي عليه السلام في النهي عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين معابد وقرابات، ولعن من فعل ذلك:

روى مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول كان من آخر ما تكلم به رسول الله أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدا لا يبقين دينان بأرض العرب ".

خرج البخاري 435 ومسلم 531 عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا".

وخرج البخاري 1330 ومسلم 529 عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا»، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا".

وخرج البخاري 434/427 عن عائشة أم المؤمنين، أن أم حبيبة، وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»

وخرج مسلم 532 عن جندب ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك "

وروى الإمام أحمد عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي ( قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " .

وخرج ابن حبان في صحيحه 788 عن عبد الوارث والحاكم (1/530) عن شعبة والترمذي وحسنه 320 عن عبد الوارث كله عن محمد بن جحادة عن أبي صالح –زاذان الضعيف- عن ابن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور. والمتخذات عليها المساجد والسرج ".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: " لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج "

وخرج ابن ماجه 1574 من طرق عن سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن بهمان، عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه، قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الثاني: ما ورد من اختلاف في دعاء الله وحده عند القبر النبوي، ولو من غير توسل بالنبي، وبيان هل يمس القبر ويستقبله أم لا ؟ :

اختلف السلف الطيب حتى في دعاء الله تعالى عند قبر النبي عليه السلام، ولو من غير توسل به، مبالغة في سد ذريعة الشرك بالله، وهل يستقبل القبر أم القبلة عند دعاء الله وحده.

وإن كان الصحيح هو جواز دعاء الله عند القبور، لأهلها بالمغفرة، لتكاثر الأدلة يذلك، ومع ذلك فلم يثبت عن السلف الصالح في القرون المفضلة التوسل بالأموات:

فتواتر عن النبي عليه السلام المرور بالمقابر والدعاء لأموات الصحابة وشهداء بدر وأحد...

وما أمَرَ أحدا من أصحابه أن يتوسلوا بهم، بل كانوا يدعون الله لهم ولأنفسهم عند القبور ثم ينصرفون. 

وكان يستغفر لأصحابه الأموات، ويأمر الأحياء أن يستغفروا لهم أيضا.

والأدلة على ذلك كثيرة جدا.

ومر عن عمر أنه كانوا يتوسلون بالنبي عليه السلام، فلما مات توسلوا بدعاء عمه العباس.

وكذلك فعل الصحابة مع يزيد.  

وكان السلف يمرون على القبر النبوي يسلمون وينصرفون، ومنهم من كان يسلم ويدعو الله ثم ينصرف.

. روى مالك في موطئه عن عبد الله بن دينار أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر ".

وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي صلى الله عليه وسلم السلام على أبي بكر السلام على أبي، ثم ينصرف".

وروى أبو حنيفة في مسنده عن أبن عمر رضي الله عنه قال من السنة أن تأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته ".

رواه الناس عن نافع كمالك وأيوب وحماد ومعمر وغيرهم بغير ذكر مس القبر.

ورواه يحيى بن معين قال: حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ".

وهذا حديث صحيح، يدل على المنع من التبرك بالقبر النبوي سدا لذريعة الشرك...

لكن زاد فيه الفروي: وضع اليد على القبر:

قال ابن تيمية: لكن روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في المصنف الذي له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال: حدثني إسحاق بن محمد الفروي حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا نافع أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر صلى السجدتين في المسجد ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فيضع يده اليمنى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم على أبي بكر وعمر ".

قال ابن تيمية: فهذه الرواية فيها نظر، فإن فيها خلاف ما قد جاء عن مالك وأحمد من فعل ابن عمر أنه كان يدنو إلى القبر ولا يمسه ".

قال ابن تيمية:" وأبو أسامة أوثق من الفروي، وقد روى ما وافقته العلماء عليه ولم يزد شيئًا انفرد به كما في رواية الفروي ".

ومع ذلك فأمر المس للتبرك بقبر النبي عليه السلام أمر سهل، فقد ورد مس آثار النبي عليه السلام للتبرك بها كما سيأتي في آخر مبحث. 

وإنما الإشكال هنا في التوسل، أو في أصل الدعاء عند القبر ولو كان دعاءً لله وحده:

1/ فالثابت عن الصحابة هو دعاء الله وحده أمام القبر النبوي ثم الانصراف.

. خرج ابن عساكر عن محمد بن مزاحم : أن عمر بن الخطاب كان استعمل بعد موت أبى عبيدة بن الجراح على حمص عمير بن سعد الأنصارى فأقام بها سنة فكتب إليه عمر بن الخطاب : إنا بعثناك على عمل من أعمالنا فما ندرى أوفيت بعهدنا أم خنتنا فإذا جاءك كتابى هذا فانظر ما اجتمع عندك من الفىء فاحمله إلينا والسلام . فقام عمير حين انتهى إليه الكتاب فحمل عكازته وعلق فيها إداوته وجرابه فيه طعامه وقصعته فوضعها على عاتقه حتى دخل على عمر فسلم فرد عليه السلام... قال عمر: فما فعل المسلمون قال : تركتهم يوحدون ويصلون ، ولا تسأل عما سوى ذلك ... فقام عمر وعمير إلى قبر رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال عمير : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، ماذا لقيت بعدكما، اللهم الحقنى بصاحبى لم أغير ولم أبدل، وجعل يبكى عمر وعمير طويلا ، فقال : عمير الحق بأهلك ...".

2/ ويرى جماعة بأنه يسلم عند القبر ولا يدعو أصلا:

قال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط ، والقاضي عياض وغيرهما : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي "،

3/ ويرى آخرون بأن المكروه هو المواضبة على الدعاء عند القبر، واتخاذ ذلك سنة:

قال مالك في المبسوط : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة، أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين ، أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ؟

فقال -مالك-: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده ".

كما اختلفوا في استقبال القبلة أو القبر عند الدعاء:

قال ابن تيمية في الاقتضاء:" ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعو عنده ، وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف "،

وقال عن مذهب مالك:" مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه ، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء ، وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقًا ، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدعو مستقبل القبلة ، ويوليه ظهره ، وقيل : لا يوليه ظهره . فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره ، وقت الدعاء .

ويشبه - والله أعلم - أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام عليه ، وهو يسمي ذلك دعاء ، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضًا ، ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم .

وكما قال في رواية ابن وهب عنه : " إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ، ويدنو ويسلم ويدعو ، ولا يمس القبر بيده، وقد تقدم قوله : إنه يصلي عليه ويدعو له " .

وقال عياض: قال مالك في رواية أبن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم"، وفي رواية عن  المبسوط أنه قال:" لا أرى أن يقف عند القبر يدعو ولكن يسلم ويمضي"، وهي مخالفة لما سبق ولما نقلها أبن الموّاز في الحج قال: قيل لمالك فالذي يلتزم أترى له أن يتعلق وبأستار الكعبة عند الوداع قال لا ولكن يقف ويدعو قيل له وكذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم اه

قال:" وحمل ما في المبسوط على من لم يؤمن منه سوء أدب في دعائه عند القبر".

وفي رؤوس المسائل للنوويّ عن الحافظ أبي موسى الأصفهانيّ إنه روى عن مالك قال إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيستدبر القبلة ويستقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويدعو له

ونقل أبن يونس عن أبن حبيب إنه قال ثم أقصد إذا قضيت ركعتيك إلى القبر من وجاء القبلة فأدن منه ثم سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه صلى الله عليه وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه وتسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنه وتدعو لهما".

وقال إبراهيم الحربيّ في مناسكه تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه يعني القبر ".

بل إن إمامنا مالك نهى حتى عن لفظة الزيارة للقبر، ولم ير بعضهم حتى زيارة القبر: كل هذا سدا لذريعة الشرك.

قال ابن تيمية: روى أيضًا أبو الحسن القزويني عن الزهري عن أبيه عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن نوح بن يزيد قال: أخبرنا أبو إسحاق، يعني إبراهيم بن سعد، قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى لله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه ".

ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن إبراهيم بن سعد هو ثقة معروف بصحبة إبراهيم وله اختصاص به، روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما.

قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال: هذا شيخ كبير أخرج إلي كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظًا ".

وقال ابن القاسم كما في المدونة (1/400) وقال مالك: وناس يقولون زرنا قبر النبي عليه السلام، قال: فكان مالك يكره هذا ويعظمه أن يقال: إن النبي يزار".

وقال ابن رشد في البيان والتحصيل:" باب فى كراهية أن يقال الزيارة فى البيت الحرام وفى قبر النبى عليه السلامقال مالك : أكره أن يقال الزيارة، لزيارة البيت ، وأكره ما يقول الناس زرت النبي عليه السلام وأعظم ذلك أن يكون النبى عليه السلام يزار ".

وفي النوادر والزيادات على المدونة:" قال علي: سئل مالك عن زيارة القبور، فقال: قد كان نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم أذن فيه. فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلاَّ خيرا، لم أر به بأسا، وليس من عمل الناس. ورَوَى عنه أنه كان يضعف زيارتها.

قَالَ ابْنُ القرطي: وإِنَّمَا أذن في ذلك ليعتبر بها، إلاَّ للقادم من سفر وقد مات وليه في غيبته، فيدعو له ويرحم عليه. وتؤتى قبور الشهداء بأحد، ويسلم عليهم، ويؤتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلم عليه، وعلى ضجيعيه ".

وقال ابن رشد:" في سلام الذي يمر بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال وسئل مالك عن المار بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أترى أن يسلم كلما مر به ؟ قال نعم ن أرى ذلك عليه أن يسلم عليه إذا مر به ، وقد أكثر الناس من ذلك . فأما إذا لم يمر به فلا أرى ذلك . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، فقد أكثر الناس في هذا . فأما إذا مر بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرى أن يسلم عليه ، فأما إذا لم يمر عليه فهو في سعة من ذلك . قال وسئل عن الغريب يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كل يوم ، فقال : ما هذا من الأمر ، ولكن إذا أراد الخروج .

قال محمد بن رشد : المعنى في هذا أنه إنما يلزمه أن يسلم عليه كلما مر به وليس عليه أن يمر به ليسلم عليه إلا للوداع عند الخروج ، ويكره له أن يكثر المرور به والسلام عليه والاتيان كل يوم إليه ، لئلا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد . اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . وبالله التوفيق .

. وقال محمد بن رشد : أما الصلاة إلى قبر النبي عليه السلام فهو محظور لا يجوز ، لما جاء عن النبي عليه السلام من قوله : " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد إشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فبناه عمر بن عبد العزيز مجددا على هيئته لا يمكن من صلى إلى القبلة استقباله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الثالث: بعض أدلة تحريم المسألة والدعاء والاستغاثة التعبدية بغير الله وحده، وبيان أن الأموات لا يستجيبون بل لا يسمعون بعد أيام الافتتنان:  

لقد تواترت الأدلة بأن الأموات بعد موتهم هم بين حالتين ذكرتهما في كتاباي:

"الإصباح في فتنة القبر ومستقر الأرواح".

وكتاب:" البينات في تلاقي الأرواح وتزاور الأموات ".

فأما قديمو الوفاة فقد أصبحوا عظاما نخرة، ونامت أرواحهم إما نومة العروس، أو نومة المنهوش...

وأما حديثو الوفاة، فقد أثبت قوم أنهم يسمعون جميعا:

فقد خرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم، أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدت عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟" قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً، ونقيمة، وحسرة وندماً ".

وفي حديث البراء:" يسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا..."،

ومال قوم إلى أن هذا الإسماع معجزة له عليه السلام خاصة به، فأسمع الله له الأموات.

وأنكر آخرون لفظ الإسماع في هذا الحديث، وقالوا: بل قال عليه السام يعلمون: كما أنكرت أم المؤمنين عائشة على أنس وابن عمر حديث إسماع قتلى أهل بدر... ومناداته لهم وردته بالآيات التالية وخطأت الصحابي في لفظة يسمعون، وقالت بل قال عليه السلام :" يعلمون". وهو الموافق لسورة الهمزة {كلا سوف تعلمون... }. وقوله تعالى {إنك لا تسمع الموتى... }.

وذهب غير أم المؤمنين إلى أن حديثي الوفاة يسمعون الأحياء منذ وفاتهم حتى دفنهم وانصراف الناس عنهم، لكنهم مشغولون بأنفسهم، من هول مصابهم، أيام افتتنانهم،

حتى إذا ما انصرف الناس عنهم أتاهم الملكان لفتنة القبر والسؤال، ومن ثَم ينقطع علمهم بالعالم الخارجي، فيُفتنون في قبورهم، ثم ينام أهل الجنة نوم العروس في مستقرهم، فيما ينام الشهداء والأنبياء عند جنة ربهم، بينما ينام أهل النفاق نومة المنهوش كما في الأحاديث الكثيرة المذكورة في الكتابين السالفيْن.

لا يستيقظ أحد من الصالحين إلا إذا أيقظه رب العالمين، للقاء أحد الأقربين، ولا يكون هذا إلا في جيله، وليس بعد قرون، كما بينت في كتابي :" البينات في تلاقي الأرواح وتزاور الأموات ".

بل حتى روح النبي عليه السلام نائمة عند ربه، لا يردها الله عليه، إلا يوم القيامة.

 ولربما عندما يزوره أحد في قبره فيسلم عليه، إن صح بذلك الحديث.

كما روى  عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة بن شريح عن أبي صخر عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام»، أبو صخر مختلف في توثيقه، وليس هو مما يعتمد عليه وحده خاصة في أحاديث الاعتقاد والله أعلم.

وروى عبد الله بن خالد الحزوري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يزيد، يقول: سمعت المقرئ عبد الله بن يزيد يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» فقال: هذا في الزيارة , إذا زارني فسلم علي رد الله علي روحي حتى أرد عليه ".

وليس في هذا الحديث توسلٌ به أصلا، فضلا عن دعائه عليه السلام من دون الله، وإلا لما كان بيننا وبين النصارى وغيرهم فرق في الشرك. 

1/ قال الله السميع العليم :{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر]

"لو" في اللغة حرف امتناع لامتناع، بمعنى يمتنع سماع الأموات لاستغاثات الأحياء إطلاقا، وعلى فرض سماعهم، يستحيل أن يستجيبوا لأحد كما أخبر رب العالمين.   

2/ قال تعالى لنبيه:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} [النمل] وقد ذكرنا أن هذا الإسماع ممتنع بعد الدفن والانصراف، وأما قبل ذلك فيمكن، لمناداته عليه السلام لقتلى بدر من المشركين قبل دفنهم.

3/ قال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} [فاطر]. ففرق الله بين الأحياء والأموات، ثم أخبر بأن الأموات لا يسمعون بعد إقبارهم وانصراف الناس عنهم، فكيف بمن يدعو ميتا بعد موته ونخر عظامه بمئات السنين.  

4/ وقد تكاثرت الأدلة الحاثة على توحيد الله في الدعاء التعبدي تكاثرا لا مجال للتشكيك في مدلوله، وتوحيد الرب وحده لا شريك له، وعدم صرف ذلك ولو للنبي عليه السلام.

قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}[الجن]

وقال تعالى: { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }[يونس]

وأخبر تعالى أن الجن لا يسمعون كل شيء فقال:{ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} [الشعراء]

وغير ذلك من الآيات الداعية إلى توحيد الله في الدعاء والطلب.

وقد خالف القبوريون كل هذه الأدلة، وأنكروا توحيد الرب في ربوبته وألوهيته وصفاته، حتى يعبدوا غيره، فاستدلوا على التوسل بالأولياء الصالحين بحديث الأعمى السابق، ثم غلَوا في التوسل وعمموه حتى أجازوا الاستغاثة مباشرة من الأموات والمقبورين، كما يفعله غلاة المشركين،

واستدلوا بأدلة فيها الاستغاثة بالأحياء، وعدّوها بجهلهم للأحياء،

وكل هذه الدلائل التي ذكروا، لا تدل على شركهم ودعائهم للأموات، بل لا تدل حتى على التوسل إلى الله بجاه الصالحين، إذْ كل ما فيها هو استغاثة الملهوف أو الضائع أو من سقط في بئر ونحوه أو حدث له أمر، أو احتاج إلى إنقاذ، أو انفلتت دابته، أن يصيح مستنجدا كما يصيح الملهوف، وينادي: يا عباد الله، النجدة، ساعدوني... أمسكوا دابتي... ونحو ذلك من نداء الاستغاثات بما قد يُرجى وجوده من أحياء أو موجودين أو مارين، مسلمين أو مشركين... حتى يمدوا العون له، وقد يكون هذا النداء والصراخ سببا في نجاته، حيث ينقل الله مدى صوته بعيدا حتى يسمعه الغير، كما هو مجرب في الحياة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الرابع: تفنيد شبه المشركين في استغاثتهم بغير رب العالمين، وبيان أنها محمولة على الاستغاثة بالأحياء أو بمن يُرجي سماعه من غائب:

مر بنا في أنواع المسألة والاستعانة والاستغاثة التعبدية: هي التي فيها تقديس المسؤول والتذلل التعبدي له، ودعائه رغبة ورهبة فهذه لا تكون إلا من الله وحده لا شريك له، لا واسطة بينه وبين عباده في ذلك، لا ملك مقرب ولا نبي مرل ولا ولي صالح...

وصرفها لغير الله ردة عن الإسلام، ولو زعم صاحبها أنه لا يعبد المدعو، لأن نفس الدعاء عبادة كما في الأدلة الكثيرة... 

كما أن الكفر عند المسلمين منه الاعتقاد والقول والفعل... كيف وأن الذين يدعون غير الله يخشعون ويخضعون عند دعائهم، بينما تراهم يتراقصون في المساجد وسائر التعبدات والله المستعان

وأما الاستغاثة والاستعانة والمسألة المشروعة: فهي طلب المحتاج أو المضطرِّ الغوثَ والنجدةَ والعون من حي موجود أو يمكن أن يوجد، حتى ينقذه أو يُعينه على قضاء حاجته.

دليل أول: وفيه طلب المضطرِّ النجدة والعون من أي شخص مجهول بغية إسماعه لطلب العون منه :

قال الطبراني في الكبير 290 - حدثنا الحسين بن إسحاق التستريثنا أحمد بن يحيى الصوفي ثنا عبد الرحمن بن سهل حدثني أبي عن عبد الله بن عيسى عن زيد بن علي عن عتبة بن غزوان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد أحدكم عونا و هو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أغيثوني يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عبادا لا نراهم"، و قد جرب ذلك".

قال الحافظ:" ولم أعرف تعيين قائله"، ويحتمل أن يكون هو ناسخ المعجم كما قيل.

وأما درجة الحديث فقد قال الهيثمي (10/132):" رواه الطبراني ورجالهُ وُثِّقوا على ضعف في بعضهم إلا أن زيد بن علي لم يدرك عتبة "، وقد بوب عليه الهيثمي كما أسلفنا:" باب ما يقول إذا انفلتت دابته أو أراد غوثا أو أضل شيئا"، وليس فيه شركُ طلبِ الغوثِ من العظام المقبورين أصلا.

ومع ذلك فهو سند ضعيف، عبد الرحمن بن سهل وأبوه لم أجدهما وهما مجهولا العين، فيكون حديثها باطلا لا يعتد به أصلا.

وقد قيل بأنهما عبد الرحمان بن شريك القاضي عن أبيه، وكلاهما فيه ضعف كما أشار الهيثمي، وشريك ساء حفظه وتغير بعد توليته القضاء.

وفيه علة ثالثة وهي الانقطاع بين زيد بن علي وعتبة، فلم يدركه أصلا كما قال الهيثمي، والواسطة بينهما مجهولة.

واعجب بمشرك كيف يترك آي القرآن، ثم يستدل بحديث واحد، هو على منهجه حديث آحاد غير مقبول خاصة في العقيدة، كيف وهو ضعيف، ظني الثبوت والدلالة على منهجهم.   

وأما متنه: فليس فيه أي إشارة إلى التوسل، ولا يدل على الاستغاثة بالعظام والمقبورين، ولا بالأولياء الصالحين، كما يدعي المشركون، المخالفون للأدلة الكثيرة من القرآن والسنة على تحريم الاستغاثة وطلب العون من الأموات، لأنهم لا يسمعون، ولو سمعوا لا يستجيبون.

بل كل ما فيه هو طلب العون والنجدة من المضطر إلى الأحياء المحتمل وجودهم كما ينادي الناس عند المصاب الجلل كالغرق والتيه...، 

وهذا أمر مشروع مجرب، يجوز للرجل أن ينادي حين الضيق: النجدة، ساعدوني... أغيثوني يا عباد الله... ولو لم يوجد أحد، رجاء سماعه وإنقاذه، سواء أكان المدعو مسلما أو كافرا...

كل المضيوقين منذ القديم إلى الآن يطلبون النجدة لمساعدتهم.

ولا علاقة لهذا بدعاء العبادة والاستغاثة التعبدية التي يصرف الدعاء فيها إلى ما سوى الله وطلب المدد منه كما يستدل المشركون.

يؤكد ذلك أن هذا الطلب موجه لغير الأموات ولغير الأولياء،

كما أنه ليس من التوسل إلى الله بالصالحين، بل هو طلب استغاثة من مجهول حي يُرجى وجوده، وقد أجمع المسلمون أن من طلب الغوث من الأموات كفر، وهذا هو عين الكفر الذي ذمه الله في القرآن في الكثير من الأدلة،

وأما طلب العون والغوث والنجدة من الأحياء ولو كانوا غير موجودين فهو أمر مشروع باتفاق، لرجاء سماعهم وإنقاذهم للشخص الضال أو الملهوف:

روى عبد الله في " المسائل (217): " سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج منها ثنتين [راكبا] وثلاثة ماشيا، أو ثنتين ماشيا وثلاثة راكبا، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيا، فجعلت أقول: (يا عباد الله دلونا على الطريق!) فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق. أو كما قال أبي".

وقال النَّوويُّ : حكى لِي بعُضْ شُيُوخِنا؛ أَنَّهُ انفلتت لَهُ دَابَّةٌ أَظْنُّهَا بَغْلَةً ، وَكَانَ يعرفُ هذا الحديثَ ، فقالَهُ ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ في الحَالِ ، وكنْتُ أَنَا مرَّةً مع جماعةٍ، فانفلتت منَّا بهيمةٌ ، فَعَجَزُوا عَنْها ، فَقُلْتُهُ ، فوقَفَتْ في الحال بغَيْر سَبَبٍ سوى هذا الكلامِ ". اه .

وقد أنكرت طوائف من السلف الاستدلال بحديث:" يا عباد الله... مع أنه في الأحياء سدا لذريعة الشرك :

أسند الهروي عنه -رحمه الله- أنه ضلَّ في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه أن من اضطرّ في مفازة فنادى: عباد الله أعينوني، أُعِين، قال [يعني: ابن المبارك]: “فجعلتُ أطلب الجزء أنظر إسناده”. ثم قال الهروي معقِّبًا عليه: “فلم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرضى إسناده".

هذا مع أن طلب العون والغوث من الأحياء فيما يقدرون عليه مشروع اتفاقا:

ولذلك قال ابن تيمية:" والمخلوق يُطلَب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وكما قال: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة]

وقال أيضًا: “فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا، ونحو ذلك ".

وأما ما ذكر بعضهم من احتمال أن يكون المنادى هم الملائكة أو الجن فلا دليل عليه، ولا إمكان عليه من الحس، فإن الإنسان في الفلاة إما أن ينقذه الله بتسخير بشر أو سبب طبيعي له، فينجيه، أو يهلك، وليس من عمل الجن أنقاذ الملهوفين إلا أن يصح دليل بذلك، ولم يصح، فإن هذه الأحاديث من الأباطيل والخافات. .

هذا مع اعتقادنا بأنهم قد يسمعون، لأننا نراهم ولا يروننا، لكن ليس ذلك دوما، فإن من يراك دوما هو ربك فقط،

ولو صح الحديث لكان طلب النجدة منهم من جنس طلب النجدة من الأحياء الموجودين، لكنه لم يصح، فيمتنع طلب العون منهم سدا لذريعة الشرك الأكبر.

وإلا فإن في هذا فتحا للمجال لعبدة الجن والشياطين، الذين يستغيثون بهم من دون رب العالمين،

وأما من زعم بأن المنادى هم الأموات فقد كفر من أوجه:

أولاها: تكاثر أدلة القرآن الداعية إلى دعاء الله وحده لا شريك له.

والثاني: أن هذا الاعتقاد كفر بالله لأنه تكذيب له، وتقديس للأموات، لأنه تعالى أخبر بأن الموتى لا يسمعون، ولو سمعوا لا يستجيبون، وأخبر النبي عليه السلام بأن أرواحهم تنام، إما نومة العروس للصالحين، أو نومة المنهوش للطالحين، 

وبهذا يتبين بطلان ما ذكره محمد بن علان الصديقي الأشعري في الفتوحات (5/150) :" قوله: (يا عباد الله) قال في الحرز:" المراد بهم الملائكة أو المسلمون من الجن أو رجال الغيب المسمون بالأبدال".

دليل ثاني: حديث ابن عباس: وفيه مشروعية طلب الغوث والعون لمن انفلتت دابته أو أراد غوثا أو أضل شيئا،

ورد من طرق مختلفة مضطربة عن أسامة بن زيد، مرفوعا وموقوفا، وخالفه ابن إسحاق فأرسله:

1/ رواه البزار عن حاتم بن اسماعيل عن أسامة فرفعه:

قال البزار 4922- حدثنا موسى بن إسحاق: حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله".

الفاء هنا قد تكون تعقيبية، فيكون المراد بالمنادى هم الملائكة كما قال من ذكرنا. وهو كلام باطل وحديث باطل، فيه فتح المجال لدعاء غير الله تعالى، ولو كان المراد هم الملائكة لصرح بذلك، والشارع لا يكلمنا إلا بالأسباب الطبيعية التي نفهمها لا الغيبية...

ولذلك أمرنا الشارع إما بمناداة سبب طبيعي كالبشر الحي، وأما السبب الغيبي فلا يُدعى غير الله جل في علاه.

وقد حذرنا ربنا من دعاء الملائكة أو الجن، فقال :{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}[] والدعاء هو العبادة.

وقد تكاثرت الآلاف من أدعيته عليه السلام لربه مباشرة، مع رؤيته لجبريل عليه السلام.

ولذلك فالأصح أن هذه الفاء استئنافية لمعنى آخر جديد، فيكون المراد بالمنادى هو سبب طبيعي، وهم من يحتمل وجوده من بشر منقذبن كما أسلفنا. 

ومع ذلك فلا يصح هذا الحديث الآحاد.

قال البزار:" وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".

بينما قال الهيثمي:" رواه البزار ورجاله ثقات"، وليس في هذا تصحيحا له.   

إذ لا يصح هذا الحديث مرفوعا من كلام النبي عليه السلام، وقد اختلف في وقفه أو رفعه أو إرساله، ولا يصح من كلام ابن عباس بسبب ضعف يسير في أسامة هذا مع اضطرابه، ومخالفة ابن إسحاق له: 

2/ فقد رواه عبد الله بن فروخ وروح عن أسامة موقوفا من كلام ابن عباس.

قال البيهقي في شعبه (1/325) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان حدثنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا عبيد بن شريك حدثنا ابن أبي مريم حدثنا عبد الله بن فروخ أخبرني أسامة بن زيد حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال: " إن لله عز وجل ملائكةً سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله يرحمكم الله تعالى "

ورواه البيهقي في الآداب عن عبد الملك بن عبد الحميد حدثنا روح حدثنا أسامة بن زيد عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال: " إن لله ملائكة في الأرض يكتبون ما يقع في الأرض من ورق الشجر، فإن أصابت أحدا منكم عرجة أو احتاج إلى عون بفلاة من الأرض فليقل: أعينوا عباد الله رحمكم الله، فإنه يعان إن شاء الله".

قال البيهقي :" هذا موقوف على ابن عباس، مستعمل عند الصالحين من أهل العلم، لوجود صدقه عندهم فيما جربوا. وبالله التوفيق ".

وقد اختُلِف على أسامة في هذا الحديث،

فقد خالفه فيه ابن إسحاق وهو أوثق منه، ولم يختلف عليه، وروايته أصح:

3/ قال أبو بكر في المصنف (6/103) حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيره بفلاة من الأرض لا يرى بها أحدا، فليقل: أعينوني عباد الله، فإنه سيعان ".

وهذا المرسل شاهد للحديث الأول.

دليل ثالث: حديث ابن مسعود: وفيه طلب النجدة والعون لمن هربت منه دابته حتى يحبسوها له.

ورد من طريقيْن مختلفين عن معروف، والاضطراب صادر عنه لشدة عنه ضعفه:

1/ قال أبو يعلى الزوائد 1665 - حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق حدثنا معروف بن حسان عن سعيد عن قتادة عن بريدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا. فإن لله حاضرا في الأرض سيحبسه له "،

ومن طريقه خرجه ابن السني.

2/ وورد من طريق عبد الله بن بريدة بدل بريدة:

قال الطبراني 10518 - حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ثنا الحسن بن عمر بن شقيق ثنا معروف بن حسان السمرقندي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا علي يا عباد الله احبسوا عليَّ، فإن لله في الأرض حاضر سيحبسه عليكم ".

قال الهيثمي:" رواه أبو يعلى والطبراني وفيه معروف بن حسان وهو ضعيف ".

قال المناوي في الفيض:" قال ابن حجر: حديث غريب ومعروف بن حسان منكر الحديث وقد تفرد به وفيه انقطاع أيضا ".

ففيه إذا ثلاث علل:

أولاها: تفرد معروف به، وهو منكر الحديث لا يقبل حتى في المتابعات، فما بال عباد العظام ينكرون أحاديث الآحاد التي رواها الثقات الأثبات، ثم يستدلون بآحاد رواها المناكير والهلكى نصرة لشركهم.

والثانية: مع كون معروف منكر الحديث، فقد اضطراب فيه بين بريدة أو عبد الله بن بريدة.

والعلة الثالثة: الانقطاع. 

هذا مع أن متنه فيه طلب النجدة والعون لمن هربت منه دابته أن يحبسوها له، وهذا أمر جائز باتفاق المسلمين، وقوله في الحديث:" فإن لله في الأرض حاضر "، والحاضر هم القوم المرتحلون كالبدو الرُّحَّل، فعسى أن يسمعه أحد منهم. 

ولا يحل ترك كلام رب العالمين وتوحيده، بحديث آحاد ضعيف ظني المدلول، لتبرير الشرك بأن هذا من الاستغاثة التعبدية من الأموات الصالحين.

وقد أنكر السلف الأولون الاستدلال بهذا الحديث سدا لذريعة الشرك كما أسلفنا

دليل رابع: وفيه أن ذكر الحبيب يدفع تخدر الرجل والأعضاء، وأفضل حبيب هو رسول الله عليه السلام:

قال بعضهم: إذا تخدرت رجل الإنسان قال:" محمد" ويصلي عليه، فتنشط رجله، لأن مركز النشاط هو القلب.. فإذا فتر تحرك قلبه بذكر الحبيب، فإذا تحرك القلب تحركت الأعضاء لأنها تبع له.

وقال بعضهم: بل يقول: با محمد"، من غير أي طلب أو مسألة حتى لا يقع في الشرك، فإن مجرد ذكر الإسم الحبيب محمد، يُنشط القلب كما هو معروف بالحس والتجربة، وليس في هذا أي استغاثة أو طلب من النبي عليه السلام بالشفاء، لأن ذلك من خصائص الربوبية، فقد قال تعالى عن إبراهيم: { إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) } [الشعراء]

فأما ذكر الحبيب محمد عند التخدر فقد وردت به بعض الآثار:

الأثر الأول: أثر ابن عمر: رواه أبو إسحاق السبيعي، وقد اختلف الرواة عنه كثيرا، مما يدل على أنه رواه بعد الاختلاط، كما أنه كان من المدلسين:

1/ فرواه مرة عن ابن سعد:

كما قال البخاري في الأدب المفرد باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله 964 - حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال: خدرت رجل ابن عمر، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد".

كذلك رواه علي بن الجعد ثنا زهير عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال: " كنت عند ابن عمر، فخدرت رجله، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، ما لرجلك؟ قال: اجتمع عصبها من هاهنا. قلت: ادع أحب الناس إليك. فقال: يا محمد. فانبسطت "

 وعبد الرحمن بن سعد القرشي كوفي فيه جهالة وثقه ابن حبان والنسائي على أصلهما في مجاهيل التابعين.

2/ بينما رواه ابن عياش عنه عن أبي شعبة:

رواه ابن السني عن محمد بن خداش ثنا أبو بكر بن عياش ثنا أبو إسحاق السبيعي عن أبي شعبة قال: كنت أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما، فخدرت رجله، فجلس، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك. فقال: «يا محمداه، فقام فمشى».

أبو شعبة هذا وقع في إسناد عراقي، وعليه: إن كان هو البكري فهو مجهول العين، قال عنه الهيثمي:" ولم أجد من ترجمه".

وإن كان هو الطحان الكوفي: فهو متروك كما قال الدارقطني.

3/ بينما روى الحديث: إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الهيثم وهو مجهول أيضا، وأبو إسحاق مدلس مكثر عن المجاهيل المتروكين، ويدلس كناهم حتى لا يُعرفوا، وهذا الاضطراب في السند منه:

قال ابن السني 170 - حدثنا محمد بن خالد بن محمد البرذعي ثنا حاجب بن سليمان، ثنا محمد بن مصعب ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش، قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فخدرت رجله، فقال له رجل: " اذكر أحب الناس إليك. فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فقام فكأنما نشط من عقال "

ولم يصح هذا الحديث بسبب الاضطراب وجهالة التابعي، والاختلاف في تعيينه، مع تدليس أبي إسحاق واختلاطه.

أثر ثاني: خبر ابن عباس في ذكره الحبيب من غير نداء:

قال أحمد بن محمد الدينوري ابن السني 169 - حدثنا جعفر بن عيسى أبو أحمد ثنا أحمد بن عبد الله بن روح ثنا سلام بن سليمان ثنا غياث بن إبراهيم عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن مجاهد عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: خدرت رجل رجل عند ابن عباس، فقال ابن عباس: " اذكر أحب الناس إليك. فقال: محمد صلى الله عليه وسلم. فذهب خدره "

وهذا أيضا أثر ضعيف جدا، ضعف راوييْه غياث وسلام،

ولو صحا، فهذا باب من جنس التطبب والتداوي بالتعاويذ المشروعة بالتجربة:

حيث ثبت عندهم أن مجرد النطق باسم حبيب للقلب، يجعل المرء قادرا على المشي، بمجرد هذا الحب القلبي، الذي يدفع استحضاره إلى عمل القلب، الذي يضخ الدم إلى الدماغ لأجل عمل الأعصاب والله أعلم

3/ وكان منهم من يذكر زوجته أو عشيقته:

كما قال ابن السني رحمه الله تعالى: روى محمد بن زياد، عن صدقة بن يزيد الجهني، عن أبي بكر الهذلي قال: دخلت على محمد بن سيرين وقد خدرت رجلاه، فنقعهما في الماء وهو يقول:

إذا خدرت رجلي تذكرت قولها ... فناديت لابني باسمها ودعوت

دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لألقيت نفسي نحوها فقضيت

فقلت: يا أبا بكر، تنشد مثل هذا الشعر؟ فقال: يا لكع وهل هو إلا كلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الخامس: ما ورد في التبرك بالأشياء المقدسة:

المطلب الأول: مفهوم التبرك وأنواعه:

أما التبرك فأمره أيسر من الدعاء والمسألة، لأن التبرك هو التماس البركة في الأشياء المقدسة، أو الطاهرة، وليس هو طلبها أو دعاءها من دون الله كما يفعله المشركون بالمقبورين.   

فأنت إذا تبركت بالحجر الأسود أو أركان الكعبة، فلأنها مقدسة، لا أنك تطلب منها ما يطلبه العابد من معبوده.

والتبرك ثابت في أشياء كثيرة مقدسة، منها الحجر الأسود وأركان الكعبة ومس المصحف وتقبيله، وجعل البركة في يدي الداعي ورد البركة على وجهه، كما ذكرت في كتابي" الوعاء في استجباب رفع اليدين في كل دعاء".

ومن ذلك التبرك بذات النبي عليه السلام وما تولد منه أو لامسه: 

وتنقسم البركة إلى ذاتية ومتعدية.

فأما الأشياء ذات البركة الذاتية فهي كل الطيبات النافعات، والأمطار وما في الكون، أنزلها الله بركة من السماء والأرض إلى عباده ومتاعا إلى حين، وهذه بركتها في استعمالها في ما أحل الله والاستفادة منها، وشكر الله عليها.

قال تعالى :{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا }[ق 9]

روى أنس رضي الله عنه قَالَ: أَصابَنا مَع النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَطرٌ فَحسرَ النَّبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوبه عَنه حَتى أَصابهَ المَطرُ قُلنا لِم فَعلت؟ قَالَ: (لأنَّه حَديثُ عَهدٍ بِربِّه",

ومن ذلك التبرك بماء زمزم:

خرج البخاري 1635 عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: «اسقني»، قال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: «اسقني»، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: «اعملوا فإنكم على عمل صالح» ثم قال: «لولا أن تغلبوا لنزلت، حتى أضع الحبل على هذه» يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه ".

وقد ضل وكذب من زعم أن النبي عليه السلام تبرك بأيدي الناس، وإنما في هذا الحديث أنه شرب معهم كما يفعله أي متواضع لا يعاف أصحابه، وإنما التبرك بماء زمزم فإنه بركة وطهور وشفاء وطعام... 

وقد ذكر العلماء من فوائد هذا الحديث فقالو:" وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحرص أصحابه على الاقتداء به وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات . قال ابن المنير في الحاشية : وفيه أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله صلى الله عليه وسلم من الشراب الذي غمست فيه الأيدي" .

وأما البركة المتعدية: فهي التي يُتقرب إلى الله بلمسها أو تقبيلها، وبما أنها تعبدية، فالأصل في التعبدات التوقيف باتفاق السلف حتى يثبت بها الدليل. .

وقد وردت عدة أدلة في التبرك بالعديد من المقدسات، فيقتصر عليها:

المطلب الثاني: بيان مواطن التبرك المشروع والممنوع:

بما أن التبرك عبادة، فلا بد لكل عبادة من دليل، وقد تتبعنا المواضع المقدسة التي ورد التبرك فيها:

فمن ذلك التبرك بالحجر الأسود اتفاقا.

ومن ذلك  أركان الكعبة والملتزم كما ذكرته في مبحث التبرك بالأركان.

قال تعالى :{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [ آل عمران 96]

وقال تعالى في البيت المقدس وما حواليه:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء 1]

ومنها تقبيل المصحف أو وضعه على الوجه كما فعل عكرمة رضي الله عنه.

ومنها التبرك بالنبي عليه السلام وآثاره وبأشيائه التي لامسته حيا أو ميتا.

وقد وردت عدة أدلة في جعللل الله البركة في أنبيائه, كما قال تعالى عن إبراهيم وإسحاق :{ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ}[الصافات 113]

وقال عن نبيه عيسى :{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم 31]...

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بآثار النبي عليه السلام ويقتتلون على وضوئه وبُصاقه، والماء الذي يخرج من أصابعه، وشعره وثيابه وما لامسه بدنه، بل حتى في الأماكن التي صلى فيها كما في حديث ابن عمر وعتبان بن مالك الذي دعا النبي عليه السلام ليصلي له في مكان حتى يصلي فيه.

بل إن بعض التابعين تبرك بمس يد بعض الصحابة التي بايعت النبي عليه السلام أو لامسته.  

قال القاضي عياض: وعن ابن قسيط والقعنبي كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد مسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون".

المطلب الثالث: مس القبر النبوي للتبرك به، وذكر الاختلاف في ذلك:

أمر المس والتبرك سهل، لأن التبرك ليس دعاءً من غير الله، وقد ثبتت البركة في الكثير من الأشياء خاصة الشريفة كما بينا،  ولذلك وردت عدة آثار بالتبرك بآثار النبي عليه السلام وما لامسه جسده، حيا وميتا، ثم اختلف السلف في التبرك بمس القبر النبوي خاصة إلى ثلاثة أقوال من غير قياس غيره عليه:

القول 1. كراهة ذلك: حيث ورد المنع عن طائفة:

منهم الإمام مالك وغيره كما سبق، حيث قالوا: يدعو وينصرف، والمالكية أشد إنكارا لهذا كما أسلفنا، وهي رواية عن الإمام أحمد:

قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا، قلت له: فالمنبر؟ قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه -قال أبو عبد الله- شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه كان يمسح على المنبر ".

وقال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، قلت: ويروونه عن يحيى بن سعيد أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا. فرأيته استحسنه.

ثم قال: لعله عند الضرورة والشيء، قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر.

وقلت له: أرأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يرونه، ويقومون ناحية فيسلمون عليه، فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل.  

ثم قال أبوعبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا"،

وقد استدل هؤلاء بما مضى مما رواه مالك في موطئه وغيره من الثقات عن عبد الله بن دينار أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر ".

وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي صلى الله عليه وسلم السلام على أبي بكر السلام على أبي، ثم ينصرف".

هكذا رواه الناس عن نافع كمالك وأيوب وحماد ومعمر وغيرهم بغير ذكر مس القبر.

2. ورواه يحيى بن معين ومحمد بن عاصم عن أبي أسامة بكراهة ذلك فقال يحيى وابن عاصم: حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ".

وقد حمل الجمهور الكراهة هنا على مطلق المس للتبرك بالقبر النبوي:

القول الثاني: يجوز التبرك بالقبر النبوي:

حيث حمل الذهبي الكراهة على مس سوء الأدب، مع أنه لا يُدرى كيفية هذا المس المصحوب بسوء الأدب والذي لا يصدر من مسلم:

قال الذهبي في معجم شيوخه (1/73) بعد أن خرج الحديث:" كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب، وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله، فلم ير بذلك بأسا، رواه عنه ولده عبد الله بن أحمد.

ثم قال:" فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة؟ قيل: لأنهم عاينوه حيا وتملوا به وقبلوا يده وكادوا يقتتلون على وضوئه واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني؟ كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الأمور لا يحركها من المسلم إلا فرط حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه، وولده والناس أجمعين، ومن أمواله، ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر، وعمر أكثر من حب أنفسهم".

3. وقد روى ذلك الحديث بالنهي أبو أسامة.

بينما رواه الفروي وزاد فيه مشروعية التبرك بلفظ:" وضع يده على القبر:

روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في المصنف الذي له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال: حدثني إسحاق بن محمد الفروي حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا نافع أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر صلى السجدتين في المسجد ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فيضع يده اليمنى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم على أبي بكر وعمر ".

لكن الفروي مختلف في توثيقه، ولا يحتمل منه التفرد بالزيادات، كيف وهي مخالفة لروايات الثقات في التسليم والانصراف، ولرواية أبي أسامة:" كراهة المس"،

والفروي قال عنه أبو حاتم الرازي: إسحاق الفروي كان صدوقا ولكن ذهب بصره فربما لقن الحديث فيلقن وكتبه صحيحة".

قال ابن تيمية: فهذه الرواية فيها نظر، فإن فيها خلاف ما قد جاء عن مالك وأحمد من فعل ابن عمر أنه كان يدنو إلى القبر ولا يمسه ".

قال ابن تيمية:" وأبو أسامة أوثق من الفروي، وقد روى ما وافقته العلماء عليه ولم يزد شيئًا انفرد به كما في رواية الفروي ".

وهذا التبرك رواية أخرى عن الإمام أحمد:

قال عبد الله بن أحمد في السنة (3243) سألته -أحمد- عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله عز وجل؟ فقال: لا بأس بذلك ".  

القول الثالث: النهي عن التبرك على وجه الإعظام والتقديس، والجواز على وجه المحبة والتبرك:

كما روى أبو الحسن علي بن عمر القزويني أيضًا في أماليه قال: قرأت على عبيد الله الزهري قلت له: حدثك أبوك، قال: حدثني عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال سمعت أبا زيد حماد بن دليل قال لسفيان -يعني ابن عيينة- قال:كان أحد يتمسح بالقبر؟ قال: لا ولا يلتزم القبر، ولكن يدنو. قال أبي: يعني الإعظام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ".

قال ابن تيمية:" وحماد بن دليل هذا الذي سمعه أحمد يسأل ابن عيينة هو معروف من أهل العلم، وروى عنه أبو داود، وكان قاضي المدائن ".

المطلب الرابع: التبرك بالصالحين من غير الأنبياء:

مر أن الأصل في التبرك هو التوقيف وعدم القياس، كما قال الإمام أحمد وغيره:

. وقد رُوي عن الشافعي التبرك بأبي حنيفة: ولم يصح عنه.

روى ذلك مكرم بن أحمد في كتابه " مناقب أبي حنيفة " - كما في رواية القاضي أبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري للكتاب (ص/94)، وعنه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (1/123) :ثنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال ثنا علي بن ميمون قال سمعت الشافعي يقول :

إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائرا - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره ، وسألت الله الحاجة ، فما تبعد عني حتى تقضى".

لكن كتب مكرم بن أحمد فيها كلام، فقد اتهمه الدارقطني باشتماله على الوضع والكذب بسبب أحد شيوخه ، واسمه أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني .

قال الخطيب البغدادي :حدثني أبو القاسم الأزهري قال : سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني - وأنا أسمع - عن جمع مكرم بن أحمد فضائل أبى حنيفة فقال : موضوع ، كله كذب ، وضعه أحمد بن المغلس الحماني قرابة جبارة ، وكان في الشرقية " انتهى.

وعمر بن إسحاق بن إبراهيم مجهول

قال المعلمي:" مَن عُمَرُ هذا – يعني عمر بن إسحاق بن إبراهيم الراوي للأثر - ، ومَن شيخُه ، أمُوَثَّقان هما عند الخطيب كما زعم الكوثري ؟!

وقد حكم عليها بالبطلان كل من ابن تيمية وابن القيم والمعلمي والألباني,,,  .

وأما علي بن ميمون: إن كان هو الرقي فهو ثقة كما قال أبو حاتم ، ولكننا لم نقف على من أثبت له سماعا عن الشافعي رحمه الله .

وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين، ممن هم أفضل من أبي حنيفة وأمثاله، فما باله يترك ذلك كله ثم يَتَوَخَّى الدعاء عند أبي حنيفة بدل غيره.

ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم ، لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره، ولا تبركوا به، ولا أمرهم أحد بذلك .

بل قد ثبت الشافعي في كتبه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها.

3/ ومن ذلك دعاء الله تعالى وحده، عند قبر الصالحين لبركة الدعاء عنهم: يدعو لنفسه وللميت:

ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام وغيره في ترجمة يحيى بن يحيى:

قال الحاكم: سمعت الحافظ أبا علي النيسابوري يقول: كنت في غم شديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، كأنه يقول لي: صر إلى قبر يحيى بن يحيى واستغفر، وسل الله حاجتك. فأصبحت ففعلت ما أمرني به، فقضيت حاجتي ".

وليس هذا بحديث مرفوع حتى يُستدل به، بل لا يحل الاحتجاج بالمنام والأحلام، على تشريع الأحكام،، لأن مصادر التشريع معروفة عند السلف الأعلام.

كما أنه لا يحل الاستدلال بتبرك العوام، ببعض الأئمة الأعلام.

ولا ينبغي لعباد القبور والعظام، أن يستدلوا بهذه الأدلة على دعاء غير الرحمان، لما ذكرنا من الفروق بين التبرك، وبين دعاء غير الله جل في علاه، ثبتنا الله على التوحيد.  

            وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، مخلصين له الدعاء والدين.

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني