النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني
النبذة في أحكام العصائر والأنبذة
كتابة: الطاهر زياني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله خالق الأرض والسماوات، واسع الرزق منزل الطيبات، تفضل على عباده بسائر
نعمائه، تكرما منه وامتنانا، وبعث إليهم رسلا كراما, لبيبنوا لهم ما أحل الله وما جعله
حراما، وبيّن لهم شرعه تبيانا، فأعرض عنه ثلة فأُحجموا إحجاما، وألجمهم الله
لجاما، ولاقَوا في ذلك متاعب عظاما ، وشهوات وأسقاما، وسلّم له المسلمون تسليما
وسلاما، فشرح لهم صدورهم للحق تيسيرا منه وإلهاما, ورفعهم الله مكانا .
وأشهد أن لا إله إلا الله إنه كان ديانا, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إنه
كان ختاما, أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل في شرعه آيات بينات محكمات، أمر فيها خلقه
بتناول الطيبات النافعات، ونهاهم عن الخبائث الضارات، وجعل بين ذلك أمورا
متشابهات، قد لا يصل العقل إلى إدراك العلة من منعها، وإنما هو مجرد الاختبار والتسليم،
المصحوب بالإيمان واليقين.
ومن بين هذه الأمور المتشابهة نهيُ النبيّ الكريم عن الخليطيْن من النبيذ،
في التمر بأنواعه، مع الزبيب بأصنافه، واختلاف السلف في درجة هذا النهي، وفي حكم
إلحاق المسكوت عنه من الفواكه والثمار، بذاك المنصوص عليه في الأخبار.
وفي هذا الزمان قد انتشرت الأنبذة بأنواعها، والعصائر بأصنافها، واشتهر
الخلط بينها، فأحببت جمع هذا المبحث المتواضع، لأُجلّي فيه هذه المسألة، ويُعلم فيها
حكم الله جل في علاه.
منهجي في البحث وعملي فيه:
ابتدأتُ البحث بتعريفِ النبيذ ومشتقاته، وبيان أصل
الأنبذة وما يتولد عنها، وذكر أهم أنواع النبيذ
وثماره ومراحل صنعه، ومعرفة الفرق بين حلاله وحرامه، ثم بينت أنواع الأنبذة والعصائر وثمارها التي أمر
بإفرادها، ونُهي عن مزْجها، وذكر صورها، وبيان هل يلحق بها غيرها أم لا؟ ومتى تصير
الأنبذة خمرا محرمة...؟
وأما عن منهجي
في العزْو: فإنْ كان حديثا ذكرته معتمدا على الترقيم غالبا، كما أنني أذكْر درجة
الحديث والحكم عليْه من خلال كلام المــحَدّثين أو تخريجهم، فإن لم أجد اجتهدت
رأيي، فما كان من صحيح أو حسن كتبته بالتعريف هكذا " الدليل أو الحديث"،
وما شككت فيه أو لم أجده، أو كان محتملا كتبته بصيغة الشك:" دليل أو الدليل
"، وما كان من ضعيف أكتبه بصيغة التنكير : "دليل"، أو بالكلام في
أحد رواته ، أو بصيغة التمريض :" رُوي" ، وقد
سميته ب:" النبذة في أحكام العصير والأنبذة ".
وكان ترتيبه كالتالي :
المبحث الأول: أصل الأنبذة والعصائر، ومن أين تُتخذ؟ وبيان أحكامها والفروق
بينها:
المطلب الأول: أصل الأنبذة والعصائر، ومن أين تُتخذ؟
المسألة الأولى: النبيذ، ماهيته، وشروط كونه نبيذا، وهل يدخل معه الجلاب والعصير
...:
المسألة الثانية: شروط تسمية الشيء بالنبيذ:
المطلب الثاني: أنواع العصائر والنبيذ، وبيان حالات طبخ النبيذ وعدم طبخه،
وتسمياته:
المسألة الأولى: العصير والسلافة وما يتولد عنهما:
الفرع الأول: توطئة:
الفرع الثاني: أنواع العصائر:
الفرع الثالث: العصير وصور إعداده:
المسألة الثانية: النبيذ وما يتولد عنه:
الحالة الأولى: النقيع أو النبيذ غير المطبوخ:
الحالة الثانية: النبيذ المطبوخ وما يشبهه:
الفرع الأول: الدبس والمربى:
الفرع الثاني: البختج:
الفرع الثالث: الباذق:
الفرع الرابع: العقيد:
الفرع الخامس: الطابة والمنصف:
الفرع السادس: نبيذ
الخمر:
الفرع السابع: نبيذ الطلاء:
الفرع الثامن: البتع والمزر:
الفرع التاسع:
الفضيخ:
الفرع العاشر:
المذنب:
الفرع الحادي
عشر: الجلاب أو الطجين الحلو أو الخشاف ( أو سلاطة الفاكهة
المائية –أو الكوكتيل-):
المطلب الثاني: ما يشتبه أمره بالنبيذ، كالدبس والمربى والخل:
المسألة
الأولى: الدبس والمربى:
المسألة الثانية: نبيذ الخل، وتخليل الخمر:
الفرع الأول: نبيذ الخل:
الفرع الثاني: متى يجوز طبخ أو تخليل النبيذ ؟ وكيفية التخفيف من
شدته؟
المسألة الثالثة:
الدواء:
المسألة الرابعة:
الدهون والزيوت:
المسألة الخامسة:
نبيذ الدهان والزبدة:
المسألة السادسة: نبيذ الأعشاب:
المبحث
الثاني: ذكر ما يتولّد من الفواكه والثمار، وما يلتحق بها قياسا:
المطلب
الأول: ما يجوز خلط نبيذه، من مشروبات وعصائر ونحوها:
المطلب
الثاني: أحكام الأنبذة، إفرادا وخلطا، وذكر أقوال السلف في ذلك:
المسألة
الأولى: تعليلات الحنفية ومناقشتها:
المسألة الثانية:
مذهب
الجمهور المانعين للخليطين، وبيان أدلتهم:
الفرع
الأول: في درجة النهي، وعلته:
الفرع
الثاني : متى يحل شرب النبيذ ومتى يُمنع جمعا وإفرادا:
الفرع
الثالث: صور شرب النبيذين:
الفرع
الرابع: في أدلة إلحاق انتباذ أحد هذه المذكورات، بشيء
من غير المذكورات:
المبحث
الثالث: أدلة المنع بين الخليطين والنبيذيْن الإدامين:
المبحث
الرابع: الأنبذة المسكرة، والخمور المحرمة:
المطلب
الأول: تعريف الخمر وماهيتها:
المطلب
الثاني: كيف يُعرف بأن النبيذ صار مسكرا؟:
العلامة
الأولى: بدأ غليانه وزبده وخروج بعض فقاعاته:
العلامة
الثانية: مرور مدة طويلة على النقع والتفاعل:
المبحث
الخامس: آنية النبيذ والوضوء به:
المطلب
الأول: آنية النبيذ:
المطلب
الثاني: حكم الوضوء بالأنبذة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
لقد تكاثرت النصوص القرآنية والأدلة النبوية مع إجماع الأمة على أن الأصل
في المطعومات، والعصائر والمشروبات الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وقد أتت
عدة أدلة تأمر
بإفراد بعض الأنبذة والمنع من خلطها مع بعضهابخصوصها، وهي خلط نبيذ التمر مع
أنواعه، أو مع نبيذ العنب والزبيب بأصنافه، أو نبيذ التمر بالزبيب، والقمح
والشعير،
خرج مسلم (1986) عن جابر بن عبد الله الأنصاري «أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر».
وفي لفظ له :" أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ
الرطب والبسر جميعا".
ثم خرج عن جابر مرفوعا :« لا تجمعوا بين الرطب والبسر، وبين الزبيب والتمر
نبيذا».
وروى ابن وهب حدثني عبد الجبار بن عمر قال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر
بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين أن يشربا، قلنا: يا
رسول الله وما الخليطان؟ قال :"التمر والزبيب, وكل مسكر حرام ".
وخرج مسلم عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا
تنتبذوا الزهو والرطب جميعا، ولا تنتبذوا الزبيب والتمر جميعا، وانتبذوا كل واحد
منهما على حدته ».
وخرجه البخاري (5602) عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «نهى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد
منهما على حدة »...
إلا أن السلف اختلفوا في حكم خلطها ببعضها، وفي مزجها بغيرها مما يماثلها،
وفي العلة من منعها،
والسؤال المطروح:
1/ ما صفة عمل هذا النبيذ المباح، وما هو المحرم منه؟ وهل لا بد من طحن
(سحق) الثمار فيه حتى يصير نبيذا؟ أم يكفي أن تلقى الحب أو الثمر في الماء أو غيره
ولو من غير هرْس؟
2/ وهل يُشترط في الشيء حتى يصير نبيذا أن يُنقع لمدة طويلة أم
يكفي التغير؟
3/ وهل يُشترط طبخه في الماء؟ أم يكفي إلقاءه وتركه فيه لمدة، ولو من غير
طبخ؟ وهل يُشترط في النبيذ أن يُضاف له الماء ليتفاعل معه كما هو الظاهر؟ أم لا
يُشترط الماء؟
4/ وهل يلتحق بها غيرها بجامع التفكه مع شدة التفاعل المفضي إلى تسريع
الإسكار فيها ؟ كما هو مذهب الجمهور المانعين من كل نبيذيْن خليطيْن؟ أم يُقتصر في
ذلك على المنصوص فقط كما هو مذهب الظاهرية؟
5/ وهل هنالك فرق بين النبيذ وغيره؟ وبينه وبين العصير الطبيعي المعروف؟
وبين النبيذ والمربى والدبس والخل؟
6/ هل يدخل في ذلك كلُّ العصائر والمشروبات المتنوعة الطبيعية والصناعية الموجودة
في هذا الزمان؟
7/ وما هو حكم تناول الجلاب الذي يسمى عندنا ب "الطجين الحلو"،
والمصنوع من نبيذ الزبيب وفواكه أخرى؟
والجواب الإجمالي أنهم يشتركون في أشياء ويختلفون في أخرى كما مرّ:
فيشترك الدبس والخل والنبيذ والمربى وسائر العصائر الطبيعية في المواد
المكوّنة منها، وفي حلاوتها واستعذابها والتفكه بها.
ويختلف الخل عنها في الإدام به فقط من غير استعذاب، وفي عدم إضافة الماء له
كالنبيذ، وعليه فيصح استعمال خل ثمرةٍ ما منفردة، أو ممزوجة بغيرها، ولا يدخل الخل
في عموم النهي عن مزج الأنبذة معا، بل يصح مفردا وممزوجا.
ويفترقون جميعا في طريقة الإعداد وفي إضافة الماء وطبخه:
وكذلك يختلف العصير عنهم بأنه مشروب معصور، وليس نبيذا، كما أن العصيرَ هو
عصْر الثمرة مباشرة، واستخراج مائها فقط، من غير احتياج للنبذ في الماء ثم تركه
للتفاعل مدة كما في النبيذ، وعليه فالعصير يجوز تناول عصير ثمرته مفردة أو ممزوجة
بغيرها، مطلقا.
وأما النبيذ المنصوص عليه: فهو نقع الحب في الماء والمائعات لمدة طويلة قد
تصل ليلة، كما ذكر الطحاوي والمهلب وغيرهما، فيكون استعمال الثمرة جميعا، عصيرها
ومادتها ولبّها، سواء بطبخ أم من دونه.
فإن طُبخ النبيذُ صار طلاءً أو دبسا أو مربى....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول: أصل الأنبذة والعصائر، ومن أين تُتخذ؟
وبيان أحكامها والفروق بينها:
المطلب الأول: أصل الأنبذة والعصائر، ومن أين تُتخذ؟
المسألة الأولى: النبيذ، ماهيته، وشروط كونه نبيذا، وهل
يدخل معه الجلاب والعصير ...:
النبيذ عند جميع علماء اللغة والفقه: هو إدام (بالعامية الجواز): يتم بنبذ
ونقع الحبّ أو الثمر في ماء [محلى]، ثم تركِه فيه حتى يعقِد ويتفاعل الثمر مع
الماء، وتخرج سُلافته، وخلاصةُ مركّباته، ويُطلِق
حلاوته فيه، ثم يُشرب ماءه، وربما يُصطبغ بثمره، سواء طُبخ في الماء أوْ لم
يُطبْخ.
وربما عُصِر وصُفي بعد النقع في مائه، ثم منهم من يطبخ ذلك العصير أو
النبيذَ جيدا حتى يصير دبسا، ومنهم من يضعه في آنية نباتية أو فخارية حتى يتفاعل
بسرعة لأجل ...
وقد أمر النبي عليه السلام بتناول الأنبذة مفردة من غير جمع بين بعض
الأنبذة الوارد بها النص، وما يقاس عليها بجامع التفكه والاشتداد وإمكانية التغير.
1/ فأما النبذ في اللغة فهو الطرح
والإلقاء للشيء. وفي الشرع يضاف إلقاء الثمرة إلى الماء لا غيره ولا بد.
قال برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ في ترتيب
المعرب :" ( نَبَذَ ) الشَّيْءَ مِنْ يَدِهِ طَرَحَهُ وَرَمَى بِهِ نَبْذًا،
قال:" ( وَالنَّبِيذُ ) التَّمْرُ يُنْبَذُ فِي جَرَّةِ الْمَاءِ أَوْ
غَيْرِهَا أَيْ يُلْقَى فِيهَا حَتَّى يَغْلِيَ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الزَّبِيبِ
وَالْعَسَلِ .".
وقال ابن سيدة في المحكم والفراهيدي في العين :"
النَّبْذُ: طّرْحُكَ الشيء من يدكَ أمامَك أو خلفك"
وقال الحموي في المصباح :" ومنه سمي
"النَّبِيذُ" لأنه "يُنْبَذُ" أي يترك حتى يشتد"....
2/ وأما في الشرع فهو إلقاء الثمرة
في الماء حتى تعقد وتطلق حلاوتها ومركباتها فيه ...
بخلاف العصير فهو عصر الثمرة
مباشرة.
فأما النبيذ فهو إدام: جزء منه
مشروب كالعصير، وجزء منه أكل كالإدام، هذا إن لم تتتحلل الثمرة.
قال ابن الأثير في غريبه (5/15) :" النبيذ: ما يعمل من الأشربة من
التمر والزبيب (العنب) والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك ".
قال :" نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا ،
والانتباذ: أن يجعل نحو تمر أو زبيب في الماء ليحلو فيشرب،
وَيُقَالُ لِلْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ شَيْرَج
أَيْضًا ".
وقال ابن الأثير في غريبه (5/15) :" النبيذ: ما يعمل من الأشربة من
التمر والزبيب (العنب) والعسل والحنطة
والشعير وغير ذلك ". فعمم كل الفواكه ولم يخص.
قال :" نبذت التمر والعنب إذا
تركت عليه الماء ليصير نبيذًا "،
وقال ابن حجر في الفتح :" المراد بالنبيذ المذكور تمرات نبذت في ماء أي
نقعت فيه كانوا يصنعون ذلك لا ستعذاب الماء".
وقال الشوكاني في نيل الأوطار
:" والمراد بالنبيذ المذكور تمرات نبذن في ماء:
أي نقعت فيه كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب الماء".
وقال شيخنا عبد المحسن العباد في
شرح سنن أبي داوود :"
والنبيذ هو كون التمر أو الزبيب أو العنب يوضع في ماء مدة لا يصل معها إلى حد
الإسكار فيتغير ذلك الماء بسبب هذا الذي وضع فيه".
ومما يدل على أن النبيذ هو عبارة
عن إدام، أن فيه إلقاء الثمرة في الماء لينعقد، فهو مشروب من جهة، ومطعوم من جهة،
يشرب ماؤه ويؤتدم به كما قال البخاري في الصحيح:" باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان
مسكرا، وأن لا يجعل إداميْن في إدام "،
ففرّق البخاري بين الخلط بين المسكرين، وبين تناول
الإداميْن غير المسكرين فمنع منهما أَيضا.
وروى الدولابي عن الأعمش عن إبراهيم قال: إنما كُره الخليطان،
كما كُره الإدامان "
والنبيذ جائز بشروطه، ولا علاقة للإداميْن
الخليطين بالإسكار في الحال كما يزعمون، بل لأن النبيذ في المآل قدا يؤول الأمر به
للإسكار بعد يوم واحد أو ثلاثة أيام أو أكثر على حسب الظروف...كما ذكر الباجي :"
فثبت
بذلك المنع من انتباذ شيئين يفضي كل واحد منهما إذا أفرد بالانتباذ إلى الإسكار
وجمعهما تعجيل لذلك سواء كانا من جنس واحد أو من جنسين ".
وقد منع حمهور
السلف والخلف من الخليطيْن، ولم يلتفتوا إلى الإسكار:
فقال أبو حبيب في القاموس الفقهي:" النبيذ: ما نبذ في الماء، ونقع فيه، سواء كان
مسكرا، أم غير مسكر ".
وقال العيني في العمدة:" النَّبِيذ أَن يلقى فِي
المَاء تُمَيْرَات حَتَّى يَأْخُذ المَاء حلاوتها وَلَا يشْتَد وَلَا يسكر"
وقد أمر النبي عليه السلام بتناول
الأنبذة مفردة من غير جمع بين بعض الأنبذة الوارد بها النص، وما يقاس عليها بجامع
التفكه والاشتداد وإمكانية التغير.
ومن خلال هذا التعريف نستنبط شروط
كوْن الشيء نبيذا وهي:
المسألة الثانية: شروط تسمية الشيء بالنبيذ:
1. أن يكون المنقوعُ ثمرا أو حبا
أو فاكهة: فإن كانت لا تشتد فيجوز خلطها بغيرها، كما يجوز إفرادها، وإن كانت الثمرة تشتدّ أي: يُمكن أن تُسكر بنفسها بالنبذ
بعد تخزينها مدة طويلة من غير إضافات، فهذه يُمنع من خلطها مع غيرها ولو لم تسكر كما سنبين.
2. أن يُنقع الثمر في
الماء: سواء أنُقع حبا كاملا، أو مقطعا، وسواء أنُقع بعد الطبخ أو نُقع نيئا.
3. كما يشترط فيه استعمال الثمرة جميعها أو مقطعة، مادتها ولبّها، سواء
بطبخ أم بدونه.
4. أن يتفاعل الثمر في
الماء: بحيث يطلق حلاوته ومركباته فيه كما سيأتي.
قال
الدِّهلوي الحنفي في لمعات التنقيح (7/315) :" ويترك -النبيذ- مدة يحدث
فيها شيء من الحدة، والتغير معتبر في النبيذ على ما هو المفهوم من لفظه من معنى
النبيذ "،
وقال
الونشريسي في المعيار :" وقد ذكر ابن رشد في البيان القولين في المذهب، في
كونه حكماً معللاً بما تقدم، أو باباً من باب التعبد، ومال إلى القول بالتعليل،
وبنى على هذا الخلاف أن من خلط الخليطين المنهي عنهما وشربهما في الحين على الفور،
لم يكن عليه في ذلك حرج على طريقة التعليل، لحصول القطع بالسلامة، وقد لا يجوز
ذلك، وإن شربهما على الفور على مذهب العبادة ".
فإذا
فاتت مدة طويلة تصل يوما وليلة فصاعدا، ووُضع النبيذ في غير مبردات، فقد اختلف
العلماء في إلحاقه بالمسكرات:
فمنهم
من قال: يحرم بعد يوم وليلة، لأنه سيبدأ فيه الإسكار خاصة إذا وضع في الجرار
ونحوها.
ومنهم
من قال: يحرم بعد ثلاثة أيام، والأصح أن العبرة التغير كما سيأتي.
فإذا عرفت النبيذ وكيفية إعداده
فالأظهر أنه لا يدخل معه العصير وأطباق السلاطة ونحوهما مما لا يُنبذ في الماء،
لأن العصير غير النبيذ كما سيأتي والله أعلم.
وما يتولد من
الفواكه من نبيذ أو عصائر عدة أحوال وتسميات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلب الثاني: أنواع العصائر والنبيذ، وبيان حالات طبخ
النبيذ وعدم طبخه، وتسمياته:
المسألة الأولى: العصير والسلافة وما يتولد عنهما:
الفرع الأول: توطئة:
1/ إن عصروا الثمر المائيّ أو استخرجوا ماءه فهو العصير، وإن انعصر بنفسه
فهو السلافة.
ويقال للعصارة: الشيرج والشيرق والحلب، والفضيخ.
والمفضخة حجر يفضخ به البسر، فإن فُضخ بالأيدي سمي: درياقة.
2/ وإن طبخوا العصير حتى يعقد جدا فهو الدبس.
3/ وإن أخذوا الثمرة أو هرسوها ووضعوها في الماء من غير طبخ، فهو الفضيخ:
والفضخ هو الهرس والدقّ.
قال أبو عبيد:" ومن
الأشربة أيضًا الفضيخ وهو ما افتضح من البسر من غير أن تمسه النار".
4/ فإن طبخوا الثمر المهروس لكن بلا إضافة ماء، فهو المربى.
ولا يدخل العصير في حكم الأنبذة، لأن العصر يتم بسحق الثمرة مباشرة، وأما
النبذ فهو تركها في الماء حتى تنعقد وتتفاعل.
فهي أشبه بالعصير وتسمى الفضيخ أيضا. وإليك التفصيل:
الفرع
الثاني: أنواع العصائر: وهي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: السُّلافة: وهي أن يُترك الثمار حتى يسيل منه خلاصة
مائه بلا عصر ولا مرث.
النوع الثاني: العصيرُ الطبيعي، وتسمياته إذا طبخ:
هو أول ما يخرج من عصارة أي شيء، يُهرس ويُسحق حتى يتحلّب ماءه، ثم يُضاف له
سُكَّـــرٌ وماء "، ومعنى يتحلب أي يصير سائلا كالحليب .
ويقال للعصارة: الشيرج والشيرق والحلب، والفضيخ،
والمفضخة حجر يفضخ به البسر، فإن فُضخ بالأيدي سمي : درياقة ".
فإن احتاج العصير إلى الطبخ فهو البختج، ثم يصير طلاء ثم دبسا.
والعصير الطبيعي تكون مدة صلاحيته على الأكثر ثلاثة أيام ونحوها كما سيأتي،
ثم تدخله الحموضة.
فإن دخلته مواد حافظة عاش أكثر.
ويدخل في العصير الطبيعي ما دخله تركيز مادة النكتار والسكر بهدف رفع
تركيزه بدون معاملة حرارية.
النوع الثالث: العصير الصناعي: هو عبارة عن غبرة (بودرة) مكوّنة من الكثير من
المركّبات الكميائية والحافظات، والملوّنات الخالية من المواد الغذائية غالبا،
ولربما فيها الشيء القليل من ميبس الثمار.
وهذا النوع عبارة عن نكهات فقط.
والكثير من الشركات يوهمون الزبائن بأنها طبيعية وليست كذلك، ولذلك لا تدخل
في حكم خلط العصائر أبدا، وإنما يُخاف من أضرارها وآثارها، فإن الباحثين والأطباء
يكادون يجمعون على تعدد أضرارها.
وإنما التي قد تدخل في الخلاف في جمعها هي تلك العصائر الطبيعية، أو
الصناعية المكونةُ حقيقةً من العصير المُركّز الطبيعيّ لبعض الثمار المشتدّة.
ويشترك العصيرُ والنبيذُ في المعنى، وتحلّل جزئيات الثمار في ماء محلى،
ويختلفان فقط، بأن العصير إنما هو شرب كما هو عصر الفاكهة مباشرة، وأما النبيذ فهو
إلقاء الثمرة في الماء لمدة طويلة، وهو فرق مؤثر كما ذكرنا.
الفرع الثالث: العصير وصور إعداده: للعصير ثلاثة صور:
1. أن تُجفف الثمرة أو الفاكهة
وتُسحق ثم يُستعمل مسحوقها في إعداد العصير بالماء والتحلية، فإن أضافوا له مواد
كيميائية صار عصيرا اصطناعيا أو مخلوطا بين الطبيعي والاصطناعي.
2. أن تُعصر الثمار
المائية مباشرة – كالليمون والبرتقال والعنب- ، وقد يضاف لها ماء، ثم تُحلى
بسُكَّر أو عسل، ثم تُشرب.
فإذا طبخ هذا العصير بالنار قليلا صار بختجا، ثم يصير طلاء ثم دبْسا:
3. وأما الثمار اليابسة كالجزر والخضار والخروب: فيتم طبخها حتى تلين ثم
تُعصر، ويضيفون لها ماءً ساخنا، مُحلّى بعسل أو سُكَّر، وربّما أضافوا له عصير
الليمون ونحوه.
فهذه الثمار تحتاج إلى طبخ ومعاملة حرارية، ويسمى عصيرها ب " البُختج
"، كعصير الجزر ونحوه.
فهذه تُطبخ لأجل تليينها واستخراج ماءها وعصيرها فقط، لا لأجل تفاعلها كما
في النبيذ والدبس وغيره.
ثم إذا ما طُبخ العصير بالنار مطلقا صار طلاءً ثم دبسا أيضا .
فإذا حمل على النبيذ عسل أو دبس ليقوى سمى فتاقا فاذا
استحكم النبيذ فقد استوتن".
والحاصل أنّ العصائر والمشروبات وما يتولد عنها من طلاء ودبس لا تدخل في
حكم النبيذ:
قال القاضي في المسالك :" وأمّا خلط العسل واللّبَن وشربهما، فلا بأس به، قالَهُ ابن
القاسم في "العُتبِيّة".
قال القاضي:" ووجهُ ذلك: أنّ هذا ليس بانتباذٍ، وإنّما
هو على معنى خلط مشروبين كشراب الورد والياسمين وغيره".
ولم يمنعه إلا ابن عبد الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثانية: النبيذ وما يتولد عنه:
لا يدخل في النبيذ ما نُقع في الزيت، ليصيرا زيتا أو مرهما،
ولا ما تحلل بنفسه بلا ماء كالخل...
وهكذا ليس هو كل إدام أو خليط أو مهروس معدود للأكل، كسلاطة الفواكه، أو
الحيس والأقط مثلا، فإنهما طعام يُتخذ من التمر المهروس والسمن وغيره، وليسا
بمشروب.
فقد ثبت عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ
بالرطب"، وفي لفظ :" يجمع بين الرطب والخربز"، وهو البطيخ الأصفر.
وعَن عَبد الله بن جعفر قال: رأيت رسول الله صَلَّى الله عَليْهِ وَسلَّم يأكل
القثاء بالرطب"، وذكرت عائشة رضي الله عنها أنها سمنت بجمعهما أكلا.
وكان يحب الحلواء والعسل.
بل النبيذ أن تُنقع الثمرة أو أجزاء منها في ماء [محلى]، ثم تترك مدة حتى
تنعقد ويتغير الماء ويحلو، طبخ أو لم يُطبخ،
وهذه الثمار غالبا ما تنقّى ثم تُقسم ثم تُنبذ في الماء مدةً حتى تنعقد، ثم
بعد مرور المدة منهم من يصفّي ماءه ويشربه نبيذا، وقد يأتدمون بثمره إداما لذيذا.
كما مر أن العبرة في تسميته نبيذا ليست المدة، بل التغير وانحلال الثمرة في الماء
وإطلاق حلاوتها فيه، كما قال العلماء.
قال
الدِّهلوي الحنفي في لمعات التنقيح (7/315) :" ويترك مدة يحدث فيها شيء
من الحدة، والتغير معتبر في النبيذ على ما هو المفهوم من لفظه من معنى النبيذ
"،
وقال
الونشريسي في المعيار :" وقد ذكر ابن رشد في البيان القولين في المذهب، في
كونه حكماً معللاً بما تقدم، أو باباً من باب التعبد، ومال إلى القول بالتعليل،
وبنى على هذا الخلاف أن من خلط الخليطين المنهي عنهما وشربهما في الحين على الفور،
لم يكن عليه في ذلك حرج على طريقة التعليل، لحصول القطع بالسلامة، وقد لا يجوز
ذلك، وإن شربهما على الفور على مذهب العبادة ".
لكن
إذا فاتت على النبيذ مدة طويلة، في غير مبردات، ومكث يوما فأكثر فقد حرمه طائفة من
السلف لاحتمال تغيره إلى قليل الإسكار، وقيل بل المدة ثلاثة أيام، والأصح أن
العبرة هي التغير وخروج الوغوة ما سيأتي.
كما يشترط فيه استعمال الثمرة جميعها أو مقطعة، مادتها ولبّها، سواء بطبخ
أم بدونه.
وللنبيذ عدة أحوال وتسميات عدة على حسب طبخه من عدمه:
الحالة الأولى: النقيع أو النبيذ غير المطبوخ:
1/ إن نقعوا الثمرة ثم
نزعوها بسرعة قبل أن يتغير الماء فهو الشيرج، كما مر عن ابن الأثير:"
وَيُقَالُ لِلْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ شَيْرَج أَيْضًا
".
2/ فإن
نقعوا الثمر في ماء ولم يطبخوه فهو النقيع، كما في حديث حديث فيروز قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول
الله، إنا أصحاب أعناب وكرم، وقد نزل تحريم الخمر، فما نصنع بها؟ قال: " تتخذونه
زبيبا " قال: فنصنع بالزبيب ماذا؟ قال: " تنقعونه على غدائكم، وتشربونه
على عشائكم، وتنقعونه على عشائكم، وتشربونه على غدائكم..".
قال ابن الأثير في "النهاية" 5/109: أي
تخلطونه بالماء ليصير شرابا، وكل ما ألقي في ماء فقد انقع، يقال: أنقعت الدواء
وغيره في الماء، فهو منقع، والنقوع بالفتح: ما ينقع في الماء من الليل ليشرب
نهارا، وبالعكس. والنقيع: شراب يتخذ من زبيب أو غيره، ينقع في الماء من غير طبخ
".
وقال الدِّهلوي الحنفي في لمعات التنقيح (7/315):"
النقيع شراب يتخذ من زبيب أو غيره، والمتعارف هو الزبيب ينقع في الماء من غير طبخ،
أنقع الزبيب في الخابية، ونقعه: ألقاه فيها ليبتلّ وتخرج منه الحلاوةُ، وزبيب
مُنْقَعٌ بفتح قاف مخففًا، وكل ما ألقي في ماء فقد أنقع ".
وقد يسمى بالنبيذ تجوزا.
وكذلك الأمر إن نقعت الثمرة في ماء ساخن أو حارّ لمدة حتى ينعقد، لكن من
غير طبخٍ في النار فهو النقيع أو النبيذ،
قال النووي في
شرح مسلم" الانتباذ أن يجعل نحو تمر أو زبيب في الماء ليحلو فيشرب "،
ثم تختلف التسمية باختلاف الثمر ودرجة الطبخ:
2/ فالبتع: نبيذ العسل، والجعة: نبيذ الشعير، والمزر: نبيذ الذُرة..
الحالة الثانية: النبيذ المطبوخ وما يشبهه:
إذا طبخوا النقيع يسمى نبيذا، وهو جائز ما لم يشتد أو يُخلط، كما روت
قرصافة بنت عمر قالت: دخلت على عائشة فطرحت لي وسادة، فسألتها امرأة عن النبيذ
فقالت: «نجعل التمرة في الكوز فنطبخه فنصنعه نبيذا فنشربه» فقالت: «اشربي ولا
تشربي مسكرا»، وفيه دليل على إطلاق النبيذ على المطبوخ.
ثم في كل مدة زمنية من الطبخ، وفي
كل درجات حرارية معينة يتغير حال النبيذ من حالة لأخرى:
الفرع الأول: الدبس والمربى:
إن هرسوا الفاكهة ووضعوا عليها سكرا وطبخوها بلا ماء فهو المربى، ولذلك لا
يدخل في النهي عن الخليطين كما سيأتي.
وإن طبخوا العصير أو الماء المنقوع وحده بعد تصفيته خاصة في الثمار الجافة
كالتمر، حتى يعقد جدا، فهو الدبس، وعليه: فدبس التمر يدخل في النهي عن الخليطين.
بخلاف الثمار المائية كالتوت
والعنب والبرتقال والبرقوق فإنها تُعصر ويُطبخ عصيرها فقط بلا نبذ في الماء، فلا تدخل
في النهي.
الفرع الثاني: البختج:
إذا طُبخ النبيذ في النار -حبَّه وثمرتَه وماءَه معًا- فهو نبيذ البختج.
الفرع الثالث: الباذق:
إذا طُبخ النقيع قليلا وتبخر أقل من ثلثه فقط، ثم تُرك مدة طويلة تفوق
الثلاثة أيام إلى العشرين يوما ونحوها، حتى تخرج الرغوة، فيسمى
"الباذَق".
قال العيني:"وَقَالَ أَصْحَابنَا: الطلاء الَّذِي يذهب ثلثه
وَإِن ذهب نصفه فَهُوَ الْمنصف، وَإِن طبخ أدنى طبخه فَهُوَ الباذق"
وأما الباذق المحرم: فهو أن يُطبخ عصير العنب أو نبيذه
قليلا بعد أن يشتد، ثم يترك، وهو مسكر.
الفرع الرابع: العقيد:
وذلك إذا طُبخ النبيذ حتى يتبخر ثلثه ويثخن، ثم يُترك ليبرد ويُشرب ( وهو ما يُعرف بالبسترة
في العلم الحديث )
الفرع الخامس: الطابة والمنصف:
إذا طُبخ النقيع حتى
يطيب ويتبخّر نصفه فيسمى "المنصف" أو " طابة "، لشدة طِيبه
وعذوبته.
الفرع
السادس: نبيذ الخمر:
فإن تأكدوا من التغير فهو نبيذ الخمر، خاصة إن نبذوا الثمرة في الجرار..
لمدة طويلة:
واختلفوا في تلك المدة التي يتحول فيها النبيذ إلى خمر.
فذهب قوم إلى أنه إن تُرك – خارج الثلاجة- لمدة ثلاثة أيام فهو خمر حرام.
وقيل أسبوع.
وقيل: ثلاثة أيام في البلاد الساخنة، وأسبوع في البلاد الباردة.
وقيل: العبرة فيه حتى يغلي ويتغير ويظهر فيه الزبد الذي هو من علامات
الإسكار كما مر عن ابن حجر وابن حزم.
وقال الشافعي: ما
دام العصير حلوا لم يشتد فهو حلال وسواء أتى عليه ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر إذا
لم يتغير عن حاله وكان حلوا مثل أول عصره".
وسيأتي مزيد شرح في
باب الخمور.
الفرع السابع: نبيذ
الطلاء:
هو أن ينقع الثمر في الماء مدة، ثم قبل أن يشتدّ يُطبخ الثمر بمائه طبخا
كثيرا، في ماء محلى حتى يبقى منه الثلث فقط، ويتبخر ثلثاه، ثم يترك مدة حتى ينعقد
ويسودّ.
فإذا تبخر ثلثاه، زال عنه في الغالب كل المواد المسكرة،
وتُقتل فيه البكتيريا، ويسمى بالطلاء، نسبة إلى طلاء الإبل في ثخنه وسواده، وهو
أشبه بالدبس.
قال ابن التين :" الطلاء هو ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب
ثلثاه، وتسميه العرب أيضا الميبختج"
والعراقيون والحنفية هنا يجيزون هذا النبيذ المطبوخ، ولو خرجت رغوته التي
هي من علامات الإسكار، إلا رغوة العنب فيحرمونها، لكن الجمهور على أن هذا الطبخ
الكثير من علامات عدم الإسكار فقط، وإنما المعيار المطرد في التحريم وعلامات
الإسكار هو خروج الزبد والرغوة.
كما أنهم اختلفوا في الكمية التي تتبخر حتى يزول عن النبيذ ما يُخشى منه من
إسكار:
فمذهب الجمهور أنه إن طُبخ حتى يتبخر منه الثلثان فقد أمِن الإسكار، ومع
ذلك فالعبرة بالتغير وخروج الرغوة.
وأن ذلك يختلف ذلك باختلاف نوع الثمار والجو والبلد وهو الأصح:
قال ابن حجر :" قال ابن حزم إنه شاهد من
العصير ما إذا طبخ إلى الثلث ينعقد، ولا يصير مسكرا أصلا، ومنه ما إذا طبخ إلى
النصف كذلك، ومنه ما إذا طبخ إلى الربع كذلك، بل قال إنه شاهد منه ما يصير ربا
خاثرا لا يسكر، ومنه ما لو طبخ لا يبقى غير ربعه لا يخثر، ولا ينفك السكر عنه، قال
فوجب أن يحمل ما ورد عن الصحابة من أمر الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ ".
وقد استدل من حدد جواز الشرب بيومين ونحوها فقط:
بما خرج ابن حبان في صحيحه 5384 عن ابن عباس
قال: أتاه قوم, فسألوه عن بيع الخمر, وشرائه, والتجارة فيه, فقال ابن عباس:
أمسلمون أنتم؟ قالوا: نعم, قال: فإنه لا يصلح بيعه ولا شراؤه, ولا التجارة فيه
لمسلم, وإنما مثل من فعل ذلك منهم مثل بني إسرائيل حرمت عليهم الشحوم, فلم يأكلوها
فباعوها, وأكلوا أثمانها, ثم سألوه عن الطلاء, قال ابن عباس: وما طلاؤكم هذا الذي
تسألون عنه؟ قالوا: هذا العنب يطبخ, ثم يجعل في الدنان, قال: وما الدنان؟
قالوا: دنان مقيرة, قال: أيسكر؟ قالوا: إذا أكثر منه أسكر, قال: فكل مسكر حرام, ثم
سألوه عن النبيذ؟ قال: خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم في سفر, فرجع وناس من
أصحابه قد انتبذوا نبيذا في نقير وحناتم ودباء, فأمر بها, فأهريقت, وأمر بسقاء
فجعل فيه زبيب وماء, فكان ينبذ له من الليل, فيصبح فيشربه يومه ذلك وليلته التي
يستقبل, ومن الغد ". وستأتي الأدلة الأخرى في بابها.
واستدل من رأى
العبرة بالتغير:
بما خرجه مالك في"الموطأ" 2/847 من طريق محمود بن لبيد
الأنصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها,
وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب, فقال عمر: اشربوا هذا العسل, قالوا: لا يصلحنا
العسل, فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لا
يسكر؟ قال: نعم, فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث, فأتوا به عمر, فأدخل فيه
عمر إصبعه, ثم رفع يده, فتبعها يتمطط, فقال: هذا الطلاء! هذا مثل طلاء الإبل, فأمرهم عمر أن يشربوه, فقال له عبادة بن الصامت: أحللتها
والله, فقال عمر: كلا والله, اللهم إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم, ولا أحرم
عليهم شيئا أحللته لهم ".
وطلاء الإبل هو القطران .
وقال الحافظ في
الفتح (10/63): وأخرج سعيد بن منصور من طريق أبي مجلز عن عامر بن عبد الله قال:
كتب عمر إلى عمار: أما بعد, فإنه جاءني عير تحمل شرابا أسود كأنه طلاء الإبل,
فذكروا أنهم يطبخونه حتى يذهب ثلثاه الأخبثان: ثلث بريحه, وثلث ببغيه, فمر من قبلك
أن يشربوه.
ومن طريق سعيد بن
المسيب أن عمر أحل من الشراب ما طبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه ".
وأخرج النسائي
8/329 من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: أما بعد, فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان, فإن له اثنين ولكم واحد
".
وأخرج أبو مسلم
الكجي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة 7/170 من طريق قتادة عن أنس أن عبيدة ومعاذ بن
جبل وأبا طلحة كانوا يشربون من الطلاء ما طبخ على
الثلث وذهب ثلثاه ".
وهذه أسانيد صحيحة, وقد أفصح
بعضها بأن المحذور منه السكر, فمتى أسكر لم يحل.
وقال البخاري في صحيحه :" باب الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة، ورأى عمر، وأبو
عبيدة، ومعاذ، «شرب الطلاء على الثلث» وشرب البراء، وأبو جحيفة، على النصف وقال
ابن عباس: «اشرب العصير ما دام طريا».
الفرع الثامن: البتع
والمزر والفقاع:
البتع: مطبوخ نبيذ الحبوب
كالقمح والشعير والأرز...
والمزر: نبيذ العسل.
كما في حديث
أبي موسى قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله،
إن بها أشربة فما أشرب؟ وما أدع؟ قال: " وما هي؟ " قلت: البتع والمزر
فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو؟ فقال: " ما البتع؟ وما المزر؟
" قال: أما البتع: فنبيذ الذرة يطبخ حتى يعود بتعا، وأما المزر: فنبيذ العسل.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تشربن مسكرا ".
"وقال معن بن عيسى: سألت مالك بن أنس عن الفُقَّاع ؟ - قد يصنع من
العسل وأكثر ما يصنع من الزبيب وحكمه سائر الأنبذة ما دام طريا يجوز شربه ما لم
يشتد -، فقال:" إذا لم يسكر فلا بأس به، أي وإذا أسكر حرم كثيرة وقليله
".
الفرع
التاسع: الفضيخ:
وهو أن تُنقع ثمرة أو ثمرتان فأكثر، ثم تُفضخان أي تُدقّان وتُتركان حتى
تتفاعلا وتثخنا معًا، من غير طبخ، ثم يشرب ماءها ويصطبغ بحبّها، فيكون إداما،
ويطلق الفضيخ على عدة أنبذة منها:
1.أن يطلق الفضيخ على النبيذ المشتد من
ثمرتيْن تشتدّان:
وذلك بسبب
فضخه ونقعه طويلا، وربما طبخه قليلا، ثم تغطيته جيدا، وتركه في قلال -آنية- نباتية
حتى ينقع كثيرا ويشتد.
2. ويطلق في الغالب على خلط نبيذ البسر والتمر معا
ولو لم يسكر، مع أن كليْهما من جنس التمر، وقد صح النهي عن الجمع بين كل نبيذيْن
مختلفيْن يشتدان ولو من نفس الجنس، لما روى أبو بكر (5/93) ثنا مروان بن معاوية عنيزيد بن كيسان قال: سألت أبا الشعثاء جابر بن زيد عن
الفضيخ؟ قال: «وما الفضيخ؟» قلت: البسر والتمر، فقال: «والله لأن تأخذ الماء
فتغليه فتجعله في بطنك خير من أن تجمعهما جميعا في بطنك ».
وخرج أبو عوانة في مستخرجه الصحيح (8024) عن حصين والشيباني كلاهما عن حبيب بن
أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أهل جرش «أن لا يخلطوا التمر بالزبيب»، وفي حديث حصين ابن حبيب: وكتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أهل البحرين، «لا يخلطوا التمر بالزهو، يعني الفضيخ».
روى يزيد بن كيسان
قال: سألت أبا الشعثاء جابر بن زيد عن الفضيخ؟ قال: «وما الفضيخ؟» قلت: البسر
والتمر، فقال: «والله لأن تأخذ الماء فتغليه فتجعله في بطنك خير من أن تجمعهما
جميعا في بطنك ».
3/
يُطلق الفضيخ على الشراب المفرد المشتد: بحيث يُتخذ غالبا من البسر المفضوخ أي:
المدقوق، بحيث يشدخ البسر أو نحوه, ويجعل في آنية نباتية، ويصب عليه الماء الحار
حتى تنتقل حلاوته إلى الماء، من غير أن يُطبخ، بل يغطى ويُترك في جب لمدة حتى يشتد
ويصير مسكرا حراما، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت :" نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن نقيع البسر، وهو الزهو ".
/ فأما إن كان الفضيخ مفردا غير مشتد فهو جائز: لما روى أبو
يعلى عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم
أتي بجر فضيخ بسر، وهو في مسجد الفضيخ، فشربه، فلذلك سمي: مسجد الفضيخ ".
الفرع
العاشر: النبيذ المذنب :
يطلق على نبيذ الثمر المذنب المناصف، الذي نصفه يابس، ونصفه طري كالتمر
المذنب، فهذا أيضا منهي عن نبيذه، لأنه كالخليطيْن:
خرجه النسائي في الكبرى
(5072) أخبرنا سويد بن نصر أنبأنا عبد الله عن وقاء بن إياس عن المختار بن فلفل عن
أنس بن مالك قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجمع شيئين نبيذا يبغي
أحدهما على صاحبه» قال: وسألته عن الفضيخ ؟ فنهاني عنه، قال: «كان يكره المُذنِّب
من البسر مخافة أن يكونا شيئين، فكنا نقطعه »، والمذنب هو الذي بَدَا فيه الإرْطاب
من قِبَل ذَنَبِه، ففيه جزء رطب وجزء يابس، فكره أنس خليطهما، لكن فيه وقاء وهو
محل خلاف، وفي حديثه لين :
لكن الجزء الأخير الموقوف صحيح عنه : فقد خرج النسائي عن هشام عن أبي إدريس
قال: «شهدت أنس بن مالك أتي ببسر مُذنّب، فجعل يقطعه منه ».
ثم خرج عن عبد الله عن حميد عن أنس أنه كان لا يدع شيئا قد أرطب إلا عزله
عن فضيخه ".
وخرج عن سعيد بن أبي عروبة قال قتادة كان أنس يأمر بالتذنوب فتقرض ".
وورد عن ابن عمر أنه كان ينتبذ التمر فينظر إلى التمرة بعضها بسرة وبعضها رطبة
فيقطعها ولا ينتبذ كلها ".
قال ابن العربي في شرح موطإ مالك (5/363) :" ...أنّ ابنَ القاسم قال؟
لا يجوزُ أنّ يُنْبَذَ البُسْرُ المُذَنَّبُ، وهو الّذي يُرَى الإرطاب في ذنَبِهِ،
وصدق لأَنّه من باب الخليطين ".
الفرع
الحادي عشر: الجلاب أو
الطجين الحلو أو الخشاف ( أو سلاطة الفاكهة المائية –أو الكوكتيل-):
مرّ أن الانتباذ: ليس مجرد إلقاء الحب والثمر في الماء ثم إخراجه منه في
المجلس والمكان قبل أن ينعقد ويتغير طعمه، مع الاختلاف في ذلك، كما أنه ليس مجرد
الجمع بين الفاكهة للأكل وغيره، فإن ذلك مباح.
وإنما النبيذ هو: نبذ أو نقع ثمرٍ أو فاكهةٍ في ماءٍ محلى، أو طبخها فيه، بحيث
يُترك مدة حتى ينعقد ويطلق حلاوته، ثم يشرب نبيذا لذيذا، وإداما لذيذا.
وعليه فالجلاب نوع من أنواع الإدام
( بالعامية الجواز) كما أنه من أنواع النبيذ المطبوخ، الذي ينعقد بالطبخ.
وقد
مر تبويب البخاري في الصحيح:" باب النهي عن الإداميْن".
والإدام
هو الجمع بين مطعومين، المسمى بالعامية "الجواز"،
وقد مر أنه في كل درجة حرارية وتبخُّرٍ له تسمية معينة.
ويختلف الناس في صُنْع الجلاب وتسميته من بلد لآخر، ويختلفون في إعداد
نبيذه، والفواكه التي تمزج فيه، ويختلف الحكم بناء على ذلك:
الحالة الأولى: حالات الجواز: وهي كثيرة لأن الأصل الإباحة، وفي ذلك صور:
1: الإفراد: فمنهم من ينقع الزبيب وحده، أو فاكهة على حدتها، والإفراده
جائز اتفاقا، ما بقي النبيذ حُلْوًا ولم يشتدّ، لأنه عليه السلام :" نهى عن
خليط التمر والبسر، وعن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط الزهو والرطب، وقال:
«انتبذوا كل واحد على حدته».
وبقاء النبيذ
في الثلاجة لا يتركه يتغير أو يتحول.
. وأما إن أضيف للنبيذ عصيرٌ أو مشروب من الفواكه: فقد بيّنا بأن العصير لا
يدخل في حكم النبيذ، فيجوز خلطه مع النبيذ، لكن سبق وسيأتي عن ابن حزم والمالكية
أنهم منعوا من إضافة المشروبات لهذه الأصناف، والصحيح الجواز.
2: ومنهم من يضيف له أشياء أخرى من غير جنس الفاكهة، وهو أمر جائز على
الأصح،
أ: فمنهم من يضيف نقيع الورد وماءه للنبيذ، أو نقيع الأعشاب كماء الورد والنعناع والزعتر ...ونحوه
مما لا يشتد بنفسه، فهو أيضا مباح، إلا ما مر عن الإمام ابن عبد الحكم إذ قال
:" لا يجوز خلط شرابي سُكر، كالورد والجلاب "،
ب: وهكذا إن أضيف له ثمر لا يشتد بنفسه كالخضار فإنها لا تدخل في الفاكهة
والأنبذة،
ت. وكذلك إذا أضيف له المُكَسّرات كحب اللوز ونحوه فيجوز، لأنها المكسرات
لا تشتد ولا تُنبذ.
الحالة الثانية: حالة المنع:
وذلك عند الجمع بين نقيعيْن من فاكهتيْن أو ثمرتيْن مشتدتيْن فأكثر، كمن
يضيف الزبيب للتمر أو نقيع العسل.
وليست العلة هي الإسكار كما يزعم الحنفية وحدهم، بل هي الخلط بين الفواكه،
لأن الإسكار حرام مطلقا، أفرد الفاكهة أو جمعها.
ويدخل في ذلك الجمع بين كل الفواكه المشتدة كما يفعلون عندنا في الجلاب أو
الطجين الحلو حيث يتم الجمع بين نبيذ الزبيب مع المشمش معا، أو مع البرقوق، أو
غيره من الفواكه المشتدة، في ماء محلّى بسُكّر أو مع ماء ورد، ثم يُترك لساعات قد تفوق الليلة حتى ينعقد،
ومنهم من يطبخ ذلك ومنهم من لا يطبخه، ثم يتناولون نبيذها، ويأكلون ثمرتها.
فكل ذلك الخلط حرام ممنوع عند المالكية وجمهور السلف والخلف، أسكر أو لم
يُسكر، ولا يُلتفت إلى خلاف الحنفية والعراقيين المتوسعين في باب الأنبذة.
وهذا هو عين العقيد أو النبيذ الممزوج الذي وردت به الأحاديث السابقة نصّا
ومنعا،
وقد كان ولا يزال هذا النبيذ يُعمل حين الإفطار من الصوم، ومنه ما هو مباح
بالاتفاق إذا كان منفردا، وأما إذا كان نبيذا ممزوجا ففيه التفصيل المذكور:
خرج النسائي (5610) وأبو داود في سننه 3716 - عن هشام بن عمار حدثنا صدقة
بن خالد حدثنا زيد بن واقد عن خالد بن عبد الله بن حسين عن أبي هريرة قال: علمت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته
به، فإذا هو ينش، فقال: «اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم
الآخر».
تابعه عثمان بن حصن عن زيد بن واقد
عن خالد به ولفظه :" علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم في بعض
الأيام التي كان يصومها، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، فلما كان المساء جئته
أحملها إليه، فقلت: يا رسول الله إني قد علمت أنك تصوم في هذا اليوم فتحينت فطرك
بهذا النبيذ، فقال: «أدنه مني يا أبا هريرة»، فدفعته إليه فإذا هو ينش، فقال: «خذ
هذه فاضرب بها الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر».
تَابَعَهُ عثمانُ بنُ عَلَّاقٍ عَن خَالِدِ بن حُسيْنٍ به .
ولم يكن هذا النبيذ مسكرا، إذ يستحيل أن يأتي صحابي بمسكر إلى النبي عليه
السلام ليتعاطاه ويفطر به، وقد طهره الله تعالى منه حتى قبل أن يُبعث، وعلم
الصحابة كلهم بطهارته من المسكرات، فتعين أنه أتاه بنبيذ غير مسكر ظنه الصحابي
حلالا، فبين له النبي عليه السلام بأنه حرام، وقد أباح الأنبذة مفردة، وكذلك شربها
مفردة كما مر، فتعين أنه نبيذُ الخليطيْن، أو أنه نبيذ الجر المنسوخ.
ومن زعم أنه نبيذ مشتدّ فقد أبعد النجعة أيضا، لأن النبيذ لا يتخمر إلا بعد
مرور أيام عديدة تفوق الأسبوعين والثلاثة كما بينا، وأما هذا النبيذ فقد أخبر هذا
الصحابي بأنه صنعه في الصباح فقط، فلما كان المساء أتي به النبيَّ عليه السلام،
وقد مرَّ أن النبيذ يُنتظَر به حتى يتفاعل طيلة نهار أو ليلة كهذا، وأما ما زاد
على يوم كامل بليلته أو ثلاثة أيام بلياليهن فقد كان النبي عليه السلام لا يشربه
احتياطا، وأما هذا فنبيذ جديد، والجديد حلال بالاتفاق إلا أن يكون ممزوجا، فتعين
أنه نبيذ ممزوج ولذلك نهى عنه.
وسيأتي التفصيل في صوره وأحكامه في بابه إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلب
الثاني: ما يشتبه أمره بالنبيذ، كالدبس والمربى
والخل:
المسألة
الأولى: الدبس والمربى:
. من المعلوم أن ما بُني على الشيء فله حكمه، وأن التبع تابع،
الفرع
الأول: الدبس أو الرُّب:
مر أنه إما طبخ
العصير، أو هو طبخ النبيذ المصفى، حتى يعقد، وتصل الفاكهة إلى درجة في التخثّر والجمود بين النبيذ
والمربى، ويسمى ب: الرُّبّ، ويطلق على
عسل الرّطب غالبا، وكذلك يطلق على عسل العنب والزبيب والرمان وغيرهم.
وهو صنفان: صنف منه
يتعسّل بمفرده وطبيعته، وهذا لا بأس به، وصنفٌ يُطبخ كما بيّنا.
والمطبوخ على صورتين:
1/ ما يُعمل من العصير: وذلك دبسُ الثمار والفواكه اللينة المائية: مثل دبس
العنب خاصة، ودبس البرتقال والرمان والكرز ونحوها: بحيث يُعصر الحب مباشرة، ثم يوضع في قماش أو مصفاة، ويُمرس جيدا ثم يصفى عصيره،
ثم يُطبخهذا العصير حتى ينعقد ويثخن ويصير دبسا، وتنزع رغوته، ثم يوضع في زجاجة حتى يبرد.
وكلما غلي الثمر بالنار حتى يذهب ثلثاه بالتبخر كلما عقد أكثر، وأمن التخمر
والإسكار بطول المدة.
وهو في هذه الحالة يخالف النبيذَ في عدم إضافة الماءِ للدبس، لأن ماء
الثمرة يكفيه.
فيأخذ حكم العصائر في جواز الإفراد، والجمع والله أعلم.
وعليه فيجوز إفراده أو خلطه بغيره، لأنه لا يدخل في حكم النبيذ، حتى يُنبذَ
في الماء، فإن أضفتَ له الماء دخل في حكم النبيذ.
والثاني: / ما يُعمل من ماء النبيذ: وذلك كدبس الثمار اليابسة:
كالخروب، والتمر الرطب، والفواكه الجافة، بحيث تبدأ باستخراج نبيذها أوّلًا:
وذلك بنَبذ الخروب أو الزبيب أو الرطب (أو الغارس) مثلا في صحن، ثم يُصب
عليه ماء مغلى، ثم يغطى بقماش ويُترك ليلة، ثم يُطبخ جيدا قرابة نصف ساعة، ثم يوضع
في قماش ويُسحق أو يُمرس جيدا حتى يُصفى التمرُ من مائه جيدا، وهو عصير التمر.
ثم تطبخ هذا العصير لأكثر من ساعة، تنزِع فيها رغوته، حتى ينعقد ويخثر
ويصير دبسا لذيذا كالعسل.
فهو في هذه الحالة أشبه بالنبيذ، ويدخل في حكمه.
فإذا كان الدبس من
الثمار اليابسة أو اللينة التي نُبذت في الماء فتناوله على صور:
. أن يُشرب مفردا:
تمرا وحده، وزبيبا وحده، وهكذا، وهذا حكمه الجواز.
. أن يُشرب مع أشياء
لا تشتد: مثل المواد الحافظة، أو نبيذ الخُضار وعصيرها، أو مع عصير كالبرتقال أو
الليمون فلا بأس به.
. وإنما المشكِل في
المزج بين فاكهتيْن مشتدنيْن: كدبس العنب وزبيبه، أو مع التمر أو مع المشمش والتوت
...، فإن هذا حكمه التحريم كالنبيذ.
الفرع الثاني: المربى:
هو طبخ أجزاء الفاكهة أو الثمرة، لا العصير، مع إضافة السكر ونحوه له، لكن
من غير نقع في الماء، الذي هو عنصر فعال في عملية النبيذ ثم التخمير.
يُستخرج كغيره من الثمار والفواكه المائية، واليابسة، وبعض
القشور:
. فأما الثمار المائية: كالعنب والبرتقال والكرز
والفرولة، وذلك بأن تقطع الثمرة أجزاءً ثم تغمر بسكر وتغلى، وتنزع رغوتها، ثم
تُوضع في زجاجة وتُترك ليلة حتى تبرد وتعقد من غير إضافة ماء غالبا.
فهو في هذه الحالة يغاير النبيذ،
ولا يدخل في حكمه، خاصة وأنه لا يدخل في مسمى المشروب.
. وأما الثمار اليابسة: كالتفاح
والسفرجل، وفي الخضار كالجزر فإنها تحتاج إلى الماء، بحيث تقشر الثمرة وتقطع أجزاء
وتُنبذ في الماء المغلى حتى تلين، ثم يوضع سكر كثير في الماء ويغلى في نار هادئة إلى ساعة حتى يعقد، ثم تصب ماء
السكر على نبيذ الثمرة، فإن مرستها فهو أشبه بالفضيخ، وإن لم تمرسها فهي مربى
نبيذ.
وقد يُفعل نفس الفعل بقشور بعض
الفواكه كقشور الأترج الشبيه بالليمون، مع رمي مغلى مائه الأول والثاني، ثم يغلى
الماء والسكر مع قشرة ليمونة ونحوها، أو يضيفون عصير برتقال لأجل النكهة،
ثم يخلطون الجميع ويُطبخونهمعا.
فهذا النوع من المربى أشبه بالنبيذ والفضيخ، فيأخذ حكمه في مربى الفواكه
فقط في وجوب إفراد المشتدات، مع جواز الخلط في مربيات غير الفواكه.
ومن الناس من يُلحقُ المربى والدبس مطلقا بالنبيذ:
لأنهم يُستعملون جميعا كما يُستعمل النبيذ، مع الاتحاد في علة الطّعمية
والاستلذاذ والإدام والاطصباغ والتفكه بها، والجميع له نفس المكونات والمعنى
والشروط السابقة في النبيذ، إلا أنّ الدبس والمربى أشدّ انعقادا وأكثر تخثرا من
النبيذ.
وكذلك يشتركون جميعا في نقع الثمر في الماء، فلهم نفس الحكم، حاشا دبس
ومربى الثمار اللينة، فإنها لا تحتاج إلى النبذ في الماء غالبا، وهذا فرق مؤثر كما
بينا.
وكذلك قد يفترقون في أن المربى إدام لا يُشرب،
والنبيذ إدام ومشروب كالعصير، والدبس بينهما، ثم إن النبيذ أو العصير إذا تحول إلى
دبس أو مربى أمن الإسكار والاشتداد، ولو مع طول المدة، بخلاف النبيذ المعرّض
للاشتداد بالطول.
ولذلك اختلف
أهل العلم في إلحاق الدبس والمربى بالنبيذ:
1. فرجح أكثر المالكية عدم دخول المربى في حكم النبيذ لأنه إدام وأكل،
بينما أدخلوا العصائر مع الأنبذة لأنها مشروبة:
قال القاضي في إكمال المعلم :" واختلفوا: هل يختص ذلك بالشرب أو بعمد وغيره إن خلط ذلك
للتخليل؟ وعن مالك فى ذلك قولان، واختصاصه فى النهى بالانتباذ والشرب يرجح أحد الروايتين، ويصحح ما ذهب إليه أصحابنا
وغيرهم فى جواز فعل ذلك لغير الانتباذ والشرب، كجعل العصير والعسل فى المربى أو فى
المربات".
2. وأدخل آخرون الدبس والمربى في حكم النبيذ، ولم يُدخل آخرون المشروب في
حكم النبيذ.
وكأن الأرجح الجمع بين القولين، بأن نقول أن الدبس والمربى فيهما تفصيل:
. ففي الثمار اليابسة: التي تحتاج إلى النقع والنبذ في الماء، فهنا يدخلان
في حكم النبيذ الممنوع من خلطه بلا شك، وهو أمر ملاحظٌ في جميع الثمار الجافة التي
تحتاج إلى الماء في عصرها وعمل نبيذها، مثل التمر والزبيب والحبوب والفواكه الجافة
كالسفرجل والتفاح.
. وأما الثمار اللينة المائية: التي تطلق العصير مباشرة، من غير نبذٍ في
الماء ولا إضافته، فهنا كأن الأرجح أن لا يدخلا في حكم النبيذ، وعليه فيصح الخلط
والله أعلم، مثل خلط دبس عصير الرمان مع البرتقال.
لكن يبقى الإشكال في خلط دبس أو مربى العنب خاصةً بدبس غيره،فإن أمر العنبِ
مشتبه وشديد، والله أعلم.
المسألة
الثانية: نبيذ الخل، وتخليل الخمر:
الفرع الأول: نبيذ الخل:
وذلك بأن تُقطع الثمار وتُنبذ في إناء فخاري أو زجاجي كالنبيذ، لكن من غير
إضافة الماء كالنبيذ، بل قد يلقون فيه
شيئا من خلّ، ثم يُغطى ذلك بقماش أو نحوه جيدا حتى يتهوى ثم تذبل الثمرة وتتخلل
بالتدريج ولا تتخمر، وتترك إلى أربعين يوما فأكثر، في مكان مظلم معتدل، ثم تُعصر
الفاكهة أو الحب جيدا في قطعة قماش أو نحوه، ثم توضع العصارة في قارورات، فهو بهذا
العمل أشبه بالنبيذ، لكن يختلف معه في الاستعمال والماء.
وإن أردت بَسْتَرَةَ الخل فاطبخه ثم اتركه حتى يبرد في قارورته.
قال ابن حزم في المحلى (7/434) :" فإن قيل: فكيف السبيل إلى خل لا
يأثم معانيه قلنا: نعم, بأن يكون العنب كما هو، يلقى في الظرف صحيحا، فإذا كان في
استقبال الصيف الذي يأتي، عصر فإنه لا ينعصر إلا الخل الصرف. ولا يسمى خمرا ما لم
يبرز من العنب، وأيضا فإن مَن عَصَر العنب, أو نَبَذ الزبيب أو التمر ثم صب على
العصير الحلو أو النبيذ الحلو قبل أن يبدأ بهما الغليان مثل كليهما خلا حاذقا,
فإنه يتخلل, ولا يصير خمرا ".
وأما عن حكم الخلط بين الثمرتيْن المشتدّتيْن في الخل، فهل يلتحق الخل
بالنبيذ، بجامع أنهما يُنبذان في إناء، ويُتركان لمدة حتى التفاعل ويتشاركان في
المكونات؟
والجواب: أن الخل لا يدخل في باب الأنبذة المائية، ولا في باب المسكرات،
ومع ذلك نجد اختلاف السلف فيه، مما يدل على أنهم ينظرون للمسألة على أساس الجمع
والخلط، لا الإسكار.
كما أن الخل يختلف عن النبيذ في
عدم النقع في الماء، لأني التخلل: هو ترك الثمرة لتذبل بنفسها من غير نفع في الماء
كالنبيذ، كما لا يُستعمل الخل في التفكه والاستلذاذ مثل النبيذ، بل للإدام
والاصطباغ به، أو التطبب أو التجميل.
ولذلك اختلف كلام مالك والسلف في الجمع بين الخليطين في الخلّ:
فقال القاضي في إكمال المعلم :" واختلف أصحابنا: هل
هو نهْي تحريم أو كراهة؟ واختلفوا: هل يختص ذلك بالشرب أو بعمد وغيره إن خلط ذلك
للتخليل؟ وعن مالك في ذلك قولان، واختصاصه في النهي بالانتباذ والشرب يرجح أحد
الروايتين، ويصحح ما ذهب إليه أصحابنا وغيرهم في جواز فعل ذلك لغير الانتباذ والشرب، كجعل العصير والعسل في المربى أو في المربات
".
وقال ابن رشد (16/330) :" قال ابن القاسم في الخليطين من النبيذ إذا
تخللا فلا بأس به، قال محمد بن رشد: هذا على قياس ما قاله مالك في رسم الحدود من
سماع أشهب: من أنه لا بأس أن يخلط الزبيب والتمر للخل، وأن ذلك إنما يكره في
الشراب الذي يشرب، وقد مضى هناك الاختلاف في ذلك وتوجهه، فعلى القول بأنه يكره خلط
التمر والزبيب للخل يكره الخليطان من النبيذ وإن تخللا"،
وقد كان الأولون يطلقون الكراهة على المحرمات كما هو معروف عن السلف.
وقال القاضي في المسالك وابن العربي في شرح الموطإ (5/364) :" فرع: هل
يجوز خلطُهُمَا على وجهِ التَّخليل؟.
فروى ابنُ عبد الحَكَم عن مالك: لا خير فيه، والخَلُّ والانتباذ في ذلك
سواءٌ. قال: وقد قال: لا بأس بذلك للخَلِّ ".
قال: يونس: أنبأ ابن وهب وأشهب عن مالك قال: «لا بأس بالخليطين للخل، وإنما
نهى عنهما للنبيذ»
قال ابن العربي في شرح الموطإ (5/364) :" فرع : هل يجوز خلطُهُمَا على
وجهِ التَّخليل؟.
فروى ابنُ عبد الحَكَم عن مالك: لا خير فيه، والخَلُّ والانتباذ في ذلك
سواءٌ. قال: وقد قال: لا بأس بذلك للخَلِّ".
وقال القاضي والباجي وابن العربي:" وجهُ الأُولى: ما قالَهُ الأبهريّ،
تَعلّق بعمومِ نهي النّبيِّ صلّى الله عليه وسلم عن نبيذ الخليطَينِ، فلا يجوزُ
ذلك لخَلِّ ولا غيره، ولأنّه يصيرُ نبيذًا ثمّ يصيرُ خلًّا ".
الروايةُ الثّانيةُ: وَجْهُهَا أنّه لم يقصد بذلك النّبيذ وإنّما قصد الخلّ
".
والأولى أن يُقتصر في ذلك على المنصوص ".
والقول الراجح هو عدم إلحاق الخل بالنبيذ، لأن الأصل في الأشياء الإباحة،
وللاختلاف بين الخل والنبيذ في الاستعمال كما بينا، ولأن الخل لا يدخله الماء،
بخلاف الانتباذ، فإنه يكون في الماء ولا بد.
وعليه فيصح الجمع بين الثمرتين في الخل والله أعلم.
وأما الخليط من الزيت والخل: فالصحيح الجواز عند عامة أهل العلم،
بينما ذكر الونشريسي في المعيار المسألة فقال:" وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب عن مسألة وهي أن رجلاً رأى
قوماً قد خلطوا خلاً وزيتاً يأكلون به خساً فأنكر عليهم وزعم أنه غير جائز لأنه من
الخليطين المنهي عنهما. فنوزع في ذلك فقال: هما أسوأ حالاً من خلط فتيت الخبز
بالنبيذ، ومن خلط الحريرة بالنبيذ. وقد كره. ووقع في مختصر ابن عبد الحكم: لا خير
في الخليطين من الخل.
فأجاب: ... وقد اتفق العلماء على إباحة الأمران مع ما فيهما
من الاختلاط من ماء وخل وزيت خارجاً عن مورد النهي، إذ ليسا بنبيذين في الوقت، ولا
يصنع من الخل على حدة نبيذ، فسبيلهما سبيل اللبن المشوب بالماء أو بالغسل ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع
الثاني: متى يجوز طبخ أو تخليل النبيذ ؟ وكيفية
التخفيف من شدته؟
أ: إن لم يوضع النبيذ في ثلاجة، ثم اشتدّ قليلا، واختلط على صاحبه، أو احمضّ، لكن قبل أن يُسكر وتخرج رغوته، فخُلل أو أضيف له الماء ليخفف من شدته فهو حلال:
فإن بدأت خروج رغوته حرُم: فأول غليانه يسمى النش والكش.
والمقصود هنا بالغليان هو خروج الرغوة والزبد، التي هي
من علامات الإسكار عند الجمهور.
قال أبو حنيفة: فإذا زاد قيل غلا غلياً وغلياناً وذلك
إذا أزبد، فإذا اشتد غليانه قيل هدر، ... لشدة صوته من الغليان، وحينئذ يقذف
بالزبد، وهو الطفاحة، وسيأتي مزيد من ذلك في باب الخمر.
قال الأثرم:" لأن النقيعَ ما لم يشتد فكثيره وقليله
حلال بالاتفاق"، نقله عنه ابن حجر في الفتح (10/41)، وقال:
"وقال معن بن عيسى: سألت مالك بن أنس عن الفُقَّاع؟
- قد يصنع من العسل وأكثر ما يصنع من الزبيب وحكم سائر الأنبذة ما دام طريا يجوز
شربه ما لم يشتد -، فقال:" إذا لم يسكر فلا بأس به، أي وإذا أسكر حرم كثيرة
وقليله ".
.
ذهب الأكثرون إلى أن النبيذ الجائز طبخه إنما هو العصير
أو النبيذ الطري قبل أن يشتدّ، لأنه إذا اشتد صار مظنة الإسكار فيجب إهراقه سدا
للذريعة، ولحديث أنس في إهراق الخمور، ثم إن الطبخ بعد تخمره لا يُطهّره ولا
يُحلّه، قال ابن حجر: إلا على رأي من يجيز تخليل الخمر – الحنفية - والجمهور على
خلافه.
وقد استدل ابن حجر وغيره على هذا بما خرجه النسائي (5729) من طريق
أبي ثابت الثعلبي قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فسأله عن العصير؟ فقال: إشربه ما
كان طريا، قال: إني طبخت شرابا وفي نفسي منه، قال: أكنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال:
لا، قال فإن النار لا تحل شيئا قد حرم"،
قال ابن حجر: وهذا يقيد ما أطلق في الآثار الماضية وهو أن الذي يطبخ
إنما هو العصير الطري قبل أن يتخمر، أما لو صار خمرا فطبخ فإن الطبخ لا يطهره ولا
يحله ..".
وذهب
الحنفية إلى جواز تغييره:
. لما خرجه أبو بكر في المصنف
(5/79) نثا يحيى بن يمان عن سفيان عن منصور عن خالد
بن سعد عن أبي مسعود قال:" عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتي بنبيذ
من السقاية فقطب، فقيل: أحرام هو؟ قال: لا، عليَّ بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه
وشرب [فقال: «انظروا هذه
الأشربة إذا اغتلمت عليكم، فاقطعوا متونها بالماء»]". رجاله ثقات، لكنهم
خطّـأوا فيه ابن اليمان:
قال البخاري:" لم يصح، رواه الأشجعي وغيره، عن سفيان عن الكلبي "، وكذلك قال ابن نمير والدارقطني.
وقد روى يحيى بن أبي كثير
عن ثمامة بن كلاب عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا:" لا تنبذوا في
الدباء والمزفت ولا النقير ولا الحنتم، ولا تنبذوا البسر والرطب جميعا ولا التمر
والزبيب جميعا وما كان سوى ذلك فاشتد عليكم فاكسروه بالماء"، وثمامة بن كلاب
مجهول
. وروى أبو داود 3695 وابن أبي عاصم في المثاني 2934 عن عوف عن أبي القموص
حدثني أحد الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس فإن
لا يكون قيس بن النعمان فأنا نسيت اسمه قال:... فسأله القوم عن أشياء حتى سألوه عن
الشراب فقال: «لا تشربوا في دباء ولا حنتم ولا نقير ولا مزفت واشربوا في الجلد
الموكأ، فإن اشتد فاكسروه بالماء فإن غلبكم فأهريقوه» فقلنا: يا رسول الله، وما
يدريك ما الحنتم والنقير والمزفت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا لا أدري».
وهذا قوي.
. وروى عكرمة بن عمار عن أبي كثير السحيمي عن أبي هريرة
مرفوعا:" إذا رابك من شرابك ريب فشن عليه الماء، أمط عنك حرامه واشرب
حلاله"، وعكرمة بن عمار اختلط .
وقد رواه عبد الله
بن يزيد المقري عن عكرمة بن عمار قال: وقوله:" إذا رابك قاله أبو
هريرة".
وروى همام بن الحارث عن عمر أنه
كان في سفر، فأُتي بنبيذ فشرب منه فقطب ثم قال: إن نبيذ الطائف له عُرام، ثم دعا
بماء فصبه عليه ثم شرب"، قال ابن حجر في الفتح :" سنده قوي "، وله
متابعات.
وفي هذا الزمن يوضع النبيذ في
مبردات، فيمكث أشهرا من غير أن يتغير وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة
الثالثة: الدواء:
اختلف السلفُ
في التداوي بالخمر والمحرمات، فمنعه مالك وطائفة، لحديث علقمة بن وائل عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم
وسأله سويد بن طارق أو طارق بن سويد عن الخمر فنهاه عنه؟ فقال: إنا نتداوى بها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ليست بدواء ولكنها داء».
وحمله ابن حزم إن صح على الحالة العادية، وأما الأحوال الاضطرارية فلا بأس من
التداوي بالمحرمات، لحفظ النفس.
وعليه:
فالدواء لا يشمله النهي عن المزج بين الخليطيْن من باب أولى، لأنه يستعمل في
التطبب والضرورة عند الجمهور.
روى داود بن الزبرقان قال: سئل أبو حنيفة عن الخليطين: خليطي البسر والتمر،
فقال حدثني حماد عن إبراهيم أنه كان لا يرى بذلك بأسا، فقلت: هل كان إبراهيم -
يحدث فيه برخصة كما يحدث في نبيذ الجر؟ قال: لا أعلمه فقلت: ما نصنع بحديث
إبراهيم، وقد جاء فيه النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما إني
أزيدك: حدثني نافع أن ابن عمر خلطهما،
قال داود: إنما صنع مرة واحدة من وجعٍ عرض له في صدره، لأن التمر فيه بلغم،
والزبيب حار، كما كان ينظم له الثوم، فيلقى في القدر، فإذا نضحت القدر ما فيها كشط
الثوم فرمى به، وحسا المرق"، أخبرني بذلك أيوب عن نافع عن ابن عمر".
فقال أبو حنيفة: ما أبالي صنعه مرة أو مائة مرة ".
قال: ثم أقبل عليَّ، فقال: من حدثك؟ فقلت: حدثنا مطر الوراق عن عطاء بن أبي
رباح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن البسر والتمر
أن يخلط بينهما وعن الزبيب والتمر أن يخلط بينهما"
وحدثني ابن جريج المكي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبيد الله أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عنهما أن يخلطا ".
ثم ذكر له تواتر الأحاديث بذلك، فلم يرجع أبو حنيفة، بل قال له:" إذا
اجتمعا في بطن صلح، وإذا اجتمعا في إناء لم يصلح!!".
هذا في النبيذ المخلوط للتفكه وقد أجازه أبو حنيفة والعراقيون فقط، وأما
للتطبب فأجازه ابن عمر والجمهور.
لكن سُئل مالك عن التطبب بالنبيذ الممزوج :" قيل له:
أفيشربه المريض؟ قال: لا خير فيه، قيل: أفتختلط المرأة تجعله في رأسها من نبيذ
التمر ونبيذ الزبيب؟ قال: لا تجعل في رأسها منه شيئاً ".
المسألة
الرابعة: الدهون والزيوت:
تستعمل عموما
من نقع الثمرة أو الزهرة في أي زيت، ثم [طبخها قليلا] ووضعها في مكان دافئ إلى
أسبوعين لأجل التطبب أو التجميل أو الاصطباغ.
وهذه يجوز
جمعها، لأن النبيذ المنهي عنه هو نقع الثمرة في الماء وليس في الزيت.
ففي القثاء أو
الخيار: يتم عصر الثمرة، مع وضع ملعقة نشا أو دقيق أبيض، ثم طبخها على نار هادئة،
مع قطرات من زيتٍ ما.
أو نضع قطع
الثمار أو الخيار مثلا في زيت ما، ونغطي الإناء لمدة طويلة.
فالفعل يشبه
النبيذ، لكن يختلفان في المادة، فيختص النبيذ بالماء، والدهون بالزيت.
كما يختلفون
في الاشتداد والاستعمال:
فأما الاشتداد
فإن الزيوت والدهون لا تشتد ولا تُسكِر أبدا مهما طال الأمد، بخلاف الأنبذة، ولذلك
يصح الجمع بين الزيوت والدهون، ولا يدخلون في النهي عن الخليطيْن.
وأما
الاستعمال: فقليلٌ من الدهون يُستعمل للتفكه والإدام، بينما عامتها يُستعمل للتطبب
والتجميل ونحو ذلك.
لكن يوجد شيء
أشبه بنبيذ الزبدة والدهان، فهل يقاس على نبيذ العسل؟
المسألة
الخامسة: نبيذ الدهان والزبدة:
بحيث بمخضون
اللبن فتتشكل الزبدة، ثم يضعونها في إناء فخاري أو نباتي مع ماء بارد قليل وملح
قليل ويمعسونها جيدا، ثم ينزعون الماء، [ومنهم من يضيف بعضهم منقوع الزعتر حتى
يبرد، ثم يخلطون بالسمن ويتركونه يومين]، ويغطون الآنية جيدا، [ثم ينزعون ماء
الزعتر جيدا]، ثم يرجعون الدهن للإناء، ويغطونه بقماش، ويجعلونه في مكان مظلم رطب،
ربما تحت الأرض لمدة طويلة تفوق الشهر، كما في الخمر، ثم يستعملونه.
فإن كان
للتطبب فلا بأس به، وإن جُمع خليطا بنبيذ مشتد كالعسل أو الفاكهة فهو ممنوع لما
أسلفنا،
فإن استعمل
مفردا أو مع أعشاب، فلا بأس به.
إلا أن يكون
مسكرا فهو ممنوع،
وأما استعماله
لدفع برد الشتاء، فلا أدري كيف ذلك، لكن هكذا أخبرنا كبار السن.
المسألة
السادسة: نبيذ الأعشاب:
تدخل لغة في معنى النبيذ، لكنها لا تدخل شرعا في حكم النبيذ، لأنها ليست من
جنس الفاكهة، بل عامتها للتطبب.
وقد يكون فيها تفصيل:
فأما الأعشاب الطبية والمشروبات: مثل النعناع والزعتر والإكليل والمليلز
والزنجبيل وماء الورد والتوابل، فيصح إفرادها وخلطها، لأنها لا تشتد، فلا تدخل في
حكم النبيذ، ولا بأس من خلطها مثلا بنبيذ العسل أو أي فاكهة:
قال الونشريسي:" وأما شرب الورد والسكنجبير وشراب
السريس وما أشبه ذلك من الأشربة السكَّرية أو العسلية، فالجمع بينهما جائز باتفاق،
لأن أصلهما جميعاً واحد! يعني من العسل والسكر".
وقال ابن رشد: ولا يجوز خلط شراب سكري وعسلي لاختلاف
أصليهما، يعني إلا أن يشرب ذلك على الفور، حسبما سبق من الخلاف. ولعله ينزَّل بما
ذكر عن ابن عبد الحكم من المنع في أشربة الطبيب على الصورة التي ذكر عند اختلاف
الأصلين".
وأما الأعشاب المشتدة والمخدرة فهي ممنوعة مطلقا جمعا أو إفرادا، إلا في
باب التداوي وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الثاني: ذكر ما يتولّد من الفواكه والثمار، وما يلتحق بها
قياسا:
تُعمل الأنبذة والعصائر من ثلاثة أنواع من الثمار :
أولاها : الحبوب: كالقمح والشعير المنصوص على النهي من مزجهما، وهكذا ما يقاس عليهما كالرز
والذرة، ونحوهما من الحبوب التي تحتوي كثيرا على مادة النشا المُسكِرة، وتجمعها جميعا
علة إمكانية التغير والإسكار ، وهذه المقيسة لم يأت نص في النهي عن الجمع بينها،
لكن الجمهور ألحقوها بالتمر والزبيب والقمح والشعير بجامع التفكه مع الاشتداد
وإمكانية الإسكار .
والنوع الثاني : الفواكه التي يُتفكّه بها: وهي على قسمين :
1/ قسم طري لين مائي ممكن الإسكار بذاته: وأشهر ذلك نبيذ العنب وزبيبه،
بحيث يُعتبر سكّر العنب المحتوي على الغلوكوز رأس المسكرات، ثم يليه نبيذ التمر
بأنواعه، وهذه المذكورة منصوص على النهي من مزجها للشرب، وقد أُمر بإفراد أنبذتها،
ويلتحق بها ما شابهها في علة الاشتداد، وتُصنف جميعا بحسب احتوائها على نسبة سكر
الغلوكوز وثاني أكسيد الكربون .
ومن أبرزها والله
أعلم نبيذ العسل، ونبيذ التوت والفرولة والبرقوق والكرز والتين والمشمش بيابسه
وربما حتى الخوخ والفواكه المحتوية على عجم ...
2/ وقسم فيه اليابس والرطب: كالتمر، ويلتحق به التين،
ثم إن التمرَ يمرّ في نموه بمراحل: أوّلها الطلع، ثم
البلح، ثم البسر، ثم الرطب فالتمر.
3/ وقسم يابس نوعا ما لا تدخله علّة الإسكار: كالتفاح والإجاص والسفرجل،
وهذه لا بأس بإفراد عصائرها وأنبذتها، أو جمعها بغيرها والله أعلم، وإنما يُتخذ
منها نكهات في العصائر والأنبذة، لا أنها تشتد بمفردها .
والنوع الثالث: الخضر: كالجزر والشمندر والطماطم والقثاء والزيتون ونحو ذلك ، ولا تدخلها علة المنع
ولا الإسكار أيضا .
وهذا القسم من الخضر وما قبله من الفواكه اليابسة التي لا تدخلها علة
إمكانية الاشتداد والإسكار بنفسها، لا بأس بأنبذتها وعصائرها إفرادا أو مزجا، ولا
يُعلم عن أحد منعها والله تعالى أعلم .
وإنما الكلام هنا عن أنبذة الحبوب والفواكه اللينة جدا، التي قد تشتد
ويتحول نبيذها بنفسه إلى مسكر .
قال ابن الأثير في غريبه (5/15) :" النبيذ: ما يعمل من الأشربة من
التمر والزبيب (العنب) والعسل والحنطة والشعير وغيرذلك ".
وقد ورد موقوفا ومرفوعا :" الخمر من العصير - العنب- والزبيب والتمر
والحنطة والشعير والذرة "، وهذه المذكورات من باب التمثيل لا الحصر، وكل مسكر
حرام .
ثم هذه المذكورات يتولد
منها العصائر والأنبذة والدبس والمربى والخل والدهون والدواء بجميع أنواعها، وكذلك
بعض الأطعمة المهروسة منها كما بينا.
وهي
إما أن تُستعمل مفردة أو ممزوجة بغيرها.
فإن
نُقعت مفردة فقد اتفق العلماء على جواز شرب الأنبذةِ ونحوها مطلقا ما لم تغل
وتشتدّ.
وإن
جمعت بغيرها ففيها تفصيل:
فأما الأنبذة
المنصوص عليها: كالتمر بأنواعه، والعنب وزبيبه، والقمح والشعير، فالنهي عن خلْطها
وارد صحيح، ولا يصلح فيها إلا الإفراد ما لم تشتدّ:
لأنه
عليه السلام :" نهى عن خليط التمر والبسر، وعن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط
الزهو والرطب، وقال: «انتبذوا كل واحد على حدته»،
فأمر
عليه السلام بإفرادها، مما يدل على أن العلة هي الخلط والتفكه والاشتداد، فلو كانت
العلة هي الإسكار لما أمر بإفرادها، لأن الإسكار حرام مطلقا أفرد أو جمع.
وقد
كان عليه السلام يفرد تناول الأنبذة فعلاً:
كما روى أبو
حازم: سمعت سهلاً يقول: أتى أبو أسيد الساعدي فدعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في عرسه فكانت امرأته خادمهم وهي العروس ، قال:
أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور
".
ولما روى حميد
بن سليمان عن مجاهد عن عائشة قالت: «كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت
آخذ القبضة من الزبيب فألقيها فيه ».
ولأنه
عليه السلام شرب من نبيذ السقاية المحلى بالتمر.
1/
لكن هل ننظر إلى الإفراد باعتبار الجنس، فيجوز خلط التمر بالرطب أو بالزهو، وهما
من أنواع التمر؟ أم أننا ننظر إلى الإفراد حتى بالصنف، فنفرد التمر وحده والرطب
وحده، والزهو وحده، وهكذا، وهو الصحيح لما سيأتي؟
2/
ثم هل المراد من الإفراد هو الاقتصار على خلط هذه المذكورات فقط ؟ أم يتعدى الحكم
لغيرها مما يشبهها في علة الاشتداد وإمكانية الإسكار بذاتها مع التفكه واللين؟
كما
لو خُلط نبيذ مشمش مع زبيب كما يفعلون عندنا في رمضان، حيث يصنعون الجلاب الذي
يسمى ب "الطجين الحلو"؟
أم
لا بدّ من نبذ هذه المذكورات على حدة فقط، بحيث لا تُنبذ مع أي نوع آخر؟
3/
وهل المنع للكراهة أم للتحريم ؟
4/
وهل هو معلول ببدإ الإسكار فيها كما يزعم الحنفية؟ أم هو على مجرد الانتباذ وسدّ
ذريعة الإسكار وإن لم تُسكر كما يرى الجمهور؟
5/ثم
ما حكم الجمع بين الأنبذة المشتدة، بالعصائر أو بالأنبذة التي لا تشتد ولا تُسكر
بنفسها؟
6/
وما الحكم لو نُبذ كل واحد منها على حدته، لكن شربهما واحدا تلو الآخر؟
7/
وهل يدخل في هذا الحكم سائر العصائر والدبس والمربى والخل والدهون والدواء بجميع
أنواعها، وكذلك بعض الأطعمة المهروسة منها؟ أم نقتصر على النبيذ ومشتقاته
فقط؟
إليك
البيان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلب الأول: ما يجوز خلط نبيذه، من مشروبات وعصائر ونحوها:
لقد
أُمر بإفراد بعض الأنبذة، ونُهي عن الجمع بينها نقعا نيئا أو طبخا، وهي: نبيذ
التمر بأنواعه، ونبيذ العنب أو الزبيب، ونبيذ القمح ونبيذ الشعير، ويلتحق بها
غيرها من الحبوب والفواكه السُّكَّرِية التي تشتدّ وتتخمر بنفسها.
لكن:
هل يلتحق بالنبيذ في حكم الإفراد ما يتولد من هذه الفواكه والثمار، من عصائر ودبس
ومربى وخل ودهون ودواء، وكذلك بعض الأطعمة المهروسة منها؟
والجواب
أن في ذلك اختلاف:
فمن
نظر إلى المعنى
وطريقة الإعداد فقد شبّهَ النبيذَ بالدبس والمربى فقط، فمنع من مزجها جميعا، وأجاز
مزج العصائر.
وأمّا
من نظر إلى المكوّنات فقط: رأى بأنّ سائر هذه
المتولدات من الثمار من أنبذة ودبس وعصائر كلها جنس واحد، طُبخت أم لا؟ إذْ لها
نفس المكونات والمعنى كما هو عند الجمهور.
ومن
نظر إلى اللفظ والحقيقة وإلى طُرق الاستعمال فقط منع من خلط النبيذ وحده إذا مزج
بغيره، كما هو ظاهر مذهب البخاري ومن معه.
وبالتالي
يصح الجمع بين فاكهتيْن في العصير، لأنه عصرٌ لماء الفاكهة، وليس نبذا لها في
الماء.
وكذلك
يصح الجمع بين المربيات، لأنها تُعمل بلا نبذ في الماء، بل يوضع السكر فقط على
الفاكهة حتى تتحلل وتُسحق ثم تُطبخ،
وكذلك
يصح الجمع في الدبس أو الطلاء المتخذ من العصير في الفواكه المائية، لأن الدبس هو
طبخ العصير حتى يعقد، والعصير جائز الخلط.
وما
بُني على الشيء فله حكمه.
بخلاف
الدَّبس أو الطلاء المتخذ من النبيذ في الفواكه الجافة، وذلك كطبخ نبيذ التمر مثلا
مع غيره، لجعْله دبسا أو طلاء.
قال
ابن بطال المالكي في شرح البخاري :" زعم
أبو حنيفة أن الطلاء والعصير ليسا بنبيذ في الحقيقية، وإنما النبيذ ما نبذ في
الماء ونقع فيه، ومنه سمى المنبوذ منبوذًا ، لأنه نبذ أي: طرح، ومعنى قوله: من شرب
سكر، يعنى ما يسكر مما يعصر ولا ينبذ ، ويعنى قوله : ما كان عصيرًا : ما كان حديث
العصر من العنب ولم يبلغ حد السكر ، وبالطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى بلغ إلى ما
لا يسكر، فلا يحنث عند أبى حنيفة في شرب شيء من هذه الثلاثة، لأنها لم تنبذ، وإنما
يحنث عنده بشرب ما نبذ في الماء من غير العنب، سواء أسكر أو لم يسكر"،
وقال
المهلب:" ويجوز أن يسمي سائر
الأشربة من الطبيخ والعصير نبيذا لمشابهتهما له في المعنى، ومن حلف عندهم أن لا
يشرب شرابا ولا نية له، فأي شراب شربه بما يقع عليه اسم شراب فهو حانث".
وذكر
أنه إن عيّن نوع الشراب فلا يحنث بِشُرب غيره، وإن أطلق حنث لاشتراكهم في المعنى،
فقال :" والذي عليه جمهور
الفقهاء أنه إذا حلف أن لا يشرب النبيذ بعينه دون سائر المشروبات، أنه لا يحنث
بشرب العصير والطبيخ وشبهه، وإن كان إنما حلف على النبيذ خشية منه لما يكون من
السكر وفساد العقل كان حانثًا في كل ما شرب مما يكون فيه المعنى الذى حلف عليه ،
ثم قال :
"
ويجوز أن تسمى سائر الأشربة من الطبيخ والعصير نبيذًا لمشابهتها له في المعنى، ومن
حلف عندهم ألا يشرب شرابًا ولا نية له، فأي شراب شربه مما يقع عليه اسم شراب فهو
حانث ".
ووافقهم
الطحاوي فقال:" لأنا وجدنا
الأصل المجمع عليه أن العصير وطبيخه سواء، وأن الطبخ لا يحل به، ما لم يكن حلالا
قبل الطبخ ",
لكن
قال البخاري :" بابٌ إنْ
حَلَفَ أنْ لَا يَشْرَبَ نَبِيذاً فَشَرِبَ طِلاءً أوْ سَكَراً أوْ عَصِيراً لَمْ
يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ، ولَيْسَتْ هذِهِ بِأنْبِذَةٍ عِنْدَه"،
أي عند أبي حنيفة ومن تبعه .
فالحاصل
أنه عند الجمهور: يُطلق النبيذ إجمالا على الجميع، لأن جميعها له نفس المعنى
والمكونات والتفكّه، ويختلفون في النقع في الماء المحلى،
والصحيح
التفريق بين الجميع كما ذكرنا سالفا في مطلب: حالات طبخ النبيذ وعدم طبخه،
فالخل
يُستعمل للإدام والاصطباغ به فقط من غير تفكه ولا إضافة الماء للفاكهة المخللة،
كما هو الشأن في النبيذ.
وأما
العصائر فتُستعمل للشرب مع التفكه فقط، من غير نقْع الثمر في الماء كالنبيذ.
وأما
الأنبذة وما اتُّـخِذ منها من دَبس وطلاء، فتشترك جميعا في الطّعمية والاستلذاذ
والإدام والاطصباغ والتفكه بها كما سنبين، وإليكم التفصيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلب الثاني: أحكام الأنبذة، إفرادا وخلطا، وذكر أقوال السلف في ذلك:
1/ اتفق العلماء من حيث الجملة على مشروعية الأنبذة والعصائر إذا
أفْردت، ما لم تشتدّ أو تُسكر، كما قال الأثرم :" لأن النقيع ما لم يشتد
فكثيره وقليله حلال بالاتفاق "، نقله عنه الحافظ في الفتح (10/41)،
وقال
أيضا :" وإذا لم يبلغ – النبيذ - حدَّ الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله
وكثيره " .
2/
كما اتفق العلماء على أنّ نبيذ العنب المشتد بخروج الزبد أو الرغوة حرام قليله
وكثيره ، قال ابن حجر في الفتح (10/40) :" وقد
انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره "،
وقال :
"
قال المازري :" أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا
اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع
أيضا ".
وخالف
العراقيون منهم الحنفية في مسائل كما في:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الأولى: تعليلات الحنفية ومناقشتها:
خالفوا
الجمهور في أمور:
1/
فذهب الحنفية إلى جواز الانتباذ مطلقا، أَفْردَ الشارب أم خلط؟ لأن النهي عن
الخيلطين عندهم إنما هو لعلة الإسكار فقط، مع إباحتهم للقليل منه في غير العنب..
وهو
مردود بالأمر بإفراد الأنبذة وعدم خلطها، وأن المسكر حرام مطلقا أفرد أو جمع بين
الخليطين.
يؤكد
ذلك ما رواه ابن أبي ليلى عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان الرجل يمر
على الصحابة وهم متوافرون فيلقونه فيقولون: هذا يشرب الخليطين التمر والزبيب
".
فلو
كانت الصحابة يرون العلة هي الإسكار لأمروا بجلد السكران، ولما اكتفوا بالإنكار
اللساني.
2/
بل إن الحنفية جعلوا المحرم عندهم هو ما أسكر فقط ما لم يُطبخ إلى الثلثين، فإن
طُبخ فهو جائز ولو اشتد وتغير إلا العنب.
3/
بل إنهم أجازوا حتى النبيذ الذي يظهر فيه الزبد، وزعموا بأن ما اشتد لا يحرم منه
إلا الإكثار فقط، حاشا نبيذ العنب فإنه مسكر حرام إذا اشتدّ، قليله وكثيره
سواء.
4/ كما زعموا بأنّ النبيذ المتخذ من
العنب خاصّة هو الذي يحرم القليل منه والكثير، إلا إذا طبخ جدّا
وأما المتخذ من غير العنب فلا يحرم منه القليل، لكن يحرم منه فقط القدر
الذي يسكر، وهو قول باطل لأن القياس والنصوص كلها حجة عليهم، مع عموم قوله صلى
الله عليه وسلم :" ما أسكر كثيره فقليله حرام "، وقوله :" أنهاكم
عن كل مسكر"، ولسد باب ذرائع الإسكار، وقفل باب التذوق للتمييز .
5/
كما زعموا بأن ما طبخ حتى يتبخر ثلثاه فيحلّ، ما لم يُسكر، والجمهور يحرمونه بخروج
الزبد والرغوة.
6/ كما أباحوا تناول قليل
النبيذ المشتدّ فيما سوى العنب، وحرّموا منه فقط القدر
الذي يسكر،
استدلالا
بما :
روى
أبو وائل:" كنا ندخل على بن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا"،
فأما خبر ابن مسعود فيحتمل أن يكون المراد بالشدّة، شدة الحلاوة أو شدة
الحموضة كما قال ابن حجر ، وليس في خبرِه أنه تناول قليلا فقط، ولا فيه أنه من عنب
أو من غيره .
ومن
طريق علقمة :" أكلت مع بن مسعود فأُتينا
بنبيذ شديد نَبَذَتْه سيرين فشربوا منه ".
وهو قول باطل لأن القياس والنصوص كلها حجة عليهم، مع عموم قوله صلى
الله عليه وسلم :" ما أسكر كثيره فقليله حرام "، وقوله :" أنهاكم
عن كل مسكر"، ولسد باب ذرائع الإسكار، وقفل باب التذوق للتمييز .
وأما خبر ابن مسعود فيحتمل أن يكون المراد بالشدّة، شدة الحلاوة أو
شدة الحموضة كما قال ابن حجر، وليس في خبرِه أنه تناول قليلا فقط، ولا فيه أنه من
عنب أو من غيره .
7/ كما أباحوا تخليل الخمر بإضافة السمك والملح ونحو ذلك.
9/ كما أباحوا خلط الأنبذة المنصوص على النهي من خلطها، مستدلين بما
يلي:
الجنس الأول: الأدلة العقلية:
أ
القياس: حيث قدم هؤلاء القياسَ على النصوص، وزعموا بأن ما صح شربه منفردا صح كذلك
مجتمعا.
ب:
وأعجب من ذلك أن قالوا بأنهما سيجتمعان في البطن، فكذلك في الوعاء، وأنهما إذا
اجتمعا في البطن فكذلك في الوعاء،
وهو
قياس باطل مخالف للنصوص أوّلا، ولأن العلم أثبت أن اجتماع عدة مواد معا يُحدث
تغيرات كيميائية لا يحدثها ما كان على انفراد، فسقط هذا القياس بالشرع والعقل
والعلم.
ت: وزعم آخرون بأن النهي منسوخ بحديث بريدة قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم، فاشربوا في
كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا»
لكن
النسخ هنا صريح في الأوعية فقط ولا علاقة للحديث بالخليطين.
ث: قال هؤلاء: وإنما العلة من منع الخليطين خشية
الإسكار، وبالغ بعضهم في التعليل فأتى بالعجب فقال:
إنما نهى عنه لضيق العيش, ولأنه من السرف ، وقد أبلغ ابن حزم في الرد عليهم وإبطال
هذا التعليل ، وتعجب كيف تكون حبات من تمر مع زبيب من السرف ؟! .
قال
ابن الملقن :" ويقال للكوفيين: إذا جاز نكاح
المرأة ونكاح أختها منفردتين فليس بالجمع بينهما بأس، فإن قالوا: حرم الله الجمع
بين الأختين، قيل: وكذلك حرم رسوله الجمع بين ما ذكر، وكذلك الجواب في الجمع بين
العمة وبنت أخيها ".
الجنس الثاني: الأدلة النقلية:
حيث استدل الحنفيون بأدلة أخرى من
السنن كلها واهية:
دليل أول:خرجه
أبو داود (3707) عن مسعر عن موسى بن عبد الله عن امرأة من بني أسد عن عائشة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له زبيب فيلقى فيه تمر، أو تمر فيلقى فيه
زبيب "، وهو ضعيف،
قال ابن حزم :" وهذا لا شيء لأنه عن امرأة لم
تسم "،
قلت: لعلها عطية:
فقد روى البيهقي (8/435) عن زياد بن يحيى الحساني
نا أبو بحر نا عتاب بن عبد العزيز الحماني حدثتني صفية بنت عطية أنها سمعت عائشة
أم المؤمنين تقول وقد سئلت عن التمر والزبيب؟ فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من
زبيب فألقيه في إناء فأمرسه, ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم ".
قال ابن حزم :" وهذا مردد في السقوط، لأنه عن
أبي بحر، لا يدرى من هو، عن عتاب بن عبد العزيز الحماني وهو مجهول، عن صفية بنت
عطية، ولا تعرف من هي ".
بل إن أبا بحر متروك فقد قال الإمام
أحمد: طرح الناس حديثه "، واعتبر به بعضهم.
ثم هو منكر مخالف لما رواه الطيالسي نا حرب بن شداد
عن يحيى بن أبي كثير أن كلاب بن علي أخبره أن أبا سلمة هو ابن عبد الرحمان بن عوف
أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط بين البسر
والرطب, وبين الزبيب والتمر " وهذا هو الأصح.
دليل ثاني: قال ابن حزم : وذكروا
ما رويناه من طريق غير مشهورة عن شعبة قال: سمعت أسامة رجلا من جيراننا قال: سمعت
شهاب بن عباد قال: سألت ابن عباس عن التمر والزبيب؟ فقال: لا يضرك أن تخلطهما
جميعا أو تنبذ كل واحد منهما على حدة ".
قال
أبو محمد ابن حزم: وهذا لا شيء, فلا أكثر أسامة رجل من جيران شعبة، وما نعلم أتم
جهلا, أو أقل حياء ممن يتعلق بهذا عن ابن عباس، ولا يصح أصلا.
ثم
هو يخالف رواية محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال:
قلت لابن عباس: إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فأشرب منه فيقرقر بطني؟ قال ابن
عباس: لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل "، وهذا أصح.
دليل ثالث: قال أبو بكر في المصنف
(5/76) حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن عبد الملك بن نافع قال: قلت لا: إني أنبذ
نبيذ زبيب، فيجيء ناس من أصحابنا فيقذفون فيه التمر، فيفسدونه علي، فكيف ترى؟ قال:
«لا بأس به»، قال ابن حزم :" وعبد الملك بن نافع مجهول"، ثم هو منكر
مخالف لما روى الثقات :
قال
ابن حزم :" وقد صح عن ابن عمر الرجوع عن هذا كما روينا من طريق سعيد بن منصور
نا إسماعيل هو ابن إبراهيم هو ابن علية نا أيوب هو السختياني عن نافع عن ابن عمر
أنه أمر بزبيب وتمر أن ينبذا له, ثم تركه بعد ذلك"، قال نافع: فلا أدري
ألِشَيْء ذكره، أم لشيء بلغه ".
بل إنه رضي الله عنه لما بلغه النهي كان لا ينتبذ حتى في التمر
المناصف خشية أن يواقع نهي الشارع عن الخليطين:
فقد ورد عن ابن عمر أنه كان ينتبذ التمر فينظر إلى التمرة بعضها بسرة
وبعضها رطبة فيقطعها ولا ينتبذ كلها".
وكذلك
فعل أنس وغيره ممن كانوا يقطعون المذنّب ويفصلونه وينبذون كل شق مفردا كما سنبين.
دليل رابع: رواه عبد الرزاق
(9/213) عن ابن جريج أخبرت عن أبي إسحاق: أن رجلا سأل ابن عمر: أجْمعُ بين التمر
والزبيب فقال: لا, قال: لِم؟ قال: نهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: لم؟
قال: سكر رجل فحدّه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أن ينظر ما شرابه فإذا هو تمر
وزبيب, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين التمر والزبيب وقال: يلقى كل
واحد منهما وحده ".
إلا أن هذا الحديث ضعيف، لم يسمعه ابن جريج عن أبي
إسحاق، ولا الأخير عن ابن عمر .
دليل خامس: رواه أبو بكر (5/92)
عن أبي إسحاق عن الحراني قلت لعبد الله بن عمر: إنا بأرض ذات تمر وزبيب، هل يخلط
التمر والزبيب فننبذهما جميعا؟ قال: لا، قلت: لم؟ قال: إن رجلا سكر على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأتي به النبي وهو سكران، فضربه ثم سأله عن شرابه؟ قال:
شربت نبيذا، قال: «أي نبيذ؟» قال: نبيذ تمر وزبيب، قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «لا تخلطوهما، فإن كل واحد منهما يكفي وحده»، وهو أيضا ضعيف ومدلس .
دليل سادس: أَخْرَجه ابْنُ
عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ رُدَيْحٍ ثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي ميمون
عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَبِي طلحة أنهما كانا يشربا نَبِيذَ الزَّبِيبِ
وَالْبُسْرِ يَخْلِطَانِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا طَلْحَةَ إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا، قَالَ: إنَّمَا
نَهَى عَنْ الْعَوَزِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا نَهَى عَنْ
الْإِقْرَانِ". وَأَعَلَّهُ بِعُمَرَ بْنِ رُدَيْحٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثانية: مذهب الجمهور المانعين للخليطين:
اتفق العلماء من حيث الجملة على مشروعية الأنبذة والعصائر إذا أفْردت، ما
لم تشتدّ أو تُسكر، كما قال الأثرم :" لأن النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله
حلال بالاتفاق "، نقله عنه الحافظ في الفتح (10/41)،
وقال أيضا :" وإذا لم يبلغ – النبيذ - حدَّ الإسكار فلا خلاف في إباحة
شرب قليله وكثيره " .
كما اتفق العلماء على أنّ نبيذ العنب المشتد حرام قليله وكثيره ، قال ابن
حجر في الفتح (10/40) :" وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من
العنب يحرم قليله وكثيره "، وقال :
" قال المازري :" أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال،
وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل
بالإجماع أيضا ".
وخالف العراقيون منهم الحنفية في مسألتين كما سيأتي:
بينما ذهب
جماهير السلف إلى المنع من خلط ثمرتين في النبيذ وإن لم يُسكِر، لكن هؤلاء اختلفوا
في أمْرين:
الفرع الأول: في درجة النهي، وعلته:
ذهب
عامة الصحابة والسلف والخلف إلى أن النهي عن الخليطيْن للتحريم لأنه الأصل، ولو لم
يُسكر، ولأن سدّ الذرائع أمر مطلوب، وأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
واختلفوا
في العلة هل هي الإسكار كما هو مذهب الحنفية العراقيين؟ أم هي مجرد التعبد والخلط
كما هو مذهب الظاهرية وطوائف من المالكية؟
أم
أن العلة هي الاشتداد وإمكانية التغير كما هو مذهب الجمهور وبقية المالكية؟
فقال الباجي في شرح الموطإ نقلا
عن المالكية:"
وقد شرطنا أن الخليطين إنما هما مما يفضي كل واحد منهما إلى الإسكار".
بينما قال أبو عمر ابن عبد البر
:" النهي في هذا الباب نهي عبادة واختيار، لا للسرف والإكثار ولا لخوف الشدة،
كما قاله الليث وغيره ".
ثم خرج عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى قال: كان الرجل يمر على الصحابة وهم متوافرون فيلقونه فيقولون: هذا يشرب
الخليطين التمر والزبيب ".
فلو
كانت الصحابة يرون العلة هي الإسكار لأمروا بجلد السكران، ولما اكتفوا بالإنكار
اللساني.
وحكمة النهي إسراع الشدة في
المآل وليس الحال، أي بعد يوم وليلة أو
ثلاثة أيام كما أسلفنا، قال الداودي: لأن أحدهما لا يصير نبيذا حلوا حتى يشتد
الآخر فيسرع إلى الشدة ".
القول الأول: ذهب جمع آخر من أهل الظاهر وابن حزم وغيرهم إلى المنع من
خلط نبيذ أحد هذه المنصوص عليها مع غيرها مطلقا، سواء أخلطها بجنسها من هذه
المنصوص عليها، أم خلطها مع أي جنس آخر من غيرها كمشج التمر أو الزبيب بالحبوب أو بالفواكه
الأخرى للأمر بإفرادها، ووافقه الجمهور لقياس غيرها عليها بجامع التفكه والاشتداد :
قال ابن حزم في المحلى (7/508) :" فإن نُبذ تمر, أو رطب, أو زهو, أو
بسر, أو زبيب، مع نوع منها أو نوع من غيرها, أو خُلط نبيذُ أحد الأصناف بنبيذ صنف
منها, أو بنبيذ صنف من غيرها, أو بمائع غيرها حاشا الماء، حرم شربه، أسكر أو لم
يسكر, ونبيذ كل صنف منها على انفراده حلال ", قال :
فإن مُزج نوعٌ من غير هذه الخمسة مع نوع آخر من غيرها أيضا أو نبذا معا, أو
خلط عصير بنبيذ فكله حلال: كالبلح وعصير العنب, ونبيذ التين, والعسل, والقمح,
والشعير, وغير ما ذكرنا، لا تحاش شيئا "، ثم نسب قوله إلى الجمهور فقال
:" وبه يقول جمهور السلف "،
وقال
أيضا (11/370) :" قد ذكرنا فيما يحل ويحرم من الأشربة أن التمر والرطب ,
والزهو والبسر , والزبيب , هذه الخمسة خاصة دون سائر الأشياء، يحل أن ينبذ كل واحد
منها على انفراده , ولا يحل أن ينبذ شيء منها مع شيء آخر - لا منها ولا من سائرها
- في العالم . وأنه لا يحل أن يخلط نبيذ شيء - بعد طيبه أو قبل طيبه - لا بشيء آخر
ولا بنبيذ شيء آخر، لا منها ولا من غيرها أصلا , وأما ما عدا هذه الخمسة فجائز أن
ينبذ منها الشيئان والأكثر معا , وأن يخلط نبيذ اثنين منها فصاعدا أو عصير اثنين
فصاعدا , وبينا السنن الواردة في ذلك , فمن شرب من الخليطين المحرمين مما ذكرنا
شيئا لا يسكر فقد شرب حراما كالدم , والبول , ولا حد في ذلك ; لأنه لم يشرب خمرا ,
ولا حد إلا في الخمر ... وإنما فيه التعزير فقط "
القول الثاني: وذهب الجمهور
إلى تعميم الخليطين المشتدين:
قال ابن حزم :" قال
مالك بتحريم خليط كل نوعين في الانتباذ وبعد الانتباذ, وكذلك فيما عصر, ولم يخص
شيئا من شيء ".
وقال ابن عبد البر:" وسئل
الشافعي عن رجل شرب خليطين مسكرا، فقال: هذا بمنزلة أكل لحم خنزير ميت، فهو حرام
من وجهين: الخنزير حرام والميتة حرام، والخليطان حرام والسكر حرام ".
قال:" وجمهور العلماء
قائلون بهذه الأحاديث من الخليطين من جميع الأشربة، وأن ينبذ كل واحد على حدته
".
ونقل في مختصر خليل:" قال أبو عمر ابن عبد البر:" ورد
النهي عن الخليطين من طرق ثابتة .. ثم قال : ورد أبو حنيفة هذه الآثار برأيه وقال
: لا بأس بشراب الخليطين ".
وقال ابن عبد البر المالكي في الاستذكار :" رد أبو حنيفة هذه
الآثار برأيه وقال لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة البسر والتمر والزبيب والتمر
وكل ما لو طبخ على الانفراد حل كذلك إذا طبخ مع غيره ".
وقال بن وهب وبن القاسم عن مالك لا يجمع بين شرابين وإن لم يسكر كل
واحد منهما لما روي عن النبي أن لا ينبذ البسر والتمر والزهر والزبيب ".
قال
ابن الأثير في جامع الأصول وفي الشافي شرح مسند الشافعي (5/320) :" وقد ذهب
غير واحد من أهل العلم إلى تحريم الخليطين، وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكرًا
عملًا بظاهر الحديث، ولم يجعلوه معللا بالإسكار، وإليه ذهب عطاء وطاوس، وبه قال
مالك وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث.
قال الخطابي : وغالب مذهب الشافعي عليه ".
قالوا:
من شرب الخليطين قبل حدوث الشرط فيه فهو آثم من جهة واحدة، وإذا شربه بعد حدوث
الشدة فيه كان آثمًا من جهتين:
إحدهما:
شرب الخليطين.
والأخرى:
شرب المسكر " اهـ .
وقال ابن الأثير في الغريب:" وفي حديث
النَّبِيذ [ أنه نَهَى عن الخَلِيطَين أن يُنْبَذا ] يريد ما يُنْبَذ من البُسر
والتَّمر معاً أو من العِنَب والزَّبيب أو من الزَّبيب والتمر ونحو ذلك مما
يُنْبَذ مُخْتلِطا، وإنما نَهى عنه لأنّ الأنْواع إذا اختَلَفت في الانْتبَاذِ
كانت أسْرَع للشدة والتَّخْمِير
قال:" والنَّبيذُ المعمولُ من خَلِيطَين
ذَهَبَ قوم إلى تَحْريمه وإن لم يُسْكِر أخْذاً بظاهر الحديث وبه قال مالك وأحمد
وعامَّة المُحَدِّثين. قالوا: من شَرِبه قبل حُدوث الشَّدة فيه فهو آثِمٌ من جهةٍ
واحدةٍ ومَن شَرِبه بعد حُدوثها فهو آثِمٌ من جِهَتَين : شُرْبِ الخَلِيطَين
وشُرْبِ المُسْكِر .
قال:" وغيرهم رخَّص فيه وعَلَّلوا التحريم
بالإسكار" وهم الحنفية.
قال
ابن حزم :" وبه – التحريم - يقول جمهور السلف "،
وقال
الخطابي في معالم السنن (4/269):" قد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى تحريم
الخليطين وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكراً قولا بظاهر الحديث ولم يجعلوه
معلولاً بالإسكار، وإليه ذهب عطاء وطاوس. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة
أهل الحديث وهو غالب مذهب الشافعي. وقالوا: من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فهو
آثم من جهة واحدة، وإذا شرب بعد حدوث الشدة كان آثماً من جهتين أحدهما شرب
الخليطين والآخر شرب المسكر "، يعني جهة الخلط، وجهة الإسكار معه إذا اشتد.
قال
ابن حجر: وما نقله عن أكثر الشافعية وجد نص الشافعي بما يوافقه فقال – الشافعي -
:" ثبت نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين فلا يجوز بحال، وعن مالك
قال: أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا"،
يعني من شرب النبيذ ممزوجا بلا سُكْر أثم من جهة الخلط ، ومن
مزج النبيذ وتركه حتى يشتد أثم من جهتين : جهة المزج، وجهة الإسكار معه إذا اشتد
".
وقال
الشافعي:" الخليطان حرام، والسكر حرام ".
وقال ابن حجر في الفتح (10/69) :"
وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا
بظاهر الحديث وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وظاهر مذهب الشافعي، وقالوا: من شرب
الخليطين أثم من جهة واحدة فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين"، وخص الليث النهي
بما إذا نبذا معا اه
قال ابن حجر:" وجرى بن حزم
على عادته في الجمود فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي التمر
والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها أو في غيرها فأما لو خلط واحد من غيرها في
واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من
طريق المختار بن فلفل عن أنس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين
شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه"،
وقال القرطبي:" النهي عن
الخليطين ظاهر في التحريم وهو قول جمهور فقهاء الأمصار وعن مالك يكره فقط وشذ من
قال لا بأس به، لأن كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا".
قال:" وهذه مخالفة للنص
وقياس مع وجود الفارق فهو فاسد من وجهين ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الأختين
منفردة وتحريمهما مجتمعتين".
وذهب
بعض المتأخرين إلى أن النهي للتنزيه، ورووه رواية عن الإمام أحمد، ونسب بعضهم
التنزيه للشافعي وهو وهْمٌ عليه
لأنه صرح بالتحريم، على أن الأولين كانوا يطلقون الكراهة على التحريم:
وقال الإمام مالك في الموطإ:.. عن أبي قتادة
الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب التمر والزبيب جميعا والزهو
والرطب جميعا"، قال مالك:" وهو الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا
أنه يكره ذلك لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ".
والكراهة عند السلف
تطلق على التحريم:
قال
البغوي في شرح السنة (11/359) :" اختلف أهل العلم في تحريم الخليطين، فذهب
جماعة إلى تحريمه، وإن لم يكن الشراب المتخذ منه مسكرا لظاهر الحديث، وإليه ذهب
عطاء، وطاوس، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: من شرب الخليطين قبل حدوث
الشدة فيه، فهو آثم بجهة واحدة، وإن كان مشتدا، فبجهتين إحداهما: شرب الخليطين،
والأخرى: شرب المسكر.
روي
عن جابر، أنه قال: البسر والتمر إذا خلطا خمر.
ورخص
أصحاب الرأي في شربه على الإطلاق، ورخص فيه الأكثرون إلا أن يكون مشتدا
مسكرا".
وقال ابن حجر في الفتح (10/69) :" قال ابن
العربي المالكي: وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية ثم نسخ، وعن الخليطين،
فاختلف العلماء: فقال أحمد وإسحاق وأكثر الشافعية بالتحريم ولو لم يسكر،
وجاء في تهذيب المدونة للبرادعي :" ولا
يجوز أن يُنبذ تمر مع زبيب، ولا بسر أو زهو مع رطب، ولا حنطة مع شعير، أو شيء من
ذلك مع تين، أو عسل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ البسر والتمر
جميعاً، أو الزهو والتمر جميعاً "، قال مالك - رحمه الله - : وإن نبذ كل واحد
مما ذكرنا على حدة، لم ينبغ أن يخلطا عند الشراب، وما حلا من النبيذ، فلا يجوز فيه
الخليطان، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء، وإذا خلط العسل بنبيذ لم يصلح
أن يشربه ".
وقال الباجي في المنتقى شرح الموطإ، وابن أبي
زيد في النوادر والزيادات على ما في المدونة (14/288):" قال ابن حبيب: نهى النبي
عليه السلام عن الخليطيْن من الأشربة، فلا يجوز شرب الخليطيْن نبذًا كذلك، أو
خلطًا عند الشرب، كانا من جنسين أو من جنس، مثل عنب وزبيب، أو زهو ورطب، أو تمر
مذنب، فقد نهى عنه مالك، ولا يُنبذ رطب من التمر ويابس معاً، ولا من أخضر ويابس،
وكذلك إن نبذ زبيب وحده لم يجز أن يصب معه عند شربه عسلا، أو يلقي فيه تمر أو تينٌ، ولا كلُّ ما هو أصل
شراب، إلا الفقاع فقد يستخف".
أضاف الباجي:" إلا الفقاع فقد حكى ابن حبيب عن أصبغ
أنه يستحب تحليته بالعسل فإنه يجب أن يكون ممنوعا لأن كل واحد منهما مما ينبذ
مفردا لأن الفقاع من القمح أو الشعير وكل واحد ينبذ مفردا فالقياس أن يمنع الجمع
بينهما".
والفقاع هنا شراب يُصنع من الزبيب المدقوق، وقيل غيره،
وعليه فخلط مشروب الزبيب إلى نبيذه أمر خفيف لأنه جنسٌ واحد
كما قال المالكية والله أعلم.
وأما
خلط جنسين أو صنفين فقد مر كلام ابن رشد وأكثر المالكية في تحريم الخليطين.
بل
سئل مالك عن التطبب بالنبيذ الممزوج :" قيل له: أفيشربه المريض؟ قال: لا خير
فيه، قيل: أفتختلط المرأة تجعله في رأسها من نبيذ التمر ونبيذ الزبيب؟ قال: لا
تجعل في رأسها منه شيئاً ".
وقال ابن رشد في التحصيل (16/279) :" وسئل ابن القاسم عن العسل يخلط باللبن فقال : لا بأس به .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف فيه ، لأن النهي إنما جاء في
الخليطين من الأشربة التي يصنعها الناس من الأطعمة كالتمر والزبيب والعسل والبر
وما أشبه ذلك ، وأما اللبن فليس بشراب من صنع آدمي ، فلا كراهة في خلطه بالعسل ولا
شراب من الأشربة ، والأصل في هذا أنه إذا كان الشيئان يصلح أن ينبذ كل واحد منهما
فلا يجوز أن يجمعا في الانتباذ ولا أن يخلط شرابهما إذا انتبذ كل واحد منهما على
حده ، وإذا كان الشيئان لا يصلح أن يبنذ أحدهما أو كلاهما فلا بأس بخلط شرابيهما ، وإنما نهى عن خلط
الشرابين إذا اختلف أصولهما ومن جمع الشيئين المختلفين في الانباذ من باب حماية
الذرايع ، لأن الشدة والإسكار يسرع إليهما بذلك ، فمن خلطهما وشربهما في الفور لم
يكن عليه في ذلك حرج ، وقيل إن النهي في ذلك عبادة لا لعلة ، فعلى هذا القول لا
يجوز ذلك وإن شربهما بالفور ، وأما شراب الورد وشراب السكنجبين وما أشبه ذلك من
الأشربة السكرية أو العسلية فالجمع بينهما جائز باتفاق ، لأن أصلهما جميعاً واحد
ولا يجوز خلط شراب سكري وعسلي لاختلاف أصيلها وبالله التوفيق"
وقال ابن رشد (16/293) :"... وأما إن كان
النبيذ من تمر فلا يجوز أن يجعل فيه دردي نبيذ زبيب أو ما أشبه ذلك للنهي الذي جاء
في الخليطين وبالله التوفيق ".
وفي مختصر خليل :" ( وشراب خليطين ) ابن
رشد : ظاهر الموطأ أن النهي عن هذا تعبد لا لعلة .
قال ابن العربي : هذه المسألة ما علمت لها وجها
إلى الآن فإنه إن كان المحرم الإسكار فدعه يخلطه بما شاء ويشربه في الحال ، وأما
غير ذلك فليس فيه إلا الاتباع حتى إني رويت في ذلك مسألتين غريبتين : الأولى أن
ابن القاسم قال : لا يجوز أن ينبذ البسر المذنب وهو الذي بدا الإرطاب في ذنبه وصدق
لأنه من باب الخليطين .
الثانية أن محمد بن عبد الحكم أجرى النهي في الخليطين
على عمومه حتى منع منها في شراب الطيب ، وهذا جمود عظيم على الألفاظ انتهى .
وقال القرافي: ولا ينبذ تمر مع زبيب، ولا بسر ولا زهو مع رطب، ولا
حنطة مع شعير، ولا أحدهما مع تين أو عسل ".
ومر قول ابن أبي زيد القيرواني المالكي في النوادر والزيادات على ما
في المدونة (14/288):" قال ابن حبيب: نهى النبي عليه السلام عن الخليطيْن من
الأشربة، فلا يجوز شرب الخليطيْن نبذًا كذلك، أو خلطًا عند الشرب، كانا من جنسين
أو من جنس، مثل عنب وزبيب، أو زهو ورطب، أو تمر مذنب، فقد نهى عنه مالك، ولا يُنبذ
رطب من التمر ويابس معاً، ولا من أخضر ويابس، وكذلك إن نبذ زبيب وحده لم يجز أن
يصب معه عند شربه عسلا، أو يلقي فيه تمر أو تينٌ، ولا كلُّ ما هو أصل شراب، إلا
الفقاع فقد يستخف".
ثم ذكر عن أصبغ: جواز طرح الحب لكن في نبيذه
مفردا فقط فقال:" وكذلك نبيذ زبيب يطرح عليه زبيب ليحليه ويشد به، أو عسل
يطرح على نبيذ عسل". وهذا إفراد لا إشكال فيه.
بل
إن المالكية شرعوا التعزير لمن انتبذ الخليطين، فنقل القيرواني أيضا :" من
كتاب ابن المواز قال:" ولا يحد في شرب الخليطين ولا فيما نهي عنه من شراب
الظروف، ولكن فيه الأدب لمن نهي عنه وعرف ذلك وارتكبه تعداً ".
ومن
المعلوم أن الإسكار فيه الحد بالإجماع، فتعين أن الخليطين لا يدخلان في كبيرة
الإسكار، بل هما في درجة المنع التحريمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثاني : متى يحل شرب النبيذ ومتى يُمنع جمعا وإفرادا:
في
ذلك حالتان :
الحالة الأولى : شرب الأنبذة ونحوها في حالة الإفراد :
إذا
شُرب أي عصير أو نبيذ مفردا فهو جائز بالاتفاق ما لم يشتدّ أو يُسكر كما مر في
بابه.
الحالة الثانية: في حالة الجمع بين الأنبذة في إناء واحد:
فإن
جمع أي نبيذ مع غيره ففيه تفصيل:
ح 1/ أن يُجمع بين الأنبذة الغير المشتدة التي لا يُسرع فيها التفاعل
والإسكار: وهذا أمر مباح، كالجمع بين أنبذة
الخضار، أو أنبذة الأعشاب، أو بعض الفواكه الغير المشتدة.
ح2/ أن يُجمع بين الأنبذة المشتدة التي يُسرع فيها التفاعل والإسكار:
حيث
نُهي عن الجمع بين نبيذ التمر بأنواعه أو مع نبيذ العنب أو الزبيب أو القمح والشعير
والعسل، ويلحق بها غيرها من الثمار التي تتخمر وتشتد بنفسها، لحديث أنس بن مالك
قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجمع شيئين نبيذا يبغي أحدهما على
صاحبه»
ح3/ أن يُجمع بين نبيذ
مشتد (كالرطب والزبيب)، وآخر غير مشتد كنبيذ الخضار (الجزر): والأرجح في هذا هو
الجواز والله أعلم لظاهر حديث أنس.
ح4/ أن يجمع بين الأنبذة، مع غيرها من العصائر والمشروبات:
وقد بينا أن مذهب الليث ومن معه في الجواز هو الصحيح، لأن النبي عليه السلام، نهى
عن نبذ الخليطين وأمر بإفراد الأنبذة فقط، وأما العصائر وغيرها فبقيت على أصل الإباحة جمعا وإفرادا، وللفرق بين
النبيذ والعصير المشروب.
ومنع من ذلك مالك وابن حزم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثالث: صور شرب النبيذين:
لقد تكاثرت الأحاديث بالنهي عن
الخليطيْن، واختلف العلماء فيهما، وفي حكم إلحاق سائر الفواكه بالتمر والزبيب،
بجامع التفكه وإمكانية الاشتداد كما أسلفنا، فصار في هذه المسألة عدة صور لخص
معظمها الإمام ابن العربي المالكي فقال :
قال ابن العربي:" ويتحصل لنا أربع صور:
أن يكون الخليطان منصوصين: فهو حرام،
أو منصوص ومسكوت عنه: فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسا على
المنصوص ،
أو مسكوت عنهما: وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز، قال:
وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار
فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص "،
وفيما
يلي تفصيلتلكم الصّور وغيرها:
الصورة الأولى: أن يكون الخليطان منصوص على النهي عن مزجهما، وهما
صنفان من نفس الجنس:
وذلك
كمزج نبيذِ التمر مع أحد أصنافه: كمزج البسر مع الرطب، أو الرطب مع التمر، أو مع
الزهو، أو مزج العنب بالزبيب، لأنه من جنسه، وكذلك عن المزج بين نبيذ القمح
والحنطة لما مر من نهي عن الجمع بينها بالنص:
وعليه:
فمن مزج أحد أصناف الجنس ببعضها بعضا، أو جميعها فهو حرام عند جماهير السلف والخلف
إلا الحنفية المتوسعين في باب الشراب، وقال آخرون بالكراهة، والصحيح أن هذا المشْج
مكروه تحريما كما هو مذهب الجمهور، لأن الأصل في النهي هو التحريم.
وعليه
فمن صنع الجلاب وجمع فيه بين نقع التمر والرطب لمدة طويلة فهو حرام بيِّن كما
يفعله الكثير من المسلمين خاصة في شهر رمضان.
الصورة الثانية: أن يُصنع النبيذ من نفس
الجنس والصنف الواحد: كالثمر المذنب والمناصف:
وهذه ممنوعة لما خرجه النسائي في الكبرى (5072) عن
المختار قال: «كان أنس يكره المُذنِّب من البسر مخافة أن يكونا شيئين، فكنا نقطعه
»،
وكرهه ابن عمر وغيره.
وذكر القاضي في المسالك (5/363) :" أنَّ ابنَ القاسم قال؟ لا يجوزُ أنّ يُنْبَذَ
البُسْرُ المُذَنَّبُ، وهو الّذي يُرَى الإرطاب في ذنَبِهِ، وصدق لأَنّه من باب
الخليطين ".
الصورة الثالثة: أن يكون الخليطان منصوص على النهي عن مزجهما، مع
اختلاف الجنس:
وذلك
كمزج نبيذِ التمر مع الزبيب، أو العنب مع الرطب، أو نبيذ القمح مع الشعير، فهذا
الخلط حرام لما مر من نهي عن الخليطين.
الصورة الرابعة: أن يُمزج بين خاص منصوص عليه، ومسكوت عن تخصيصه داخل
في العموم، مما يشابهه في علة الاشتداد والإثخان:
وذلك
كالمزج بين نبيذ التمر المنصوص عليه مع نبيذ المشمش الغير المنصوص عليه بخصوصه،
أو
كالجمع بين نبيذ الرطب بالشعير، أو الجمع بين الزبيب والمشمش ونحوه من الفواكه
التي تشتدّ، كما يفعلون عندنا في الجلاب (الطجين الحلو)،
وهكذا
من يضيف للنبيذ مواد تسرّع الإسكار كالخميرة والرؤبة، فكل هذا أمر محرّم عند
الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة ووافقهم ابن حزم في ذلك للأمر بانتباذ
هذه المنصوص عليها مفردة كما مر في قوله : «انتبذوا كل واحد على حدته »،
الصورة الخامسة: أن يُمزج بين نبيذِ مشتدّ، مع غير النبيذ، كالعصائر
والأعشاب والخضار:
وذلك
كالجمع بين نبيذ الزبيب مع المواد الحافظة التغير، أو مع نبيذ الورد (ماء الورد)
أو الــمُكسرات، أو نبيذ التمر مع اللبن، أو نبيذ الزبيب بنبيذ خضار لا تشتد، أو
نبيذ القمح بالعصير، فهذا أمر مشروع عند الكثير،
قال الحافظ :" ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين لأن اللبن
لا ينبذ ".
قال القاضي عياض المالكي في إكمال المعلم :" وقال الليث بقول الجماعة، لكنه قصر النهي على الانتباذ،
وأجازه حين الشراب والاستعمال .."،
فلا
بأس إذًا من إضافة العصير والمواد الحافظة لأي نبيذ، وإنما تُمنع الأنبذة والمواد
المُشتدّة.
قال ابن العربي: وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما
دواء يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص ".
الصورة السادسة: أن يُمزج بين مسكوت عنهما، يتشاركان في علة الثخن
والاشتداد: بحيث لو انفرد واحد منهما لاشتد
أو أسكر، وذلك كالجمع بين نقيع المشمش مع الكرز، أو مع البرقوق (فاكهة عين البقر)،
أو مشمش طري مع يابس، فهذه محرمة المزج عند الجمهور بالعموم والقياس كما سبق،
لأنها فاكهة تشتد، خلافا لعطاء وابن حزم.
الصورة السابعة: أن يُمزج بين مسكوت عنه يشتد وينعقد، مع مسكوت عنه لا
يشتد:
كالجمع
بين نبيذ المشمش والخضار مثلا، فهذا الجمع لا بأس به.
الصورة الثامنة: أن يُمزج بين مسكوت عنهما، لا يشتدان ولا ينعقدان: بحيث
لو انفرد واحد منهما لما اشتد ولا دخله الإسكار، كالجمع بين نبيذ أصناف العصائر
والخضار والبطيخ فإنها لا تشتد، فهذه جائزة عند الحمهور خلافا للإمام ابن عبد
الحكم المالكي ومن معه فإنه قال: لا يجوز خلط شرابي سكر كالورد والجلاب (الطجين
الحلو)"، والصواب عكسه لأن ماء الورد ليس بفاكهة بل هو نبيذ ورد وحشيش، فلا
مانع من الجمع بينهما.
وأما
نبيذ الفاكهة الغير المشتدة: فيحتاج أمرها إلى معرفة الفواكه التي تشتدّ ويُتخذ
منها الخمر بذاتها، ممن لا تُعمل منها بذاتها، وأتصوّر أن التي تشتد هي كل الفواكه
المائية التي يُعصر منها الماء مباشرة، كالعنب والتوت والفرولة والكرز وحب الملوك
والرمان والبرتقال والليمون ..
وأما
اليابسة: كالمزج بين نبيذ الإجاص والتفاح، أو الخوخ مع السفرجل، فكأن هذه الأصل
فيها عدم الاشتداد والتخمر بسهولة، بل تفسد بالنبذ والله أعلم،
فإذا
كان ذلك كذلك فهي جائزة عند الجماهير عدا ابن عبد الحكم، وفيها قال ابن العربي
:" وكل منهما لو انفرد لم يسكر، جاز ".
وقال
في شرح الموطإ :" وذلك أنّ محمّد بن عبد الحَكَم
أجرَى النَّهيَ في الخليطّينِ على عمومه، حتّى منع منها في شرابِ الطَّبيبِ
".
الصورة التاسعة: أن يمزج بين النبيذيْن للخل أو التداوي، لا للشرب
والتفكه: وقد مر ذلك، وأن الخل والتطبب لا
يدخلان في حكم النبيذ، خلافا لابن عبد الحكم.
الصورة العاشرة: أن يُصنعَ نبيذان مفردان في إناءين مختلفين، ثم
يُشربان بالتـناوب: وهي محل نظر، والأولى
في ذلك الجواز، والاحتياط ترك فاصل عند الشرب بين نبيذ وآخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الرابع: في أدلة إلحاق انتباذ أحد هذه المذكورات، بشيء من غير المذكورات:
في
هذه المسألة عدّة صور سيأتي ذكرها بعد نقل الأقاويل في ذلك:
القول الأول: ذهب بعض أهل الظاهر
إلى الاقتصار على المنع من مزج هذه المذكورات فقط، وعن خلطها مع بعضها فقط، فأما
مَنْ خلط أحدها، بجنس من غيرها غير منصوص، أيّا كان فهو أمر مشروع، كمن يخلط نبيذ
الزبيب المنصوص عليه بالمشمش أو بغيره من الفواكه الغير المنصوص عليها، استدلالا
ب:
الدليل الأول: عموم قوله عليه
السلام :" انتبذوا ولا تشربوا مسكرا"، وقوله: انتبذ في سقائك وأوكه
واشربه حلوا "،
الدليل الثاني: عموم الأدلة الدالة
على تناول الطيبات، وتجنب المسكرات، وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وكذلك الأصل في الأنبذة والعصائر هو الطيبة ما
لم تشتدّ.
قالوا:
فلما كان الأصل الإباحة، كان ما ورد من النهي خروج عن الأصل، وما كان خارجا عن
الأصل فشأنه الاقتصار فيه على المنصوص، لا التوسع في تحريم ما أحل الله ، ثم
استدلوا بأحاديث ظاهرها الحصر والاقتصار:
الدليل 3: خرجه مسلم (1986) عن
جابر بن عبد الله الأنصاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب
والتمر، والبسر والتمر».
وفي
لفظ له :" أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر
جميعا".
ثم
خرج عن جابر مرفوعا :« لا تجمعوا بين الرطب والبسر، وبين الزبيب والتمر نبيذا».
وروى
ابن وهب حدثني عبد الجبار بن عمر قال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين أن يشربا، قلنا: يا رسول الله
وما الخليطان قال:"التمر والزبيب, وكل مسكر حرام ".
الدليل 4: خرجه مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتبذوا الزهو والرطب جميعا، ولا
تنتبذوا الزبيب والتمر جميعا، وانتبذوا كل واحد منهما على حدته »،
وخرجه
البخاري (5602) عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «نهى النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة ».
الدليل الخامس : خرجه مسلم عن
أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر، والبسر
والتمر، وقال: «ينبذ كل واحد منهما على حدته»،
الدليل السادس: خرجه مسلم عن ابن
عباس قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلط التمر والزبيب جميعا، وأن يخلط
البسر والتمر جميعا، وكتب إلى أهل جرش ينهاهم عن خليط التمر والزبيب»،
وخرج
عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والمزفت
والنقير، وأن يخلط البلح بالزهو ».
الدليل السابع: خرجه مسلم عن ابن عمر
أنه كان يقول: «قد نهي أن ينبذ البسر والرطب جميعا، والتمر والزبيب جميعا ».
الدليل الثامن: قال أبو بكر (5/76)
حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن صفوان سمعت أبي يحدث عن أمه أنها قالت: كنت أمغث
لعثمان الزبيب غدوة فيشربه عشية، وأمغثه عشية فيشربه غدوة "، فقال لها عثمان:
«لعلك تجعلين فيه زهوا»، قالت: ربما فعلت، قال: «فلا تفعلي»،
ومعنى
تمغث تدلك وتمرس، وقد استدل به من قال بأن النبيذ والعصير سيان في الأحكام والنهي
عن المزج بينها، وقد يكون مردودا باحتمال بقاء مادة الزبيب منبوذة في الماء.
الدليل التاسع: قال ابن حزم :"
وصح عن جابر بن زيد أبي الشعثاء أنّه سئل عن البسر والتمر يجمعان في النبيذ؟ فقال:
لأن تأخذ الماء فتغليه في بطنك خير من أن تجمعهما جميعا في بطنك ".
الدليل العاشر: رواه الحكم بن
عتيبة عن عبد الرحمان بن أبي ليلى قال: كان الرجل يمر على أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم وهم متوافرون فيلعنونه ويقولون: هذا يشرب الخليطين الزبيب والتمر
".
وهذا نص في أن النهي إنما هو
للخلط لا الإسكار، إذ لو كان مسكرا لأمروا بجلده، ولما اكتفوا بالإنكار اللساني.
الدليل 11: خرجه مسلم (1987) عن
أبي سعيد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خليط التمر والبسر، وعن خليط
الزبيب والتمر، وعن خليط الزهو والرطب، وقال: «انتبذوا كل واحد على حدته »،
وخرجه مسلم أيضا عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيبا
فردا، أو تمرا فردا، أو بسرا فردا »،
وخرج
أحمد والنسائي عن شعبة عن أبي التياح عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري أن النبي
صلى الله عليه وسلم أُتي بنشوان فقال :" إني لم أشرب خمرا إنما شربت زبيبا
وتمرا في إناء [دباءة]، فنهز بالأيدي وخفق بالنعال، ونهى عن الزبيب والتمر أن
يخلطا ".
قالوا:
ففي كل هذه النصوص وغيرها، نصّ على التمر ومشتقاته وعلى الزبيب فقط.
الدليل 12: وفيه ترك القياس في غير المذكورات:
خرج
ذلك عبد الرزاق (16974) عن ابن جريج قال: قال لي عمرو بن دينار سمعت جابر بن عبد
الله أو أخبرني عنه من أصدق، ألا يجمع بين الرطب، والبسر، والزبيب، والتمر، قلت
لعمرو: وهل غير ذلك؟ قال: «لا»، قلت لعمرو: أو ليس إنما نهي عن أن يجمع بينهما
في النبيذ، وأن ينبذا جميعا " قال: «بلى» قلت: فغير ذلك مما في النخلة؟ قال:
«لا أدري».
فلم
يعدّ عمرو الراوي إلى غير المنصوص وقال "لا"، وهو راوي الحديث وأعلم بما
روى .
وخرج
عبد الرزاق (16978) عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أذكر جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى أن يجمع بين نبيذين غير ما ذكرت غير البسر، والرطب، والزبيب،
والتمر؟ قال: لا، إلا أن أكون نسيت ".
قالوا:
فتعين
أن المراد هو انتباذ كل واحدة من هذه المذكورات فقط على حدته، وعن المنع من خلطها
مع بعضها البعض فقط، لا مع غيرها، فإن من خلطها مع غيرها فهو نبيذ حلال لم يأت نص
صحيح بالنهي عنه، فتعين الحصر وعدم الخروج عن الأصل والتوسع في تحريم الطيبات، وهو
رواية عن ابن حزم أيضا.
الدليل 13: وفيه النهي حتى عن نبْذ التمر المنصف أو المذنّب:
والمذنّب
هو الذي بَدَا فيه الإرْطاب من قِبَل ذَنَبِه، ففيه جزء رطب وجزء يابس، وهذا ينبغي
تقطيعه، ومن ثَم نبذ الجزء اليابس وحده، والطريّ وحده.
خرج النسائي في الكبرى (5072) أخبرنا سويد بن نصر
أنبأنا عبد الله عن وقاء بن إياس عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: «نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجمع شيئين نبيذا يبغي أحدهما على صاحبه» قال:
وسألته عن الفضيخ ؟ فنهاني عنه، قال: «كان يكره المُذنِّب من البسر مخافة أن يكونا
شيئين، فكنا نقطعه»، فيه وقاء وهو محل خلاف، وفي حديثه لين، وأما جزء كراهة أنس
للمذنّب ففيها شواهد:
فرواه
معمر عن قتادة قال: كان أنس إذا أراد أن ينبذ، يقطع من الثمرة ما نضج منها فيضعه
وحده، وينبذ التمر وحده، والبسر وحده ".
وخرج
النسائي عن هشام عن أبي إدريس قال: «شهدت أنس بن مالك أتي ببسر مُذنّب، فجعل يقطعه
منه ».
ثم
خرج عن عبد الله عن حميد عن أنس أنه كان لا يدع شيئا قد أرطب إلا عزله عن فضيخه
".
وخرج
عن سعيد بن أبي عروبة قال قتادة كان أنس يأمر بالتذنوب فتقرض ".
وورد
عن ابن عمر أنه كان ينتبذ التمر فينظر إلى التمرة بعضها بسرة وبعضها رطبة فيقطعها
ولا ينتبذ كلها ".
قال
ابن العربي في شرح موطإ مالك (5/363) :" ...أنّ ابنَ القاسم قال؟ لا يجوزُ
أنّ يُنْبَذَ البُسْرُ المُذَنَّبُ، وهو الّذي يُرَى الإرطاب في ذنَبِهِ، وصدق
لأَنّه من باب الخليطين ".
القول الثاني: وذهب جمع آخر من أهل
الظاهر منهم ابن حزم إلى وجوب إفراد هذه الخمسة، والمنع من خلط نبيذ أحد هذه
المنصوص عليها مع أي عصير أو نبيذ من غيرها مطلقا، لأن العصير عنده وعند المالكية
مثل النبيذ.
قال
أصحاب ابن حزم: وأما أنبذة غير هذه الخمسة، فيصح خلطها بغيرها من أنبذة وعصائر
مطلقا، سواء أكانت من الفاكهة المشتدة أم غير ذلك.
قال
ابن حزم في المحلى (7/508) :" فإن نُبذ تمر, أو رطب, أو زهو, أو بسر, أو
زبيب، مع نوع منها أو نوع من غيرها, أو خُلط نبيذُ أحد الأصناف بنبيذ صنف منها, أو
بنبيذ صنف من غيرها, أو بمائع غيرها حاشا الماء، حرم شربه، أسكر أو لم يسكر, ونبيذ
كل صنف منها على انفراده حلال ", قال :
فإن
مُزج نوعٌ من غير هذه الخمسة مع نوع آخر من غيرها أيضا أو نبذا معا, أو خلط عصير
بنبيذ فكله حلال: كالبلح وعصير العنب, ونبيذ التين, والعسل, والقمح, والشعير, وغير
ما ذكرنا، لا تحاش شيئا "،
ثم
نسب قوله إلى الجمهور فقال :" وبه يقول جمهور السلف "،
وقال
أيضا (11/370) :" قد ذكرنا فيما يحل ويحرم من الأشربة أن التمر والرطب ,
والزهو والبسر , والزبيب, هذه الخمسة خاصة دون سائر الأشياء، يحل أن ينبذ كل واحد
منها على انفراده, ولا يحل أن ينبذ شيء منها مع شيء آخر - لا منها ولا من سائرها -
في العالم . وأنه لا يحل أن يخلط نبيذ شيء - بعد طيبه أو قبل طيبه - لا بشيء آخر
ولا بنبيذ شيء آخر، لا منها ولا من غيرها أصلا ,
قال:"
وأما ما عدا هذه الخمسة فجائز أن ينبذ منها الشيئان والأكثر معا، وأن يخلط نبيذ
اثنين منها فصاعدا أو عصير اثنين فصاعدا، وبيّنا السنن الواردة في ذلك، فمن شرب من
الخليطين المحرمين مما ذكرنا شيئا لا يسكر فقد شرب حراما كالدم , والبول , ولا حد
في ذلك ; لأنه لم يشرب خمرا , ولا حد إلا في الخمر ... وإنما فيه التعزير فقط
".
واستدلوا
بما سبق ذكره من أدلة، وما سيأتي.
القول الثالث: وذهب الجمهور إلى
وجوب إفراد هذه الخمسة، والمنع من خلط نبيذ أحد هذه المنصوص عليها مع بعضها كالتمر
مع الزبيب، أو مع نبيذ آخر من غيرها مطلقا كما قال ابن حزم، وذلك كمشج التمر أو
الزبيب بالحبوب أو بالفواكه الأخرى، للأمر بإفرادها، إضافة إلى المنع من خلط أي نبيذيْن
مشتدين من فاكهتين فأكثر.
فقاس
الجمهور قاسوا عليها كل الفواكه والثمار التي تشتدّ وتنعقد وتحتمل الإسكار، بجامع
التفكه والاشتداد وإمكانية الإسكار، كنبيذ المشمش مثلا مع الكرز ونحوه.
قالوا:
وكلّ فاكهة لو نُبذت أو عُصرت وطال نقعها في الماء لاشتدّت أو أسكرت بنفسها،
فيُمنع مزجها مع غيرها مما قد يشتدّ مثلها.
وهذه
الثمار المشتدة في الغالب هي الفواكه اللينة المائية:
مثل
مزج العنب بالزبيب وأصنافه، أو التوت أو البرقوق، وخلط نقيع العسل وسقائه بالمشمش
أو التوت أو البرقوق ..
وكذلك
الفواكه والحبوب اليابسة: مثل خلط التمر بأنواعه، أو التمر مع الزبيب بالنص، وما
يقاس على ذلك من مختلف الفواكه التي تُتخذ منها الأنبذة المشتدة كالتفاح والإجاص
إن كانا يشتدان.
وكذلك
نبيذ حب القمح والشعير وسائر الحبوب المسكرة بالنبذ والطول كالذرة والبر.
فيُمنع
من خلط كل هذه مع بعض، ومن خلط كل ثمرة يشتد نبيذها بثمرة مشتدة مثلها فهو آثم.
لكنهم
اختلفوا في خلط الخل أو إضافة العصائر إلى الأنبذة كما بينا، والصواب أن العصائر
مباحة ولا تدخل في حكم النبيذ كما قال الليث وغيره من السلف خلافا للإمام مالك
وأصحابه وابن حزم.
قال ابن حزم :" حيث قال مالك بتحريم خليط كل
نوعين في الانتباذ وبعد الانتباذ, وكذلك فيما عصر, ولم يخص شيئا من شيء ".
وقال
ابن حجر في الفتح (10/69) :" قال ابن العربي: واختلف في علة المنع، فقيل: لأن
أحدهما يشد الآخر، وقيل لأن الإسكار يسرع إليهما، قال: ولا خلاف أن العسل باللبن
ليس بخليطين لأن اللبن لا ينبذ، لكن قال بن عبد الحكم: لا يجوز خلط شرابَيْ
سُكَّرٍ، كالورد والجلاب، وهو ضعيف "،
قال:
واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل ".
قال
ابن العربي:" ويتحصل لنا أربع صور:
1. أن يكون الخليطان منصوصين: فهو حرام،
2. أو منصوص ومسكوت عنه: فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر
فهو حرام قياسا على المنصوص ،
3. أو مسكوت عنهما: وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز، قال:
4. وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء
يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص "،
المبحث الثالث: أدلة المنع بين الخليطين والنبيذيْن الإدامين:
وقد
استدل الجمهور بعدة أدلة منها الأدلة السابقة في تحريم الخليطين من التمر والزبيب،
ثم ألحقوا بهما ما يشاركها في علة إمكانية الاشتداد أو الإسكار مع التفكّه، وعززوا
قياسهم بالأدلة التالية:
الدليل الأول: خرجه البخاري (5602)
عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين
التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة ».
الدليل الثاني: خرجه مسلم (1987) عن
أبي سعيد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خليط التمر والبسر، وعن خليط
الزبيب والتمر، وعن خليط الزهو والرطب، وقال:«انتبذوا كل واحد على حدته »،
قالوا:
وفي قوله : «انتبذوا كل واحد على حدته »، عموم بعد ذكر التمثيل، فلا يصح شرب كل
نبيذ إلا على سبيل الانفراد، وأكدوا ذلك ب :
دليل ثالث: روي عن الأشجع العبدي
:" لا تَثْجُروا ولا تَبْسُروا "، فقيل بعموم النهي عن الثجر لكل ثمرة
مشتدة، وقيل بتقييد الثجر بالتمر وأصنافه لا غير:
.
قال ابن الأثير في غريب الحديث :" ما عُصر من العنب فَجَرت سُلافتُه وبَقِيت
عُصارته، - قاله الليث - وقيل الثَّجير: ثُفْل البُسْر يُخلَط بالتمر فيُنْتَبذ،
فنَهاهم عن انْتباذه ".
وقال
ابن الجوزي :" الثجر تفل الْبُسْر يخلط بِالتَّمْرِ فينتبذ ".
وقال
ابن سلام:" يقول: لا تخلطوا ثجير البسر أيضا مع التمر، وثجيرُه أن ينبذ البسر
وحده ثم يؤخذ ثفله فيلقى مع التمر فكره هذا أيضا مخافة الخليطين ".
دليل رابع: وفيه عموم النهي عن الخليطين:
رواه الطيالسي (1481) نا حرب بن شداد عن يحيى بن
أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمان عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن الخليطين ".
وقد علله ابن حزم بقوله : مدلَّس لم يسمعه يحيى بن
أبي كثير من أبي سلمة عن عائشة, وإنما سمعه من أبي سلمة عن أبي قتادة ".
وقد
رواه علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير [عن ثمامة بن كلاب] عن أبي سلمة عن
عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انتبذوا الزبيب والتمر جميعا, ولا
تنتبذوا الرطب والتمر جميعا ".
قال
ابن حزم :" إنما سمعه يحيى من كلاب بن علي وثمامة بن كلاب, وكلاهما لا يدرى
من هو فسقط".
لكن ابن حزم استشكل إطلاقه، فقال :" ثم لو صح
لما كان فيه حجة; لأن الخليطين هكذا مطلقا لا يدرى ما هما أهما الخليطان في الزكاة
أم في ماذا؟ وأيضا فإن ثريد اللحم والخبز خليطان, واللبن والماء خليطان, فلا بد من
بيان مراده عليه السلام بذلك, ولا يؤخذ بيان مراده إلا من لفظه عليه السلام فبطل
تعلقهم بهذا الأثر ".
والصواب أنه مطلق مقيد بالنبيذ للرواية التالية:
الدليل الخامس: قال
الحميدي في مسنده (359) والشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة عن محمد بن إسحاق ثني
معبد بن كعب عن أمه وكانت قد صلت القبلتين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن الخليطين، وقال: انتبذوا كل واحد منهما على حدته ".
هذا حديث صحيح، ومعبد رجل ثقة، وثقه العجلي وابن
حبان وأحمد وقال: آل كعب بن مالك، كلهم ثقات"،
وخرج له البخاري ومسلم وابن خزيمة في الصحيح موثقا له، وخرج عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني معبد بن كعب بن مالك، وكان من أعلم الأنصار".
ولذلك كان الأصح الواضح عند الجمهور أن المراد
بالخليطين إنما هو في الأنبذة التي تشتد، يؤيد ذلك:
دليل6: فقد وروى ابن وهب
أخبرني عبد الجبار بن عمر أن محمد بن المنكدر حدثه عن جابر بن عبد الله أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين أن يشربا، فقلنا: وما الخليطان يا رسول
الله؟ قال :" التمر والزبيب، وكل مسكر حرام "،
فعمّم
بلفظ النهي عن كل خليطين، ثم مثّل بذكر الأخطر وهما التمر والزبيب، كما في عموم
الحديث :" إنما الأعمال بالنيات" فعمّم، ثم مثل بذكر الهجرة والإخلاص
فيها.
الدليل السابع: قال
الطبراني في الكبير 4715 - حدثنا زكريا بن
يحيى الساجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ثنا عمر بن رديح عن عطاء بن ابي
ميمونة عن أنس عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين
"،
عمر قال عنه يحيى بن
معين: صالح الحديث، ووثقه الصفار والعجلي وابن شاهين وابن حبان، وقال أبو حاتم:
ضعيف الحديث"، فالحديث حسن، وقد ورد عن أنس التمثيل والتعميم:
فرواه
أحمد عن بهز حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن ينبذ البسر والتمر جميعا ".
ورواه
حميد عن أنس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبذ التمر والزبيب جميعا،
وأن ينبذ التمر والبسر جميعا»
وورد
عنه التعميم أيضا:
الدليل الثامن: وفيه عموم النهي عن كل جمعٍ بين شيئين يشتدان:
1/
قال النسائي 5563 - أخبرنا سويد بن نصر أنبأنا عبد الله عن وقاء بن إياس عن
المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجمع
شيئين نبيذا يبغي أحدهما على صاحبه» قال: وسألته عن الفضيخ، فنهاني عنه، قال: «كان
يكره المُذنِّب من البسر مخافة أن يكونا شيئين، فكنا نقطعه»،
والمذنب
هو التمر الذي بَدَا فيه الإرْطاب من قِبَل ذَنَبِه، ففي نفس التمرةيوجد جزءٌ رطب
وجزء يابس، فكره أنس خليطهما مبالغة منه في الامتثال، والحديث نص في العموم.
لكن
فيه وقاء وهو محل خلاف وهو إلى الصدوق أقرب، والحديث صححه الألباني، وله شواهد:
2/
فقال النسائي 5565 - أخبرنا سويد بن نصر أنبأنا عبد الله عن حميد عن أنس «أنه كان
لا يدع شيئا قد أرطب إلا عزله عن فضيخه ».
وخرج
عن أبي إدريس قال: «شهدت أنس بن مالك أتي ببسر مُذنّب، فجعل يقطعه منه».
ومما يؤكد رواية العموم وفهم أنس رواية عمر بن رديح
عن عطاء عن أنس عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين
".
الدليل التاسع: وفيه النهي عن الجمع بين
نبيذ القمح والشعير مما يؤكد العموم:
قال ابن حبان في صحيحه (5367) ثنا ابن قتيبة حدثنا
يزيد بن موهب حدثنا ابن وهب (الجامع 34) أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا السمح حدثه
أن عمر بن الحكم حدثه عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
أَنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه
وسلم فَعَلَّمَهُمُ الصُّلاةَ وَالسُّنَنَ وَالْفَرَائضَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
الله، إِنَّ لَنَا شَرَاباً نَصْنَعُهُ مِنَ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ، فَقَالَ صلى
الله عليه وسلم: "الْغُبَيْرَاءُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَلا
تَطْعَمُوهُ". فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، ذكروهما له أيضاً فقال:
"الغبيراء؟ " قالوا نعم، قال: "لا تَطْعَمُوهُ ". فَلَمَّا
أَرَادُوا أَنْ يَنْطَلِقُوا، سَألُوا عَنْهُ فَقَالَ: "الغُبَيْرَاءُ؟
". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَلا تَطْعَمُوه".
وقد تابعه ابن لهيعة قال: حدثنا دراج عن عمر بن
الحكم به وزاد :" قالوا : فإنهم لا يدعونها قال : " من لم يتركها
فاضربوا عنقه "، والصحيح ما سبق بغير هذه الزيادة .
وهذا يبين عموم النهي عن كل خليطين شديديْن ولو لم
يُسكرا، فإن القمح والشعير غير مذكوريْن في الأحاديث السابقة مع التمر والزبيب، ثم
إنه عليه السلام نهى عنهما مطلقا ولم يستفصل هل يُسكر الخليط أم لا؟
الأثر العاشر: رواه عبد الرزاق
(16979 - عن ابن جريج قال: سألت عطاء عما سوى ما ذكر جابر مما في الحبلة والنخلة
أن يجمع بينه؟ فكان يأبى، قال في الحلقان: يقطع بعضه من بعض قال: فسألته عن العسل
أيجمع بأشياء من التمر والفرسك بالعسل نبيذا ؟ فقال: إني أرى ما شد بعضه بعضا
كان على ذلك، قال: قلت له: أيجمع بين التمر والزبيب ينبذان، ثم يشربان حلويْن؟
قال: لا، قد نهي عن الجمع بينهما، قال ابن جريج: وأقول أنا: «أجل ألا ترى أنه لو
نبذ شراب في الظرف، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه لم يشرب حلوا» قال عبد
الرزاق: «والحلقان قضيب يشق، ثم يوضع في جوفه قضيبان، ثم بتمر ».
الأثر 11: رواه عبد الرزاق:
أخبرنا معمر عن قتادة عن ابن المسيب «كره أن يجعل نطل النبيذ في النبيذ ليشتد
بالنطل » النطل: الطحل ، وهو أن يُؤخذ سُلاف النبيذ وما
صَفا منه، فإذا لم يَبْق إلا العَكَر والدُّرْديّ صُبَّ عليه ماءٌ وخُلط بالنَّبيذ
الطريّ ليَشْتدّ .
الدليل 12/ وفيه إنكار الصحابة انتباذ الخليطين:
قال
ابن عبد البر المالكي في الاستذكار ال أبو عمر رد أبو حنيفة هذه الآثار برأيه وقال
لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة البسر والتمر والزبيب والتمر وكل ما لو طبخ على
الانفراد حل كذلك إذا طبخ مع غيره
ثم
استدل ابن عبد البر بما خرجه أبو بكر في المصنف (5/94) حدثنا معاوية بن هشام عن
عمار بن زريق عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
كان الرجل يمر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم متوافرون، فيلعنونه
ويقولون: هذا يشرب الخليطين: الزبيب والتمر ".
فلو كانت الصحابة يرون العلة هي
الإسكار لأمروا بجلد السكران، ولما اكتفوا بالإنكار اللساني.
13/ قال الشافعي:
أخبرنا سفيان بن عيينة عن محمد بن إسحاق عن معبد بن كعب عن أمه وكانت قد صلت
القبلتين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، وقال: انتبذوا كل
واحد منهما على حدته "، وكأنه مختصر مع عنعنة ابن إسحاق .
14/ رواه عبد الرزاق (9/213)
عن ابن جريج أخبرت عن أبي إسحاق: أن رجلا سأل ابن عمر: أجْمعُ بين التمر والزبيب
فقال: لا, قال: لِم؟ قال: نهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: لم؟ قال:
سكر رجل فحده النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أن ينظر ما شرابه فإذا هو تمر وزبيب,
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين التمر والزبيب وقال: يلقى كل واحد
منهما وحده".
قالوا : فكل ما قوي وأدى
إلى السكر فهو مثله .
إلا أن هذا الحديث ضعيف، لم يسمعه ابن جريج عن أبي إسحاق، ولا الأخير عن
ابن عمر .
15/ رواه أبو بكر (5/92) عن أبي إسحاق عن الحراني قلت لعبد الله بن عمر:
إنا بأرض ذات تمر وزبيب، هل يخلط التمر والزبيب فننبذهما جميعا؟ قال: لا، قلت: لم؟
قال: إن رجلا سكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي به النبي وهو سكران،
فضربه ثم سأله عن شرابه؟ قال: شربت نبيذا، قال: «أي نبيذ؟» قال: نبيذ تمر وزبيب،
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخلطوهما، فإن كل واحد منهما يكفي وحده»،
وهو أيضا ضعيف ومدلس .
16/ رواه أبو بكر (5/92) عن أبي إسحاق عن الحراني قلت لعبد الله بن عمر:
إنا بأرض ذات تمر وزبيب، هل يخلط التمر والزبيب فننبذهما جميعا؟ قال: لا، قلت: لم؟
قال: إن رجلا سكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي به النبي وهو سكران،
فضربه ثم سأله عن شرابه؟ قال: شربت نبيذا، قال: «أي نبيذ؟» قال: نبيذ تمر وزبيب،
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخلطوهما، فإن كل واحد منهما يكفي وحده»،
وهو أيضا ضعيف ومدلس
17/ خرجه أحمد والنسائي عن شعبة عن أبي التياح عن أبي الوداك عن أبي سعيد
الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بنشوان فقال :" إني لم أشرب خمرا
إنما شربت زبيبا وتمرا في إناء [دباءة]، فنهز بالأيدي وخفق بالنعال، ونهى عن
الزبيب والتمر أن يخلطا ".
وعززوا قولهم بالقياس مع التشارك في علة إمكانية الاشتداد أو الإسكار مع
التفكّه، وعززوا قياسهم بالأدلة بعموم الأدلة وخصوصها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الرابع: الأنبذة المسكرة، والخمور المحرمة:
المطلب الأول: تعريف الخمر وماهيتها:
الخمر: أن توضع الأنبذة أو
الحب أو أجزاء الفاكهة في أوعية نباتية أو غليظة مغطاة جيدا بلا تهوية كالخل،
ولمدة طويلة وأيام عديدة حتى تشتدّ وتصير خمرا، ومنهم من يضيف لها مواد تسرّع
الإسكار، ومنهم من يدفنها في الأرض حتى تتخمر أيضا؟
وفي كيفية تخمير النبيذ
صور نذكر منها:
1/
طبخ الحب أو الثمر في الماء قليلا قبل أن يتبخّر ثلثه ثم تسجيته جيدا، وتركه طويلا
حتى يتخمر، لأنه إن تبخر كثيرا ذهب عنه الإسكار غالبا.
2/
نقع الثمر في الماء ثم تركه في الحرارة لمدة معلومة، ولربما تحت الأرض حتى يتفاعل
ويتخمر، وكلاهما حرام بيّن.
3/ ومنهم من يضيف للنبيذ خميرة أو درديّا أو
رؤبة أو نطلا ونحو ذلك من الموادّ المُسرعة للإسكار ثم يتركه حتى يتخمّر سريعا،
كما في حديث الباقر: أتجعلون في النَّبِيذ الدُّرْدِيّ ؟ قيل : وما الدُّرْدِيّ ؟
قال : الرُّؤبَةُ"،
قال
ابن الأثير في غريب الحديث (2/247) :" أراد بالدُّرْدِيّ الخَمِيرَة التي
تُتْرك على العَصِير والنَّبِيذ لِيَتَخَمَّرَ، وأصْله ما يَرْكُدُ في أسْفلِ
كُلِّ مائعٍ كالأشْرِبة والأدْهَان ".
وقال
أيضا:" الرُّوبَةُ في الأصْل خَميرة اللَّبَن ثم تُسْتعمل في كل ما أصْلح
شيئاً وقد تُهمز ".
وقال
أيضا (5/167) :" وفي حديث ابن المسّيب" كَرِه أن يُجْعَل نَطْلُ النبيذ
في النَّبيذ ليَشْتَدَّ بالنَّطْل"، هو أن يُؤخذ سُلاف النبيذ وما صَفا منه،
فإذا لم يَبْق إلا العَكَر والدُّرْديّ صُبَّ عليه ماءٌ وخُلط بالنَّبيذ الطريّ
ليَشْتدّ، يقال : ما في الدَّن نَطْلةُ ناطِل: أي جُرْعة وبه سُمِّي القَدَح
الصغير الذي يَعْرِض فيه الخَّمار أنموذَجَه ناطِلا ".
وقد
كره العلماء إضافة نَطْل النَّبِيذ خشية أن يسرع إليه الإسكار: قالوا: وهو مَا
يَبْقَى مِن النَّبِيذ بَعْد الْخَالِص وَهُوَ الْعَكَر "،
وَالدُّرْدِيّ:
وهُوَ أَنْ يُؤْخَذ سِلَاف النَّبِيذ وَمَا صُفِّيَ مِنْهُ، فإِذَا لَمْ يَبْقَ
إِلَّا الْعَكَر وَالدُّرْدِيّ صُبَّ عَلَيْهِ مَاء وَخَلَطَهُ بِالنَّبِيذِ
الطَّرِيّ لِيَشْتَدّ ".
4/
ومنهم من كان يجعله في آنية غليظة يسرع فيها الإسكار، فإن أسكرت حُرّمت كما هو
مبين.
المطلب الثاني: كيف يُعرف بأن النبيذ صار مسكرا؟:
العلامة الأولى: بدأ غليانه وزبده وخروج بعض فقاعاته:
حيث
إن النبيذ يكون حلوا في الأول ثم إذا لم يوضع في المبردات، ينتقل إلى الحموضة، ثم
تشتد الحموضة حتى يغلي النبيذ ويقذف بالزبد.
ومعنى
غليان النبيذ: أن يتفاعل وتبدأ خروج الفقاعات والرغوة والزبد منه، ومنهم من يطبخه
قليلا حتى تخرج فقاعاته ويسرع فيه الإسكار،
فإذا
ما وضع في آنية نباتية خاصة، مدة معلومة وطويلة، وفي مكان مظلم وساخن، أو تحت
الأرض كان ذلك أقوى في الغلْي وسرعة السكر.
وقد ذهب الجمهور إلى أن علامة الإسكار والتحريم هي غليان النبيذ
وخروج الزبد منه لأنه إن خرج صار محتمل الإسكار، فوجب تركه سدا للذريعة، ولأن ما
لا يتم الواجب إلا بتركه فهو واجب الترك.
وقالوا: إن طبخ النبيذ حتى يفور ثلثاه إنما هو من الوسائل المعينة
على حفظه وطرد الخبث منه، لا أنه يُذهِب الإسكار لزوما.
وخالف الحنفية ففرقوا بين النبيذ المنقوع النيء، والنبيذ المطبوخ
بالنار حتى يذهب ثلثاه.
فأما النبيذ النيء: فهو حلال حتى يغلي ويخرج منه الزبد.
وأما النبيذ المطبوخ جدا: فجميع الأنبذة المطبوخة جائزة عندهم ولو
غليت وخرج منها الزبد، لكنهم وافقوا الجمهور في المنع من الجميع إن أسكر.
فقال أبو حنيفة :" لا يحرم عصير العنب النيء حتى يغلي ويقذف
بالزبَد، فإذا غلى وقذف بالزبد حرم، وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فلا
يمتنع مطلقا ولو غلى وقذف بالزبد بعد الطبخ".
فإن
صار مسكرا فهو حرام اتفاقا كما قال أبو حنيفة :"
إذا غلى وقذف بالزبد فهو حينئذ حرام ".
وقال ابن حجر :" وأطبق الجميع على أنه إن كان يسكر حرم".
وقال
الأثرم :" لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد بغير طبخ لا يحل شربه ".
وقال
ابن حزم :" وجب أن يُحمل ما ورد عن الصحابة من أمر
الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ".
وقال
ابن حزم في المحلى (7/506) :" وحد الإسكار الذي يحرم به الشراب وينتقل به من
التحليل إلى التحريم هو أن يبدأ فيه الغليان ولو بحبابة واحدة فأكثر, ويتولد من
شربه والإكثار منه على المرء في الأغلب أن يدخل الفساد في تمييزه, ويخلط في كلامه
بما يعقل وبما لا يعقل, ولا يجري كلامه على نظام كلام التمييز, فإذا بلغ المرء من
الناس من الإكثار من الشراب إلى هذه الحال فذلك الشراب مسكر حرام, سكر منه كل من
شربه سواء أسكر أو لم يسكر, طبخ أو لم يطبخ, ذهب بالطبخ أكثره أو لم يذهب, وذلك
المرء سكران, وإذا بطلت هذه الصفة من الشراب بعد أن كانت فيه موجودة فصار لا يسكر
أحد من الناس من الإكثار منه, فهو حلال, خل لا خمر ".
ثم
استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: انتبذ في سقائك وأوكه
واشربه حلوا "،
ثم قال ابن حزم :" وهذا قولنا، لأنه إذا بدأ يغلي حدث في طعمه
تغيير عن الحلاوة ".
وهذا قول الجمهور وهو الصحيح:
1/ لما روى مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن
الخطاب خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وإني
سائل عما شرب؟ فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تاما".
وفي رواية :" وإني سائل عن الشراب الذي شرب فإن كان مسكرا
جلدته، قال: فشهدته بعد ذلك يجلده ".
2/ وعن أبي ثابت الثعلبي
قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فسأله عن العصير، فقال :« إشربه ما كان طريا».
3/
وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: « إشرب العصير ما لم يزبد ».
4/ وروى عن عبد الملك عن عطاء في العصير؟ قال :" إشربه حتى
يغلي".
5/ وروى ابن إسحاق عن يزيد بن قسيط قال سعيد بن المسيب: ليس بشراب
العصير بأس ما لم يزبد فإذا أزبد فاجتنبوه".
6/ وعن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: لا بأس بشرب الخمر ما لم يغل،
يعني العصير "، يعني بالخمر هنا النبيذ والعصير قبل أن يشتد، لا الخمر
المُسكرة التي قد غلت واشتدّت .
7/
وروى الحارث بن مسكين قال: سمعت الليث يقول :" وسألته عن العصير؟ فقال: لا
بأس به ما لم يهدر، فإذا هدر فلا خير فيه ".
العلامة الثانية: مرور مدة طويلة على النقع والتفاعل:
اختلفت
الأحاديث والتجارب في مدة بقاء هذا النبيذ مباحا غير مسكر، والصواب أن ذلك يختلف
باختلاف نوع الثمر وآنيته ومحيطه والمضافات إليه:
1/
فقيل: إذا كان الثمر شديدا كالعنب، ونُبذ في آنية نباتية، وطُبخ قليلا، وغُطي،
فإنه يسكر بتركه يوما وليلة فصاعدا:
لما
روى عبد الله بن الديلمي عن أبيه أنهم سألوا النبي صلى
الله عليه وسلم عن أعنابهم؟ فقال: "زببوها، قلنا: ما نصنع بالزبيب؟ قال:
انبذوه على غدائكم، واشربوه على عشائكم، وانبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم،
وانبذوه في الشنان، ولا تنبذوه في القلل، فإنه إذا تأخر عن عصيره صار خلا ".
وخرج
مسلم عن الحسن عن أمه عن عائشة قالت: «كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في
سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء، ننبذه غدوة فيشربه عشاء، وننبذه عشاء فيشربه غدوة ».
وعن سعيد بن جبير كان
يقول: إذا فضخته نهارا فأمسى فلا تقربه, وإذا فضخته ليلا فأصبح, فلا تقربه .
وخرج
البخاري (5176) عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعديُّ رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم في عرسه، وكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس، قال سهل: «تدرون ما
سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل، فلما أكل، سقته إياه
»، فشربه بعد نَقْعِه طيلة ليلة.
2/
وقيل: لا يسكر حتى تمر عليه ثلاثة أيام :
استدلالا بما خرج مسلم (2004) عن ابن عباس قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ينبذ [ينقع] له الزبيب فيشربه يومه والغد وبعد الغد فإذا
كان مساء الثالثة شربه وسقاه، فإن فضل شيء أهراقه» وفي لفظ لغيره :" إلى مساء
الثالثة، فإذا أمسى أمر به أن يهراق أو يسقى ".
وروى سليم بن عامر: سمعت عمار بن ياسر يقول: اشرب العصير ثلاثة أيام
ما لم يغل ".
وعن ابن عمر: اشربوا العصير ما لم يأخذه شيطانه, قال: ومتى يأخذه
شيطانه قال: بعد ثلاث ",
3/
والصّواب أن العبرة في ذلك بغليانه واشتداده بخروج زبده، وأن ذلك يختلف باختلاف
الثمار والجوّ ودرجة الحرارة ومكان التفاعل وآنيته، وحال البلاد بين الحارة
والباردة، ذلك أن البلاد الحارة يسرع فيها التخمر، ويكون من يوم إلى ثلاثة أيام،
وأما البلاد الباردة فلا يتخمر النبيذ ولو مرّ عليه أيام عديدة وربما أسابيع، كما
ذكر ابن حزم وغيره، بل الغالب على الأنبذة أن لا تتخمر حتى تبلغ أربعين يوما والله
أعلم .
قال
في المحلى (7/508) :" هذا الخبر – المرفوع السابق
-, وخبر ابن عباس صحيحان, وليسا حدا فيما يحرم من ذلك; لأنهما مختلفان, وليس
أحدهما بأولى من الآخر, إنما هذا على قدر البلاد والآنية فتجد بلادا باردة لا
يستحيل فيها ماء الزبيب إلى ابتداء الحلاوة إلا بعد جمعة أو أكثر, وآنية غير ضارية
كذلك, وتجد بلادا حارة وآنية ضارية يتم فيها النبيذ من يومه, والحكم في ذلك لقوله
عليه السلام الذي ذكرنا : " اشربه حلوا وكُل "، وما أسكر حرام فقط
".
وعليه
فلا بأس بالنبيذ إن مكث مدة طويلة بلا تغيّر، خاصة في هذه الثلاجات الحديثة، أو مع
إضافة المواد الحافظة للنبيذ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الخامس: آنية النبيذ والوضوء به:
المطلب الأول: آنية النبيذ:
لقد
كان يُنبَذ الحب والثمار في نوعين من الآنية:
أولاهما:
أسقية أو أواني عادية من زجاج أو من أدم لا يسرع فيها التخمر.
والثانية:
أوعية نباتية غليظة وسميكة يُسرِع فيها الإسكار، وغليان النبيذ: وهذه نُهي عن
الانتباذ فيها مطلقا في بداية الأمر كما خرج مسلم (1997) عن ابن عمر: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الجر والدباء والمزفت، وقال: «انتبذوا في الأسقية».
وخرج
مسلم (1998) عن جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجر والمزفت والنقير
".
وخرج
عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، «ينهى عن الجر والدباء والمزفت
»...
وقال
لوفد عبد قيس :" وأنهاكم عن أربع، ما انتبذ في الدباء، والنقير، والحنتم،
والمزفت».
وأخرج مسلم من طريق زاذان قال: سألت بن عمر عن الأوعية فقلت: أخبرناه
بلغتكم وفسره لنا بلغتنا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحَنتمة وهي
الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا، وعن المزفت
وهو المقير "،
قال ابن حجر :" وأخرج أبو داود الطيالسي وبن أبي عاصم والطبراني
من حديث أبي بكرة قال:" نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت، فأما
الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها
ثم نتركها حتى تهدر ثم تموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة
فيشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر
ثم يموت، وأما الحنتم فجرار جاءت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهي هذه
الأوعية التي فيها هذا الزفت ".
وروى
أبو بكر (5/79) عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: «ينبذ له في
سقاء، فإذا لم يكن سقاء ينبذ له في تور». قال أشعث: " والتور: من لحاء الشجر
".
فالجرّ والجرار جمع جرّة وهي إناء فخاري طيني مدهون كانوا ينتبذون
فيه، قال الحافظ :" الجر كل ما يصنع من مدر".
والحتنم جرار خضر من القرع الأخضر، والأخضر مفهوم لقب لا غير، فيدخل
فيه كل الألوان .
والدباء: قال شيخنا العباد في شرح سنن أبي داود :" وهو: القرع،
وكانوا يقطعون رأس الدباء ثم يستخرجون اللب الذي في وسطها، ويبقى الغلاف الخارجي
فييبسونه في الشمس فيكون وعاءً يضعون في وسطه النبيذ واللبن وغير ذلك من الأشربة
".
والنقير هو: أنهم كانوا يأتون إلى أصل النخلة أو إلى خشبة عريضة
فينقرونها بحيث تكون كالقدح أو الإناء فينتبذون فيها ".
والمزفت أو المقير هو الإناء المطلي بالزفت وهو القار.
وكلها
آنية تُسرّع الإسكار، فنُهي عنها أولا، ثمّ إنه صلى الله عليه وسلم رخص لهم في
الانتباذ فيها ما لم تسكر كما صحّت بذلك الأحاديث، فيم ذهب مالك وأحمد إلى بقاء
التحريم؛ والصحيح النسخ .
وقيل
كان النسخ مقصورا على أهل البيت فقط:
قال
إسحاق في مسنده 1543 - أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال: قلت للأسود بن يزيد:
هل سألت عائشة أم المؤمنين عن ما ينتبذ فيه؟ فقال: سألت أم المؤمنين عمّا نهى عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ فيه؟ فقالت :" نهانا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهل البيت أن ننتبذ في الدباء والمزفت، فقلت له: أما ذكرت الجرار
والحنتم؟ فقال: أحدثك بما سمعت لا أحدثك بما لم أسمع، قال: فتزوج الأسود فعرس بأهله
فقالوا له: ألا ننبذ في الجراي؟ فقال: لا أسقيهم مما لا أشرب منه، فاستعاروا حبابا
من السوق فانتبذوا فيها ".
والصواب
أنه قد نسخ كل ذلك:
كما
خرج النسائي (2033) وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه كان في مجلس فيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني كنت نهيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي إلا ثلاثا،
فكلوا وأطعموا وادخروا ما بدا لكم، وذكرتُ لكم أن لا تنتبذوا في الظروف الدباء
والمزفت والنقير والحنتم انتبذوا فيما رأيتم، واجتنبوا كل مسكر ...".
المطلب الثاني: حكم الوضوء بالأنبذة:
إذا
ما أُلقي في الماء هذه الحبوب أو الثمار أو الفاكهة ففي الوضوء به اختلاف:
فإن
لم يتغير لون أو طعم أو ريح ولم يزل عنه اسم الماء فيصح الوضوء به.
فأما
إن تغيّر أحد المذكورات ولم يصِر مسكرا: فيصلح للعادة والشرب لا للوضوء عند
الجماهير، خلافا للكرخي فإنه قال :" المطبوخ أدنى طبخة يجوز الوضوء به، حلوا
كان أو مسكرا "،
فأما
إن اشتد حتى أسكر فلا يصح الوضوء به اتفاقا، بل هو نجس عند الأكثرين، وذهب آخرون
إلى أن التحريم لا يلزم منه التنجيس.
تعليقات
إرسال تعليق