فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

                    فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد

 

                       كتابة: الطاهر زياني

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:

فهذا مختصر مفيد، في علم التوحيد، وأقسامه عند أهل السنة الصناديد،والرد على منكريه من الجهمية المباعيد، ممن زعموا أنه من اختراع الشيخ ابن تيمية، أو من بَعْدَه، وقد جمعتُ في هذا المبحث الكريم، من الدلائل والبراهين، على فهم السلف الأولين، والأئمة المهديين، وطريقة الإمام مالك، والجنيد السالك، بل وحتى الصوفية الأولين، وكل المؤمنين، مما يُبطل دعواهم، ويكشف عوارهم، أنهم هم المخالفون للسلف، وبالله الهداية والتوفيق، وقد قسّمته على النحو التالي:

الفصل الأول: تعريف التوحيد وبيان أقسامه، والرد على منكريه:

المبحث الأول: بيان أقسام التوحيد ومعانيها، وكيف أتت، والرد على منكري تقسيم التوحيد:

المطلب الأول: مفهوم التوحيد:

المطلب الثاني: مناقشة شبهات من أنكر التقسيم:

الشبهة الأولى: دعواهم أنه تقسيم محدث لا دليل عليه:

الشبهة الثانية: اشتراطهم تقسيم الله للتوحيد وتبيين شروطه، والرد عليهم بتبيين تقسيمات الفقهاء والأصوليين:

الشبهة الثالثة: تكذيب دعواهم بأن الله لم يقسمه، وبيان تقسيم الله للتوحيد:

الشبهة الثالثة: تكذيب دعواهم بأن الله لم يقسمه، وبيان تقسيم الله للتوحيد:

المبحث الثاني: شرح أقسام التوحيد، تعاريفها ونواقضها:

المطلب الأول: ذكر لفظة التوحيد وبيان أنها الإسلام:

المطلب الثاني: بيان أقسام التوحيد وأدلتها:

القسم الأول: توحيد الربوبية، أو توحيد المعرفة والإثبات:

المسألة الأولى: تعريفه، وبيان تصديق الناس به:

المسألة الثانية: ذكر الأدلة على معرفة الخلائق بالربوبية:

الفرع الأول: الأدلة الحسية والعقلية:

الفرع الثاني: النصوص الشرعية على معرفة المشركين بالربوبية:

المسألة الثالثة: نواقض توحيد الربوبية:

القسم الثاني: توحيد الألوهية، أو العبودية، أو التوحيد العملي:

المسألة الأولى: تعريفه وناقضه وأدلته:

المسألة الثانية: لزوم معرفة معنى كلمة التوحيد، وبيان أركانها، وهي: "لا إله إلا الله"

الفرع الأول: الرد على شبهة ترك تعلم معاني كلمة التوحيد:

الفرع الثاني: معنى كلمة التوحيد وإعرابها:

المسألة الثالثة: الفرق بين توحيد الربوبية والألوهية:

القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:

المسألة الأولى: تعريف الأسماء والصفات، وبيان مدلولاتها:

الفرع الأول: مدلولات هذا التوحيد وأدلّته:

الفرع الثاني: أقسام الأسماء من حيث مصدرها واشتقاقها، وبيان دلالاتها:

المسألة الثانية: أركان الإيمان بتوحيد الأسماء، وبيان نواقضه:

المسألة الثالثة: أقسام توحيد الأسماء والصفات:

القسم الأول: الصفات الذاتية، وأقسامها:

القسم الثاني: الصفات الفعلية:

المسألة الرابعة: معنى كون الصفات قديمة النوع حديثة الآحاد، وإبطال القول الكُفري بقدم العالم وتسلسل الحوادث:

المسألة الخامسة: نقول الإجماع على إبطال وتكفير من قال بقدم العالم وتسلسله:

المسألة السادسة: نقول الإجماع وكلام السلف وأئمة الفقه والحديث على الإقرار بتوحيد الأسماء والصفات وبيان أركانه ونواقضه عندهم:

الفرع الأول: كلام السلف الأولين:

الفرع الثاني: قول أئمة أهل الحديث في الإيمان بظاهرها مع ترك التأويل والتفسير:

الفرع الثالث: كلام الأئمة الأربعة:

الفرع الرابع: بقية كلام أهل الحديث:

الفرع الخامس: كلام المتصوفة من أهل السنة الأولين، في الإقرار بتوحيد الصفات:

المسألة السابعة: من صفات الرب الذاتية والفعلية:

الفرع الأول: صفة الأصابع واليدين للرب:

الفصل الثاني: أبرز الأدلة الناطقة بلفظ التوحيد وأنواعه، وبيانه، ومن قال به:

المبحث الأول: أدلة التوحيد وأقسامه:

المبحث الثاني: كلام السلف على هذه الأنواع، وأدلتها:

المطلب الأول: كلام السلف الأولين حول أقسام التوحيد:

المطلب الثاني: بقية كلام السلف والمتصوفة الأولين في تقسيم التوحيد:

المطلب الثالث: تقسيم الأشعرية للتوحيد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الأول: تعريف التوحيد وبيان أقسامه، والرد على منكريه:

المبحث الأول: بيان أقسام التوحيد ومعانيها، وكيف أتت، والرد على منكري تقسيم التوحيد:

المطلب الأول: مفهوم التوحيد:

التوحيدُ في اللغة هو الإفراد، على وزن التفعيل للمبالغة في النسبة إليه وحده، والتوحيد أصل يدل على الإفراد وجعل الشيء واحدا، كما قال تعالى:{أجعل الآلهة إلها واحدا}.

وفي الشرع: هو إفراد الله تعالى في كل ما يختص به من ربوبية وألوهية وأسماء وصفات.

وهذا التعريف شاملٌ لأقسام التوحيد الثلاثة المذكورة، المندرجة تحت قسميْن: 

إذ ينقسم إلى: توحيد عِلمي معرفي: وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، المتعلقان بمعرفة وجود الله، ومعرفة أفعاله وأسمائه وأوصافه.

والثاني: التوحيد العَملي: وهو المتعلق بأفعال العباد قصدًا وقولا وعملا، وهو توحيد الألوهية أو العبودية، بأن تُصرف جميع أنواع العبادة لله وحده وتنفى عما سواه.

فتوحيد الربوبية: هو التصديق الجازم بتفرد الله في أفعاله، كالخلق والتدبير...كما سيأتي في أقسام التوحيد والتعريف  بكل قسم.   

وتوحيد الأسماء والصفات: هو التصديق الجازم بتفرد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا،

وتوحيد العبودية: هو إفراد الله وحده بعبادات العباد، كإفراد الله بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر

المطلب الثاني: مناقشة شبهات من أنكر التقسيم:

لقد أنكر هذا التقسيمَ غلاةُ الجهمية والزنادقةِ، من أتباع صلاح الدين بن إبراهيم وغيرهم، بدعوى:

الشبهة الأولى: دعواهم أنه تقسيم محدث لا دليل عليه: لا من كلام الله ولا رسوله ولا كلام السلف، إلا من كلام ابن تيمية، والوهابية من بعده.

وقد كذبوا على الله وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى السلف، فإنهم قد صرحوا بتقسيمه قبل زمن ابن تيمية بكثير، وسنأتيهم بالأدلة الكثيرة على تقسيم التوحيد من كلام السلف قبل عصر ابن تيمية بكثير.

بل هو تقسيم مشى عليه السلف والخلف، والإمام مالك، والجنيد السالك، ومَنْ تبعهم مِن المسلمين، والصوفية الأولين، بل إن العجب أن هؤلاء المتصوفةَ السنيين، كانوا من السباقين الأولين لهذا التقسيم كما سنبين، لكن قد خالفهم مَن بعدهم مِن القبوريين، والجهمية المنحرفين.

الشبهة الثانية: اشتراطهم تقسيم الله للتوحيد وتبيين شروطه، والرد عليهم بتبيين تقسيمات الفقهاء والأصوليين:

حيث ادعو أن اللهَ لم يُقسّمه كذلك، وهذا أكبر كذب على الله، لأنه ليس من منهج اللهِ التكلم بكلام الفقهاء والأصوليين وتقسيماتهم، حتى يقول لنا مثلا: بأن أقسام التوحيد كذا، وشروطه كذا، أو أن أركان الصلاة كذا، وشروطها كذا، ونواقضها كذا وكذا، وكذلك الأمر في سائر العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد ومعاملات.... فإنها كلها لها أركان وأقسام وشروط ونواقض ومستحبات... لم يَنصَّ عليها الشرع بأعدادها ولا بأسمائها، ولكنها مأخوذة منه عن طريق استنباط فهم النصوص ولغة العرب، خاصة بعد أن دخلت العجمة كثيرا بين المسلمين، بسبب الفتوح الإسلامية لبلاد العجم، فكان لا بد من استقصاء هذه الأمور واستنباطها من الشرع الحكيم لتسهيلها للناس.

ونفس الأمر يقال عن تقسيم السلف للحكم الشرعي إلى: حكمٍ تكليفي ووضعي، ولكل قسمٍ أقسامٌ أخرى، وكذلك أقسام المقاصد الشرعية وغيرها، فإنها كلها مأخوذة من فهم نصوص الوحيين، كذلكم الأمر في التوحيد وشروط والإسلام والصلاة وسائر العبادات والمعاملات...

والوجه الثالث: إنكارهم لشروط التوحيد... :

فإن العجب أن ذاك الجهمي صلاح الدين بن إبراهيم الفلسطيني مع إنكاره لهذا التقسيم، فإنه ينكر على السلف ذكرهم للفظ: شروط كلمة التوحيد ونواقضها...،

ثم غلا أتباعه حتى بدعوا مع الجهمية كل التقسيمات والشروط والنواقض، واستدل لهم شيخهم بحديث إبطالِ الشروط الفاسدة في البيوع وغيرها، متناسيا إثبات الشريعة للشروط الصحيحة الموافقة للدين والمستنبطة منه.

لأن القائل في الحديث الذي خرجه البخاري 2168 عن عائشة:" ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"،

هو نفسه القائل في نفس هذا الحديث:" قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق"، وهو نفسه القائل في نفس هذا الحديث:«خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق».

وهو نفسه القائل في حديث آخر:"المؤمنون على شروطهم..."،....

ثم إن هذه الشروط والأركان والتقاسيم ... وإن لم يصرح بها الصحابة الأولون، فهي مفهومة من كلامهم وفعلهم وتفسيرهم كما سيأتي، وإنما أصَّلَها من بعدهم، بسبب عجمة الناس وجهلهم، كما فعلوا تماما في التقسيمات الفقهية والأصولية، واللغوية، والتفسيرية، ونحو ذلك، من تقسيمات حدثت في عصور متأخرة.

الشبهة الثالثة: تكذيب دعواهم بأن الله لم يقسمه، وبيان تقسيم الله للتوحيد:

حيث جمع رب العالمين، في كتابه الكريم، بين أقسام التوحيد فقال: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}[مريم]

ففي قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} إثبات لتوحيد الربوبية، فهل تستطيع يا مسلما أن تنكر أن يكون الله هو الرب المتفرد في أفعاله وخلقه؟!

وفي قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} إثبات لتوحيد العبادة والألوهية والقصد لله، فهل أنت تنكر يا عبد الله أن يكون الله هو معبودك، الذي تختصه بالعبادات وحده، وتصرفها له خالصة لا لغيره، وهو القائل :{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}[الزمر]

وفي قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} إثبات لتوحيد الأسماء والصفات.

فهل تستطيع يا عبد الله أن تُلحد في تفرد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى على وجه الكمال والجلال اللائق بها، وهوالقائل:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف]

وهل تستطيع أيها المدلس الزعام بأن التوحيد يستلزم التثليث، أن تقول بأن تعدد أسماء الله يلزم منه تعدد المسميات والذوات والآله، كما تزعمه الجهمية الكافرة؟

إذًا توحيد الربوبية: تُقر به جميع الخلائق كما في النصوص والمحسوس، وهذا الإقرار يستلزم توحيد عبادة الرب وحده الذي ينكره المشركون.

وهذان يستلزمان الإيمان بأسماء الله وصفاته التي يعطلها الجهمية والمعطلون.

فالرب الخلاق لا بد أن يكون معبودا، قويا قديرا حكيما عليما ...

الشبهة الرابعة: زعموا بأن تقسيمَ التوحيدَ إلى ثلاثة، فيه تشبُّهٌ بعقيدة التثليث عند الصليبيين، وعقيدة التعدد عند المشركين، وهذا كذب على الله الواحد وعلى المسلمين:

ذلك أن قولهم باستلزامية التعدد هو نفس شبهة الجهمية الكافرة القائلة بأن الإيمان بأسماء الله التسع والتسعون يستلزم من إثباتها تعدد الله، وأنه تسع وتسعون إلها، ومن ثَـمَّ قالوا بنفي توحيد الأسماء، ومن الجهمية من يثبتُ بعض الأسماء، لكن يرونها بأنها جامدة لا تستلزم صفات، فالله عندهم عليم بلا علم، رحمان بلا رحمة وهكذا.. وبالتالي أنكروا توحيد الله في صفاته..

وكذلك ادعاءهم بأن إثبات التقسيم تشبُّه بالتثليثيين الصليبيينَ، والجواب عنه أن هذا كذب وتدليس، لأن القومَ يعتقدون بأن الرب ذو ثلاثة أقانيم، الرب الأب الأصل، والإبن الفادي المخلص، وروح القدس المطهر، ثم امتزجوا جميعا في ذات الألوهية، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وأما الرب عند المسلمين فهو واحد، يُوحَّد في ربوبيته وفي ألوهيته وفي جميع أسمائه وصفاته بإجماع المسلمين، من غير أن يكون أربابا متعددة:

الشبهة الرابعة: زعمهم بأن هذا التقسيمَ يستلزم تكفير المسلمين: وأن هذا من عقيدة الخوارج.

والجواب عند أهل السنة أن الإيمان والكفر أحكام شرعية: وقد بين الشارع بأن فيهما ما هو اعتقاد بالجنان، وفيهما ما هو قول باللسان، وعمل بالجوارح...

فمن فعل الكفر، أو قاله، أو اعتقد به فهو كافر بالله، من غير أن تتخذوا من هذا التكفير وليجة تلجون بها لدى العوام، حتى يسمح لكم المسلمون بكل أفعال الكفر من غير تكفير لكم، فالكافر من كفر بتوحيد الله في ربوبيته، أو في عبادته، أو في أوصاف ربه؟.   

خلافا للجهمية الكافرة: فإنهم يُخرجون الأعمال أو الأقوال عن الإيمان، وعن الكفر، فلا كفرَ عندهم لمن عرف الرب بقلبه، ولذلك ينكرون التوحيدَ العمليَّ وهو توحيد العبودية، وكذلك ينكرون الصفات. 

وبناءً عليه: فلا يُكفرون إلا من كان مُكذبا بالله في قلبه فقط أو مستحلا لذلك، ولا يكفرون من دعا وعبد غير الله، ما دام أنه لا يعتقده ربا، بل واسطة فقط، وأما الفعل أو القول الكفري فليس كفرا عندهم ولو أتى من الشرك أو سب الرب ما أتى.

وهذا الاعتقادُ نفسهُ كفرٌ مجرد كما قال السلف.

وقد كذبهم الله بقوله:{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}[الزمر]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثاني: شرح أقسام التوحيد، تعاريفها ونواقضها:

المطلب الأول: ذكر لفظة التوحيد وبيان أنها الإسلام:

لقد تكاثرت النصوص الشرعية بذكر لفظ التوحيد كما سنبين، ويكفي في بيان عظم هذه الكلمة أنها الفاصل بين الإيمان والكفر، وهي رأس دعوة الأنبياء جميعا، ورأس كل الأعمال والأقوال.

كما في حديث جابر في صفة الحج:" فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهَلَّ بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ".

كما أن سورةً عظيمة سُميت به، وهي سورة الإخلاص، فقد سُميت «سورة التوحيد»، لأنها تشتمل على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.

فقد ذكر أبو حنيفة الفانتي وابن الخطيب والرازي في تفسيره وغيرهم في أسامي سورة الإخلاص:"إعلم أن كثرةَ الألقابِ تدلُّ على مزيد الفضيلة، والعرف يشهد لما ذكرناه فأحدها: سورة التفريد، وثانيها: سورة التجريد، وثالثها: سورة التوحيد، ورابعها: سورة الإخلاص لأنه لم يذكر في هذه السورة سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ، ولأن من اعتقده كان مخلصاً في دين الله، ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار ، ولأن ما قبله خلص في ذم أبي لهب فكان جزاء من قرأه أن لا يجمع بينه وبين أبي لهب".

وذكر ابن العربي: إذا طلع الفجر ركع ركعتيه، يقرأ في الأولى بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثانية بسورة التوحيد، ثم يصلي الصبح ".

وصح في الحديث:" أنها صفة الرحمان".

وورد أن سبب نزولها ما رواه ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: «إلى اللّه»، قال: صفه لنا أمن ذهب هو؟ أم من فضة؟ أم من حديد؟

أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة ".

ولذلك ورد في الحديث:" إنها لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ ".

وذلك لاحتوائها على أنواع التوحيد الثلاثة: من معرفة بالربوبية وعمل في توحيد العبودية، ومعرفة وعمل بتوحيد الأسماء والصفات، كالاتصاف بصفة الرحمة، لأنها صفة الرحمان...، مع تنزيه الله عن العيوب المتصلة والمنفصلة كالأنداد والأكفاء والشركاء والأشباه، والأبناء والآباء، وعن الأكل والشرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الثاني: بيان أقسام التوحيد وأدلتها:

القسم الأول: توحيد الربوبية، أو توحيد المعرفة والإثبات:

المسألة الأولى: تعريفه، وبيان تصديق الناس به:

الرب في اللغة من الربْوَة أي المكان المرتفع، أوْ من الرِّبا أي الزيادة، أو التربية وهي الإصلاح، وعليه فالرب ذو المكان المرتفع، وهو الذي يزيد الحسنة عشرا، وهو السيد المطاع والمصلح للشيء والمالك له.

وفي الشرع:" هو إفراد الله تعالى بأَفعاله "، كالخلق والرَّزْق والتدبير والإحياء والإماتة والقدَر ... 

وذلك بأن تعتقدَ علْما جازما بأن صاحب هذه الأفعال على تمامها هو الرب وحده.

فإن بعض هذه الأفعالِ والصفاتِ وإن وُجدت في مخلوق، فإنها نسبية ناقصة ليست على تمامها، لكن أفعال الرب وصفاته تامة كاملة، فلَه العلم التام والرحمة الواسعة، والبصر والسمع الغير المحدوديْن ...  

وبالجملة فالناس كلهم يثبتون ويعرفونه، وإن تفاوتت درجاتُ معرفتهم به بين كافر ومسلم ومؤمن...، ولذلك كان جمع من العلماء يُسميه بالتوحيد العلمي المعرفي لمعرفة الناس به، كما قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية:" ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد".

فهذا الإمام ابن أبي العز السني ينقل تقسيمَ التوحيد عن كتب الله، وكذلك نقله السلف، فمن ذا يترك كلام أئمة السلف، ويلتف إلى تبديعات الجهمية إلى كل ضال مأبون.

وبالجملة فتوحيد المعرفة بالرب: سمي بذلك لأنه توحيد تعرفُه جميع الخلائق وتُثبته حسا وعقلا ونقلا:

المسألة الثانية: ذكر الأدلة على معرفة الخلائق بالربوبية:

الفرع الأول: الأدلة الحسية والعقلية: ذلك أن كل الخلائق كلها معترفة بمبدإ السببية، وينكرون مبدأ الصُّدفية والتلقائية، بمعنى:

أن العقل يدرك بأنه لا بد لكل سبب من مسبب، ولكل صنعة من صانع، ولكل فعل فاعله، ولكل كتابة كاتب، ولكل بِناءٌ بنّاءٌ...، وأنه يستحيل عقلا أن يوجد شيء صدفة أو من تلقاء نفسه، مهما كان ولو كان يسيرا، فكيف الأمر بهذا الكون العظيم الذي له خالق أعظم منه وأعلم بما فيه.

وقد خلق الله هذه الأكوان بناء على أسباب ومسببات، لا يُستثنى من ذلك شيء إلا في باب المعجزات، فإنها بغير أسباب ولا مقدمات.

كما أن الخلق إذا حزبهم أمر، أو أعجزهم شيء، لجأوا بفطرتهم إلى ربهم وأبصارهم نحو العلو، لينجيهم من ذلك الكرب العظيم...

قال الدارمي في نقضه على المريسي الجهمي:" وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء، وَحَدُّوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها، فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية".

وأما النصوص الشرعية على معرفة الخلائق بالربوبية فهي كثيرة جدا، لم ينكرها إلا الجهمية الزنادقة من أتباع الموسوم بصلاح الدين بن إبراهيم الجهمي العنيد. 

الفرع الثاني: النصوص الشرعية على معرفة المشركين بالربوبية:

حيث أثبت النصوص الكثيرة بأنه حتى الملحدين والشيوعيين والمتألهين، وحتى إبليس اللعين، كلهم على الإقرار برب العالمين، في قرارة أنفسهم:

الدليل الأول وتوابعه: فهذا إبليس يناقش رب العالمين، ويحلف بعزته، لكنه رفض عبادته، والامثتال لأمره فكفر في العبودية وصدّق بالربوبية كما في الأدلة الكثيرة.

منها قوله تعالى :{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) }[ص]

الدليل الثاني: وذاك فرعون المدعي الربوبية، يُقرُّ في نفسه بأفعال رب العالمين، لما قال له نبي الله الكريم :{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء]

الدليل الثالث: وأخبر علام الغيوب بأن الكفرة والملحدين، يستيقنون في قرارة أنفسهم برب العالمين، حيث قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }[النمل 14].

وأما سائر المشركين، فهم على الإقرار برب العالمين، حتى بألسنتهم وأفعالهم، ومع ذلك فهم مشركون في ألوهيته مخلدون في النار:

الدليل الرابع: فمن ذلك قوله تعالى لمنكري البعث والنشأة الآخرة، بأنهم يعلمون خالق النشأة الأولى فقال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة] أي أنالثانية مثل الأولى، بل إن إعادة الخلق ثانية هو أسهل من بدإه أوَّلا، لو تذكر القوم.

الدليل الخامس: ومن الأدلة على معرفة المشركين بتوحيد الربوبية: قوله تعالى عن المشركين:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) } [العنكبوت].

قال ابن حزم في الفصل في معرض تكفيره لساب الرب، ورده على الجهمية الذين يزعمون بأنه لا يكفر أحدٌ عرف الرب، وأنّ السابَّ يعرف الرب :" فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون قال تعالى: " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " .

وقال ابن حزم في رده على الجهمية الذين لا يكفرون من عرف الرب ولو فعل ما فعل من الشركيات:" وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ولحق بالمجانين الوقحاء، وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلاً على أن في قلوبهم كفراً، وأن شتم الله تعالى ليس كفرا، ولكنه دليل على أن في القلب كفراً، وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط، فهذه منهم دعاوي كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلاً ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم ابن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فأما القرآن فإن الله عز وجل يقول: " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " وقال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ".

الدليل السادس: ومن الأدلة على إثبات المشركين لِأَفعال الربوبية قوله تعالى:{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) }[يونس]

قال ابن حزم في الفصل:" هذه شهادة من الله مكذبة بقول هؤلاء الضلال لا يردها مسلم أصلاً ".

الدليل السابع: ومن ذلك قوله في وصف المشركين:{ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) }[المؤمنون]".

فها قد أثبتت الآيات باعتراف الخلائق أجمعين، برب العالمين، وأنه هو الفاعل لجميع ذلك وحْده، ثم هم يعبُدون معه غيره، مما يعرِفون بأنه لا يخلق ولا يرزق ...

فكان من منهج الله في تثبيت العقيدة في أنفس عباده أن ذكّرهم بما يعرفون من أفعال الرب، ليُلزمهم بأنه المستحق للعبادة وحده، كما خَلَق وحده، كما في:

الدليل الثامن: قوله تعالى لما أمر الناس بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}

ثم أخبرهم بأنهم يعلمون ويُقرون بالربوبية وأفعال الرب فقال لهم :{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة].

قال البخاري في الصحيح من كتاب التوحيد:"باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا}  «فذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره» وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم " لقوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2] ".

الدليل التاسع: ومن ذلك إخبار الله عن أهل الكتاب أنهم يعرفون الله ونبيه محمدا، وأنه الحق، لكنهم كفروا في العبادة والاتباع: فقال تعالى:{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة]

الدليل العاشر: وقال تعالى عن كفرهم بالألوهية:{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ }[الأنعام]

ومع صراحة هذه الآية في معرفة أهل الكتاب بالربوبية وبالنبوة، إلا أن الجهميةَ الذين يقولون بإسلام كل من عرف الربوبيةَ ولو فعل ما فعل من شركيات، لا يقرون بذلك.

قال أبو محمد ابن حزم في رده على الجهمية في الفصل:" وبلغنا عن بعضهم أنه قال في قول الله تعالى:" يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم"

 قال ابن حزم:" وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظن منهم ".

قال:" وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ويرد ما شئت منه ".

الدليل الحادي عشر: ومن الأدلة أيضا على معرفة المشركين بالربوبية مع كفرهم: قولُه تعالى :{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) } []

فأثبتت الآية إيمانهم بأفعال الربوبية من خلق وزَرق..، وكفرهم بالألوهية ونسبة الولد للرب والشرك به.

قال الطبري:" يقول تعالى ذِكره: وما يُقِرُّ أكثر هؤلاء الذين وصَفَ عز وجل صفتهم بقوله:( وكأين من آية في السموات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها معرضون ) بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء ( إلا وهم مشركون )، في عبادتهم الأوثان والأصنام ، واتخاذهم من دونه أربابًا ، وزعمهم أنَّ له ولدًا ، تعالى الله عما يقولون".

ثم قال:" وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".

وقد خالفَ كلَّ السلفِ ذاك المدعوُّ صلاحُ الدين بن إبراهيم الفلسطيني، وكذَّبَ كل التأويلات عن السلف وأعرض عنها:

الدليل 12/ خرج – الطبري - عن عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس:( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قال: من إيمانهم، إذا قيل لهم: مَن خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون"، توبع عطاء:

فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم ثَنَا أبي ثَنَا عبد الله بن صَالح بن مُسلم الْعجلِيّ ثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله { وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون } تَسْأَلهُمْ من خلقهمْ وَمن خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَيَقُولُونَ الله فَذَلِك إِيمَانهم وهم يعْبدُونَ غَيره ".

الدليل 13/ وخرج الطبري عن عامر وعكرمة:( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قالا يعلمون أنه ربُّهم ، وأنه خلقهم ، وهم يشركون به ".

الدليل 14/ وخرج ابن أبي حاتم والطبري عن مجاهد في قوله:( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، إيمانهم قولهم: الله خالقُنا، ويرزقنا ويميتنا ".

وفي لفظ لمجاهد :" إيمانُهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيرَه ".

الدليل 15/ وخرج الطبري عن عطاء:( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قال: يعلمون أن الله ربهم ، وهم يشركون به بعدُ".

فها أنت ترى يقينا تفريق الشرع والسلف بين أفعال الربوبية التي يقر بها المشركون، وبين توحيد العبودية حيث يشركون.

الدليل 16/ وخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن أشهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: في قول الله: " {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] قال: ليس أحد يعبد مع الله غيره، إلا وهو يؤمن بالله، يعرف أن الله عز وجل ربه، وأن الله خلقه ورزقه، وهو مشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 76] قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين، مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك بالله إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. المشركون كانوا يقولون هذا "

الدليل 16/ وخرج الطبري عن سعيد عن قتادة  قوله:( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، في إيمانهم هذا. إنك لست تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشرك في عبادته ".

وخرجه الطبري بإسناد صحيح عن محمد بن ثور عن معمر عن قتادة:( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قال: لا تسأل أحدًا من المشركين: مَنْ رَبُّك؟ إلا قال: ربِّيَ الله! وهو يشرك في ذلك".

وإن كان في حديث معمر عن قتادة كلام، لأنه حدث بالبصرة من غير كتبه، فإن هذا ليس بحديث، بل هو كلام سمعه معمر عن شيخه قتادة في تفسير آية.

ثم إن عبد الرزاق روى عنه هذا الحديثَ وقد ذكر الحفاظ أنه ما روى عنه إلا من كتبه:

فروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، قال :« لا يسأل أحد من المشركين من ربك ؟ ، إلا قال : الله وهو يشرك في ذلك ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثالثة: نواقض توحيد الربوبية:

بما أنّ توحيد الربوبية يتعلقُ بأفعال الرب، فإن نواقضه كل ما يتعلق بذات الرب وأفعاله، وهي:

ـ الإلحاد بالله أو سبه أو الإنكار اللساني بوجوده أو إنكار أفعاله وخلقه لخلقه.

ـ الاعتقاد بأنه يوجد لمخلوق حق التصرف في شيء من شؤون الكون، إما تبعا لإرادة الله، أو استقلالا بنفسه.

ـ اعتقادُ وجود شيء من خصائص الربوبية في مخلوق، كاعتقاد الضر والنفع في تميمة ونحوها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القسم الثاني: توحيد الألوهية، أو العبودية، أو التوحيد العملي:

المسألة الأولى: تعريفه وناقضه وأدلته:

الألوهية لغة هي العبودية: من الفعل: أله يأله إلهة أي عبادة، والإله هو المعبود الذي تألهه القلوب محبة وتعظيما باتفاق السلف وأهل اللغة، وهذا النوع هو الذي يكفر به المشركون كما مر.  

قال الطبري في تفسيره :".. فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في "فعل ويفعل"، قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: "تألَّه فلان" بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:

للهِ دَرُّ الغانِيات المُدَّهِ .. سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي

يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعَملي، ولا شك أنّ "التألُّه"، التفعُّل من: "ألَه يأله"،

فنص هنا على أنه توحيد عملي، ثم خرج عن ابن عباس: أنه قرأ (وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ) [الأعراف: 127] قال: عبادتَك".

وبنحو هذا قال قاضي الجماعة محمد بن أبي الفضل التونسي في تحرير المطالب بما في عقيدة ابن الحاجب  ص 69:" أله بمعنى عبد، فهو بمعنى معبود... ".

ثم ذكر أن التوحيد على أربعة أقسام... 

وفي الشرع: هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد وعباداتهم "، كالدعاء والذبح والنذر والخشية والخضوع والصلاة وسائر التعبُّدات،

فهو توحيد عَمَلي قَصْدي، بأن تقصد بعملك وجه الرب ورضاه.

كما قال الإمام القشيري الصوفي:" التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا، وأولها التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة ". وهما أفعال العباد.

قاله أبو حيان في تفسير قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } []:"

وعليه فناقضه: هو صرف أي عبادة أو طاعة لغير الله تعالى أيّا كان، ملكا مقربا، أو نبيا مرسَلا، أو وليا صالحا.

دليل الدعاء الذي هو رأس العبادة قوله تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)} [الجن]، وهكذا الأمر في سائر العبادات.

وقد امتلأت النصوص الشرعية بالأمر بتوحيد الله في ألوهيته، وإنكار المشركين له، مع إقرارهم بربوبيته فقال تعالى محذرا عباده:{ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) }

ولما أخبر الله تعالى بأن توحيد الربوبية يعرفه جميع الناس حتى المشركين منهم، أتبع ذلك بإلزامهم بالإيمان بالعبودية لله وحده، لأن الخالق وحده، يستلزم أن يُعبدَ وحده، فقال : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}.

وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت]

وغير ذلك من الآيات التي تبين بأن الكفار يعرفون توحيد الرب ويقرون به، وكلها متبوعة بوجوب الإيمان بتوحيد آخر، وهو العبودية الذي كفروا به ربهَم، فعُلم أنه مغاير للأول، وأن الربوبية غير الألوهية التي هي العبودية. 

فمن ذلك إخبار الله بأن الكفرة يتعجبون من هذا التوحيد فقال تعالى عنهم: { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) } [الحجر]

وقال عن تعجبهم الإنكاري :{ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} []

وقال عنهم: { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لا أَشهدُ} [الأنعام 19]

وتوعد من أنكر هذا التوحيد بقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فإنما حِسَابهُ عنْدَ ربهِ}

ووصف المؤمنين بترك الشرك به فقال: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ }[الفرقان]

وأخبر تعالى بأن دعاءَ المرءِ لله تعالى هو العبادة كما في الحديث، وأن الدعاء لا يُطلب إلا من الله، فقال جل في علاه:{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) }[الجن]

ثم أخبر تعالى عن عدم إغناء دعاء الآلهة المعبودة لأصحابها فقال جل وعلا: { فما أغنت عنهم آلهتهم التى يدعون من دون الله من شئ } [ هود 101 ]

فلما تبين بالحس والنصوص الكثيرة أن كل المشركين يعترفون بأن الله تعالى هو الرب الواحد الخالق لكل شئ، إذا ما سبب كفرهم؟:

لقد أخبر تعالى عن سبب كفرهم وهو أنهم يتخذون آلهتهم شفعاء لهم لله، تقربهم منه زلفى، ويدعونها مع الله.

فقال تعالى :{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) }[يونس]

وقال عنهم :{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}[الزمر]....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثانية: لزوم معرفة معنى كلمة التوحيد، وبيان أركانها، وهي: "لا إله إلا الله"

الفرع الأول: الرد على شبهة ترك تعلم معاني كلمة التوحيد:

يزعم أهل البدع من الجهمية بأنه لا حاجة لمعرفة معنى كلمة التوحيد، حتى غلا زعيمهم صلاح الدين فقال:" إن الأحمق فقط هو من يسأل عنها أو يبحث عن معناها، وأن الشيطان فقط من يقاتل في سبيلها "، ثم راح يسخر من الداعين إلى معرفة حقيقتها. 

ووالله لقد أعظمَ هذا الجهميُّ الفِريةَ على ربِّه، بقُدُومه على ترْك العلم في أعظم ركن على الإطلاق، وهو توحيد الله الذي أمرنا الله بتعلّمه...

ثم كيف يَزعم هذا الملحد الشيطاني، بأن أكبر كافر لعين، وهو الشيطان، بنص القرآن، ثم يزعم بأنه هو الذي يقاتل في سبيل لا إله إلا الله.

ألم يعلم بأن الله قد نصبَ كل سيوف الجهاد، وكل أمر وإعداد، في سبيل كلمة الله الوهاب، ...

ألم يعلموا بأنه ما شرعت الشرائع ووضعت موازين القسط في الدنيا والآخرة إلا في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ...   

وهذا ربنا يأمرنا بتعلم التوحيد وفهمه لاتباعه، والحذر من الشرك وتعمله لاجتنابه، بل وفهم حتى الدقيق منه حتى لا نقع فيه، ثم يأتيك الدجل ليأمرك بترك فهم معانيه. 

وقد كان نبينا عليه السلام يعلمنا الاستعاذة حتى من خفي الشرك الذي قد نجهله، كما قال أبو موسى:" خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له: من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم".

وكيف يُهوِّنُ هذا الزنديق في شيئ دعا إليه جميع المرسلين، بل ومكث فيه النبي عليه السلام طيلة الفترة المكية لا يدعو إلا لتوحيد الله جل في علاه.

ثم كيف يأمر بترك تعلم أعظم فارق بين الإسلام والكفر، ألا وهو التوحيد.

ثم كيف يجرؤ على دعوة أتباعه، وهم عباد الله، ثم يحضهم على ترك تعلم شيء اشترطه الله، فقال جل في علاه: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(86)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف]

ثم كيف يفتؤ يدعو إلى ترك تعلم شيء قد أمرنا ربنا الرحمان بتعلمه ومعرفته، فقال وقوله الحق، وقول مخالفيه هو الباطل والرتق:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }[محمد 19]

وأمرنا بتعلمه مرة أخرى فقال :{ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}[هود]

بل إن المقلد والجاهل بمعنى الربوبية والألوهية قد لا يُثبت في فتنة القبر كما في حديث مسألة الملكين للإنسان، الذي رواه البراء وفيه:" فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله،

فيقولان وما يدريك؟ فيقول: جاءنا بالبينات من ربنا فآمنت به وصدقته " قال: " وذلك قوله عز وجل: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27] "

 ثم ذكر حال الفاجر والجاهل بهذه الأجوبة فقال في الحديث:" فلا يهتدي لاسمه فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون ذاك قال: فيقال: لا دريت فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب ..".

وكيف يجرؤ هذا المغبون على مخالفة سبيل المؤمنين، وإجماع الربانيين، ويأمر باتباع سبل الشياطين، الداعين إلى جهل أصول الدين:

قال الإمام البخاري في الصحيح :" باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] فبدأ بالعلم «وأن العلماء هم ورثة الأنبياء،... ".

وبنحْوه بوَّب النسائي في أحاديث التوحيد.

وخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سهل المدائني قال: قال سفيان وسأله رجل، فقال: يا أبا محمد، العلم أفضل أو العمل؟ قال: " العلم، أما تسمع قول الله عز وجل: {فاعلم أنه لا إله إلا الله، واستغفر لذنبك} [محمد: 19] فبدأ بالعلم قبل العمل "

وخرجه أبو نعيم في الحلية (7/285) عن أبي توبة الربيع بن نافع قال: سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم، فقال: " ألم تسمع إلى قوله حين بدأ به فقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] ثم أمره بالعمل فقال: {واستغفر لذنبك} [غافر: 55] وهو شهادة أن لا إله إلا الله لا يغفر إلا بها من قالها غفر له، وقال {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وقال {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] يوحدون وقال {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} [نوح: 10] يقول وحدوه والعلم قبل العمل ألا تراه قال {اعلموا أنما الحياة الدنيا} [الحديد: 20] إلى قوله: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها} [آل عمران: 133] الآية، ثم قال {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} [الأنفال: 28] ثم قال {فاحذروهم} [التغابن: 14] بعد، وقال {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 41] ثم أمر بالعمل به ".

وقال الشيخ أبو بكر محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي البخاري الحنفي في معاني الأخبار (208) :" ألا ترى إلى الله عز وجل لما خاطبه -النبي- بأجل المخاطبة، وأمره بأعلى الأوامر، وهو العلم بالله تعالى أتبعه الأمر بالاستغفار، فقال جل جلاله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد: 19] ، فالعلم بلا إله إلا الله أجل أحواله، وأعلى مراتبه، وأرفع درجاته، وهو فضل تفضل الله به عليه، فكان علمه بلا إله إلا الله؛ لأنه كما كان صبره بالله، لا بذاته، أنه قال الله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النحل: 127] ، فأتبع جليل هذا العطاء، وكريم هذا الحباء، الذي هو العلم بالله، الاستغفار ليكون إظهار العبودية عند ظهور الربوبية".

وقد كان العرب يعلمون جيدا معناها، ولذلك كانوا يستكبرون عنها ويتعجبون منها كما في الحديث والآيات الكثيرة:

عن ابن عباس قال في حديث مرض أبي طالب وفيه:" ... فقال يا عم إني إنما أردتهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، قالوا: وما هي نعم وأبيك وعشرا؟ قال:" لا إله الا الله"، فقاموا وهم ينفضو ثيابهم وهم يقولون { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)  } [ص]".

وبسبب عجمة الناس كان لزاما على كل مسلم أن يعلم معنى هذا الكلمة العظيمة ويعتقد به، كما أمرت الآيات:

الفرع الثاني: معنى كلمة التوحيد وإعرابها:

قال الدارمي في نقضه على المريسيالجهمي:" وتفسير التوحيد عند الأمة وصوابه قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من جاء بها مخلصا دخل الجنة"، و "أمرت أن قاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" من قالها فقد وحد الله، وكذلك روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل بالتوحيد في حجته فقال: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك .. ".

ذلك أنها تدل بالمطابقة على توحيد الألوهية، وبالتضمن على الربوبية، وبه وبالاستلزام على توحيد الأسماء والصفات، ولها ركنان:

1ـ النفي: في قولك:" لا إله"، ولنترك الإعراب اللغوي يبين لنا معناها:

"لا: نافية.

إله: اسمها منصوب...، والإله هو المعبود باتفاق أهل اللغة والتفسير والسلف.

فأين خبرها؟

والجواب: أن خبرها محذوف تقديره إما شبه جملة أي: بحق"، أو مفرد:" حقٌّ",

وعليه: يكون معنى هذه الكلمة: لا معبودَ بحق إلا الله.

2ـ الإثبات: في قولك: إلا الله، وهما مستثنى ومستثنى منه، فكأنك نفيت كل أنواع العبادة عما سوى الله، وأثبتَّ العبادة لله وحده.

ولمعرفة ذلك أكثر راجع كتابي "الإيماء في أحكام النفي والاستثناء".

https://elzianitaher.blogspot.com/2020/10/blog-post.html

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثالثة: الفرق بين توحيد الربوبية والألوهية:

يكمن في عدة حيثيات:

أ. من حيث الاشتقاق: فتوحيد الربوبية مشتق من الرب وهو السيد المتصرف ...، والألوهية من الإله وهو المعبود كما سبق.

ب. من حيث الإقرار بهما: فتوحيد الربوبية يقر به كل الخلائق كما سبق، وأما توحيد الألوهية فلا يقر به إلا المسلمون كما مر في قوله تعالى { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) }[البقرة]...

ت. من حيث العلاقة بينهما: فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية لأنه خارج عنه، وأما توحيد الألوهية فيتضمن توحيد الربوبية لأنه جزء منه كما في الآية السابقة وغيرها.

قال أبو حيان:" أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة ".

وقال أيضا:" { أغير } المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم ..".

ث. من حيث ما يتعلقان به: فتوحيد الربوبية يتعلق بالمعرفة بأمور الكون والخلق، كذلك هو توحيد الأسماء، وأما توحيد الألوهية فيتعلق بالأمور الشرعية والعملية.

. من حيثُ ما يقعان به: فتوحيد الربوبية يقعُ بالإقرار بأفعال الله، وأما توحيد الألوهية فيقع بأفعال العباد وتعبّداتهم. 

. من حيث النجاة في الدارين: فمن أقر بتوحيد الربوبية لا ينجو حتى يقر بتوحيد الألوهية، لأن إبليس نفسه يؤمن بوجود الرب وعظمته .. وكذلك سائر الخلق.

. من حيث النواقض: فناقض توحيد الألوهية هو صرف أي عبادة لغير الله، وأما الآخر فقد مضت نواقضه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:

المسألة الأولى: تعريف الأسماء والصفات، وبيان مدلولاتها:

هو الإيمان بما سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل، إيمانا معلوم المعنى مجهول الكيفية كما سيأتي.

وهذا النوع من التوحيد يُعرّف المسلمَ بذات ربه جل في علوه، حتى يزداد إيمانا به ومراقبة له وانقيادا لحكمه.

والصفة لغة: هي نعت الشيء، والاسم إما من أسمى يسمي تسمية وهي العلامة على الشيء، أو: من سامى يُسامي مساماةً وهي المحاذاة، أو: من سما يسمو سموا أي علوا ورفعة.

ذلك أن أسماء الله دالةٌ عليه، مُساميَةٌ له، تدل على رفعته وعلوه.

وأما توحيد الأسماء والصفات في الشرع فهو: الإيمان بما سمى الله به نفسَهُ، أو سماه به رسوله، أو وصفاه، إيمانا تضمنيا، معلوم المعنى من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تفويض ولا نقص"،

كما هو الشأن في الإيمان بالذات والنفس الإلهية، إذ أن الكلام في الذات كالكلام في الصفات..

وهذه الحدودُ السبعة المذكورة في التعريف هي أركان الإيمان بهذا التوحيد باتفاق السلف كما سنذكر، وإليك الآن طائفة من أقوالهم، وطائفة أخرى ستأتي بعد ذكر الأركان:

 

وخرج الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: "سألت مالكا، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات؛ فقالوا: أمرّوها كما جاءت ".

وخرج الهروي عن أشهب بن عبد العزيز قال: "سمعت مالكا يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله، وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولايسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان".

وقال عبد الرّحمن بن أبي حاتم: وحدثنا ابن عبد الأعلى قال: سمعتُ أبا عبد الله محمّد بن إدريس الشّافعيّ يقول ـ وقد سُئِلَ عن صفات الله، وما يؤمن به ـ ؛ فقال: « لله ـ تعالى ـ أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيّه أُمّته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحُجّة رَدّها؛ لأنّ القرآن نزل بها، وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحُجّة عليه؛ فهو كافر، أمّا قبل ثبوت الحُجّة عليه؛ فمعذور بالجهل؛ لأنّ علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرّويّة والفكر.

ولا يكفر بالجهل بها أحد إلَّا بعد انتهاء الخبر إليه بها. ونثبت هذه الصّفات وننفي عنها التّشبيه، كما نفى التّشبيه عن نفسه؛ فقال: {ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير}".

وذكر مثله: صاحبه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزنيّ، في رسالته.

وقال الإمام ابن قدامة في ذم التأويل (18) :" وقال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة: إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابه مع اجتناب التأويل والجحود وترك التمثيل والتكييف".

وكتاب التوحيد لابن خزيمة، كتاب عظيم في توحيد الأسماء والصفات على طريقة السلف، شاهد على عقيدة ابن خزيمة.

وهذا الإمام الدارمي صاحب كتاب النقض على المريس فيما افترى في التوحيد، قد أنكر جدا القول بالمجاز والاستعارة في توحيد الصفات، بل وكفر من قال بهما فقال في النقض (1/161) :" فمن ادعى أن صفة من صفات الله تعالى مخلوقة، أو مستعارة فقد كفر وفجر".

وقال الدارمي في نقضه على المريسي وابن الثلجي الجهمي:" بل هو عندنا -التشبيه- كفر، ونحن لكيفيتها –صفات الله-، وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفا منكم، غير أنا كما لا نشبهها، ولا نكيفها، لا نكفر بها، ولا نكذب، ولا نبطلها بتأويل الضلال، كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك".

وقال أبو سليمان الخطابي في الصفات: "فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته؛ إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف".

وقال الحافظ أبو القاسم التيمي:" وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات...وعلى هذا مضى السلف كلهم"

وقال المقدسي في أقاويل الثقات:" فإن الصفات كالذات فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ثابتة.."،

وقال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني في العقيدة المشهورة عنه:" طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الامة، فما اعتقدوهاعتقدناه، فمِمّا اعتقدوه أن الاحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه".

وقال الخطيب البغدادي في رسالة الصفات :" والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات, ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود, لا إثبات كيفية , فكذلك إثبات صفاته, إنما هو إثبات وجود, لا إثبات تحديد وتكييف ".

ومن ادعى بأن أهل السنة مشبهة مجسمة فهو جهمي كذاب، لا سلف له إلا المريسيالجهمي الضال، حيث قال الدارمي في نقضه على المريسي (1/218) :" عمد المعارض إلى هذه الصفات والآيات ... وتلطف بردها بالتأويل، كتلطف الجهمية، معتمدا فيها على تفاسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث دون من سواه، مستترا عند الجهال بالتشنيع بها على قوم يؤمنون بها ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا بمثال.

فزعم أن هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها ويشبهونها بذوات أنفسهم ... ".

قال الدارمي:" أما قولك: "إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ، فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفا منكم، غير أنا كما لا نشبهها، ولا نكيفها، لا نكفر بها ولا نكذب، ولا نبطلها بتأويل الضلال، كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك .."،

وكلام السلف وكتبُهم كثيرة في هذا الباب يستحيل تقصيه في كتاب صغير، وسيأتي بعض كلامهم أيضا في وجوب الإيمان بهذا النوع إيمانا معلوم المعنى من غير تفويض ولا تأويل ولا جحود كما تفعل الجهمية، ولا تمثيل ولا تكييف كالمشبهة.

 

 

 

 

 

الفرع الأول: مدلولات هذا التوحيد وأدلّته:

وهذا التوحيدُ يقرُّ به على كَمَاله أهل السنة بإجماعهم من دون سائر الفرق الذين هم بين مُعطِّلة جاحدين، أو مُؤوِّلة مُدلسين، أو مُشبِّهة مُكيِّفين، أو مُفوضة متجاهلين.

ومن الأدلة الكثيرة عليه:

1/ قوله تعالى منكرا على المخالفين :{هلْ تَعْلَمُ سَميا}، أي مساميا له في أساميه وأوصافه، فأثبت الإسم، ونفى التشبيه والمساماة لأسماء الله.

2/ كما قال تعالى في سورة الإخلاص والمسماة أيضا بسورة التوحيد أو التفريد :{..ولم يكن له كفؤا أحد}، أي لا يوجد عِدلٌ له ولا مثيل ولا مكافئ له لا في ذاته ولا في ربوبيته ولا في أسمائه ولا في صفاته.

الدليل 3/ وصف سورة الإخلاص بصفة الرحمن: وذلك لاحتوائها على أنواع التوحيد العملي وهو توحيد ألوهية الرب، والتوحيد العلمي، وهو توحيد الرب والأسماء والصفات، وبينت القاعدة في الإيمان به، فأثبتت وصفه بالألوهية والأحدية والصمدية، مع نفي المثيل والكفئ له.

كما خرج البخاري (7375) ومسلم (813) عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب {قل هو الله أحد}، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟»، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبه».

فابتدأت السورة بتوحيد الرب، ووصفه بالمعبود الأحد الصمد، مع نفي الولد والمثيل الكفء له.

وخرجه ابن منده في التوحيد وبوب عليه :" ذكر ما وصف الله عز وجل به نفسه ودل على وحدانيته عز وجل، وأنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد ".

ولذلك أخبر النبي عليه السلام بأنها تعدل ثلث القرآن، وعليها اعتمد أهل السنة في إثبات أنواع التوحيد وجِهاته كما قال ابن عطية في تفسيره للآية :{ أحد } معناه : فرد من جميع جهات الوحدانية ، ليست كمثله شيء ".

وقال  الشيخ ابن تيمية في تلبيس الجهمية 1/439 :" وعليها اعتمد الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام ..."،

وقال أيضا:" وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه الذي جاءت به الرسل عليهم السلام ونزلت به الكتب التوحيد العلمي القولي كالتوحيد الذي دلت عليه السورة التي هي صفة الرحمن، وهي تعدل ثلث القرآن، والتوحيد العملي الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك ".

الدليل 4/ خرج أبو طاهر السلفي والبيهقي في الصفات (2/39) عن أبي خلف عبد الله بن عيسى الخزاز عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن اليهود جاءت النبي صلى الله عليه وسلم منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، فقالوا: يا محمد، صِفْ لنا ربك الذي بعثك. فأنزل الله عز وجل: {قل هو الله أحد الله الصمد، لم يلد} فيخرج منه {ولم يولد} فيخرج من شيء، {ولم يكن له كفوا أحد}  ولا شبه، فقال: «هذه صفة ربي عز وجل وتقدس علوا كبيرا»

وحسنه ابن حجر في فتح الباري (13/356)، وفيه أبو خلف وفيه كلام، وله متابعات وشواهد تحسنه:

فرواه أبو صالح عن ابن عباس: «أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة (أخا لبيد) أتيا النبيء صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا؟ قال: إلى الله، قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة ".

ورواه موسى بن عبد الرحمن الثقفي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران فقالوا: صف لنا ربك أمِن زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟ فقال :« إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء » فنزلت: { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، قالوا: زدنا من الصفة، فقال :{الله الصمد} فقالوا: وما الصمد؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج ، فقالوا : زدنا فنزل : {لَمْ يَلِدْ } كما ولدت مريم : { وَلَمْ يُولَدْ } كما ولد عيسى: { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } يريد نظيراً من خلقه ".

ورواه ابن إسحاق عن محمد عن سعيد قال:" أتى رهط من اليهود نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقالوا: ...".

ورواه الطبري وابن خزيمة في التوحيد والترمذي 3364 .. عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : انسُب لنا ربك، فأنزل الله:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ) قال ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء".

وصحح الترمذي إرساله.

ورواه الطبري عن إسماعيل بن مجالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال المشركون: انسُب لنا ربك فنزلت"،

ورواه أبو داود عن قيس عنْ عاصم عن أبي وائل قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله عز وجلّ: {قلْ هُوَ اللهُ أحدٌ اللهُ الصمدُ لم يلد ولم يولدْ ولم يكن له كفؤًا أحد} «يا محمد، انسبني إلى هذا».

الدليل 5/ وفيه بيان أنّ تعدد الأسماء يدل على عظمة الرب الواحد المسمى بها:

كما قال جل ثناءه :{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) }[]

وفي هذه الآية نص على أن تعددَ الأسماء إنما هو لمسمى واحد وهو الله، لا كما ظن المشركون وأتباعهم من الجهمية من مقلدة صلاح الدين بن إبراهيم الذين يزعمون بأن ذلك يستلزم التعدد.

قال الطبري: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم، فإنما تدعون واحدا، وله الأسماء الحُسنى ، وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله على نبيّه عليه الصلاة والسلام هذه الآية احتجاجا لنبيّه عليهم.

6/ ثم قال: ذِكر الرواية بما ذكرنا: حدثنا القاسم: ثنا الحسين: ثني محمد بن كثير عن عبد الله بن واقد عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو: يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ ، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ).... الآية".

الدليل السابع: وفيه الدعوة إلى توحيد الله بأسمائه وحده، والنهي عن الإلحاد فيها: 

قال تعالى :{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) }[]

وقرئت أيضا: {يَلْحَدون}

قال الطبري:" وأصل "الإلحاد" في كلام العرب: العدول عن القصد، والجورُ عنه، والإعراض. ثم يستعمل في كل معوَجّ غير مستقيم "،

وخرج عبد الرحمن بن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول: وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به؟ فقال: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها

 وصح عن رسول الله القول بها فيما روى عنه العدول فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، وتثبت هذه الصفات وينفي عنها التشبيه فما نفى التشبيه عن نفسه فقال:{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ".

وقال محمد بن أبي زمنين في أصول السنة:" باب الإيمان بأسماء الرب: فأسماء ربنا وصفاته قائمة في التنزيل، محفوظة عن الرسول، وهي كلها غير مخلوقة، ولا مستحدثة، فتعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا".

 

وقال ابن منده في كتاب التوحيد:" ذكر معرفة أسماء الله عز وجل الحسنة التي تَسَمى بها وأظهرها لعباده للمعرفة والدعاء والذكر قال الله تعالى:" ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الآية، وقال: هل تعلم له سميا، قال ابن عباس :« معناه: هل تعلم أحدا يقال له: الله غيره » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« لله تسعة وتسعون اسما ، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة »اهـ.

وخرج الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: "سألت مالكا، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات؛ فقالوا: أمرّوها كما جاءت ".

وأخرج الهروي عن أشهب بن عبد العزيز قال: "سمعت مالكا يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله، وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولايسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان".

الدليل الثامن: وفيه الإنكار على الكفار المنكرين لتوحيد أسماء القهار:

فقال جل وعلا :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} []

الدليل التاسع وتوابعه: وفيه تعداد طائفة من أسامي الرب ودلالتها على صفاته:

قال تعالى :{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }[الحشر].

وقد تعددت الآيات المبينة لصفات الرب، ودلالة كل آية على الصفات:

فهو العليم بعلم كما قال تعالى :{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ }[النساء 166]

وقال :{ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }[هود14]

وقال تعالى :{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) }[الأعراف]

وقال :{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }[فاطر]

وهو القوي بكمال القوة كما قال :{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) }[البقرة]

وهو العزيز بكمال العزة كما قال :{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) }[]...

وهو الرحمان الرحيم بواسع الرحمة، كما في الحديث القدسي:" أن رحمتي تغلب غضبي".

الدليل العاشر: وفيه بيان عدد أسماء الله المعروفة في الوحيين:

فقد ورد أن لله تسع وتسعون اسما محصى في القرآن والسنة، فمن أحصاها دخل الجنة كما في الحديث. 

قال البخاري في الصحيح من كتاب التوحيد" باب: لله مائة اسم غير واحد : ثم خرج 6410/7392 عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لله تسعة وتسعون اسما، مائة إلا واحدا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر».

وخرجه الطبري في التفسير عن عراك بن مالك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ للهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلُّهُنَّ في القُرآنِ، مَنْ أحْصَاهنّ دَخَل الجَنَّة".

الدليل 11/ وفيه بيان أنه لله أسماء كثيرة أخرى غير موجودة في الوحْييْن: 

خرج ابن حبان في الصحيح 972 والبيهقي في الدعوات عن أبي سلمة عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أصاب أحدا هم قط ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرجا " قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ قال: «بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها».

وفي الباب غير ذلك.

ومِنَ الأدلةِ على اتفاق السلف على هذا النوع من التوحيد هو كثرة التصنيف فيه، فصنف فيه الإمام حماد بن سلمة والخطيب البغدادي وابن مندهوالدارقطني والذهبي كتاب :" الصفات"، والمصنفات في ذلك كثيرة ومعروفة عند أئمة السلف ككتب الاعتقاد والتوحيد والصفات والسنة...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفرع الثاني: أقسام الأسماء من حيث مصدرها واشتقاقها، وبيان دلالاتها:

تنقسم الأسماء إلى جامدة ومشتقة:

فأسماء الأشياء إما أن تكون جامدة أو مشتقة،

ثم هذه المشتقة قد لا تدل على المعنى الذي سًميت به أصلا، وربما كمالا، كما هو الحال غالبا في أسماء البشر، فإنها لا تدل على معانيهم أصلا، فرُبَّ شخصٍ اسمه أمين، وهو خوّان، وفيهم من يسمى "صِديق" وهو كذاب ... وهكذا.

وقد تدل على معانيهم لكن الناقصة، كاتصاف البشر بالسمع والعلم والحكمة....

بخلاف أسماء الله تعالى فإنها متضمنة لكمال معانيها، ولذلك يجب على كل مسلم أن يوحدَ الله في كل اسم من أسمائه أو صفاته، على المعنى التام الكامل المعروف في دلالة التضمن، فالله القوي بالقوةَ المطلقة التامة، وهو الحكيم بالحكمة البالغة، وهو الملك ملكا تاما، وهو العليم بالعلم الكامل التام، والرحيم بالرحمة الواسعة، والسميع بالسمع الواسع، والبصير بالرؤية الواسعة الغير المحدودة ولا المحجوبة بشيء، إذ لا يحجب سمعه ولا بصره سماء عن سماء، ولا سقْف عما تحته، ولا بحر عما في قعره... وهكذا.

وقد ورد في الحديث القدسي الصحيح المخرج في السنن من قوْل الله تعالى:" أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته".

وفي صحيح مسلم:" الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

وبهذا تعلم أنّ الأسماء تدل على الذات والصفات إما بدلالة المطابقة أو التضمن أو الاستلزام، وكل اسم منها يدل على صفةٍ لله تعالى بدلالة التضمن التي بينا.

بل إن كلّ اسم من أسماء الرب يدل على أسماء وصفات أخرى بدلالة الالتزام، فالخلاق يدل على صفة الخلق تضمنا، وبالالتزام على صفة القوة والعلم والقدرة والحياة ...، إذْ هي صفات يستلزمها اسم الخلاق.

ومِن هذا المنطلق فقد اتفق السلف على تكفير الجهمية القائلين بأن الاسم غير المسمى، وأن أسماء الله جامدة لا تتضمن معنى ولا صفة، أو أن أسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق.

وأما السلف فقد اتفقوا على أن الاسم للمُسمى يدلّ عليه، فأسماء الله له كما قال تعالى:{ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الحشر 24]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة غير واحد، من حفظها دخل الجنة".

كما صحح الكثير من أهل السنة أن نقول أن الاسم هو المسمى، فإن دعوت: يا الله يا رحمان .. فأنت لا تريد اللفظ، وإنما تريد ذات المسمى، وهو الله تعالى.

كما قال تعالى :{ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) }[الزمر].

وقوله :{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الحشر 24]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثانية: أركان الإيمان بتوحيد الأسماء، وبيان نواقضه:

من الأدلة القرآنية وكلام السلف والتعريف السابق، يتبين أن أركان الإيمان بهذا النوع سبعة يجمعها إثبات ونفي كما في كلمة التوحيد:

1/ الإثبات الحقيقي من غير تعطيل: والتعطيل هو جحود الأسماء كلها أو بعضها، أو تعطيل مضمونها من أوصاف، كقول الجهمية: سميع بلا سمع، حكيم بلا حكمة...

أو إنكارهم لتعدد أسماء الله، بدعوى استلزام تعدد الآلهة، وقد كفروا في ذلك، كما قال تعالى عن المشركين:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) } [الفرقان].

ولما كتب النبيُّ عليه السلام في صلح الحديبية بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: لا نعرفها، أكتب: بسمك اللهم ".

وقد أكثر السلف من ذم الجهمية المعطلة لأدلة الصفات ووصفوهم بالكفر، كما في كتب الرد على الجهمية، ونقض الدارمي على الجهمي، وكتب التوحيد كابن خزيمة ... وكتب السنة كالخلال والطبري وابن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد وابن شاهين ... وكتب الصفات كالدارقطني والخطيب.    

2/ الإثبات الحقيقي المعلوم المعنى، المجهول الكيفية، من غير تفويض المعنى ولا تكييف:

لأن معناها ظاهرٌ صريح معلوم في اللغة، لا يحتاج إلى تفسير ولا تأويل، وإنما نجهل من ذلك الكيفية والمثيل:

وأما التفويض فهو ادعاء الجهل بمعاني الصفات، وتفويض أمر معانيها إلى الله، فكأن الله عندهم يخاطبنا بالمجهول كما تزعم الجهمية. 

وأما السلف فإنهم يقولون بمعرفة المعنى الظاهر من اللفظ، لأن الله تكلم باللغة العربية المفهومة المعاني، وإنما نجهل كيفيات الصفات فقط، ولذلك لا يُسأل عن صفات الرب ب: كيف، ولا يُتَفَكَّر فيها، كما قال تعالى:{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه] وقوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}[الأنعام].

وفي خبر ابن عباس:" تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته".

فمن عطل أو أوَّل أو شبَّه أو كيَّف فقد انتقض توحيده.

ولذلك تواتر عن الإمام مالك قوله:" الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب"،

وفي لفظ:" الاستواء غير مجهول،...".

وروى ربيعة وسفيان بن عيينة :" الاستواء غير مجهول ...",

والقول في صفة للرب كالقول في ذاته وكل صفاته العلية التي لا يشبهها شيء.

وقال الإمام الحميدي عن أحاديث الصفات:" هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم على بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره".

وهذا نص على ترك تفسير الكيفية لا غير، وتفويض أمرها لصاحبها الجبار.

وخرج البيهقي في الصفات عن الهيثم بن خارجة ثنا الوليد بن مسلم قال: سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه؟ فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيفية".

وفي رواية قال الوليد: سألت الأوزاعي و....

وخرج أَبُو بَكْرٍ الْخَلال فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: سُئِلَ مَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ الأَحَادِيثِ، فَقَالا: أَمِرَّهَا عَلَى مَا جَاءَتْ".

وخرجه ابن أبي يعلى في إبطال التأويلات عن إسحاق بن أحمد الفارسي سمعت أبا زرعة يقول: هذه الأحاديث متواترة عن رسول الله، أمروها كما جاءت بلا كيف".

وخرج المروذي عن الإمام أحمد: أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ".

وروى أَحْمَدَ بْنِ نَصْر: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم :" إِن اللَّهَ يَضَعُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ "، وَحَدِيثِ " إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ "، وَحَدِيثِ " إِنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ وَيَضْحَكُ " فَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ كَمَا جَاءَتْ نقربها وَنُحَدِّثُ بِلا كَيْفَ ".

وقال أحمد بن نصر: سألت سفيان بن عيينة وأنا في منزله بعد العتمة فجعلت ألح عليه في المسألة وهو يأبى، فقلت: لا بد أن أسألك، إذا لم أسألك فمن أسأل؟ فقال: هات، فقلت: كيف حديث عبد الله، عن النبي: " إن الله يحمل السموات على إصبع والأرضين على إصبع "، وحديث: " إن قلب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن "، وحديث: " إن الله يعجب ويغضب ويضحك " وأشباه ذلك، فقال سفيان: هي كما جاءت نؤمن بها ونحدث بها كما جاءت بلا كيف ولا توقف".

وعن عباد بن العوام:" وإنما عرفنا الله بهذه الأحاديث ".

وذكر الدارقطني في الصفات، قال: نا محمد بن مخلد، قال: نا العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام، وذكر الباب الذي يروى في الرؤية والكرسي، وموضع القدمين، وضحك ربنا، وأين كان ربنا، ويضع الرب قدمه فيها، وأشباه هذا، فقال: هذه أحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيه، ولكن إذا قيل كيف وضع قدمه وكيف ضحك؟ قلنا: لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسرها "؟

فها أنت ترى إثبات السلف لهذه الصفات على ظاهرها المعروف في اللغة، وإنما أنكروا تفسير الكيفية فقط.

وقد ذكر الدارمي سبب كراهة السلف الأولين لتفسير آيات الصفات، لأنها معلومة المعنى، لكن الجهمية قد يحرفون معناها، فنهوْ عن ذلك، كما قال في نقضه على المريسيالجهمي (526) :" ويحك! إنما كره السلف الخوض فيه –في تفسير الصفات- مخافةَ أن يتأول أهل البدع والضلال وأغمار الجهال ما تأولتَ فيه أنتَ وإمامَك المريسي، فحين تأولتم فيه خلاف ما أراد الله، وعطلتم صفات الله، وجب على كل مسلم عنده بيان أن ينقض عليكم دعواكم فيه ...".

وقال الدارمي في نقضه على الجهمي :" وقد روينا روايات السمع والبصر والعين في صدر هذا الكتاب بأسانيدها وألفاظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول كما قال، ونعني بها كما عنى، والتكييف عنا مرفوع".

وذكر ابن خزيمة أن صفة علو الرب معلومة المعنى يقينا فقال في التوحيد:" فأعلمنا الجليل جل وعلا في هذه الآية أيضا أن فوق ملائكته وفوق ما في السموات وما في الأرض من دابة وأعلمنا أن ملائكته يخافون ربهم الذي فوقهم.

والمعطلة تزعم أن معبود هم تحت الملائكة والم تسمعوا قول خالقنا يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه أليس معلوما في اللغة السائر بين العرب التي خوطبنا بها وبلسانهم نزل الكتاب أن تدبير الأمر من السماء إلى الأرض إنما يدبره المدبر وهو في السماء لا في الأرض كذلك مفهوم عندهم أن المعارج المصاعد قال الله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه وإنما يعرج الشيء من اسفل إلى أعلى وفوق لا عن إلى دون واسفل فتفهموا لغة العرب لا تغالطوا".

وقال ابن خزيمة :" ألم تسمعوا قول خالقنا: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] ، أليس معلوما في اللغة السائرة بين العرب".

وقال الدارمي :" ونحن قد عرفنا بحمد الله تعالى من لغات العرب هذه المجازات التي اتخذتموها دلسة وأغلوطة على الجهال، تنفون بها عن الله حقائق الصفات بعلل المجازات، غير أنا نقول: لا يحكم للأغرب من كلام العرب على الأغلب، ولكن نصرف معانيها إلى الأغلب حتى تأتوا ببرهان أنه عنى بها الأغرب، وهذا هو المذهب الذي إلى العدل والإنصاف أقرب، لا أن تعترض صفات الله المعروفة المقبولة عند أهل البصر، فتصرف معانيها بعلة المجازات إلى ما هو أنكر، ونرد على الله بداحض الحجج وبالتي هو أعوج، وكذلك ظاهر القرآن وجميع ألفاظ الروايات تصرف معانيها إلى العموم، حتى يأتي متأول ببرهان بين أنه أريد بها الخصوص؛ لأن الله تعالى قال: {بلسان عربي مبين} فأثبته عند العلماء: أعمه وأشده استفاضة عند العرب، فمن أدخل منها الخاص على العام كان من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهو يريد أن يتبع فيها غير سبيل المؤمنين، فمراد جهم بقوله"لا يوصف الله بضمير" يقول: لا يوصف الله بسابق علم في نفسه، والله مكذبه بذلك ثم رسوله؛ إذ يقول: "سبق علم الله في خلقه، فهم صائرون إلى ذلك".

وَقَالَ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى سَمِعت أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي يَقُول وَقد سُئِلَ عَن صِفَات الله تَعَالَى وَمَا يُؤمن بِهِ فَقَالَ لله تَعَالَى أَسمَاء وصفات جَاءَ بهَا كِتَابه وَأخْبر بهَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسع أحدا من خلق الله تَعَالَى قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة ردهَا لِأَن الْقُرْآن نزل بهَا وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القَوْل بهَا فَإِن خَالف ذَلِك بعد ثُبُوت الْحجَّة عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِر بِاللَّه تَعَالَى فَأَما قبل ثُبُوت الْحجَّة عَلَيْهِ من جِهَة الْخَبَر فمعذور بِالْجَهْلِ لِأَن علم ذَلِك لَا يدْرك بِالْعقلِ وَلَا بِالرُّؤْيَةِ وَلَا بالفكر ".

ومما يدل على إثبات السلف للمعنى الحقيقي من غير تشبيه:

ما رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} قال: " وضع إبهامه على قريب من طرف أنملة خنصره فساخ الجبل "، قال حميد لثابت: تقول هذا فدفع ثابت يده فضرب بها صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس وأنا أكتمه وفي لفظ آخر، قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: من أنت يا حميد ".

وفي الحديث الصحيح عن عبيد الله بن مقسمعن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على المنبر يقول: "يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده - وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فجعل يقبضها ويبسطها- ثم يقول: أنا الجبار، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "، قال: ويتميل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

وروى سعيد الجريري، عن سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم، صلى الله عليه وسلم، فأقعد بين يدي الله، عز وجل، على كرسيه، قال: فقلت: يا أبا مسعود إذا كان على كرسيه أليس هو معه؟ قال: ويلكم هذا أقر حديث في الدنيا لعيني وفي لفظ آخر قالوا للجريري: إذا كان على الكرسي هو معه؟ قال: نعم، ويلكم هو معه، هو معه ".

فإن قيل:

نقل أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/45) عن الخلال عدة أقوال ثم قال:

" وقال في رواية حنبل في الأحاديث التي تروى: " إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا " والله يرى " وأنه يضع قدمه " وما أشبه بذلك، نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف [ولا معنى] ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، حق إذا كانت بأسانيد صحاح".

وذكرها موصولة من رواية الخلال عن المروذي عن علي بن عيسى عن حنبل عن أحمد. 

وهذه الزيادة بلفظ:" ولا معنى"، باطلة لم يقلها الإمام أحمد، تفرد بها إما: علي بن عيسى بن الوليد وهو رجل مجهول ليس له رواية في الحديث، إلا بعض النقول عن حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل،  بل هي مخالفة لما تواتر عنه من إثبات حقيقة الصفات.

وقد يكون رواها أبو يعلى على التوهم،

أ: فقد نقل هذه الروايةَ على الصواب الإمامان اللالكائي،وابن القيم بالسند، فقال في اجتماع الجيوش الإسلامية (132):

. قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله:" نؤمن بها ونصدق بها ولانرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به رسول الله حق إذا كانت أسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".

وقال اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 777 - قال حنبل بن إسحاق قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا» ، فقال أبو عبد الله: " نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئا منها إذا كانت أسانيد صحاح , ولا نرد على رسول الله قوله ونعلم أن ما جاء به الرسول حق , حتى قلت لأبي عبد الله: " ينزل الله إلى سماء الدنيا قال: قلت: نزوله بعلمه بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا , مالك ولهذا , أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد , إنما جاءت به الأثار وبما جاء به الكتاب قال الله عز وجل: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74] ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته , أحاط بكل شيء علما , لا يبلغ قدره واصف ولا ينأى عنه هرب هارب "

ب: وكذلك خرج ابن بطة في الإبانة (7/242) أخبرني أبو صالح–هو محمد بن أحمد-: حدثني أبو الحسن علي بن عيسى بن الوليد: ثنا أبو علي حنبل بن إسحاق قال: قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا؟ قال: «نعم» قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ قال: فقال لي: «اسكت عن هذا» وغضب غضبا شديدا، وقال: «ما لك ولهذا؟ أمض الحديث كما روي بلا كيف».

ج: ثم نقل ابن القيم والخلال عن الإمام أحمد تصريحه بأن الصفات غير معلومة، إلا بإخبار الله تعالى، ووصفه لنفسه وصدق:

فقال:" وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه قد أجمل الله الصفة فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسهقال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه بما وصف به نفسه ولا نتعدى ذلك".

فصرح بأنها غير معلومة  إلا بوصف الله تعالى لنفسه.

د: قال الخلال في كتاب السنة له (1/246) في معرض إثبات قعود محمد عليه السلام على العرش قرب ربه: قد حدثنا أبو بكر المروذي رحمه الله قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات , والرؤية , والإسراء , وقصة العرش , فصححها أبو عبد الله , وقال : قد تلقتها العلماء بالقبول , نسلم الأخبار كما جاءت , قال : فقلت له : إن رجلا اعترض في بعض هذه الأخبار كما جاءت فقال : يجفى , وقال : ما اعتراضه في هذا الموضع , يسلم الأخبار كما جاءت ؟".

ه: وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا المرُّوذي ، قال : سألت أبا عبد الله عن أخبار الصفات فقال :" نُمرها كما جاءت".

وهذا أصح وأشهر عن الإمام أحمد، إلا أن يحمل قوله :" ولا معنى"، على نفي المعنى المحدود.

3/ الإثبات الحقيقي التام المعنى، لما تضمنته أسامي الله من صفات ومعاني كاملة:

فأسماء الله تعالى كلها معروفة المعاني التامةِ الكاملةِ في اللغة، وكلها تدل على صفات الكمال في اللغة إما تضمنا أو استلزاما، ليس يوجد منها اسم جامد مجهول المعنى، بل هو العليم بالعلم التام، والسميع بالسمع الواسع والبصير بالبصر الواسع، والخبير بالخبرة التامة وهكذا، كما قال الدارمي وابن خزيمة وأئمة السلف واللغة.

كما ثبت في الحديث القدسي الصحيح « قال الله عز وجل : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي »، قال الإمام ابن منده في التوحيد : "وهذا الخبر يدل على أن جميع أفعال الله عز وجل مشتقة من أسمائه بخلاف المخلوق ، مثل الرازق والخالق والباعث والوهاب ونحوها تقدم أسماؤه على أفعاله، بمعنى أنه يخلق ويرزق ويبعث ويهب ويحيي ويميت، وأسماء المخلوق مشتقة من أفعالهم".

وقال اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/451):" سياق ما دل من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدره ".

وخرج عن إسحاق بن راهويه قال:" إن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة".

ومن خالف في هذا فهو جهمي، كما قال الدارمي في الرد على الجهمية (130) :" وَمَا لَنَا نَرَى أَنْ يَبْلُغَ غَدًا قَوْمٌ فِي تَعْطِيلِ صِفَاتِ اللَّهِ مَا بَلَغَ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ عَدْلُهُمْ فِي تَعْطِيلِهِا، حَتَّى أَنْكَرُوا سَابِقَ عِلْمِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا.

ثمَّ قَالُوا: مَا نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ عِلْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ بِزَعْمِهِمْ، وَاللَّهُ بِزَعْمِهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِهِ يَعْلَمُ، وَلَا هُوَ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَلَا يُبْصِرُ بِبَصَرٍ، إِنَّمَا سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعِلْمُهُ بِزَعْمِهِمْ شَيْءٌ وَاحِد ".

وقال الدارمي في النقض على الجهمي:" وأما ما ادعيتَ في تفسير قوله: {إن الله كان سميعا بصيرا} 1 أنه إنما عنى: عالما بالأصوات عالما بالألوان، لا يسمع، ولا يبصر ببصر، ثم قلتَ: ولم يجئ خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره: أنه يسمع بسمع، ويبصر بصر، ولكنكم قضيتم على الله بالمعنى الذي وجدتموه في أنفسكم.

فيقال لك أيها المريسي: أما دعواك علينا أنا قضينا عليه بالمعنى الذي وجدناه في أنفسنا فهذا لا يقضي به إلا من هو ضال مثلك. غير أن الله تبارك اسمه أخبر عن نفسه أنه، يسمع بسمع ويبصر ببصر، .."

ثم خرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها ..".

4/ الإثبات الحقيقي من غير تأويل ولا تفسير مخالف للظاهر: لأن معناها ظاهرٌ صريح معلوم في اللغة، لا يحتاج إلى تفسير ولا تأويل، وإنما نجهل من ذلك الكيفية والمثيل كما أسلفنا:

والتفسير المذموم عند السلف: إما تفسير الكيفية، أو هو كلّ تـفسير مخالف للظاهر المعروف في اللغة، كما مر عن الخطيب وغيره.

بل إن السلف أنكروا حتى أن تؤولَ صفةٌ ليُحمَلَ معناها على صفة أخرى:

قال الخطيب البغدادي في رسالة الصفات :" والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات, ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود, لا إثبات كيفية , فكذلك إثبات صفاته, إنما هو إثبات وجود, لا إثبات تحديد وتكييف ".

ثم قال منكرا تأويل الصفات وتفسيرها على خلاف ظاهرها:" فإذا قلنا: لله تعالى يد, وسمع , وبصر , فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه, ولا نقول: إن معنى اليد القدرة, ولا إن معنى السمع والبصر العلم , ولا نقول: إنها جوارح وأدوات الفعل، ولا نشبهها بالأيدي, والأسماع, والأبصار التي هي جوارح, وأدوات للفعل".

ولذلك أنكر كل السلف الطيب تفسير أدلة الصفات بِصرفها عن ظاهرها، وأوجبوا الإيمان بها كما هي، لأنها واضحة المعنى، لا تحتاج إلى تفسير، ولا تأويل ولا تعطيل، وأكثروا الذم والردود على المؤولة في كتبهم وتتبعوهم صفةً صفة:

فمن ذلك قول الدارمي في النقض على المريسيالجهمي المؤول لأحاديث نزول الرب:" ادعى المعارض أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره ورحمته، وهو على العرش بكل مكان، من غير زوال؛ لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول.

ثم قال:" فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار ويوقت من الليل شطره أو الأسحار؟ أفبأمره ورحمته يدعو العباد إلى الاستغفار؟ أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا:"هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأعفر له؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر اللذين يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله. هذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ وقد علمتم ذلك ولكن تكابرون.

وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؛ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر".

وقد علمتم -إن شاء الله- أن هذا التأويل أبطل باطل، لا يقبله إلا كل جاهل " اهـ.

ومن السلف من يسمي ذلك التأويلَ تحريفا، كما قال ابن خزيمة في التوحيد في صفة اليدين لله: (126) :" وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله { بل يداه مبسوطتان } أي نعمتاه وهذا تبديل لا تأويل.

قال:" والدليل على نقض دعواهم هذه أن نعم الله كثيرة لا يحصيها إلا الخالق البارئ ولله يدان لا أكثر منهما كما قال لإبليس عليه لعنة الله { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته كان مبدلا لكلام الله وقال الله عز وجل { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } أفلا يعقل أهل الإيمان أن الأرض جميعا لا تكون قبضة إحدى نعمتيه يوم القيامة ولا أن السموات مطويات بالنعمة الآخرى".  

والدليل على أن كل ذلك إلحاد وميل عن الحق والظاهر، قوله تعالى :{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف]

وقال ابن خزيمة في كتاب التوحيد :" وفي هاتين الآتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله ولا أن وجهه غيره كما زعمت المعطلة الجهمية لأن وجه الله لو كان الله لقرئ {ويبقى وجه ربك ـ ذىيالجلال والإكرام}.

وقال الدارمي في نقضه على المريسيالجهمي:" ثم أجمل المعارض ما ينكر الجهمية من صفات الله وذاته المسماة في كتابه وفي آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعد منها بعضا وثلاثين صفة نسقا واحدا، ويحكم عليها ويفسرها بما حكم المريسي وفسرها وتأولها حرفا حرفا، خلاف ما عنى الله، وخلاف ما تأولها الفقهاء الصالحون، لا يعتمد في أكثرها إلا على المريسي، فبدأ منها بالوجه، ثم بالسمع والبصر، والغضب، والرضا، والحب، والبغض، والفرح، والكره، والضحك، والعجب، والسخط، والإرادة، والمشيئة، والأصابع، والكف، والقدمين ...

ثم ذكر عدة صفات ثم قال:" عمد المعارض إلى هذه الصفات والآيات فنسقها ونظم بعضها إلى بعض، كما نظمها شيئا بعد شيء، ثم فرقها أبوابا في كتابه، وتلطف بردها بالتأويل، كتلطف الجهمية، معتمدا، فيها على تفاسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث دون من سواه، مستترا عند الجهال بالتشنيع بها على قوم يؤمنون بها ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا بمثال"، ثم رد كل تأويلاته الجهمية وقال (1/220):" غير أنا لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي: إن هذه الصفات كلها لله كشيء واحد، وليس السمع منه غير البصر، ولا الوجه منه غير اليد، ولا اليد منه غير النفس، وأن الرحمن ليس يعرف لنفسه، سمعا من بصر، وبصرا من سمع، ولا وجها من يدين، ولا يدين من وجه، وهو بزعمكم سمع وبصر ووجه وأعلى وأسفل ويد ونفس، وعلم ومشيئة وإرادة..".

5/ الإثبات الحقيقي بدون تشبيه ولا تمثيل:

وفي ذلك ردٌّ على المبتدعة الزاعمين بأن أهل السنة مُشبهة كما نقلنا عن الدارمي، وإنما التشبيه أن تقول علمُ الله كعلمي، وسمعه كسمعي ...، وهذا كفر، وإنما نثبت الصفة ولا نُمثِّلها كما قال تعالى :{ليْسَ كمِثْلهِ شيءٌ وهو السميع البصير}، [الشورى 11]، فأثبت السمع والبصر، ونفى التشبيه، وهكذا الصفات الأخرى.

كما قال تعالى :ٍِ{ هل تعلم سميا}، فأنكر الله تعالى المسامي له في أساميه وصفاته، وقال تعالى :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص]

والكلام في الذات كالكلام في الصفات، فكما أن ذاتَه لا تُدرك ولا تُشبَّهُ بالذوات، فكذلك صفاته سواء، لا تُشبه الصفات، كما مر ذكر ذلك عن الخطيب وغيره.

وإنما يحاول أهل البدع من الجهمية إلصاق تهمة التشبيه بالسلف، حتى ينفروا العوام من عقيدة الإسلام كما ذكر الدارمي في الرد على الجهمي.

وقد تعجب ابن خزيمة من صنيع الجهمية الذين يلصقون هذه التهمة بالسلف، حيث ذكر أن إثبات الصفات لا يستلزم التشبيهَ أصلا... كصفة الوجه لله مثلا...

قال ابن خزيمة في التوحيد 37 :" فهل يخطر ـ يا ذوى الحجا ببالِ عاقلٍ مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب ويعرف خطابها ويعلم التشبيهَ أن هذا الوجه شيبه بذاك الوجه وهل ها هنا ـ أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها ووصفناها، غير اتفاق اسم الوجه وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمى الله وجهه وجها، ولوكان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل أن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة والكلاب والسباع والحمير والحيات والعقارب وجوها، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب وغيرها مما ذكرت ".

قال:" ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه ولو قال له أكرم الناس عليه وجهك يشبه وجه الخنزير والقردة والدب والكلب والحمار والبغل ونحو هذا إلا غضب لأنه خرج من سوء الأدب في الفحش في المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا ولعله بعد يقذفه ويقذف أبويه ".

وقال في رده على الجهمية الذين يلمزون أهل السنة بالتشبيه :" ... نقول لله يدان مبسوطتان ينفق كيف يشاء، بهما خلق الله آدم، وبيده كتب التوراة لموسى، ويداه قديمتان لم تزالا باقيتيْن، وأيدي المخلوقين مخلوقة محدثة غير قديمة فانية غير باقية بالية تصير ميتة ثم رميما ثم ينشئه الله خلقا آخر { تبارك الله أحسن الخالقين } فاي تشبيه يلزم أصحابنا أيها العقلاء إذا أثبتوا للخالق ما أثبته الخالق لنفسه وأثبته له نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ".

ثم قال:" وقول هؤلاء المعطلة يوجب أن كل من يقرأ كتاب الله ويؤمن به اقرارا باللسان وتصديقا بالقلب فهو مشبه لأن الله ما وصف نفسه في محكم تنزيله بزعم هذه الفرقة.".

6/ تنزيه الله عن النقائص والعيوب: المتصلة والمنفصلة، إجمالا فيما أُجمل وهو الأصل، وتفصيلا فيما فُصل.

فمن النقائص والسلب المتصلة المفَصَّلَة: نفي الموت والعجز والنسيان والسٍّنة والنوم والظلم عن الله، فكلها ثفات سلب، نفاها الله عن نفسه في النصوص المعروفة.

ومن النقائص المنفصلة المنفية: الشريك والولد والوالد والصاحبة...

فهذه تُنفى، ويُثبَت ضدها من صفات الكمال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثالثة: أقسام توحيد الأسماء والصفات:

صحيح أن السلف الأولين كانوا يسوقون الصفات سياقا واحدا لإثباتها والرد على منكرها، لا يميزون بين صفات الأزل الذاتية وبين صفات الفعل، ومع ذلك فقد نُقل هذا التقسيم عن جماعات منهم:

قال الشهرستاني في الملل والنحل :" إعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام والجود، والإنعام، والعزة، والعظمة؛ ولا يفرقون بين صفات الذات، وصفات الفعل؛ بل يسوقون الكلام سوقا واحداً. وكذلك يثبتون صفات خبرية؛ مثل: اليدين، والوجه؛ ولا يؤولون ذلك؛ إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع، فنسميها: صفات خبرية. ولم كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون؛ سمى السلف: صفاتية، والمعتزلة: معطلة ".

القسم الأول: الصفات الذاتية، وأقسامها:

هي التي تكون مسمياتها أشياء من الذات لا تنفك عنها أبدا، فهي قديمة النوع أزلية، لا تتعلق بالمشيئة أبدا، لأنها لا تنفك عن ذات الله تعالى ولو طرفة عين أو أقل من ذلك أو أكثر، وسواء أكانت:

1- صفات ذاتية معنوية: وذلك كصفة العلم والقدرة والعظمة والجبروت والعزة والحياة والقيومية ...، إذ لا يحل أن يقال مثلا: إن شاء الله علم وقدر وحيي، وإن شاء لم يعلم ولم يقدر ولم يحيَ، لأنها لا تنفك عن الذات أبدا، كما قال الله تعالى : {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } وقال أيضا: { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام،... ».

قال البغوي في شرح السنة فيما ينعقد به الحلف واليمين (10/5) ومنها :" اليمينُ بِصِفات الذات، كقوله: وعظمة الله، وجلال الله، وعزة الله، وقدرة الله، وكبرياء الله، وعلم الله، وكلام الله، فهذا كله يمين ..". أي يصح القسم بها.

وقال إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد (15) عن الجهمية:" وينكرون أن لله علما مضافا إليه من صفات الذات ... فكفرت الجهمية وأنكرت أن يكون لخالقنا علما مضافا إليه من صفات الذات تعالى الله عما يقول الطاعنون في علم الله علوا كبيرا ".

2- الصفات الذاتية الخبرية: كصفة الوجه واليد والقدم والعين والبصر والسمع والأصابع ... فالله تعالى دوما سميع بصير ... وله يدان وعينان وأصابع ... لا تنفك عنه أبدا، بمعنى أنه لا يقال: إن شاء علم وقدر وأبصر وسمع، وإن شاء لم يعلم ولم يقدر ولم يُبصر، بل هو عليم قدير بصير أبدا، وهكذا، وإن لم يوجد شيء من مخلوقاته كما سيأتي في إبطال قول الدهرية القائلين بقدم العالم وتسلسله.

قال ابن خزيمة:" وفي هاتين الآتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله صفات الذات لا أن وجه الله هو الله ولا أن وجهه غيره كما زعمت المعطلة الجهمية لأن وجه الله لو كان الله لقرئ {ويبقى وجه ربك ـ ذىيالجلال والإكرام} ".

القسم الثاني: الصفات الفعلية:

هي أفعال الله تعالى القديمة النوعِ الحديثةِ الآحادِ، المتعلقة بالمشيئة، إن شاء فعلها وأحدثها، وإن شاء لم يفعلها "،

كصفة الخلق والرَّزْق والإحياء والإماتة والهداية والغضب والرضا والضحك والكَلام والاستواء والمجيء والرحمة والنزول ونحوها،

كما قال الدارمي في نقضه على الجهمي :" (تأويل المعارض للصفات الفعلية وأدلتها) ثم عارض المعارض أيضا أشياء من صفات الله تعالى التي هي مذكورة في كتاب الله، ونازع في الآيات التي ذكرت فيها ليغالط الناس في تفسيرها؛ فذكرمنها: الحب والبغض، والغضب، والرضى والفرح، والكره، والعجب، والسخط، والإرادة، والمشيئة ".

كما قال تعالى:{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وقوله {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وقوله {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقوله : {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}، وقال: {كلّ يوم هو في شأن} ...  

وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }[طه]، وقال أيضا: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) }[الأنبياء]، وقال:{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) [الشعراء]،

قال الإمام الثعلبي في تفسير آية (ثم استوى إلى السماء):" والاستواء من صفة الأفعال".

وقال أبو السعود في تفسيره الإرشاد { الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} :" ومحلُّ الموصولِ الجرُّ على أنَّه صفة أُخرى للحيِّ وصف بالصِّفةِ الفعلية بعد وصفهِ بالأبديَّةِ التي هي من الصَّفاتِ الذَّاتيةِ،

وهناك أسماء اختلف السلف فيها: هل هي ذاتية أم فعلية؟

قال أبو حيان في تفسيره :" تقدّمت صفة العزيز على الحكيم، لأنها من صفات الذات، والحكيم من صفات الأفعال

بينما قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم، منها (العليم) ومعناه تعميم جميع المعلومات. ومنها الْخَبِيرُ ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنها" الحكيم" ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف "،

وذكر الاحتمالين معا، الرازي في التفسير ووجههما.

وذكر القسميْن معا الجنيد فيما خرجه الإمام أبو نعيم في الحلية (10/281) وخرج عن البغدادي: "سُئل الجنيد بن محمد عن المحبة، أمن صفات الذات أم من صفات الأفعال؟ فقال: «إن محبة الله لها تأثير في محبوبه بين فالمحبة نفسها من صفات الذات ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه وأصفيائه، فأما تأثيرها فيمن أثرت فيه فإن ذلك من صفات الأفعال، فاعلم أرشدك الله للصواب».

ومن ذلك اختلافهم في صفة الاستواء، هل هي صفةٌ ذاتية، بمعنى أن الله لم يزل في العلو منذ الأزل، وإن لم يوجد خلق، ولما خلق العرش علا عليه وعلى المخلوقات.

ومنهم من يقول هي من صفات الفعل، إذ كان الله وحده بلا مكان، فلما خلق المكان والعرش استوى عليه وهو الأولى. 

وهؤلاء السلف كلهم قبل الشيخ ابن تيمية وابن القيم فلا داعي للتهويل والكذب ... بأن ابن تيمية هو من ابتدع هذه التقسيمات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الرابعة: معنى كون الصفات قديمة النوع حديثة الآحاد، وإبطال القول الكُفري بقدم العالم وتسلسل الحوادث:

حيث ادعى هؤلاء بقدم العالم وتسلسل حوادثه، وأنه ما من عالَم وخلْق، إلا وقد سبقه خلْق وهكذا

إلى الأزل، قياسا على المخلوقات.

قالوا: لأن الله من صفاته الذاتية السمع والبصر ... ولا يكون سمع إلا بوجود مسموعات، ولا بصر إلا بوجود مُبصَرات ... كما في الكائنات، تشبيها منهم لله بالمخلوقات.

وكذلك القول في الصفات الفعلية: كالخلق والرزق والإحياء ...،قالوا: فلا يكون خلاق إلا بوجود مخلوقات ...

واستعجَبوا أن يكون الله الأول الأحد وحده، لا أحد معه.

ثم قاسوا اسم الله :" الأولُ على اسم "الآخر"، ... فكما أنه الآخر بلا نهاية، فكذلك الجنة والنار التي بلا نهاية، قالوا: كذلك اسم الله الأول فهذا لا يعني أن لا يوجد معه شيء.

وقد رددتُ عليهم في بحث:" قصة بدإ الخلق أولا فأولا"، وذكرت الأدلة المتواترة والكثيرة في أول المخلوقات، وأنه كان وحده لا أول قبله، ولا أول معه، وأنه كان ولم يكن معه شيء، كما صح في الأحاديث ...

وأما قياسهم فهو قياس كفري في العقيدة، يستلزم بوجود جنس خلقٍ مع الله، إذ لا خلق عندهم إلا قبله خلق، بما يعني أن الله لم يخلق أول جنس العالَم، وهذا كفر، وأما قياسهم على الخلود في الجنة والنار، فإنهما تبع لإرادة الله لا غير، ولذلك قال:{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود].

وأما السلف فقد اتفقوا على أن الله تعالى دوما سميع بصير بسمع وبصر... وله يدان وعينان وأصابع ... لا تنفك عنه أبدا، بل هو عليم قدير سميع بصير أبدا، وإن لم يوجد شيء من مخلوقاته كما سيأتي من كلام السلف:

ومعنى كون الصفات الفعلية قديمة النوع: أي أنها صفات أزلية في ذات الله تعالى، وإن لم يفْعلها، فهو الأول الخلاق الذي ليس معه ولا قبله شيء، ومن صفاته الفعلية: الخلق والرزق والإحياء والإماتة... وإن لم يوجد في الأزل معه خلْق، كما سيأتي، بخلاف قول الدهرية المؤمنين بتسلسل الحوادث، القائلين بأن صفة الخالق لا توجد إلا بعد وجود الخلق، قياسا منهم لأفعال البشر على الله.  

ومعنى كونها حادثة الآحاد: أن الله تعالى لما ابتدأ خلق كوْنه من عدم، صار كل يوم في شأن، يميت هذا ويخلق هذا ويحيي هذا ويرزق هذا ويمنع هذا، كما قال تعالى {ويفعل الله ما يشاء}... وقال تعالى : {كل يوم هو في شأن}،

وكذلك صفة الكلام فهي قديمة النوع موجودة في ذات الله تعالى، إلا أن آحادها محدَث، ولا يقال كلامه مخلوق، فالله تعالى من صفاته الأزلية الكلام، لكنه يتكلم متى شاء وكيف شاء ومع من شاء، ويسكت إذا شاء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }[طه]، وقال أيضا: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) }[الأنبياء]، وقال:{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) [الشعراء]،

وقد قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة:" لم يزل الله عز وجل متكلماً إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشئ بعد شئ، كما قال تعالى { فلما أتاها نودي يا موسى } [ طه 11 ] فناداه حين أتاها لم يناده قبل ذلك ".

واتفق السلف على أن الله يتكلم ويسكت متى شاء كيف شاء.

واتفقوا على أن تعالى هو الأول والمبدئ الذي ليس قبله ولا معه شيء، كان وحده ولم يكن شيء غيره ولا معه، كما في صحيح البخاري (3191) من قوله عليه السلام :" «كان الله ولم يكن شيء غيره ..."، وهو مع ذلك لم يزل ولا يزال بجميع صفاته سميعا بصيرا حكيما، خلاقا قويا عليما، وإن لم يوجد شئ من مخلوقاته بعد، إذ لا يُقاس الله تعالى بعباده أبدا، فلا يقال: أنه لا يُسمى الصانع صانعا حتى يصنع وهكذا، تعالى الله عن قياس عباده عليه علوا كبيرا،

واتفق السلف على أنه تعالى :{ليس كمثله شيء }، ألا ترى أن الإنسان لا يُسمى مخترعا ولا صانعا ولا كذا ... حتى يخترع أو يصنع شيئا، وأما الله تعالى فهو الخالق الرازق المحيي المميت ... ولو قبل أن يُوجد شيئ من مخلوقاته .

وقد ضل في هذه المسألة فريقان:

أولاهما: الجهمية الذين يروْن بأن هذه الصفات مخلوقة وحديثة، تشبيها منهم لله تعالى بمخلوقاته، وبالتالي يزعمون بأن الله تعالى لم يكن متصفا بهذه الصفات حتى أوجد هذه الأفعال ثم حدثت فيه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

والثاني: الدهرية: حيث ردوا على الجهمية الكفرَ بالكفرِ، فزعموا بأن جنس العالم أيضا قديم النوع مثل صفات الله القديمة النوع، وقد بينا بعض أوجه الرد عليهم، وبقيته في مبحث مستقل أسميته:" قصة بدإ الخلق أولا فأولا "، وبينت هنالك تعارض أقوال الشيخ ابن تيمية في هذه المسألة وأنه رجع عن غلطه.

المسألة الخامسة: نقول الإجماع على إبطال وتكفير من قال بقدم العالم وتسلسله:

لأن ذلك تكذيب للقرآن والسنن التي فيها تعيين بدإ الخلق، وتكذيب للإجماع على بداية الخلق، على اختلاف بين السلف في أول الخلق كان.

كما هو تكذيب للعقل والحس القائل بلزوم تقدم ووجود الفاعل على فعله.

وأن كل ما كان من جنس المخلوق فلا بد أن يُسبق جنسه بالعدم. 

ولأن دعوى اقتران الفاعل بفعله وانه يلزم أن يكون مقارنا له دوما وأبدا، فهو مخالف لصريح المعقول، وذلك يلزم أن يكون جنس المخلوقات موجود مع الله منذ الأزل، وأن الله لم يخلقها إذا كانت معه في القدم، وأن ذلك يعني وجود إله أو مخلوق مع الله، وفي هذا تكذيب لاسم الله المبدئ الأول الذي ليس معه ولا قبله شيء، وقد كفر طائفة بهذا، وزعموا بقدم جنس العالَم، وأن كل عالَم قبله عالَم وهكذا، بدعوى أن الله خلاق، ولا يوصف بالخلاق إلا بعد وجود خلقه قياسا منهم على البشر، في هذا تكذيب لكلام الله وسنن رسول الله وإجماع أولياء الله: 

. قال الإمام أحمد في رده على الجهمية:" ولا نقول إنه تعالى كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام، ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعَلِم، ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول إنه قد كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول إنه قد كان لا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة "،

. وقال الآجري في الشريعة: باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله عز وجل وأن كلامه جل وعلا ليس بمخلوق، ثم قال:" لم يزل الله تعالى عالما متكلما سميعا بصيرا بصفاته قبل خلق الأشياء، من قال غير هذا فقد كفر"،

وذكر هذا الكلام الطحاوي في عقيدته وابن القيم في معرض رده على من قال بالتسلسل وقدم العالم.

قال الطحاوي في عقيدته (34):" ما زال - الله- بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا، لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري، له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ... ".

. وما أروع ما قاله ابن القيم في البدائع (1/162) :" أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى أفعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن أفعاله، فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل، [وأما] الرب لم يزل كاملا فحصلت أفعاله عن كماله، لأنه كامل بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كماله، كمل ففعل، والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به ".

. وما أحسن ما احتج به الإمام أبو نعيم إذ قال في الحلية (5/346):" فأخبر أنهم – المشركين- عاملون قبل أن يعملوا، وأخبر أنه معذبهم قبل أن يخلقوا،... ثم قال:" ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق، بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليما، وعلى كل شيء شهيدا، قبل أن يخلق شيئا، وبعدما خلق، لم ينقص علمه في بدئهم، ولم يزد بعد أعمالهم، ولا بحوائجه التي قطع بها دابر ظلمهم، ولا يملك إبليس هدى نفسه، ولا ضلالة غير".

. وقال الإمام ابن منده في أماليه:" قد ذكرَ الله عز وجل اسمه الرزاق في كتابه قبل أن خَلَق خلْقه، وَرَزَق عباده، فأسماء الله بخلاف اسماء المخلوق، وكذلك صفاته بخلاف صفاتهم، لأن أفعال الله عز وجل مشتقة من أسمائه، وأسماءُ عبيده مشتقة من أفعالهم، ومما يدل على ذلك ما: حدثناه ... عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته"،.قال: فبين أن أفعاله مشتقه من أسماءه ".

. وقال الإمام ابن بطة العبكري في الإبانة :" فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد وبالرسالة بأن الإيمان قول وعمل ونية ,... وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية , بصفاته التامة لم يزل عالما , ناطقا , سميعا , بصيرا , حيا , حليما , قد علم ما يكون قبل أن يكون ,...

وقال فيه [ص:215]:" وفي أقوال الصحابة، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين؛ لأن الله لم يزل عليما سميعا بصيرا متكلما، تاما بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كوْن الكوْن، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسنذكر من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه ...".

. وقال الإمام أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد المالكي في الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات :" ... أنه لم يزل مسمياً لنفسه بأسمائه، وواصفاً لها بصفاته، قبل إيجاد خلقه، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته التي منها: ...". ثم ذكر صفات الذات والفعل لله تعالى .

وقال الإمام محمد بن الحسين الآجري في كتاب الشريعة :" لم يزل الله عالما متكلما سميعا بصيرا بصفاته قبل خلق الأشياء، من قال غير هذا كفر، وسنذكر من السنن والآثار وقول العلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم ما إذا سمعها من له علم وعقل، زاده علما وفهما، وإذا سمعها من في قلبه زيغ، فإن أراد الله هدايته إلى طريق الحق رجع عن مذهبه، وإن لم يرجع فالبلاء عليه أعظم ".

وهو إجماع من جميع المسلمين، وحتى المشركين، إلا الدهريين والجهمية الملحدين.

المسألة السادسة: نقول الإجماع وكلام السلف وأئمة الفقه والحديث على الإقرار بتوحيد الأسماء والصفات وبيان أركانه ونواقضه عندهم:

ذلك أنهم يقرون بها إقرارا تاما ويؤمنون بها إيمانا معلوم المعنى مجهول الكيفية، من غير تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه كما مر.

الفرع الأول: كلام السلف الأولين:

لقد أكثر الإمام  ابن القيم من نقول السلف في إثباتهم توحيد الصفات لله تعالى، في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية". 

وفيما يلي أقوال طائفة أخرى من السلف، حول هذا النوع من التوحيد وأركانه، محاولا الترتيب الزمني قدر الإمكان في نقل أقوال السلف، : 

عبد الرحمان بن القاسم:

قال محمد بن أبي زمنين في أصول السنة: باب في الإيمان بصفات الله وأسمائه:...

قال: 25 - وقد حدثني إسحاق عن محمد بن عمر بن لبابة عن محمد بن أحمد العتبي عن عيسى بن دينار عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يُشبّه يديه بشيء، ولا وجهه بشيء، ولكن يقول: له يدان كما وصف نفسه في القرآن، وله وجه كما وصف نفسه، يقف عندما وصف به نفسه في الكتاب، فإنه تبارك وتعالى لا مِثْل له ولا شبيه، ولكن هو الله لا إله إلا هو كما وصف نفسه، ويداه مبسوطتان كما وصفها: والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه كما وصف نفسه".

قال: وكان مالك يعظم أن يحدث أحد بهذه الأحاديث التي فيها: أن الله خلق آدم على صورته وضعفها".

وسيأتي أن هذا الحديثَ ليس كما قالت المشبهة: أن الله خلق آدم على صورة الرحمان"، فإنه تشبيه محرم، وإنما خلق الله آدم على صورة آدم وليس على صورة الرب، ولذلك أنكر مالك هذا المعنى.

الإمام حماد بن سلمة:

وهو أول إمام صنّف كتابا في الصفات، من طبقة التابعين، ينقل عنه السلف كثيرا من هذا الكتاب، فيم طعن فيه أهل البدع لأجله.

الإمام شريك القاضي:

خرج ابن منده في أماليه عن سلم بن قادم ثنا موسى بن داود قال: قال لي عباد بن العوام: قدم علينا شريك بن عبد الله النخعي من نحو في خمسين سنة، فقلت: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوم ينكرون هذه الأحاديث عن الصفات؟ فحدثَني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، فقال:" نحن أخذنا ديننا عن التابعين عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهُم عن من أخذوا ".

الفرع الثاني: قول أئمة أهل الحديث في الإيمان بظاهرها مع ترك التأويل والتفسير:

1/ 1/ خرج الدارقطني في أخبار الصفات بإسناده عن يحيى بن معين قال: شهدتُ زكريا بن عدي سأل وكيعا، فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث يعني مثل: " الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا؟ فقال وكيع: أدركنا إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعرا يحدثون هذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئا "،

لأنهم يؤمنون بها على ظاهرها المعلوم من غير تفسير ولا شرح ولا تأويل ولا تمثيل.

2. وخرج الدارقطني في الصفات (ص 75) عن الوليد بن مسلم قال: «سألت مالكًا والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت».

قال ابن المقرئ في معجمه 555 - حدثنا أحمد ثنا أحمد بن مهدي ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ثنا الهيثم بن خارجة ثنا الوليد بن مسلم قال: " سألت سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي في الرؤية والصفات قال: أمروها على ما جاءت، ولا تفسروها "

قال الآجري في الشريعة: 720 - حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد قال: نا أبو حفص عمر بن مدرك القاص قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: نا الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي , والثوري , ومالك بن أنس , والليث بن سعد: عن الأحاديث التي فيها الصفات؟ فكلهم قال: «أمروها كما جاءت بلا تفسير».

. وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل".

3. قول الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، والدارمي:

خرجه عبد الله بن أحمد في السنة والدارمي، والدشتي في إثبات الحد لله، عن علي بن الحسن بن شقيق قال: سئل ابن المبارك: "بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه. قيل: بِحد؟ قال: بِحَد"، قال الإمام أحمد: هكذا هو عندنا ".

4. وقال حرب: قلت لإسحاق: العرش بحد؟ قال: نعم"، ذكره الدشتي في كتابه: إثبات الحد لله وأنه على عرشه قاعد ".

وقال عثمان الدارمي في الرد على المريسي:" حدثناه الحسن بن الصالح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك قال: الله تعالى له حَدّ لا يعلمه أحد غيره"،

قال: ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده في نفسه، ولكن يؤمن بالحد ويكل علم ذلك إلى الله أيضا، حد وهو على عرشه فوق سماواته، فهذان حدان اثنان ".

وقال في الرد على الجهمية :" والحجة لقول ابن المبارك رحمه الله قول الله تبارك وتعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر: 75] . فلماذا يحفون حول العرش إلا لأن الله عز وجل فوقه، ولو كان في كل مكان لحفوا بالأمكنة كلها، لا بالعرش دونها، ففي هذا بيان بين للحد، وأن الله فوق العرش ..".

5. وقال الترمذي في سننه عن أحاديث الصفات:" هكذا روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة".

6. وقال ابن أبي يعلى في إبطال التأويلات عن أخبار الصفات: وذكر إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي في كتاب العظمة بإسناده عن عبد الله بن المبارك، أنه سأله رجل عن هذه الأحاديث الصفات، فقال: تمر كما جاءت بلا كيف". وكلامه كثير في هذا الباب.

7/ روى الكلاباذي في بحر الفوائد (356) عن محمد بن الصباح حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه سأل الزهري عن بعض الأخبار المتشابهة؟ فقال: «من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أمروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت»

8/ ربيعة الرأي شيخ مالك:

8/ قول الإمام سفيان بن عيينة:

خرج ابن بطة في الإبانة عن يحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة قال: سئل ابن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله تعالى الرسالة، وعلى النبي البلاغ، وعلينا التصديق ".

وصح عن سفيان بن عيينة قال: كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن فسأله رجل فقال ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق".

قال العجلي في الثقات: حدثنا أبو مسلم حدثنا أبي عبد الله قال قيل لربيعة بن أبي عبد الرحمن الرحمن على العرش استوى كيف استوى قال الاستواء منه غير معقول وعلينا وعليك التسليم ".

رواه أحمد بن مهدي، ثنا موسى بن خاقان، ثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، قال: سئل ربيعة الرأي عن قول الله تبارك وتعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول، والاستواء غير معقول، ويجب علي وعليكم الإيمان بذلك كله ".

ورواه  أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، قال: سئل ربيعة عن قوله {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: «الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول , ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ , وعلينا التصديق»

ويروى في ذلك عن أم سلمة.

الفرع الثالث: كلام الأئمة الأربعة:

1/ كلام الإمام مالك الذي صار قوله قاعدة لأهل السنة:

وقد مر كلامه سابقا، وله كلام آخر صار قاعدة للسلف في كيفية الإيمان بالصفات، إيمانا معلوم المعنى، لا يحتاج إلى تفسير أو تكييف، تواتر ذلك عنه:

الأثر الأول عنه: في أن الصفات معلومة المعنى مجهولة الكيفية:

قال العراقي في تخريج الإحياء:

قال مالك بن أنس إمام المدينة رحمه الله تعالى لما سئل عن معنى الاستواء؟ في قوله تعالى :{ثم استوى على العرش} وفي قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} وقد جاء ذكره في ست آيات؟ فقال مالك:" الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".

قال: وهذا القول من مالك جاء بألفاظ مختلفة وأسانيد متنوعة، وقد أورده المصنف هكذا في آخر إلجام العوام، وأورده ابن اللبان في كتابه بلفظ: أنه سئل كيف استوى فقال: كيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".

قال ابن عبد البر :" والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه ".

وإليك طرق حديث مالك، وإن رغمت أنوف الجهمية:

الطريق 1: رواية جعفر بن عبد الله عن مالك: وَرَدتْ من وجْهيْن:

أ: قال أبو سعيد الدارمي في الرد على الجهمي 104 - حدثنا مهدي بن جعفر الرملي ثنا جعفر بن عبد الله وكان من أهل الحديث ثقة، [عن رجل قد سماه لي ] قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس ... فقال : « الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وإني لأخاف أن تكون ضالا . ثم أمر به فأخرج ».

قال أبو سعيد رحمه الله :" وصَدق مالك، لا يعقل منه كيف، ولا يجهل منه الاستواء".

. كذلك رواه عثمان بن سعيد بن السكن من رواية جعفر بن عبد الله [عن رجل قد سماه] عن مالك.

كذا زادا عن جعفر [عن رجل] وقد خالفوهما، فلم يذكروه، فإما أن يكون جعفر قد روى القصةَ عن رجل عن مالك، ثم أدرك شبيهة القصة فحدث بها، لأن الحديث ورد أن السائل عراقي، وفي آخر شامي، أو نرجح هذه الرواية التالية لكثرة رواتها، وهي:

ب: رواية الجماعة عن جعفر:

. خرج أبو نعيم في الحلية (6/325) حدثنا محمد بن علي بن مسلم العقيلي ثنا القاضي أبو أمية الغلابي ثنا سلمة بن شبيب ثنا مهدي بن جعفر ثنا جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟، فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج ".

له متابعات كثيرة: 

. قال العراقي: وقال اللالكائي في كتاب السنة أخبرنا علي بن الربيع المقرى مذاكرة حدثنا عبد الله بن أبي داود حدثنا سلمة بين شبيب حدثنا مهدي عن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال له: يا أبا عبد الله الرحمن {على العرش استوى} كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كوجدته من مقالته وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فقال فسري عنه فقال:" الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأخرج".

قال: وأخرجه كذلك أبو الشيخ وأبو نعيم أبو عثمان الصابوني ونصر المقدسي كلهم من رواية جعفر بن عبد الله".

. ورواه الصابوني عن أبي الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك..".

ورواه الخطيب في الغنية: وحدثنا أبو الحسن بن اسحق المدني حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس ...".

الطريق الثاني: رواية يحيى بن يحيى عن مالك:

خرجها البيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 305 قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه الأصفهاني أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ، ثنا أبو جعفر أحمد بن زيرك اليزدي، سمعت محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري، يقول: سمعت يحيى بن يحيى، يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج ".

هذا أثر رجاله ثقات غير ابن زيرك، فمبهم، وقد روى عنه أبو الشيخ وابن أبي عاصم وغيرهما،

فإما أن يكون والد الشيخ الثقة المسند: إسحاق بن أحمد بن زيرك اليزدي، وإسحاق هذا هو الذي يروي عنه أبو الشيخ.

والأظهر أنه: محمد بن أحمد بن أحمد بن زبرك الأزدي أبو جعفر الرازي:

فقد روى ابن المقري بهذا السند أثرا مقاربا عن مالك: فقال: نا محمد بن أحمد بن أحمد بن زبرك الأزدي، ثنا محمد بن عمرو بن النضر قال: سمعت يحيى بن يحيى يقول: " وسأل رجل مالكا فقال: " هل يصلح لهذا الحفظ شيء، فقال: إن كان يصلح له شيء، فترك المعاصي ".

ثم تأكدت أنه هو لما ذكره السخاوي من طريق أبي مُحَمَّدِ بْن حَيَّان ثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن زيرك سَمِعت ابْن خُزَيْمَة ...

إذًا فقد روى عنه أربعة أئمة: ابن أبي عاصم وأبو الشيخ وابن المقري وكذلك الخطابي في العزلة والغريب وأكثر عنه، وفي معالم السنن، وقد احتج بحديثه مصححا لحديثه الذي علله بعضهم في المعالم (1/ 208) أو (1/240).

ومثله يكون صدوقا، فقد أورد حديثه هذا الإمامُ الذهبيُّ في العلوّ وقال: وروى يحيى بن يحيى التميمي وجعفر بن عبدالله وطائفة، وذكره ثم قال:"هذا ثابت عن مالك"، وله طرق أخرى:

الطريق الثالث: رواية ابن وهب عنه:

. خرجها البيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 305 قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران ثنا أبي حدثنا أبو الربيع ابن أخي رشدين بن سعد قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل، فقال: يا أبا عبد الله، {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه. قال: فأخرج الرجل".

قال ابن حجر في "فتح الباري" 13/ 406: وأَخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب ..."، وصححه الذهبي في العلو كما سنذكر.

وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات: أحمد بن محمد وأبوه وثقهما أبو عبد الله الحاكم، وابن مهران هو الاسماعيلي الثقة الكبير المعروف، وكان من أحفظ الناس لأحاديث مالك، حتى قال إبراهيم بن أبي طالب:لم يجود لنا حديث مالك كالإسماعيلي".

وابنه ثقة، وثقه تلميذه الحاكم وصحح له كثيرا في المستدرك، فقال عن حديث له (4/284) حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران حدثني أبي .. عن مجمد بن أبي مسلم ... ثم قال:«هذا حديث غريب الإسناد والمتن ورواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أن محمد بن أبي مسلم مجهول والله أعلم» ويوافقه الذهبي،

بل قال الذهبي في العلوّ عن حديثه هذا عن مالك في الاستواء:"وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب..."وذكره.

وأبو الربيع ثقة فقيه مالكي من أصحاب مالك، وله متابعات أخرى: 

الطريق الرابع: رواية محمد بن النعمان بن عبد السلام التيمي:

قال أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدّثين من ترجمته مثنيا عليه: حدّثنا عبد الرحمن بن الفيض: ثنا هارون بن سليمان قال: سمعت محمد بن النعمان بن عبدالسلام يقول:" أتى رجل مالكَ بنَ أنس فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: فأطرق، وجعل يعرق، وجعلنا ننتظر ما يأمر به، فرفع رأسه، فقال:"الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، أَخرجوه من داري" ،

هذا إسناد أصبهاني صحيح عزيز عن مالك، ابن الفيض قال عنه تلميذه أبو الشيخ:" شيخ ثقة"، وهارون ثقة مثله، وثقه أبو نعيم وغيره،

ومحمد بن النعمان أثنى عليه أبو نعيم في الحلية وعده من الأولياء فقال:" محمد بن النعمان ومنهم محمد بن النعمان بن عبد السلام صحب وكيعا، وسفيان بن عيينة، وأبا بكر بن عياش، له الورع الثخين والعقل الرصين، كان زيد بن أخرم يسميه عابد أهل أصبهان، كان دأبه المجاهدة والمكابدة الدائمة حتى ضعف وخيف على عقله، ثم رجع إلى الميسور ترك خشونة المطعم والملبس"،

وقال:" من الطبقة السادسة من محدثي أهل إصبهان، محدث من أولاد المحدثين"،

وقال أبو الشيخ :" محدث بن محدث بن محدث أحد الورعين ، قليل الحديث "

ذكره الخطيب فقال:" حدث عن سفيان بن عيينة وأبي بكر بن عياش ووكيع وحفص بن غياث وكان أحد الورعين "، وقال الذهبي والصفدي: شيخ أصبهان"،

ولا زالت المتابعات:

الطريق 5: رواية سحنون عن بعض أصحاب مالك، وسحنون لا يروي المدونة إلا عن الثقات من أصحاب مالك.

قال القيرواني في النوادر والزيادات، وابن رشد في البيان والتحصيل (16/367): قال سحنون: أخبرني بعض أصحاب مالك أنَّه كان قاعداً عند مالك فأتاه رجل فقال:"يا أبا عبد الله مسألة؟، فسكت عنه ثم قال له: مسألة؟، فسكت عنه، ثم عاد فرفع إليه مالك رأسَه كالمجيب له، فقال السائل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف كان استواؤه؟ فطأطأ مالك رأسَه ساعة ثم رفعه، فقال:"سألتَ عن غير مجهول، وتكلّمتَ في غير معقول، ولا أراك إلاَّ امرأ سوء، أَخرِجوه"

قال ابن رشد:" وهذه الرواية تبين معنى قوله : سألت عن غير مجهول وتكلمت في غير معقول لأن التكييف هو الذي لا يعقل ، إذ لا يصح في صفات الباري عز وجل لما يوجبه من التشبيه بخلقه تعالى عن ذلك ، وأما الاستواء فهو معلوم غير مجهول كما قال لأن الله وصف به نفسه فقال في محكم كتابه {الرحمان على العرش إستوى له ما في السماوات وتما في الأرض وما بينهما وما تحت الترى} وقال : {ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا} فوجب الإيمان بذلك وأن يوصف بما وصف به نفسه من ذلك ويعتقد أنها صفة من صفات ذاته وهي العلو ، لأن معنى قوله تعالى على العرش استوى على العرش علا ، كما يقال استوى فلان على العرش علا عليه واستوت الشمس في كبد السماء علت .."،

الطريق السادس: الإمام المالكي الثقة عبد الله بن نافع الأصغر عنه:

ذكره أبو بكر البخاري في بحر الفوائد قال:" وقال عبد الله بن نافع: سئل مالك بن أنس عن قوله {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة،"

وقد صله ابن عبد البر بأصح الأسانيد المغاربية جلالة:

فقال ابن عبد البر: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي قال: حدّثنا سريج بن النعمان: حدّثنا عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس:" الله عز وجل في السماء وعلمه في كلِّ مكان، لا يخلو منه مكان"، قال: وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فقال مالك رحمه الله:" استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء" .

هذا حديث صحيح رجاله ثقات، ويكفي في صحته نقل ابن عبد البر هذا الحديث من كتاب عبد الله بن أحمد بن حنبل، فإنه يروي كتب المتقدمين بأسانيده المعروفة:

فقد ذكر أبو العباس الغِبْرِيني البربري البجاوي في "عنوان الدّراية فيمن عُرف من العلماء في المائة السَّابعة ببجايَة "، قال: حدثني بالكتاب المسمى ب"المسند الكبير" -وذكر إنه في مائة جزء وعشرة أجزاء - من تأليف الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي، الفقيهان المقرئان: الخطيب أبو عبد الله بن صالح بن أحمد الكناني وأبو العباس أحمد بن محمد الصدفي قالا: حدثنا الحسن بن السراج عن أبي محمد عبد الله بن عبيد الله عن ابن موهب عن أبي عمر ابن عبد البر النمري عن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن عن أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أحمد بن حنبل"، فهذا منه:

شيخ ابن عبد البر رجل صدوق صحيح السماع، وابن حمدان القطيعي راوي المسند وغيره من كتب أحمد بن حنبل، ثقة معروف، زعم ابن الصلاح أنه من الثقات المختلطين، وقد خطأه الحفاظ ودافعوا عن القطيعي، وللأثر متابعات أخرى:

الطريق السابع: رواية أيوب بن صالح الرملي عنه:

قال ابن عبد البر في التمهيد (7/151): قال بقي وحدثنا أيوب بن صالح المخزومي بالرملة قال:" كنا عند مالك إذ جاءه عراقيٌ فقال: يا أبا عبد الله مسألةٌ أريد أن أسألك عنها فطأطأ مالكٌ رأسه فقال: يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى؟ قال: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير مجهول، إنك امرؤ سوءٍ أخرجوه، فأخذوا بضبعيه فأخرجوه ".

الطريق الثامن:محمد بن شجاع عن مالك:

رواه الثعلبي في تفسيره عن الحسن بن علي بن محمد بن حمدان السِّجْزي الخطيب يقول سمعت القاضي أبا سهل محمد بن سعيد يقول: سمعت أبا بكر البخاري يقول: سمعت أبا عبد اللهمحمد بن شجاع البلخي يقول: سئل مالك بن أنس رحمه الله عن قول - عزَّ وجلَّ- : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول، والاستواء غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".

محمد بن شجاع فقيه مبتدع، وقد روى ما يخالف بدعته فيُستأنس به. 

الطريق التاسع: رواية ابن أبي اويس عنه:

رواها أبو بكر محمد بن إبراهيم ابن المقرئ في معجمه (1003) حدثنا القاضي عبد الله بن سيدة الأصبهاني ثنا الليث بن عبد الله البالسي قال: سمعت زكريا بن محمد بن مروان يقول: كنت عند إسماعيل بن أبي أويس فسأله رجل من الحاج عن مسألة الشاميين، مع أبي عبد الله مالك بن أنس فقال ابن أبي أويس: " نعم، كنت ذات يوم عند أبي عبد الله مالك بلفظ :" «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".

الطريق العاشر:

قال العراقي: . ورواه ابن ماجه عن علي بن سعيد عن بشار الخفاف أو غيره عن مالك.

قال ابن ماجه في التفسير: حدّثنا علي بن سعيد قال: حدّثنا بشّار الخفّاف أو غيره قال:"كنت عند مالك بن أنس فأتاه رجل فقال: يا أبا عبدالله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟، وذكره، هكذا في تهذيب الكمال .

وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره:"وقد رووا عن جعفر بن عبد الله وبشر الخفّاف قالا: كنّا عند مالك بن أنس فأتاه رجل فسأله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟ فأطرق مالك مليًّا، وعلاه الرحضاء، ثم قال:"الكيف غير معقول، الاستواء مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنّك إلاّ ضالاًّ، ثم أمر به فأخرج" ، فذكره من غير شك في رواية بشار الخفاف، والخفاف فيه كلام.

الطريق 11/ سفيان بن عيينة:

قال القاضي عياض: قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكا، فقال: {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى؟ فسكت مالك حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالا، أخرجوه، فناداه الرجل: يا أبا عبد الله، والله لقد سألت عنها أهل البصرة والكوفة والعراق، فلم أجد أحدا وفق لما وفقت له "

·     وقد ورد مثله عن ربيعة شيخ مالك كما مر: 

الأثر الثاني عن مالك:

1.خرجه الدارقطني في الصفات (ص 75) وغيره عن الوليد بن مسلم قال: «سألت مالكًا والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات؟ فقالوا: أمروها كما جاءت»...

وقد مرّ بطرقه.

الأثر الثالث:

قال ابن عبد البر في التمهيد (7/ 149). (4) (2/ 42): «سُئل مالك أيُرى الله يوم القيامة؟ فقال: نعم، يقول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]. وقال لقوم آخرين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]».

الأثر الرابع: روى يونس بن عبد الأعلى حدثنا أشهب بن عبد العزيز قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع، فقيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ".

الخامس:قال عبد الله بن نافع: قال مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، رواه أحمد بن حنبل، عن سريج بن النعمان، عن ابن نافع.

2/ الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن: 

قال أبو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالى كما في كتاب الفقه الأكبر (159):" لَا يُوصف الله تَعَالَى بِصِفَات المخلوقين، وغضبه وَرضَاهُ صفتان من صِفَاته بِلَا كَيفَ، وَهُوَ قَول اهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَهُوَ يغْضب ويرضى، وَلَا يُقَال غَضَبه عُقُوبَته، وَرضَاهُ ثَوَابه، وَنصفه كَمَا وصف نَفسه أحد صَمد لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد حَيّ قيوم قَادر سميع بَصِير عَالم، يَد الله فَوق أَيْديهم لَيست كأيدي خلقه وَلَيْسَت جارحة ".

وقال: «وله يد ووجه ونفس، كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال».

وقال: «لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه ولا يقول فيه برأيه شيئًا تبارك الله وتعالى رب العالمين».

وقال في النزول: «ينزل بلا كيف»

وقال في الفقه الأبسط ص56: «وصفاته بخلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا، ويتكلم لا ككلامنا»

وخرج اللالكائي في اعتقاد أهل السنة عن محمد بن الحسن يقول: " اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه , فمن فسر اليوم شيئا من ذلك , فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة , فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا , ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا , فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء ".

3/ قول الإمام الشافعي:

قال الشافعي في كتابه الرسالة: «والحمد لله ... الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه».

وأورد الذهبي في السير عن الشافعي أنه قال: «نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن ووردت بها السنة وننفي التشبيه عنه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}".

وأورد ابن القيم في اجتماع الجيوش عن الشافعي أنه قال: «القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء» .

وفي جزء الاعتقاد المنسوب للشافعي من رواية الشيخ الصدوق أبي طالب العشاري ما نصّه قال الشافعي: وقد سُئل عن صفات الله عز وجل وما ينبغي أن يؤمن به، فقال: «لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمته لا يسع أحدًا من خلق الله عز وجل قامت لديه الحجة إن القرآن نزل به وصحيح عنده قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما روى عنه العدل خلافه، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله عز وجل، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالدراية والفكر .... إلى قوله:" ولكن نثبت هذه الصفات وننفي التشبيه كما نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ".

وأورد الذهبي في الأربعين في الصفات: قال الإمام الشافعي فيما رواه عنه يونس بن عبد الأعلى، وقد سئل عن صفات الله فقال: لله أسماء وصفات لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر".

4/ قول الإمام أحمد بن حنبل:

حيث نقل عنه ابنه عبد الله في كتابه السنة الكثير والكثير من كلامه في ذلك، وكذلك نقل عنه تلاميذه نفس الأمر.

فمن ذلك ما قاله الإمام الخلال في السنة : 283- وقد حدثنا أبو بكر المروذي رحمه الله قال : سألت أبا عبد الله – الإمام أحمد - عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات , والرؤية, والإسراء, وقصة العرش , فصححها أبو عبد الله, وقال:" قد تلقتها العلماء بالقبول, نسلم الأخبار كما جاءت, قال: فقلت له: إن رجلا اعترض في بعض هذه الأخبار كما جاءت فقال : يُجْفى, وقال: ما اعتراضه في هذا الموضع , يسلم الأخبار كما جاءت ؟".

وأورده ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 65) عن أبي بكر المروزي قال: «سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش فصححها وقال: تلقتها الأمة بالقبول وتمر الأخبار كما جاءت».

وأورده الآجري في الشريعة 726 - حدثنا أبو نصر محمد بن كردي قال: نا أبو بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الأحاديث التي يردها الجهمية في الصفات والإسراء والرؤية وقصة العرش؟ فصححها وقال: «قد تلقتها العلماء بالقبول , تسلم الأخبار كما جاءت»

قال أبو بكر المروزي: وأرسل أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة إلى أبي عبد الله يستأذنانه أن يحدثا بهذه الأحاديث التي تردها الجهمية؟ فقال أبو عبد الله: حدثوا بها, قد تلقتها العلماء بالقبول ".

وأورد ابن الجوزي في مناقب أحمد (ص221) كتاب أحمد بن حنبل لمسدد وفيه: «صفوا الله بما وصف به نفسه، وانفوا عن الله ما نفاه عن نفسه ... »

قال الإمام الخلال في السنة: 1858- أخبرني عبيد الله بن حنبل: حدثني أبي حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: قال الله عز وجل في كتابه : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ..}، فجبريل سمعه من الله، وسمعه النبي من جبريل عليهما السلام، وسمعه أصحاب النبي من النبي عليه السلام، والقرآن كلام الله غير مخلوق، ولا نشك ولا نرتاب فيه، وأسماء الله في القرآن، وصفاته في القرآن، من عِلْم الله وصفاته منه، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، والقرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فقد كنا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا وقالوا ما قالوا دعوا الناس إلى ما دعوهم إليه فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم".

ثم قال أبو عبد الله :" لم يزل الله عالما متكلما نعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف بها نفسه، سميع عليم غفور رحيم عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات الله تبارك وتعالى وصف بها نفسه ولا تدفع ولا ترد وهو على العرش ".

قال الخلال: قال أبو بكر المروذي : وزاد أبو عبد الله أحمد - فيه ونقص ثم أمرني أن أوجه به إليه وهذه نسخته :" .... وفيها :" ... فبين الله لنا بهم وبما بين في كتابه أنه متكلم عالم سميع بصير . كل هذه صفاته وقد بين ذلك أيضا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذ أخبر أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم في القيامة ويكلمونه ويسابلهم ويضحك إليهم وأنهم يعاينون ذلك منه وينظرون إليه ويسمعون منه ".

قال الخلال: 1910- أخبرنا أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي قال : أمرني أبو عبد الله أن أكتب إلى محمد بن حمدون الأنطاكي مواعظ في بعض الكتاب . وكتبت الكتاب فعرضته عليه فصححه بيده قال : ....

وفيه: ... ولو كان هذا الأمر الذي جاءت به الجهمية أمرا يرتاب في أو شك فيه لما سمع أهل العلم التكذيب به ولا إخراج أهله من الحق ولا إثبات ما جحدوه من صفات الله عز وجل وأسمائه وانتحالهم خلق القرآن ...".

قال حنبل: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: نعبد اللَّه بصفاته، كما وصف به نفسه؛ قد أجمل الصفة لنفسه؛ ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه تعالى ذِكْره صفةً من صفاته، لشناعة شُنعت، ولا نزيل ما وصف به نفسه من كلام، ونزول، وخلوه بعبد يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن اللَّه يُرى في الآخرة ..."،

الفرع الرابع: بقية كلام أهل الحديث:

في هذا الوقت انتشر تصنيف الأئمة لأحاديث الاعتقاد والصفات حتى عدت بالمئات.

الإمام أبو جعفر الترمذي الشافعي: روى أحمد بن عثمان بن شاهين والد أبي حفص: حضرت عند أبي جعفر الترمذي، فسئل عن حديث " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علو؟ فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".

الإمام محمد بن أسلم الطوسي:

قال الإمام أبو نعيم في الحلية (9/238) :" وأما كلامه في النقض على المخالفين من الجهمية والمرجئة فشائع ذائع، وقد كان رحمه الله من المثبتة لصفات الله، أنها أزلية غير محدثة في كتابه المترجم بالرد على الجهمية، ذكرت منه فصلا وجيزا من فصوله وهو ما حدثناه محمد بن جعفر المؤدب ثنا أحمد بن بطة بن إسحاق ثنا إسماعيل بن أحمد المديني ثنا أبو عبد الله بن موسى بمكة وهو عن محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم وصاحبه قال: سمعت محمد بن أسلم يقول: " زعمت الجهمية أن القرآن مخلوق، وقد أشركوا في ذلك وهم لا يعلمون ...".

الإمام الحميدي:

قال أبو بكر الحميدي في «مسنده» : «أصول السنة ..» فذكر أشياء منها، ثم قال: " وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} {والسماوات مطويات بيمينه}، وما أشبهه لا يزيد فيه ولا يفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.". نقله الذهبي في الصفات.

قول إمام اللغة والحديث أبو عبيد:

خرج الدارقطني في الصفات (ر57) حدثنا محمد بن مخلد ثنا العباس بن محمد الدوري قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام، وذكر الباب الذي يروى في الرؤية والكرسي وموضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك عز وجل قدمه فيها فتقول: قط قط، وأشباه هذه الأحاديث؟

فقال: هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم على بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره".

وهذا نص على ترك تفسير الكيفية لا غير.

قول الإمام ابن أبي طالب:

قال:" ونُسلِّم الحديث وغيره مما يخالف فيه الجهمية من الرؤية والصفات, وقُرب محمد صلى الله عليه وسلم منه ". يقصد على العرش يوم القيامة. 

قول الإمام الحافظ يعقوب الدورقي:

قال الخلال: 2176- أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت أبا يوسف يعقوب الدورقي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر ، ومن قال لفظه بالقرآن مخلوق ، فهو جهمي، ومن قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع محدث يهجر ولا يكلم ولا يجالس لأن القرآن من صفات الله وأسماءه، والقرآن كلام الله كيف تصرف غير مخلوق ، ومن حكى عني أني رجعت عن تبديع من قال هذا فهو كذاب ".

الإمام إسحاق بن راهويه :

قال حرب: أملى إسحاق: إن اللَّه تبارك وتعالى وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه، من ذلك قوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210] .... ".

وخرج اللالكائي عن أحمد بن سلمة قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن راهويه يقول: «من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم , لأنه وصف بصفاته أنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول».

ثم خرج عن إسحاق :" علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ...".

قول الإمام البخاري: قال في الصحيح:

" باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته "، وقال أيضا :" باب قول الله تعالى: {وهو العزيز الحكيم} [إبراهيم: 4]، {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180]، {ولله العزة ولرسوله} [المنافقون: 8]، ومن حلف بعزة الله وصفاته ".

وقال أيضا:" باب {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} [الأنعام: 19]، «فسمى الله تعالى نفسه شيئا، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئا، وهو صفة من صفات الله»، وقال: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]".

وقال:" باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق « وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه، وهو الخالق المكون، غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مُكوَّن».

وصحيح مسلم غير مبوب، لكن صنيعه مثل صنيع السلف جمع أحاديث الصفات في كتاب العقيدة والتوحيد.

وقال أيضا:" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شخص أغير من الله» وقال عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك: «لا شخص أغير من الله».

الإمام ابن ماجه: صنيعه كذلك في السنن:

قال فيه:" باب فيما أنكرت الجهمية ... ثم ذكر أحاديث الرؤية والصفات.

الإمام الترمذي صاحب السنن:

خرج (662) حديث " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها .."، ثم قال:" وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات: ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها، ولا يُتَوَهّم، ولا يُقال: كيف، هكذا روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف"، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة "، وقال إسحاق بن إبراهيم: " إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد، وسمع، وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ".

الإمام النسائي: صاحب كتاب السنن:

قال فيه:" باب السؤال بأسماء الله عز وجل وصفاته والاستعاذة بها ".

الإمام الحافظ عثمان الدارمي: صاحب كتاب الرد على الجهمية، والنقض على المريسي الجبار، وكـتـُبه شاهدة عليه، قال في أول نقضه:

" فَحَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْحِرْمَانِ، وَفَضْحِه فِي الْكُوَرِ وَالْبُلْدَانِ، أَنْ يَكُونَ إِمَامَهُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ، الْمُلْحِدُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْمُفْتَرِي الْمُعَطل لصفات ربه، الجهميُّ ".

 وقال عن سبب تأليفه الكتاب ردا على المريسي الضال: " فمن أجل ذلك كرهنا الخوض فيه، وإذاعة نقائصه، حتى أذاعها المعارض فيكم، وبثها بين أظهركم، فخشينا ألا يسعنا إلا الإنكار على من بثها، ودعا الناس إليها، منافحةً عن الله، وتثبيتا لصفاته العلى، ولأسمائه الحسنى "،

وفيه :" باب الإيمان بأسماء الله وأنها غير مخلوقة: ... لأن أسماء الله هي تحقيق صفاته ...".

وقال :" لا تقاس أسماء الله بأسماء الخلق؛ لأن أسماء الخلق مخلوقة مستعارة، وليست أسماءهم نفس صفاتهم بل هي مخالفة لصفاتهم، وأسماء الله صفاته، ليس شيء مخالفا لصفاته، ولا شيء من صفاته مخالفا للأسماء، فمن ادعى أن صفة من صفات الله تعالى مخلوقة، أو مستعارة فقد كفر وفجر ".

ومن زعم أن السلف يُشبهون فقد كذب:

قال الدارمي:" أما قولك: "إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق، خطأ، فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفا منكم، غير أنا كما لا نشبهها، ولا نكيفها، لا نكفر بها، ولا نكذب، ولا نبطلها بتأويل الضلال، كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك، سنبينها لمن غفل عنها ..".

الإمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني:

ألف كتاب " الصفات"، و " الرؤية"، وجمع فيهما أحاديث الصفات ورؤية الله تعالى.

وخرج فيه (ص 75) عن الوليد بن مسلم قال: «سألت مالكًا والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات فقالوا أمروها فجاءت».

إمام الأئمة ابن خزيمة: ألف كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل:

ومما فيه:" باب ذكر إثبات العلم لله جل وعلا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه ... ضد قول الجهمية المعطلة الذين لا يؤمنون بكتاب الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، تشبها باليهود، ينكرون أن لله علما، يزعمون أنهم يقولون أن الله هو العالم، وينكرون أن لله علما مضافا إليه من صفات الذات ".

وقال فيه:" باب ذكر إثبات وجه الله الذي وصفه بالجلال والإكرام في قوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] ، ... مما هو من صفات ذاته "،

وقال فيه:" فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن، والعراق والشام ومصر، مذهبنا: أنا نُثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نُشبهَ وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز أن يكون عدما كما قاله المبطلون، لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عما يقول الجهميون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه ". ثم ذكر آيات وأحاديث الصفات.

وقال: باب ذكر إثبات الرِّجْل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله , وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ".

الإمام ابن منده:

ألف كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد".

قال فيه:" ومن أسماء الله عز وجل: الأول والآخر والظاهر والباطن فهي معرفة ذاته ... معنى الباطن: المحتجب عن ذوي الألباب كنه ذاته وكيفية صفاته عز وجل ".

وقال:" ومعنى القيوم القائم الدائم في ديمومية أفعاله وصفاته ".

قال: " ومن أسماء الله عز وجل: المضافة إلى صفاته وأفعاله قوله عز وجل: {ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] ..".

وقال في كتاب الإيمان: " فالخالق بصفاته الكاملة، خالق غير مخلوق، ولا شيء منه مخلوق،  والعباد بصفاتهم وأفعالهم وكل شيء منهم مخلوقون".

وقال في أماليه:" قد ذكر الله عز وجل اسمه الرزاق في كتابه قبل أن خلق خلقه، ورزق عباده، فأسماء الله بخلاف اسماء المخلوق، وكذلك صفاته بخلاف صفاتهم، لأن أفعال الله عز وجل مشتقة من أسمائه، وأسماءُ عبيده مشتقة من أفعالهم، ومما يدل على ذلك ما: حدثناه ... عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته"،.قال: فبين أن أفعاله مشتقه من أسماءه ".

وقال فيه:" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة فقال: يقع في كف الرحمن، وإنه ليس بأعور، وإنه صمد، وإنه ينزل لفصل القضاء، وإنه استوى على عرشه وإنه يغضب ويرضى ويحب ويبغض في سائر ما ذكر في صفاته، وكانت هذه الصفات مفهومة عند العرب، رواه الخلف العدول عن السلف المختار للبلاغ والإبلاغ عن ( نيتهم) من الصحابة والتابعين لا يطعن فيها إلا ملحد، ورَوَوْا مع هذه الصفات فهم النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في كيفيتها فقال صلى الله عليه وسلم:" لا تفكروا في ذات الله فإنكم لا تقدرون قدره"، وأعلمهم أنه لا يستدرك كيفية هذه الصفات بتمثيل ولا تشبيه ولا تأويل، فعلموا حينئذ أن السؤال عن كيفيتها مستحيل وإنها لا يستدرك ذلك بوجه من الوجوه ون الإيمان بها واجب فنقلوها مع النهي عن التفكر فيها إلى أن ظهرت أئمة الضلالة ".     

الإمام ابن بطة العبكري صاحب كتاب الإبانة:

قال فيه :" فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد وبالرسالة بأن الإيمان قول وعمل ونية , وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق , ومجمعون على أن ما شاء الله كان, وما لم يشأ لا يكون, وعلى أن الله خالق الخير والشر ومقدرهما, وعلى أن الله يرى يوم القيامة, وعلى أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان ببقاء الله, وأن الله على عرشه بائن من خلقه, وعلمه محيط بالأشياء, وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية, بصفاته التامة لم يزل عالما, ناطقا, سميعا, بصيرا, حيا, حليما, قد علم ما يكون قبل أن يكون ,...

وقال فيه [ص:215]:" وفي أقوال الصحابة، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين؛ لأن الله لم يزل عليما سميعا بصيرا متكلما، تاما بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كون الكون، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وسنذكر من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه ...".

الإمام أبو نعيم الاصبهاني الحافظ:

قال في مقدمة كتابه المستخرج على صحيح مسلم وهو يصف الله:" انفرد عن سمات الحدث، وبان بأوصافه وأفعاله عن مساواة النظراء ومداناة الشركاء، فهو بجميع صفاته قديم، فهو في جميع أفعاله حكيم، وهو العزيز الرحيم .."،

وله كلام كثير في نقل عقيدة السلف وتقريرها، كما سيأتي في نقل عقائد الصوفية المتقدمين.

الإمام عبيد الله بن سعيد بن حاتم المعروف بالسجزي الحافظ:

ألّف كتاب :" الرد على من أنكر الحرف والصوت " ومما قال فيه (153) :" لأن من قال: إنه مخلوق صار منكراً لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير ".

وفيه: لأنّ الإِفهام من صفات الفعل، وأفعال الله تعالى محدثة في غيره ".

وقال:" وقد اتفقت الأئمة على أنّ الصفات لا تؤخذ إلا توقيفاً، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف، فقول المتكلمين في نفي الصفات أو إثباتها بمجرد العقل أو حملها على تأويل مخالف للظاهر ضلال، ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ..".

وقد عقد فصلا في الرد على الأشعرية والكلابية وهو :" الفصل السابع: في بيان فعلهم في إثبات الصفات في الظاهر وعدولهم إلى التأويل في الباطن ...".

قال:" وإثبات الصفات له على ما جاء به النص عنه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يوجب التجسيم والتشبيه، بل كل شيء يتعلق بالمحدثات مكيف، وصفات الباري لا كيفية لها، فالتجسيم والتشبيه منتفيان عنه وعن صفاته. وبالله التوفيق" اهـ.....

الإمام عمر بن شاهين:

صاحب كتاب "شرح مذاهب أهل السنة"، في العقيدة، قال في مقدمته: وأشهد أن جميع الصفات التي وصف بها الله عز وجل في القرآن حق، سميع بصير بلا حد محدود، ولا مثال مضروب، جل عن أن يضرب له الأمثال."

الإمام أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد المالكي:

قال في الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات ( 120) :" والإيمان بالله تعالى: يتضمن التوحيد له سبحانه، والوصف له بصفاته، ونفي النقائص عنه الدالة على حدوث من جازت عليه، والتوحيد له: هو الإقرار بأنه ثابت موجود، وواحد معبود ...

قال:" أنه لم يزل مسمياً لنفسه بأسمائه، وواصفاً لها بصفاته، قبل إيجاد خلقه، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته التي منها: ...". ثم ذكر صفات الذات والفعل لله تعالى.

الإمام الهروي صاحب كتاب "الأربعون في التوحيد":

قال فيه: باب إيجاب قبول صفات الله تعالى من كافة الخلق، ثم خرج حديث:" إن الله تعالى يضع السموات على إصبع والأرضين على إصبع .."، ...

الإمام أبو المظفر السمعاني: صاحب كتاب "الانتصار لأهل الحديث"

قال فيه: وَكَذَلِكَ أجمع أهل الْإِسْلَام متقدموهمومتأخروهم على رِوَايَة الْأَحَادِيث فِي صِفَات الله عز وَجل وَفِي مسَائِل الْقدر والرؤية ..".

قال: ... وَإِنَّمَا قصدنا بَيَان طَرِيق أهل السّنة، فَلَمَّا صحت عِنْدهم نبوته ووجدوا صدقه فِي قُلُوبهم وَجب عَلَيْهِم تَصْدِيقه فِيمَا أنبأهم من الغيوب ودعاهم إِلَيْهِ من وحدانية الله عز وَجل وَإِثْبَات صِفَاته وَسَائِر شَرَائِط الْإِسْلَام ..".

الإمام اللالكائي: صاحب كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة"

قال في مقدمته :" أما بعد: فإن أوجب ما على المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين ...".

وقال: " باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باق ....

وقال :" سياق ما دل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل: الوجه والعينين واليدين ..".

الإمام ابن أبي زمنين المالكي:

قال في كتابه أصول السنة :باب في الإيمان بصفات الله وأسمائه، قال: واعلم أن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به تبارك وتعالى عن نفسه علما، والعجز عما لم يدع إيمانا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، وعلى لسان نبيه ...ثم ذكر آيات الصفات فقال:" ومثل هذا في القرآن كثير فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك كما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم .."،

وقال :" فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، فسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ..".

وقال : فأسماء ربنا وصفاته قائمة في التنزيل، محفوظة عن الرسول، وهي كلها غير مخلوقة، ولا مستحدثة، فتعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا ".

الإمام أبو عمر ابن عبد البر المالكي:

قال في مقدمة كتابه جامع بيان العلم :" والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء، هو على العرش استوى ..".

وقال فيه :« ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه، يُسَلم له ولا يُناظر فيه».

قال [ص:944]:" وقد روينا عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت.

قال أبو عمر: نحو حديث التنزل وحديث، «إن الله عز وجل خلق آدم على صورته» ، «وأنه يدخل قدمه في جهنم» ، وأنه يضع السموات على أصبع، وأن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإن ربكم ليس بأعور، وما كان مثل هذه الأحاديث ..".

قال أبو عمر بن عبد البر:" أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع، الجهمية، والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها"، وكلامه كثير في التمهيد.

الإمام محمد بن الحسين الآجري: صاحب كتاب الشريعة:

قال:" لم يزل الله عالما متكلما سميعا بصيرا بصفاته قبل خلق الأشياء، من قال غير هذا كفر وسنذكر من السنن والآثار وقول العلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم ما إذا سمعها من له علم وعقل، زاده علما وفهما، وإذا سمعها من في قلبه زيغ، فإن أراد الله هدايته إلى طريق الحق رجع عن مذهبه، وإن لم يرجع فالبلاء عليه أعظم ".

الإمام البغوي صاحب كتاب شرح السنة:

قال فيه (1/168):" والإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله سبحانه وتعالى، كالنفس، والوجه والعين، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح ... ثم ذكر آيات وأحاديث الصفات ثم قال:" فهذه ونظائرها صفات لله عز وجل، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها معرضا فيها عن التأويل، مجتنبا عن التشبيه، معتقدا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]، وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة، تلقوها جميعا بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم، فقال عز وجل: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران: 7].

قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل ورسله.

وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله سبحانه وتعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالا، وأمر به أن يخرج من المجلس.

وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقال: أمروها كما جاءت بلا كيف.

وقال الزهري: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم".

الإمام أبو القاسم، الملقب بقوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني:

قال في كتاب الحجة (1/101) :" إن الأخبار في صفات الله عز وجل جاءت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لكتاب الله عز وجل، فنقلها الخلف عن السلف، قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل إثبات الصفات لله والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله به في تنزيله وبينه الرسول عن كتابه مع اجتناب التأويل والجحود وترك التمثيل والتكييف، وأنه عز وجل أزلي بصفاته وأسمائه التي وصف بها نفسه ووصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم  - غير زائلة عنه ولا كائنة دونه، فمن جحد صفة من صفاته بعد الثبوت كان بذلك جاحدا، ومن زعم أنها محدثة لم تكن ثم كانت على أي معنى تأوله دخل في حكم التشبيه بالصفات التي هي محدثة في المخلوق زائلة بفنائه غير باقية ..".

الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي:صاحب كتاب الصفات، وقد نقلنا كلامه فيما مضى.

روى ابن قدامة عن الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت الطّيب قَالَ: أما الْكَلَام فِي الصِّفَات فَإِن مَا رُوِيَ مِنْهَا فِي السّنَن الصِّحَاح مَذْهَب السّلف رَضِي الله عَنْهُم إِثْبَاتهَا وإجراؤها على ظَاهرهَا وَنفي الْكَيْفِيَّة والتشبيه عَنْهَ  ".

قال ابن قدامة: والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول إن معنى اليد القدرة ولا أن معنى السمع والبصر العلم ولا نقول إنها الجوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل ونقول إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11] وقوله عز وجل {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص 4]".

الإمام محمد التميمي : قال الحافظ عبد القادر الرهاوي أخبرنا أبو العلاء الحسن بن الحسين أحمد الحافظ قال سمعت الشيخ الفقيه أبا بكر محمد بن محمود بن سورة التميمي النيسابوري يقول لا أصلي خلف من ينكر الصفات ولا خلف من يقول بقول أهل الفساد ولا خلف من لم يثبت القرآن في المصحف ولا يثبت النبوة قبل الماء والطين إلى يوم الدين ولا يقر بأن الله تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ". نقله ابن القيم.

الإمام المفسر القرطبي:

قال في تفسيره :" وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها".

الإمام سيف السنة ناصر الدين أبي محمد محمود بن أبي القاسم الدشتي:

صنف كتاب :" إثبات الحد لله عز وجل وأنه قاعد وجالس على عرشه".

الإمام ابن رجب الحنبلي:  قال في كتاب "فضل علم السلف على الخلف" يقول: "والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل"

الإمام ابن تيمية وتلاميذه ابن القيم والذهبي وابن كثير: ومذهبهم معروف، وتصانيفهم كثيرة ومشهورة، وبهذا يُعلم بأن شيخ الإسلام ابن تيمية ليس هو السباق لذكر هذا النوع من التوحيد حتى يُشنع عليه من أهل البدع بل هو تبع للسلف في ذلك وبالله التوفيق.

وقد ألف الذهبي كتاب " العلو للعلي الغفار"، و " كتاب الأربعين في صفات رب العالمين ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفرع الخامس: كلام المتصوفة من أهل السنة الأولين، في الإقرار بتوحيد الصفات:

يوم كان التصوف هو التزكية فقط، مع اتباع السلف، لا على منهج أهل البدع والضلال:

قال الإمام أبو نعيم في الحلية: (1/24) في معرض نقل مذهب الصوفية الأولين:" فمباني المتصوفة المتحققة في حقائقهم على أركان أربعة: معرفة الله تعالى, ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ",

وقال في مقدمة كتابه الضعفاء:" الحمد لله القديم الاول الدائم الباقي الذي له الاسماء الحسنى والمدائح العلى الذي بتوفيقه رشد المرشدون وبخذلانه غوى الغاوون انفرد عن سمات الحدث وبان بأوصافه وأفعاله عن مساواة النظراء ومداناة الشركاء فهو بجميع صفاته قديم وهو في جميع أفعاله حكيم".

وكذا نقَلَ ذلك غيرُه عن الصوفية ومنهم : 

الإمام أبو طالب المكي: قال في قوت القلوب (2/136) :" وإنّ أسماءه وصفاته وأنواره غير مخلوقة له ولا منفصلة عنه، وإنه أمام كل شيء، ووراء كل شيء، وفوق كل شيء ومع كل شيء، وأقرب إلى كل شيء من نفس الشيء، ...

ثم قال مبينا قوله، منكرا قول الحلولية الزاعمين بأن الله في كل مكان :" وإنه مع ذلك غير محل للأشياء، وإن الأشياء ليست محلاً له، وإنه على العرش استوى كيف شاء بلا تكييف ولا تشبيه، وإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وبكل شيء محيط ...

قال:" والله جلّ وعظم شأنه هو ذات منفرد بنفسه، متوحد بأوصافه لا يمتزج ولا يزدوج إلى شيء، بائن من جميع خلقه، لا يحُلُّ الأجسامَ، ولا تَحُلُّه الأعراض، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه من ذاته شيء، ليس في الخلق إلا الخلق، ولا في الذات إلا الخالق، فتبارك الله أحسن الخالقين، وإنه تعالى ذو أسماء وصفات وقدرة وعظمة وكلام ومشيئة وأنوار، كلها غير مخلوقة ولا محدثة، بل لم يزل قائماً موجوداً بجميع أسمائه وصفاته وكلامه وأنواره وإرادته، ...".

ومنهم الإمام أبو بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي الحنفي:

قال في كتابه بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار (ص 25) :" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاءه كره الله لقاءه، والموت دون لقاء الله عز وجل» أي إنما يحب العبد لقاء الله إذا أحب الله لقاء عبده، لأن المحبة صفة له، والله تعالى بجميع صفاته قديم عند عامة الصوفية، وكثير من المتكلمين من المثبتة، فالمحبة من الله تعالى صفة له في ذاته، وبه قال الأشعري وأصحابه، وكذلك البغض والسخط والغضب والموالاة والرياض ".

وقال (ص 68) :" والله تعالى وصف نفسه فقال {وهو يطعم ولا يطعم} [الأنعام: 14] ، فكأن الصائم اتصف بصفة من صفات الله تعالى على قدر ما يليق من البشرية، وكماله لله على استحقاق الربوبية، كما أن العالم منا والكريم والرحيم متصف بصفة يستحقها الله، وللعبد فيها نسبة على قدر البشرية، فلما كان كذلك يجوز أن يكون خصوص الإضافة إلى نفسه لذلك. وقوله: «أنا أجزي به» أي: على كرم الربوبية لا على استحقاق العبودية، كأنه تعالى يقول: إن الذي أتيت به من الإمساك عن الطعام ليس من صفتك، إنما هو من صفتي، فإني أنا الذي لا أطعم , غير أنك تكلفت من أجلي، وتركت طعامك وشرابك لي، فأنا أجزيك على قدري".

وقال: وقوله صلى الله عليه وسلم: «باسط يده لمسيء الليل أن يتوب إلى النهار» ، اليد صفة الله تعالى وصف بها نفسه، ولو لم يرد السمع لم يجز القول؛ لأنه من الصفات المتشابهة، فلما ورد السمع به وجب التصديق له، والإيمان به، وتأويله على ما يليق به، ونفي التشبيه وأوصاف الحدث عنه , قال أهل الحديث وسائر المثبتة: له يد لا كالأيدي، كما أنه موجود لا كالموجودين، وشيء لا كالأشياء. وقال بعض المثبتة: إنها يد صفة، وليست بيد جارحة، ولا جزء، ولا بعض كما أن ذاته ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، قال الله تعالى {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] ، وقال عز وجل {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}، وقال تعالى {يداه مبسوطتان} ...".

الإمام محمد بن الجنيد يذكر أقسام الصفات الذاتية والفعلية:

قال أبو نعيم في الحلية (10/281) من ترجمته: سمعت عثمان بن محمد العثماني، يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد البغدادي يقول: سئل الجنيد بن محمد عن المحبة، أمن صفات الذات أم من صفات الأفعال؟ فقال: «إن محبة الله لها تأثير في محبوبه بين فالمحبة نفسها من صفات الذات ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه وأصفيائه، فأما تأثيرها فيمن أثرت فيه فإن ذلك من صفات الأفعال، فاعلم أرشدك الله للصواب»

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة السابعة: من صفات الرب الذاتية والفعلية:

الفرع الأول: صفة الأصابع واليدين للرب:

لله أصابع، وله يدان كريمتان قويتان مبسوطتان بالخير، ولا يحل أن يقال له قدرتان، لأن قدرة الرب متحدة لا حدود لعظمتها،

ولا يقال: له نعمتان، لأن نعم الله كثيرة كما قال تعالى :{وإن تعدوا } كما قال الطبري وغيره.

بل له أصابع وله يدان قويتان مبسوطتان بالخير، يفعل بهما ما يشاء، بلا كيف ولا تمثيل ولا تجسيم.

الدليل 1/ قال تعالى :{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }[]

فأما اليد اليمنى، فهي مبسوطة بالخير سحاء ملأى، خلق بها الخير والفضل والأرزاق، وبها ينفق على العباد، وبها يقبض على السماوات والأكوان يوم القيامة... ومنها يُحشر أهل السعادة.

وأما اليد الأخرى، فبها القبض والخفض والرفع، وبها يقبض الأرزاق ويضيق ويبتلي كما قدّر ذلك، وبها يرفع أقواما ويخفض آخرين، وبها خلق أهل الشر وقدّره عليهم.

وهذا مصداقا لتسمية الله سبحانه وتعالى ب: {القابض الباسط}.

* ثم إن كلتا يديه تعالى يمين في القوة، لا يشبه خلقه أبدا، لأن خلْقه لهم أعضاء وجوارح، وأكثر الخلق في يمناهم القوة النسبية، وفي شمائلهم الضعف، وأما الرب فيَدَاهُ يمينان قويتان، يفعل بهما ما يشاء من أمور مختلفات كما أسلفنا.

وهاك تفسير هذه الآية من السنة النبوية، فدعك من تفسيرا الجهمية.

الدليل2/ خرج الطبري في تفسيره عن أبي محمد رجل من المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله:(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما سألتني، فقال: "خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى، فأخرج ذَرْءًا، فقال: "ذَرْءٌ ذرأتهم للجنة"، ثم مسح ظهره بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، فقال: "ذَرْءٌ ذرأتهم للنار، يعملون فيما شئت من عمل، ثم أختم لهم بأسوإ أعمالهم فأدخلهم النار".

الدليل 3/ وخرج النسائي 5379 عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور، على يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» قال محمد في حديثه: وكلتا يديه يمين ".

الدليل 4/ قال ابن ماجه في سننه باب فيما أنكرت الجهمية ثم خرج (ر199) عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا مثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك. قال: والميزان بيد الرحمن، يرفع أقواما ويخفض آخرين، إلى يوم القيامة "

- ويحرم أن تفسر اليدان ههنا: بالمجاز وأن له قوتان أو ملكان أو نعمتان، لأن لله ملك الكون جميعا، ولله القوة جميعا، كما أن نعم الله كثيرة لا تحصى كما قال تعالى :{وإن تعدوا } كما قال الطبري وغيره.

قال الطبري:" ففي قول الله تعالى:"بل يداه مبسوطتان"، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى"اليد"، في هذا الموضع، النعمة، وصحةِ قول من قال: إن"يد الله"، هي له صفة.

قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل".

وبهذا فسرت السنة والسلف هذه الآية:

الدليل 5/خرجه البخاري 7419 عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض»

هكذا خرجه بالشك هنا، وخرجه هو ومسلم وغيرهما من غير لفظ الشك:

فخرجهالبخاري : باب قول الله تعالى: {لما خلقت بيدي} ر7411  ومسلم والترمذي 3045 عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمين الرحمن ملأى سحاء لا يغيضها الليل والنهار قال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض".

ثم قال الترمذي :" وهذا الحديث في تفسير هذه الآية: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء}، قال:" وهذا حديث قد روته الأئمة، نؤمن به كما جاء من غير أن يفسر أو يتوهم، هكذا قال غير واحد من الأئمة: الثوري، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وابن المبارك أنه تروى هذه الأشياء ويؤمن بها ولا يقال كيف ".

الدليل 6: خرجه أبو داود 4732 باب في الرد على الجهمية عن سالم: أخبرني عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين، ثم يأخذهن بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟".

الدليل 7/ قال تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

}[].

الدليل 8/ وفيه تفسير الآية، وتصديق النبي عليه السلام لقول الحبر:

خرجه البخاري في الصحيح باب قول الله تعالى: {لما خلقت بيدي} 7414 عن عبيدة عن عبد الله: أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك. «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه»، ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91]، قال يحيى بن سعيد: وزاد فيه فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له

وخرجه البخاري 4811 عن عبد الله رضي الله عنه، قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد: أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون}

وخرجه الدارمي في الرد على الجهمية:" حديث آخر يدل على ذكر الأصبع ".

وبوب عليه ابن أبي عاصم في السنة  باب ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يضع السموات على أصبع ويطوي السموات والأرض بيده ".

وخرجه الدارقطني في الصفات من عدة طرق كثيرة متواترة.

وبوب عليه ابن خزيمة في كتاب التوحيد:" باب ذكر إمساك الله ـ تبارك وتعالى اسمه وجل ثناءه السموات والأرض وما عليها على أصابعه

جل ربنا عن أن تكون أصابعه كأصابع خلقه وعن أن يشبه شيء من صفات ذاته صفات خلقه، وقد أجل الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق البارئ بحضرته بما ليس من صفاته فيسمعه فيضحك عنده ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكا تبدو نواجذه تصديقا وتعجبا لقائله، لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته ".

وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة :" وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعين من أصابعه وأنه سبحانه يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف"

الدليل التاسع: خرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة 489 -سئل عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يحمل السماوات على أصبع وما أشبه ذلك من الأحاديث، ثم قال: سمعت أبي رحمه الله ثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان عن الأعمش عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يمسك السماوات على أصبع» قال أبي رحمه الله: جعل يحيى يشير بأصابعه وأراني أبي كيف جعل يشير بأصبعه يضع أصبعا أصبعا حتى أتى على آخرها ".

الدليل 10/ قال الطبري في تفسير الآية حدثنا الربيع ثنا ابن وهب قال: أخبرني أُسامة بن زيد عن أبي حازم عن عبد الله بن عمر أنه رأى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على المنبر يخطب الناس، فمر بهذه الآية:( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"يَأْخُذُ السَّمَوَاتِ وَالأرَضَينَ السَّبْعَ فَيَجْعَلُهَا في كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ الغُلامُ بالكُرَةِ: أنا اللهُ الوَاحِدُ، أنا اللهُ العَزِيزُ"حتى لقد رأينا المنبر وإنه ليكاد أن يسقط به ".

ليس هذا من ابا التشبيه كما يزعم الجهمية، وإنما هو من باب التأكيد لهذا الفعل حقيقة.

الدليل 11/ خرج الترمذي 3074 وصححه والطبري في تفسيره وابن منده في الرد على الجهمية 78 باب ذكر خبر يدل على ما تقدم من ذكر الأصابع  وابن أبي عاصم في السنة في صفة الأصبع، وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا)، قال: وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل = فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ قال: فرفع ثابت يده فضرب صدر حُمَيْد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس، وأنا أكتمه!

تابعه شعبة وسعيد عن قتادة. 

وفي رواية ابن أبي عاصم:" قال: وضع إبهامه على قريب من طرف أنملته فساخ الجبل قال حميد لثابت تقول هكذا فوكزه قال ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس فأكتمه أنا ".

ولابن خزيمة:" فقال له حميد الطويل يا أبا محمد ما تريد إلى هذا فضرب صدره ضربة شديدة وقال فمن أنت يا حميد يحدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت ما تريد إلى هذا ".

ولعبد الله بن أحمد في السنة قال: سئل –أبي - عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يحمل السماوات على أصبع وما أشبه ذلك من الأحاديث

حدثني أبي رحمه الله، نا معاذ بن معاذ، نا حماد بن سلمة، نا ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " في قوله عز وجل {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} [الأعراف: 143] قال: قال: «هكذا، يعني أخرج طرف الخنصر» قال أبي: أرناه معاذ فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: من أنت يا حميد وما أنت يا حميد؟ حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أنت ما تريد إليه؟ حدثني أبي قال: حدثني من سمع معاذا يقول: وددت أنه حبسه شهرين يعني لحميد ".

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الثاني: أبرز الأدلة الناطقة بلفظ التوحيد وأنواعه، وبيانه، ومن قال به:

بما أن أهل البدع قد لا يعترفون بدلالات الظاهر والمفاهيم وغير ذلك من أنواع دلالات الألفاظ، بل وينكرون حتى لفظة "التوحيد " فإننا سنأتيهم بأبرز الأدلة الدالة بمنطوقها على التوحيد:

المبحث الأول: أدلة التوحيد وأقسامه:

الدليل الأول: في بيان أقسام التوحيد:

ذلك أنّ الأصل في هذه القسمة ما مر شرحه في قول الله تعالى :{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)[مريم].

فابتدأ بتوحيد الربوبية الذي تُقر به جميع الخلائق فقال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}،

ثم عقبه بفاء الجزاء: أي أن الربوبية يستلزم توحيد العبودية العملي المأمور بتحصيله وصرفِه لله وحده، قال :{ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ }.

ثم ختم باستفهام عن توحيد الأسماء والصفات لله الواحد القهار فقال: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } أي شبيها ومماثلا له في أسمائه وصفاته.

قال ابن منده في التوحيد:" ذكر معرفة أسماء الله عز وجل الحسنة التي تسمى بها وأظهرها لعباده للمعرفة والدعاء والذكر قال الله تعالى:{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}، الآية ، وقال:{ هل تعلم له سميا}"

الدليل 2/ في تفسير التوحيد وأنه عبادة الله، وخلع ما سواه، وهو رأس دعوة الأنبياء:

خرج ذلك ابن خزيمة في الصحيح (2260) عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها حين جاء النجاشي، فذكر الحديث بطوله، وقال في الحديث قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب قال له: «أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ..."،

وقال البخاري في الصحيح: تفسير سورة الذاريات:" ... {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]: «ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحدون».

الدليل الثالث: في بيان كلمة التوحيد:

خرجه مسلم في الصحيح (1218) وابن خزيمة في صحيحه (2226) وغيره عن جعفر بن محمد حدثني أبي قال: أتينا جابر بن عبد الله فسألناه عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فخرج حتى إذا استوت به راحلته على البيداء .... أهل بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».

الدليل الرابع: أن التوحيد رأس دعوة الأنبياء:

خرج البخاري في الصحيح (7372) عن معبد عن ابن عباس يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، ...".

وخرجه الدارقطني في السنن (2059) عن معبد مولى ابن عباس: سمعت ابن عباس يقول: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا نحو اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه توحيد الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ...".

الدليل الخامس: في بيان سُــــوَرِ التوحيد:

خرجه أبو داود (1909) وابن خزيمة في صحيحه (2754) عن جعفرِ بنِ محمدٍ عن أبيه عن جابرِ بنِ عبدِاللهِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رمَلَ بالبيتِ ثلاثةَ أَطوافٍ ومَشى أربعةً، ثم أَتى المَقامَ قالَ: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعَلَ المَقامَ بينَه وبينَ الكعبةِ، قالَ: فصلَّى رَكعتينِ، قالَ: [قالَ أبي]: فقرأَ فيهما بالتوحيدِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}".

ومضى حديث أن سورة الإخلاص تسمى ب :" صفة الرحمان".

الدليل السادس: وفيه أن التوحيد شرط قبول الأعمال:

خرجه احمد (2/181) ثنا هشيم أنا حجاج ثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ان العاص بن وائل نذر في الجاهلية ان ينحر مائة بدنة وان هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة وان عمرا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال:" أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك".

الدليل السابع: أن قائل التوحيد معصوم الدم والمال:

خرجه الطحاوي في مشكله (8/271) عن محمد بن شداد عن عبد الرحمن بن يزيد حدثني الأشتر حدثني خالد بن الوليد قال :" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وعمار في سرية فأصبنا أهل بيت قد كانوا وحَّدوا، فقال عمار رضي الله عنه: إن هؤلاء قد احتجزوا منا بتوحيدهم , فسفهته ولم أحفل بقوله، فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكاني إليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتصر له مني أدبر وعيناه تدمعان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا خالد، لا تسب عمارا ...".

الدليل الثامن: في شرط التوحيد:

خرجه أبو نعيم في مستخرجه الصحيح على مسلم عن سعد بن طارق سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من أقر بتوحيد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ".

دليل تاسع: خرجه الطبراني في الأوسط (3573) حدثنا خير بن عرفةنا هانئ بن المتوكل الاسكندراني قال نا أبو ربيعة سليمان بن ربيعة عن ابي حازم عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الأمور كلها خيرها وشرها من الله، وقال: إن القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى ومن لم يؤمن بالقدر كان ناقضا للتوحيد وقال لا يدخل الجنة مكذب بقدر"، قال: تفرد به هانيء بن المتوكل "،

وقد رفعه، وورد موقوفا وهو الصواب:

رواه أبو إسحاق عن الأوزاعي قال: ثنا بعض أصحابنا عن الزهري عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها "، بُين المبهم:

ورواه الآجري عن الفريابي في القدر 205 - حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي عن القاسم بن هزان عن الزهري عن ابن عباس قال: " القدر: نظام التوحيد، فمن وحد الله تعالى وآمن بالقدر، فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن وحد الله تعالى وكذب بالقدر، فإن تكذيبه بالقدر نقض للتوحيد ".

توبع القاسم:

فرواه ابن بطة في الإبانة عن ابن وهب في القدر قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد ...."،

ورواه الآجري في الشريعة (2/876) عن محمد بن بكار قال: نا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد بن زيد وإسماعيل بن رافع وعبد الرحمن بن عمرو يرفعونه إلىعبد الله بن عباس أنه كان يقول: ".... ، مثله موقوف.

تابعه سعيد منصور قال: وحدثنا إسماعيل بن عياش قال: مثله.

ورواه سفيان الثوري عن عمر بن محمد رجل من ولد عمر بن الخطاب، قال سفيان: لقيته في ثغر من ثغور الشام عن رجل عن ابن عباس قال: ... موقوفا.

الدليل 10/ في عدد أسماء الله المعلومة في الدنيا وأوصافها:

خرجه البخاري (2736) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة»

الدليل 11/في بقية الأسماء المدخرة يوم القيامة:

خرجه الحاكم (1/690) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أصاب مسلما قط هم و لا حزن فقال : اللهم إني عبدك و ابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضائك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي و جلاء حزني و ذهاب همي إلا أذهب الله همه و أبدله مكان حزنه فرحا ".

الدليل 12/ في صفات الرب الموجودة في سورة الإخلاص وما احتوت عليه من توحيد:

خرج البخاري (7375) ومسلم (813) عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب {قل هو الله أحد}، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟»، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبه»

فابتدأت السورة بتوحيد الرب، ووصفه بالمعبود الأحد الصمد، مع نفي الولد والمثيل الكفء له.

13/ خرج البيهقي في الصفات (2/39) داود يعني ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن اليهود، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، فقالوا: يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك. فأنزل الله عز وجل: {قل هو الله أحد الله الصمد، لم يلد} فيخرج منه {ولم يولد} فيخرج من شيء، {ولم يكن له كفوا أحد}  ولا شبه، فقال: «هذه صفة ربي عز وجل وتقدس علوا كبيرا»

14/ خرجه أبو الشيخ (2/515) عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله عز وجل: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] قال: «وحدوني بالربوبية أغفر لكم»

وخرج (5/1568) عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لما نفخ الله تعالى في آدم عليه السلام الروح، وأمر الملائكة بالسجود له أخرج ذريته من ظهره فأفاضهم إفاضة القداح كالذر بين يديه مستنطقين ناطقين بالربوبية أنه ربهم كل يدعوه يا رب يا رب .."،

الدليل الخامس عشر: في فضل الشهادة بالتوحيد:

خرجه ابن ماجه (3122) عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي سلمة عن عائشة أو عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان «إذا أراد أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين، سمينين، أقرنين، أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد، وعن آل محمد صلى الله عليه وسلم»

دليل 16: في دخول أهل التوحيد للجنة:

خرجه الحاكم (3/163)عن الخليل بن عمرَ العبديُّ قالَ: حدثني عمرُ الأَبحُّ عن سعيدِ بنِ أبي عروبةَ عن قتادةَ عن أنسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وعَدَني ربِّي في أهلِ بَيتي مَن أَقَرَّ مِنهم بالتوحيدِ»، صححه الحاكم واستنكره الذهبي.

الدليل 17: في خروج أهل التوحيد من النار: خرجه الترمذي (2597) عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة قال: فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة.

قال: هذا حديث حسن صحيح،

قال الترمذي: قد روي عن عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمران بن حصين، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سيخرج قوم من النار من أهل التوحيد ويدخلون الجنة "، هكذا روي عن سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين في تفسير هذه الآية: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} قالوا: إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا الجنة ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

الدليل 18: خرجه أحمد (2/304) عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير واحد عن الحسن وبن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد، فلما احتضر قال لأهله: انظروا إذا أنا مت ان يحرقوه حتى يدعوه حمما ثم اطحنوه ثم أذروه في يوم ريح، فلما مات فعلوا ذلك به فإذا هو في قبضة الله، فقال الله عز وجل: يا بن آدم ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي رب من مخافتك، قال: فغفر له بها ولم يعمل خيرا قط الا التوحيد ". وهذا حديث صحيح، لأن الإسناد الأول منه متصل، ويقويه الثاني المرسل.

وخرجه أحمد (1/398) عن عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن رجلا لم يعمل من الخير شيئا قط إلا التوحيد ...". فذكره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثاني: كلام السلف على هذه الأنواع، وأدلتها:

المطلب الأول: كلام السلف الأولين حول أقسام التوحيد:

مر أنّ الأصل في هذه القسمة قول الله تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا،فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ،هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)[مريم]. أي شبيها ومماثلا له في أسمائه وصفاته .

فابتدأ بتوحيد الربوبية الذي هو توحيد المعرفة والإثبات والعلم، وهو الذي تُقر به جميع الخلائق، وأنه يستلزم توحيد العبودية العملي المأمور بتحصيله وصرفِه لله وحده، وأنه هو توحيد القصد لله، وأن ذلك يتضمن الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات لله الواحد القهار.

وقد كان من صنيع السلف التفريق بين هذه الأنواع من التوحيد كما سيتبين:

1/ فقال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط والأكبر ص51:"واللهُ تعالى يُدعى من أعلى لا من أسفل، لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء...".

وقال ناشر مذهبه الإمام الطحاوي في عقيدته:" نقول معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره".

وقال شارحه العلامة ابن أبي العزّ الحنفي شارح متن العقيدة الطحاوية: "ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد".

وقال الإمام الحنفي الملا علي القاري :" ابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقرير توحيد الربوبية، المترتب عليه توحيد الألوهية، المقتضي من الخلق تحقيق العبودية ".

2/ وقال الطبري في تفسيره في بداية سورة آل عمران :" وأما معنى قوله:"لا إله إلا هو"، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له، لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية "،

ومر كلامه في تفسير الله:" يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعَملي، ولا شك أنّ "التألُّه"، التفعُّل من: "ألَه يأله"،

وهذا كلام صريح في التفريق بين التوحيديْن، فالربوبية توحيد عِلْمِيّ يَعْلمه جميع البشر، وتوحيد الألوهية أو العبودية توحيد عَمَليٌّ يكفر به الكثير:

3/ خرج الطبري في تهذيب الآثار (1020) عن الوليد بن مسلم قال : سمعت أبا عمرو، ومالكا، وسعيد بن عبد العزيز ينكرون على من يقول :« إنه مستكمل الإيمان، وأن إيمانه كإيمان جبريل»، قال سعيد :« هو إلى أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس؛ لأنه أقر بالربوبية، وكفَر بالعمل _ أي بالألوهية _، أقرب إلى ذلك من أن يكون كإيمان جبريل ».

وخرج ابن بطة عن الوليد قال: قال سعيد بن عبد العزيز: وهو أن يكون إذا أقدم على هذِه المقالة إيمانه كإيمان إبليس؛ لأنه أقرَّ بالربوبية وكَفَرَ بالعمل، فهو أقربُ إلى ذلك مِنْ أن يكون إيمانه كإيمان جبريل".

4/ وخرج أبو نعيم (10/267) عن عثمان قال: كنت أمشي مع الجنيد فلقيه الشبلي فقال له: يا أبا القاسم، ما تقول فيمن الحق حسبه نعتا وعلما ووجودا؟ فقال له: «يا أبا بكر، جلّت الألوهية وتعاظمت الربوبية، بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقة في أول طبقة منها ذهب الاسم»

ومضى ما خرجه أبو نعيم في الحلية (10/281) عن البغدادي: سئل الجنيد بن محمد عن المحبة، أمن صفات الذات أم من صفات الأفعال؟ فقال: «إن محبة الله لها تأثير في محبوبه بين فالمحبة نفسها من صفات الذات ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه وأصفيائه، فأما تأثيرها فيمن أثرت فيه فإن ذلك من صفات الأفعال، فاعلم أرشدك الله للصواب».

فأين من يزعمون أنهم على طريقة الجنيد السالك، وقد وافق السلف، وهم خالفوه وخالفوا السلف.

5/ وقال ابن بطة في الإبانة (2/864):" الإيمان إقرار لله بالربوبية, وخضوع له في العبودية, وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى، فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة .."،

فذكر أن الأول إقرار ومعرفة، والثاني توحيد عمل وخضوع.

6/وقال الإمام المقريزي :" ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا بأنه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الألوهية" إلى أن قال: "من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيته، ولو وحد في ربوبيته، فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الألوهية مفترق الطرق بين المؤمنين والمشركين".

فما أروعه من كلام، وما أنسقه من نظام، كلام أهل الإسلام ؟!

7/ وروى أبو نعيم (10/143) عن محمد بن صالح التيمي قال: كان بعض العلماء إذا تلا: {وفي الأرض آيات للموقنين} [الذاريات: 20] قال: أشهد أن السماوات والأرض وما فيهما آيات تدل عليك وتشهد لك بما وصفت به نفسك وكل يؤدي عنك الحجة ويقر لك بالربوبية موسوما بآثار قدرتك ومعالم تدبيرك ...".

8/ وقال البيهقي في الاعتقاد في شرح حديث:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له" :" فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن العلم السابق في أمرهم واقع على معنى تدبير الربوبية، وأن ذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية ".

9/  وقال ابن بطة في الإبانة :" لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية , وخضوع له في العبودية , وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى ".

10/ وروى الرملي: سمعت بعض الأفاضل يقول: من عرف الله بالربوبية اعتقد العبودية له ".

11/ وقال الألوسي في تفسيره للآية:"{ مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ }، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 66 ] وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلاً عن توحيد الصفات ".

12/ قال الجرجاني في التعريفات ص69:" والتوحيد ثلاثة أشياء: معرفة الله تعالى بالربوبية، والإفراد بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة"

13/ وهذا الإمام أبو سفيان الخطابي يفرق بين توحيد الربوبية فيجعله عِلْميا، وبين توحيد العبودية فيجعله عَمَليا كما قال ابن القيم والسلف، فقال الخطابي في شرح حديث:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له" :" فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن العلم السابق في أمرهم واقع على معنى تدبير الربوبية، وأن ذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية".

14/ وقال ابن القيم في غزو الجهمية (43) :" فصل في التوحيدين اللذين عليهما مدار كتاب الله تعالى: أحدهما التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله تعالى وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل وتنزيهه عن صفات النقص

 والتوحيد الثاني عبادته وحده لا شريك له وتجريد محبته والاخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرضى به ربا وإلاها ووليا وأن لا يجعل له عدلا في شيء من الأشياء ".

إضافة إلى وجود العشرات من أئمة السلف ممن صنفوا مصنفات في السنة والتوحيد والصفات وعقائد أهل السنة:

منهم شيخ المفسرين الطبري، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والخلال والمروذي وابن خزيمة صاحب كتاب التوحيد، وأبو يعلى وابن أبي زمنين، وكتاب الصفات للدارقطني، والصفات للبيهقي والفريابي، وابن منده، وابن النحاس، والإسماعيلي وابن أبي شيبة، والرد على من أنكر الحرف والصوت من الرب، للسجزي، ونقض الإمام الدارمي على المريسي، واللالكائي والطحاوي والآجري وابن بطة والصابوني ...

والعجب أن مذهب السلف هذا، هو عين مذهب المتصوفة المتقدمين، وقد خالفهم المتأخرون:

المطلب الثاني: بقية كلام السلف والمتصوفة الأولين في تقسيم التوحيد:

1/ مر ما خرجه أبو نعيم (10/267) عن عثمان قال: كنت أمشي مع الجنيد فلقيه الشبلي فقال له: يا أبا القاسم، ما تقول فيمن الحق حسبه نعتا وعلما ووجودا؟ فقال له: «يا أبا بكر، جلّت الألوهية وتعاظمت الربوبية، بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقة في أول طبقة منها ذهب الاسم»

وخرج أبو نعيم (10/281) عن البغدادي: سئل الجنيد بن محمد عن المحبة، أمن صفات الذات أم من صفات الأفعال؟ فقال: «إن محبة الله لها تأثير في محبوبه بين فالمحبة نفسها من صفات الذات ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه وأصفيائه، فأما تأثيرها فيمن أثرت فيه فإن ذلك من صفات الأفعال، فاعلم أرشدك الله للصواب».

فأين من يزعمون أنهم على طريقة الجنيد السالك، وقد وافق السلف، بينما مقلدوه خالفوه وخالفوا السلف.

2/ وخرج أبو نعيم في الحلية (10/371) عن الشبلي في قول الله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} [الرعد: 39]، قال: " يمحو ما يشاء من شهود العبودية، وأوصافها، ويثبت ما يشاء من شواهد الربوبية ودلائلها".

3/ وخرج السلمي وأبو نعيم في الحلية (10/355) في ترجمة المرتعش عبد الله بن محمد :" كان يقول: أصول التوحيد ثلاثة: معرفة الله بالربوبية، والإقرار له بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة "،

فالربوبية والأسماء توحيد معرفة وعلم بأفعال الله وأوصافه ومقاديره ومشيئته الكونية، والثاني توحيد خضوع وإقرار، وهما من أعمال العباد التي هي من المشيئة الشرعية:

4/ كما خرج أبو نعيم عن القاسم قال :" الربوبية نفاذ الأمر والمشيئة والتقدير والقضية، والعبودية معرفة المعبود والقيام بالمعهود ".

5/ وقال أبو العباس:" الربوبية نفاذ الأمر والمشيئة والتقدير والقضية، والعبودية معرفة المعبود والقيام بالعهود".

وهذا نفس ما مر مِنْ أن الأول أفعال الرب ومشيئته، والثاني القيام بالعمل والتعبد لله.

6/ وخرج أبو نعيم في الحلية (9/380) ثنا أبي ثنا أحمد ثنا سعيد قال ذو النون وسأله رجل فقال: يا أبا الفيض ما التوكل؟ فقال له: «خلع الأرباب وقطع الأسباب». فقال له: زدني فيه حالة أخرى، فقال: «إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية».

7/ وقال الحافظ السلمي في طبقات الصوفية في ترجمة :"سري السّقطي": ومنهم سَرِيُّ بنُ المُغَلَّس السَّقَطِيُّ، كنيته أبو الحسن. يقال إنه خالُ الجُنَيْد وأستاذُه، صحبَ معروفاً الكَرْخِيَّ، وهو أولُ من تكلم - ببغداد - في لسان التوحيد، وحقائق الأَحْوال، وهو إمامُ البَغْداديين، وشيخُهُم في وَقْته".

ونقل في ترجمة المرتعش أنه قال:" أصول التوحيد ثلاثة اشياء: معرفة الله تعالى بالربوبية؛ والاقرار له بالوحدانية؛ ونفي الأنداد عنه جملة". ونفي الأنداد يكون في الألوهية وفي الأسماء والصفات كما مر في قوله تعالى في سورة صفة الرحمن {ولم يكن له كفؤا أحد}، وقوله {هل تعلم له سميا}

وذكر أبو نعيم في الحلية :" سئل المزين عن المعرفة فقال :" أن تعرف اللّه تعالى بكمال الربوبية، وتعرف نفسك بالعبودية، وتعلم أن اللّه تعالى أول كل شيء، وبه يقوم كل شيء، وإليه مصير كل شيء، وعليه رزق كل شيء"،

8/ وذكر السلمي في موطن آخر توحيد الصفات أيضا:

فذكر في طبقات الصوفية في ترجمة المزين :" وسئل الحسن المزين عن التوحيد؟ فقال:" أن توحد اللّه بالمعرفة، وتوحده بالعبادة، ... فاللّه تعالى بخلاف ذلك؛ وتعلم أن أوصافه مباينة لأوصاف خلقه، باينهم بصفاته قدماً كما ينوء بصفاتهم حدثاً".

وهذا عين تقسيم السلف، وقبل زمن ابن تيمية بكثير.

ذلك أن توحيد الربوبية في أفعال الله، وتوحيد العبودية في عبادة الله بأفعالنا.

9/ كما خرج أبو نعيم في الحلية (10/197) عن سهل بن عبد الله قال: " من تخلى عن الربوبية،- أي لم ينازع الله فيها- وأفرد الله بها، واعترف بالعبودية وعبد الله بها، استحق من الله الملك الأعظم في حياة الأبد.."،

وعنه قال:" فإذا عرف نفسه ألزمته معرفتها شريطة العبودية بحق الربوبية وإعطاء الوحدانية حقها".

10/ وذكر ابن الملقن في الأولياء والسلمي وأبو نعيم (10/354) في ترجمة أبو عبد الله بن بكر الصبيحي قالا:" وكان يقول: الربوبية سبقت العبودية، وبالربوبية ظهرت العبودية، وتمام وفاء العبودية مشاهدة الربوبية ".

فالربوبية سابقة لإقرار جميع الخلق بها، وبالربوبية ومعرفة أفعال الرب نصل إلى عبادته تعالى، ولا تكمل العبادة إلا إذا استحضرنا عظمة الله ، فما أروع كلام السلف، وما أشنع تبديعات الخلف.

11/ وخرج السلمي وأبو نعيم (10/380) عن القاسم بن القاسم: "... الربوبية نفاذ الأمر والمشيئة والتقدير والقضية، والعبودية معرفة المعبود والقيام بالمعهود ".

12/ وروى المقدسي في المنتقى عن أحمد بن الفضل الصوفي: سمعت أحمد بن محمد الرافقي يقول: سمعت أبا موسى الديلي يقول: سأل رجل أبا يزيد عن التصوف، فقال: طرح النفي في العبودية وتعلق القلب بالربوبية ".

13/ وخرج السلمي في طبقات الصوفية من ترجمة محمد بن علي الترمذي، وأبو نعيم (10/235) عن محمد بن علي الترمذي قال:" من جهل أوصاف العبودية، فهو بنعوت الربوبية أجهل "،

والنعوت هي صفات الرب، وكلاهما توحيد علمي معرفي. 

14/ وقال الإمام أبو نعيم (10/385) :" التوحيد تحقيق القلوب بإثبات الموحد بكمال أسمائه وصفاته، ووجود التوحيد مطالعة الأحدية على أرضات السرمدية، والإيمان تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيوب، ومواهب الإيمان بوادي أنواره والملبس لأسراره، وظاهر الإيمان النطق بألوهيته على تعظيم أحديته، وأفعال الإيمان التزام عبوديته والانقياد لقوله، والإنابة التزام الخدمة وبذل المهجة ....

 قال: ثم ينقسم الذكر قسمين: ظاهر وباطن فأما الظاهر فالتهليل والتحميد والتمجيد وتلاوة القرآن، وأما الباطن فتنبيه القلوب على شرائط التيقظ على معرفة الله وأسمائه وصفاته وعلى أفعاله".

15/ وصنف الشيخ أبو طالب المكي:" قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد"، قال فيه (1/95) عند شرح الآيات { منه آيات محكمات} :" {ألا تعبدوا إلا الله} قال:" هذا هو التوحيد الذي أحكمه ".

وقال فيه :" ... والتحقيق بصفات العبودية، والتخلق بأخلاق الربوبية، وتباين مقامات العلماء إلى غير ذلك ممّا لا نذكره من علم التوحيد، ومعرفة معاني الصفات، وعلوم المكاشفة بتجلي الذات وإظهار الأفعال الدالة على معاني الصفات الباطنة ".

وقال: " وأعلم أن علم التوحيد ومعرفة الصفات مباين لسائر العلوم، فالاختلاف في سائر العلوم الظاهرة رحمة والاختلاف في علم التوحيد ضلال وبدعة ".

16/ الإمام محمد بن حفيف، يُقَسم أنواع التوحيد:

قال أبو نعيم (10/385) :" التوحيد تحقيق القلوب بإثبات الموحد بكمال أسمائه وصفاته ووجود التوحيد مطالعة الأحدية على أرضات السرمدية، والإيمان تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيوب، ومواهب الإيمان بوادي أنواره والملبس لأسراره، وظاهر الإيمان النطق بألوهيته على تعظيم أحديته، وأفعال الإيمان التزام عبوديته والانقياد لقوله، والإنابة التزام الخدمة وبذل المهجة ...

قال: ثم ينقسم الذكر قسمين: ظاهر وباطن فأما الظاهر فالتهليل والتحميد والتمجيد وتلاوة القرآن، وأما الباطن فتنبيه القلوب على شرائط التيقظ على معرفة الله وأسمائه وصفاته وعلى أفعاله".

وذكر هذه الأقسام غير واحد من أئمة المسلمين، وما الشيخ ابن تيمية إلا واحد منهم، والله المستعان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الثالث: تقسيم الأشعرية للتوحيد:

 قال قاضي الجماعة محمد بن أبي الفضل التونسي في تحرير المطالب بما في عقيدة ابن الحاجب  ص 69:" أله بمعنى عبد، فهو بمعنى معبود... ".

ثم ذكر أن التوحيد على أربعة أقسام فقال:" .

والتوحيد على أربعة أقسام توحيد الألوهية وتوحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات ..".

هذا وقد قسم الأشاعرة التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال. قال كمال الدين ابن أبي شريف في المسامرة شرح المسايرة: التوحيد هو اعتقاد الوحدانية في الذات والصفات والأفعال ".

أي إنه ثلاثة أقسام: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال.

ومن الأشاعرة من يختصر الأقسام كما فعل بعض السلف أيضا: فيقولون: التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الإ̃لهية وخواصها. قال سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد:

" حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الإلهية وخواصها، ولا نزاع لأهل الإسلام في أن تدبير العالم، وخلق الأجسام، واستحقاق العبادة، وقدم ما يقوم بنفسه، كلها من الخواص".

وبالجملة فنفي الشريك في الإلهية ثابت عقلاً وشرعا، وفي استحقاق العبادة شرعا (وما أمروا إلا ليعبدوا إ̃لها واحدا لا إ̃له إلا هو سبحانه عما يشركون".

وقال ابن الهمام في المسايرة: «لما ثبت وحدانيته في الإ̃لهية ثبت استنادُ كل الحوادث إليه»

وقال ابن أبي شريف في شرحه: الإ̃لهية الاتصاف بالصفات التي لأجلها استحق أن يكون معبودا، وهي صفاته التي توحد بها سبحانه، فلا شريك له في شيء منها، وتسمى خواص الإ̃لهية، ومنها الإيجاد من العدم وتدبير العالم والغنى المطلق ".

وقال أيضا: «واعلم أن الوحدة تطلق بمعنى انتفاء قبول الانقسام، وبمعنى انتفاء الشبيه، والباري تعالى واحد بكل من المعنيين أيضا. أما الأول: فلتعاليه عن الوصف بالكمية والتركيب من الأجزاء والحد والمقدار. وأما الثاني: فحاصله انتفاء المشابه له تعالى بوجه من الوجوه».

وأما كلام الأشاعرة على الكفر وأسبابه وأقسامه فننقل فيه كلام ابن الهمام في المسايرة مع شرحه لابن أبي شريف:

" الأصل الأول العلم بوجود تعالى، وأولى ما يستضاء به من الأنوار، ويسلك من طرق الاعتبار ما اشتمل عليه القرآن، فليس بعد بيان الله تعالى بيان وقد أرشد سبحانه إليه أي إلى وجوده تعالى (بآيات نحو) قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات. و) نحو (قوله): ( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون. و) قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما) أي متحطما وهو المتكسر ليبسه (و) قوله تعالى (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن) أي: السحاب (أم نحن المنزلون) لو نشاء جعلناه أجاجا. أي شديد الملوحة لا يمكن ذوقه (و) قوله تعالى: ( أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون)

فمن أدار نظره في عجائب تلك المذكورات من الأرضين والسماوات وبدائع فطرة الحيوان والنبات، وسائر ما اشتملت عليه الآيات (اضطره) ذلك (إلى الحكم بأن هذه الأمور مع هذا الترتيب المحكم الغريب لا يستغنى كل) منها ( عن صانع أوجده) من العدم (وحكيم رتبه) على قانون وضع فيه فنونا من الحكم (وعلى هذا درجت كل العقلاء إلا من لا عبرة بمكابرتهم) وهم بعض الدهرية.

وإنما كفروا بالإشراك حيث دعوا مع الله إلها آخر. (ونسبة) أي بنسبة (بعض الحوادث إلى غيره تعالى وإنكار) أي وبإنكار (ما جعل الله تعالى إنكاره كفرا كالبعث وإحياء الموتى).

ومثل المصنف للذين أشركوا بقوله: (كالمجوس بالنسبة إلى النار) حيث عبدوها، فدعوها إلها آخر، تعالى الله عن ذلك (والوثنيين بالأصنام) أي بسببها فإنهم عبدوها. (والصابئة بالكواكب) أي بسبب الكواكب حيث عبدوها من دون الله تعالى.

واعترف الكل بتوحيد المخلوقات لربوبية الله في الكثير من أفعاله.

كما اتفقوا على توحيد الأسماء والصفات، حيث فسروا التوحيد باعتقاد الوحدانية لله تعالى في الذات والصفات والأفعال، أَيُّ باعتقاد أنه لا يوجد ذات مثل ذاته، ولا يوجد لغيره صفات مثل صفاته، وأنه المتفرد بخلق الأشياء وإيجادها وليس لغيره أي دخل في خلق الأشياء وإيجادها.

وإنما اختلفوا في طريقة إثباتها كما أسلفنا وبالله التوفيق.

وهذا فيض من غيظ وكلام السلف في هذا الإيمان، لا يجمعه ديوان، ولا يحصيه إنسان، والله المستعان، وعليه التكلان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

     

                                 كتبه أبو عيسى الطاهر زياني

 

 

تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني