جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

 

                                    بسم الله الرحمن الرحيم                    

 

 

                          جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار                  

                                   

 

                                  تأليف: الطاهر زياني    

 

                                          

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله وبعد:

فهذا مبحث يتعلق بمسألة خروج عصاة المسلمين من النار بعد مدة يسيرة إلى طويلة، بينما سيفنى كفرة أهل النار منها بعد أحقاب طويلة، وأما أهل الجنة فسيبقون في نعيم سرمدي لا ينقطع،

وقد كتبت هذا البحث واستخرتُ الله ثم بدا لي نشره، وقد قسمته على النحو التالي:

المبحث الأول: تأصيل المسألة، وبيان مواطن الإجماع والاختلاف:

المطلب الأول: بيان مواطن الإجماع والاختلاف:

القول الأول: القول بالتأبيد الغير متناهي:

القول الثاني: أن عذاب النار يفنى بمشيئة الله وإرادته، وذلك بعد أحقاب سيأتي تحديدها:

المطلب الثاني: وِجهة نظر كل فريق:

المطلب الثالث: أمدُ تعذيب أهل التوحيد، وبيان زمن خروج آخر واحد منهم من النار:

المبحث الثاني: أدلة من قال بانقطاع النار بعد أحقاب طويلة، وأن مردها إلى مشيئة الرب وإرادته:

المطلب الأول: في تفسير الخلود والتأبيد شرعا، وبيان إطلاقهما على بعض فاعلي الكبائر من المسلمين:

المطلب الثاني: التفسير اللغوي للخلود والتأبيد ونفي الخروج من النار والتخفيف ونحو ذلك:

المطلب الثالث: ما ورد في تقييد الخلود بالمشيئة والإرادة:

المطلب الرابع: بيان لبث الكفار في نار جهنم لمدة أحقاب طويلة، وحساب الحقب، وأوّل أهل النار فَناءً:

المطلب الخامس: إخبار نبي الله عيسى يوم القيامة بإمكانية المغفرة للمشركين، وأن المراد برحمة الله لهم، هو زوالهم وفناؤهم: 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الأول: تأصيل المسألة، وبيان مواطن الإجماع والاختلاف:

المطلب الأول: بيان مواطن الإجماع والاختلاف:

1/ اتفق المسلمون والسلف على أن أهل الجنة خالدين فيها أبد الآباد، لا ينقص نعيمهم البتة أبدا، ولا ينقطع، وذلك لسعة رحمة الله تعالى وتضعيفه للأجور بلا حساب.

لم يخالف في ذلك إلا غلاة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم من أهل البدع المغلظة الكفرية.

وقد كذَبَ من زعمَ أن ابن تيميةَ وابنَ القيم يزعمان بدخول الكفار إلى الجنة بعد العذاب، بل قد صرحا بخلودهم فيها، ثم بفنائهم منها، وبدعا بل كفّرا من زعم أنهم سيدخلون الجنة.

قال الإمام ابن القيم  في حاذي الأرواح :" فأما القولان بفنائهما، فهو قول قاله جهم بن صفوان إمام المعطلة الجهمية؛ وليس له فيه سلف قط من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام، ولا قال به أحد من أهل السنة. وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفروهم به، وصاحوا بهم من أقطار الأرض، كما ذكره عبد الله بن الإمام أحمد في «كتاب السنة» عن خارجة بن مصعب أنه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [35/13] وهم يقولون:لا يدوم. ويقول الله تعالى: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } [54/38] وهم يقولون: ينفد. ويقول الله عز وجل: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [96/16] ...

2/ لكن اختلف المسلمون في تخليد المشركين في نار جهنم أبد الآباد بلا نهاية، أو أنهم سيفْنوْن بمشيئة الله، بعد استنفاذ عقوبتهم المقدرة بأحقاب طويلة جدا:

نقل اختلافهم الإمام الطبري في تفسيره وابن الجوزي والبغوي وابن كثير والثعلبي والرازي، وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم في حاذي الأرواح وغيرهم،

القول الأول: القول بالتأبيد الغير متناهي:

ذهب بعض السلف، وجمهور الأشاعرة والمتأخرين إلى القول بعدم فناء العذاب عن الكفار، حتى نقلوا ذلك إجماعا، وهو أبطل إجماع في الدنيا.  

واعجب بقوم يدلّسون ويشنعون على مخالفيهم بدعاوي إجماعٍ، لا والله لن يستطيعوا حتى الإتيان بقول صحابي واحد، أو مجموعةٍ من كلام أئمة السلف المتقدمين. 

وقد تتبعتُ أقوال وأدلة ناقلي الإجماع على زوال فوجدتهم صنفيْن:

صنف من الأشاعرة ممن صنفوا رسائل في الرد على الشيخ ابن تيمية في القول بفَناء النار حتى كفّروه أو بدّعوه، بسبب مخالفته لهم في الاعتقاد.

بل أكثر معاصريه من الأشاعرة ممن حرّضوا عليه الحكام الموالينَ للمغول وقتئذ، وقد كان شيخ الإسلام معروفا بانتقادهم واقفا ضد عمالتهم، فانتهزوا الفرصة مع هؤلاء المشايخ لمحاربته وسجنه.  

وطائفة أخرى بالغوا في الرد عليه وتضليله بسبب قوله بفناء النار، لكن لم يحرضوا الحكام ضدَّه. 

كما فعل الزملكاني والأخنائي وابن مخلوف والحصني والسبكي...، وهؤلاء وإن كانوا أشاعرة نخالفهم في الاعتقاد، إلا أنهم ثقات في نقولهم.  

وكلهم قد قرروا بأن ابن تيمية يقول بفَناء النار، وأنه صنف في ذلك كتابا ونقلوا عنه أقواله، فما بال مقلدة المتأخرين من التلفية العلمانية ينكرون ذلك عنه تكلفا بغير علم، ويكذبون المتقدمين.

وأؤكد: مع أن هؤلاء الأئمة المتقدمين من الأشاعرة فإنهم ثقات في النقل، كغيرهم من رواة الحديث، فلنا ما رووا، ولهم آراؤهم وما ضلوا.

قال الإمام أبو بكر الحصني دفع شبه من من شبه وتمرد فإنه قال:" مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار...".

وكذلك فعل السبكي فإنه رد على ابن تيمية في هذه المسألة كما ذكر ابن حجر في الفتح، والسبكي معروف بمواقفه ضد ابن تيمية وردوده عليه.  

وكذلك نقل ابن الوزير في كتابه العواصم من القواصم عن ابن تيمية القول بفناء النار وشنع عليه وقال:" هذه المسألة هي التي ألجأت ابن تيمية وأسلافه وأتباعه إلى القول بفناء النار والتأليف في ذلك". يقصد رسالة ابن تيمية في إثبات فناء النار. 

ونقل الإمام الصنعاني في رسالته هذا القول عن ابن تيمية ورد عليه.

وأما المتأخرون: فهم معروفون من منتحلي مذهب السلف زورا بلا حجة، حتى راح الكثير من المقلدة يبحث عن كل متعلق بارد، يتعلق به بأن ابن القيم أو ابن تيمية قد تراجعا عن هذا القول، وأنه يقول بإرجاع الأمر إلى الإرادة، ولم يدر أنها نفسها المشيئة والله المستعان.

ولذلك راح قسم آخر منهم إلى أن ابن تيمية لم يقل هذا الكلام أصلا، أو أن أقواله مزورة عليه، مكذبين بذلك ما استفاض النقل عنه من رواية الثقات عنه.

ومنهم من يذكر أن ابن تيمية وابن القيم قد صرحا بالخلود، وفهم منه التراجع، وهو فهم سقيم، لأننا نقول أن الخلود حق، وقد قالاه، بل قاله رب العالمين، ونبيه الكريم، لكن نختلف معهم في تفسير الخلود، وهو محل قول ابن تيمية وابن القيم وجماعة السلف.   

وقد نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه نقل الخلاف في هذه المسألة على قولين فقال في حاذي الأرواح ص 286 :" وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام:" فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين "، ثم قال :" قلت هاهنا أقوال سبعة ".

ثم إن ابن القيم عقد فصلا طويلا في حاذي الأرواح، كذّب فيه كل من زعم الإجماع، وتحداهم بأن يأتوا بقول عشرة صحابة، فإن لم يجدوا فليأتوا ولو بقول صحابي واحد فقط، بل إنّ أقوال الكثير من الصحابة: على الاستثناء بالمشيئة والتحديد بالأحقاب كما سنبين، ولا يعرف لهم مخالف كما قال ابن القيم، وهذا عين ما يسميه المخالفون بالإجماع وبالله الهداية.

القول الثاني: أن عذاب النار يفنى بمشيئة الله وإرادته، وذلك بعد أحقاب سيأتي تحديدها: وأن كل ما ورد من خلود وتأبيد أو نفي للخروج من النار أو التخفيف منها...، فإنما المراد به تلك المدة المقدرة بأحقاب طويلة داخلة في مشيئة الله تعالى وإرادته.   

وهو قول جمهور الصحابة بلا مخالف لهم، وهم أعلم الناس بمراد الله ومراد نبيه، وبه قال الغزالي وابن عربي الصوفي، وهو اعتقاد جمع كبير من التابعين والسلف الأولين كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ونصروا هذا المذهبَ، وبالغ ابن القيم في الاستدلال له في كتبه : حاذي الأرواح، و: شفاء العليل. و "الصواعق".      

ونقل الاسفراييني أن ابن تيمية يميل إلى القول بزوال النار، وكذلك نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية والسلف، فهل نصدق الشيخ الثقة ابن القيم الذي ينقل عن شيخه ابن تيمية؟ أم نصدق التلفية المتأخرة الذين ينفون هذا الكلام عن شيخ الإسلام.

قال الإمام ابن القيم:" السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى فانه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها قال شيخ الإسلام وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبى هريرة وأبى سعيد وغيرهم ".

وإن كثرة نقول ابن القيم وغيره عن الشيخ ابن تيمية مما يؤكد صحة رسالته في ذلك، ردا على التكذبيين لما لم يحيطوا بعلمه، بل إن حتى خصوم ابن تيمية في الاعتقاد من الأشاعرة وغيرهم: لم ينفوا هذا الكلام بل نسبوه إليه:   

فقال سليمان العجلي في الفتوحات الإلهية :" وقد نقل ابن تيمية القول بفناء النار عن ابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس وأنس والحسن البصري وحماد بن سلمة وغيرهم ... قال:" وحكاه البغوي وغيره عن أبي هريرة وغيره، وقد نصر هذا القول ابن القيم كشيخه ابن تيمية "،

ثم قال:" وهو مذهب متروك وقول مهجور... ".

قلت: بل المذهب المتروك هو مخالفة الصحابة والتابعين، لإجماع ينقله الأشاعرة والماتريديون.

وأما زعم غلاة المتأخرين بأن ابن القيم توقف أخيرا، فهو جهل وتدليس وإبطال لكل كلام ابن القيم الطويل في الاستدلال لمذهبه، فإنه حث قراءه وأتباعه على اتباع الصواب الذي قرره، ومن لم يتبين له وجه الصواب أن يكل ذلك إلى الإرادة التي تقتضي الفناء:"

قال ابن القيم في مختصر الصواعق ص 267 بعد استدلالاته على فناء العذاب :"... فتأمل هذا الوجه حق التأمل وأعطه حقه من النظر، واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته، وما دل عليه كلام الله وكلام رسوله، وما قاله الصحابة ومن بعدهم، ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار، فإن أسفر لك صبح الصواب، وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقوله: {إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107] وتمسك بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ووصف حالهم ثم قال: " ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء ".

وقال نحوه في الحاذي.  

وإنا والله نقول كما قال ابن القيم وعلي:" إن مرد ذلك إلى مشيئة الله وإرادته كما أخبر به القرآن، وقالته الصحابة عليهم الرضوان، وتبعهم ابن القيم وغيره، ودعنا الآن من تأويلاتكم، لنرى تأويل ابن القيم نفسه للإرادة المذكورة:  

فإنه قال في التفريق بين خلود أهل الجنة والنار كما سيأتي :" .. وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثنائين فانه قال في أهل النار {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فعلمنا أنه الله سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلا لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: عطاء غير مجذوذ، فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدا فالعذاب موقت معلق والنعيم ليس بموقت ولا معلق ".

وقال أيضا:" فإذا كان هذا في وعيد مطلق فكيف بوعيد مقرون باستثناء معقب بقوله :{ إن ربك فعال لما يريد}، وهذا إخبار منه أنه يفعل ما يريد، عقيب قوله:" إلا ما شاء ربك"، فهو عائد إليه ولا بد، ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، بل إما أن يختص بالمستثنى أو يعود إليهما، وغير خاف أن تعلقه بقوله :"إلا ما شاء ربك"، أولى من تعلقه بقوله: خالدين بخالدين فيها، وذلك ظاهر للمتأمل وهو الذي فهمه الصحابة فقالوا:" أتت هذه الآية في وعيد القران"، ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده، فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضا، وإنما أرادوا أنه عقب الاستثناء بقوله :"إن ربك فعال لما يريد"، وهذا التعقيب نظير قوله في الأنعام:" خالدين فيها إلا ما شاء ربك إن ربك حكيم عليم"،

ثم قال :" فأخبر إن عذابهم في جميع الأوقات، ورفعه عنهم في وقت يشاؤه، صادر عن كمال علمه وحكمته، لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، إذ يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك ".

ثم ذكر عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:" هذه الآية تأتي على القرآن كله:" إلا ما شاء ربك"، "إن ربك فعال لما يريد"..   

المطلب الثاني: وِجهة نظر كل فريق:

1/ ذهب جمهور المتأخرين إلى تخليد الكفار أبد الآباد، بما لا نهاية، استدلالا بما يلي:

. ما نقلوه عن أنفسهم من إجماعات، وهي أبطل إجماعات في الدنيا، لأنهم لم يعتدوا أصلا بمخالفة الصحابة والتابعين، والذين لا يُعرف لهم مخالف من الأولين.

. واستدلوا: بآيات التأبيد والخلود والمكث وعدم الخروج والتخفيف من العذاب، وسيأتي أنه ورد مثلها عن عصاة المسلمين مما يبطل دعوى التأبيد الغير متناهي، وأن الخلود حق، لكنه أمر نسبي، فخلود المسلمين أقل من خلود المشركين بملايين السنوات.

. قالوا: ولأن الموت سيذبح ويزول، فلا يموتون مرة أخرى، والجواب من وجهين:

أولاهما أن الموت المعروف السابق عن طريق عزرائيل عليه السلام ومن معه من الملائكة لن يكون مرة أخرى.

وأما الموت الأخروي من الله مباشرة، فهو وارد حتى في حق عصاة المسلمين كما سيأتي من حديث مسلم:" فيميتهم الله إماتة ثم يلقون في نهر الحياة".

والثاني: أن الله سيزيل الكفرة بعد أحقاب طويلة ويفنيهم من غير موت معهود، فيكون هنالك فرق بين الموت المعهود، والموت الذي هو الزوال والفناء، مما يبين أنهم لا يخرجون من النار طيلة هذه الأحقاب.

. كما استدلوا بأدلة نفي الموت والخروج والقضاء عليهم ونفي التخفيف من العذاب ونحو ذلك:

ويجاب عنه: أن النفي في لغة العرب -كما سيأتي- على أنواع: نفي الجنس والذات، والصحة، والكمال، والوحدة..

والمراد بالنفي هنا هو نفي كمال التأبيد والخروج والتخفيف بلا نهاية ... على حسب درجة الكفر.

فقد صح أن أبا طالب يُخفف عنه من عذاب جهنم إلى حد قدمه، وهو من المشركين المسالمين، وورد في صحيح البخاري معلقا أن أبا لهب يخفف عنه يوم الإثنين بسبب فرحه بمولده عليه السلام وهو من المشركين المحاربين ... 

وقد ذكر ابن القيم بأن آيات عدم الخروج من النار محمولة على بقاء النار، فإذا ما زالت النار خرجوا منها. 

. قال التأبيديون: ولأن النار لو فنَت، لَفَنت الجنة مثلها، وهذا أبطل قياس في الدنيا، لأن فضل الله ورحمته أوسع بكثير من عذابه، وأن له تسعة وتسعون رحمة، من صفاته، ويسمى بالرحمن الرحيم، بينما لا يسمى بالغاضب..، كما ذكر ابن القيم ، وقال الشيخ ابن تيمية:" ... إن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامها ... أما أهل النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها ... ولم يذكر فيها شيئ مما يدل على الدوام ..". كذا نقله في مقدمة تحقيق رفع الأستار للصنعاني.

. قالوا: ولأن عدالة الله تقتضي التأبيد، لأنهم يصرون على الكفر أبدا، حتى ولو عذبوا ورجعوا إلى الحياة.

وأجاب ابن القيم بأن العدالة تقتضي استنفاذ مدة العقوبة وهي محددة بالأحقاب الطويلة.

ثم إن ثبات أهل الإيمان إنما هو بمجرد رحمة الله وفضله وتثبيته، وإلا فكَمْ مؤمن زاغَ، وكَمْ كافر تاب. 

. قالوا: وإن في ادعائكم فناء العذاب: تهوين من شأن الكفر أمام الناس ...

وهذا كلام لا يقوله إلا لمن يُهوّن من شأن عذاب الله الشديد وناره الأليمة، التي بمجرد غطسة فيها تُنسي الكافر في كل نعيم تنعَّمَهُ، وتذيبُه، ثم يُخلق ويُذاب وهكذا، كيف ولو أن قطرة منها تفسد على أهل الأرض معيشتهم، واليومُ فيها يمر على صاحبه بأكثر من ألف سنة، كيف وهو يلبث ملايين السنوات من غير طعام ولا شراب، مع أشد عذاب، بل لو قال قائل: إنهم سيفنوْن بعد ملايين وملايين السنوات لكان قوله أقرب إلى المعرفة برحمة الله وعدالته وشدة عذابه معا.       

. قالوا: ولأن في قولكم بالفناء تشبيه للكفر بأهل العصيان، وهذا كلام باطل، لأن أهل المعاصي يمكثون في النار مدة يسيرة تبتدئ من لحظة، إلى يوم أخروي وهو ألف سنة، وهي والله مدة طويلة وعذاب أليم لكل من عرف عذاب الله.

وأما أهل النار الكفرة فلن يدخلوا ذات الجنة أبدا، وستنال منهم نار جهنم مدة أطول مضاعفة بملايين المرات من مدة العصاة، ثم تأكلهم النار ويخرجون منها رفاتا لكن إلى العدم. 

. ومن ردودهم: أنهم حملوا كل آيات المشيئة والأحقاب وإمكانية الخروج من النار: على عصاة المسلمين فقط، مع أنها صريحة في الكفار كما سيأتي:

وقالوا: لفظة: "أبدا" هي الحاكمة على ما ورد من آيات المشيئة والأحقاب والناسخة لها، مع أن النسخ في الاعتقاد لا يجوز ...

2/ وخالفهم جمع آخر من السلف ممن زعموا بأن آيات المشيئة هي المقيدة والمفسرة لآيات التأبيد، والحاكمة عليها، وفرقوا بين الخلود والتأبيد، وبيْن ما لا نهاية له، وهو قول الصحابة والتابعين، وجماعة من أهل الحديث والظاهرية والحنابلة وابن عربي الصوفي، وانتصر له ابن تيمية وابن القيم ومحمد رشيد رضا في تفسيره ...

وقالوا: إن شدة عذاب الله المهين الذي لا يُحتمل، مع سِعة رحمته، وعدالته، لا يقتضي كل ذلك عدم النهاية من العذاب الشديد، إذ كل ذنب له وزنه ومدته من العذاب، فمتى ما استوفى المرء مقداره فقد تم الجزاء. 

قالوا: والتعذيب الشديد الغير متناهي ثقيل فوق الطاقة جدا، وهو ينافي الرحمة الإلهية الواسعة السابقة للغضب، ولأن اسم الرحمة ورد بلفظين: الرحمن الرحيم، ولم يرد اسم الغاضب المعذب إلا في باب الإخبار بالأوصاف.

وبالتالي قالوا بخروج أهل التوحيد من النار بعد أمة يسيرة، بينما لا يزول عذاب النار إلا بعد أحقاب طويلة جدا، وحملوا مطلق أدلة الخلود والتأبيد على أدلة التقييد بإرادة الله ومشيئته ببقاء أهل النار فيها أحقابا طويلة، تُعد بالملايين من السنوات،

وأن لفظ الخلود والتأبيد وارد في العصاة أيضا، مما يعنى أنه لا يساوي ما لا نهاية له, 

وجعلوا فناء أهل النار أمرا ممكنا متعلقا بالمشيئة والعدالة والرحمة الربانية بعد ملايين السنوات، لكن من غير أن يدخلوا الجنة كعصاة المسلمين.

وأما أدلة خروج المسلمين من النار فهي محمولة على مدة معدودة قصيرة وطويلة على حسب السيئات، تبتدئ من لحظة، وتصل إلى مدة قد تصل إلى ألف عام كما في بعض الآثار، ويروى إلى سبعة آلاف عام كما في أخرى، والأول أصح، ثم يُغمسون في نهر الحياة ويدخلون إلى الجنة.

المطلب الثالث: أمدُ تعذيب أهل التوحيد، وبيان زمن خروج آخر واحد منهم من النار:

من المسلمين من يُناقش في الحساب ومنهم من يُزجر ويُغفر له، ومنهم من يُخدش في الصراط، ومنهم من يدخل النار لحظة فأكثر إلى ألف سنة،

الدليل الأول: في تفاوت العذاب بين الموحدين، وبيان خروجهم:

خرج مسلم 195 عن أبي هريرة وحذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة ... فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق " قال: قلت: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: " ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا "، قال: «وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار» والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفا ".

الدليل الثاني: بيان أن الكفار هم أهل النار المخلدين، وأما عصاة الموحدين فسيعذبون ثم يموتون حتى يصيروا فحما، ثم يُغمسون في نهر الحياة ويدخلون الجنة،  

خرج مسلم 185 عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل"، فقال: رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية"،

الدليل الثالث: وفيه أن يوم الحساب يوم واحد، يبتدئه الله بحساب الموحدين، يُدخل فيه عصاتهم إلى النار، وما إن يفرغ من الحساب في ذلك اليوم، حتى يُخرج كل أهل الصلاة من النار إلى آخر واحد:

خرج البخاري 6537 ومسلم 182 عن أبي هريرة، قال: قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» قالوا: لا يا رسول الله، قال: " فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل، ثم ينجو حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج، ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل منهم مقبل بوجهه على النار، فيقول: يا رب، قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله، فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو، فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: رب أدخلني الجنة، ثم يقول: أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها، فإذا دخل فيها قيل له: تمن من كذا، فيتمنى، ثم يقال له: تمن من كذا، فيتمنى، حتى تنقطع به الأماني، فيقول له: هذا لك ومثله معه " قال أبو هريرة: «وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا»

وخرجه البخاري 7437 بلفظ :" ... ثم يتجلى، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار، من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، قد امتحشوا، فيصب عليهم  ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل منهم مقبل بوجهه على النار، هو آخر أهل النار دخولا الجنة، ..".

وهذا يدل على أن آخر من يخرج من النار من أهل التوحيد هم المصلون لا غير، وأن آخر من يخرج هو مسلم يصلي، وأن من لا يصلي لا أثر للسجود فيه، وأنه سيخلد مع الكفار، وأن آخر من يخرج من النار من أمة محمد هو رجل مصلي بعد قضاء يوم أخروي كاملٍ من العذاب، لكن ما مقدار ذلك اليوم بأيامنا:

هل مقداره خمسون ألف سنة .؟

أم ألف سنة مما نعد؟ تأمل:  

الدليلُ الرابع: ما خرج مسلم 987 أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار ..».

وهل يشهد لهذا المعنى قوله تعالى :{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}

الدليل الخامس: وهو قوله تعالى :{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الحج]

وهل له علاقة بقوله :{ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}

أم أن ذلك المقدار يتغير بتغير أحوال الأشخاص وشدة الخطب، كما في حديث الدجال: يوم كشهر ويوم كأسبوع، وباقي أيامه كأيامكم ". 

دليل أو الدليل السادس والسابع: حديث أنس في مدة خروج ذلك الرجل وأنه بعد ألف عام:

عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إن عبدا لينادي في النار ألف سنة: يا حنان، يا منان، قال: فيقول الله لجبريل - عليه السلام -: اذهب فائتني بعبدي هذا. فينطلق جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون، فيرجع إلى ربه - عز وجل - فيخبره، فيقول: ائتني به ; فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به فيوقفه على ربه - عز وجل - فيقول: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب، شر مكان وشر مقيل، فيقول: ردوا عبدي، فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن تعيدني فيها. فيقول: دعوا عبدي» ".

قال الهيثمي في الزوائد :" رواه أحمد وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح غير أبي ظلال، وضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان".

. قال الإمام أحمد في مسنده (3/230) حَدَّثَنَا حسن بْن مُوسَى حَدَّثَنَا سَلام بن مِسْكين عَن أبي طلال عَن أنس بْن مَالك عَن النَّبِي قَالَ: إِنَّ عَبْدًا فِي جَهَنَّمَ لَيُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لجبريل: اذْهَبْ فَائْتِنِي بعبدي هَذَا فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ أَهْلَ النَّارِ مُنْكَبِّينَ يَبْكُونَ فَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ فَيُخْبِرُهُ فَيَقُولُ اذْهَبْ فَائْتِنِي بِهِ فَإِنَّهُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَيَجِيءُ بِهِ فيقف على ربه فَيَقُول لَهُ يَا عَبْدِي كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ شَرَّ مَكَانٍ وَشَرَّ مَقِيلٍ فَيَقُولُ: رُدُّوا عَبْدِي، فَيَقُول: يَا رَبِّ مَا كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ تَرُدَّنِي فِيهَا، فَيَقُول: دَعُوا عَبْدِي ".

تابعه أبو يعلى ثنا شيبان بن فروخ حدثنا سلام بن مسكين حدثنا أبو ظلال عن أنس مرفوعا.

وقد زعم ابن الجوزي أنه حديث موضوع كعادته، وعلله بأبي ظلال، ورد عليه الحَافِظ ابْن حجر فِي القَوْل المسدد وقال:" أخرج لَهُ التِّرمِذيّ وَحسن بعض حَدِيثه وعلق لَهُ الْبُخَارِيّ حَدِيثا وقَالَ فِيهِ هُوَ مقارب الْحَدِيث وَأخرج هَذَا الْحَدِيث ابْن خُزَيْمة فِي كتاب التَّوْحِيد منْ صَحِيحه إِلَّا أَنَّهُ سَاقه بطرِيق لَهُ تدل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرطه فِي الصِّحَّة وَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ هُوَ مَوْضُوعاّ ".

قال الفتني:" أخرجه أحمد وجماعة وأبو ظلال مقارب الحديث وله شاهد من مرسل الحسن"، قلت: وقد توبع أبو ظلال مما يقوي من أمره:

7/ روى الحسن بن علي الحلواني قال: ثنا عمران بن أبان الواسطي ثنا خلف بن خليفة عن ابن أخي الشعبي عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة أولاد لها , فقالت: هؤلاء أولادي اغز بهم في سبيل الله , فكان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بهم ... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عبدا في جهنم ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان , فيقول الله عز وجل لجبريل عليه السلام: اذهب ائتني بعبدي هذا، فيذهب فيجد أهل النار منكبين على وجوههم فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره , فيقول: ائتني بعبدي فإنه في مكان كذا وكذا , قال: فيجيء به فيوقف بين يديه , فيقول: يا عبدي كيف وجدت مكانك؟ وكيف وجدت مقيلك؟ فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تعيدني فيها , فيقول الله عز وجل: دعوا عبدي "، خرجه عنه أحمد البخاري في جزئه.

عمران ابن أبان ضعيف، وثقه ابن حبان وهو ممن يعتبر بحديثه.

8/ وقَالَ الْآجُرِيّ حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن عَبْد الحميد حَدَّثَنَا زِيَاد بْن أَيُّوب حَدَّثَنَا مَرْوَان بْن مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا مَالك بْن أَبِي الْحَسَن عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ"، فَقَالَ الْحَسَن: لَيْتَنِي ذَلِكَ الرَّجُلُ ّ.

الدليل التاسع وتوابعه: خرج ابن ماجه في سننه 2611 عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من ادعى إلى غير أبيه، لم يرح ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مئة عام".

وفي صحيح ابن حبان عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا في عهده لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام ".

وفي حديث أبي هريرة :" نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وريحها يوجد من مسيرة خمس مائة عام ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثاني: أدلة من قال بانقطاع النار بعد أحقاب طويلة، وأن مردها إلى مشيئة الرب وإرادته:

وقد عقد الإمام ابن القيم في ذلك فصلا طويلا في الاستدلال لهذه المسألة ومما قال فيه:"

الرابع: قول من يقول: يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب. حكاه شيخ الإسلام – ابن تيمية-.

وقال ابن القيم: السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى؛ فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها، قال شيخ الإسلام: وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم "؛

وقد استدل هؤلاء بعدة أدلة، قيدوا بها آيات الخلود والتأبيد، وقسموها إلى أربعة أصناف:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الأول: في تفسير الخلود والتأبيد شرعا، وبيان إطلاقهما على بعض فاعلي الكبائر من المسلمين:

وهذا يبين أن الخلود والتأبيد نوعان:  

التأبيد والخلود للكفار: وهو مدة أكثر من خلود المسلمين بأضعاف وأحقاب كثيرة جدا كما سيأتي:   

وأما خلود عصاة المسلمين: فهو إلى المدة الطويلة التي قد لا تتعدى الألف سنة كما مر، وقد وردت عدة أدلة في تخليد عصاة المسلمين:

فمن ذلك قوله تعالى :{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء]

وقوله تعالى :{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء]

وقوله { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) } [الجن]

ومن ذلك ما خرج البخاري 5778 ومسلم 109 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا»

وقد ورد هذا اللفظ في العديد من الموبقات، فهل يعني هذا التأبيد: أنه مما لا نهاية له كما تزعمون ويزعم الخوارج؟ أم أنه محمول على المدة الطويلة كما نقول.

وقد اتفق أهل السنة خلافا للخوارج بأن أهل القبلة غير مخلدين بلا نهاية، مما يعنى أن الخلود والتأبيد نسبيان معلقان بالمشيئة لما بينا.

المطلب الثاني: التفسير اللغوي للخلود والتأبيد ونفي الخروج من النار والتخفيف ونحو ذلك:

إعلم أن النفي على مراتب ذكرتها في كتابي:" الإيماء بأحكام النفي والاستثناء"، ألخص منه ما يتعلق بهذه المسألة:

نفي ذات وجنس، ونفي صحة وحقيقة، ونفي كمال وتمام، ونفي وحدة. 

فأما نفي الجنس أو الذات: كأن تكون مع غيرك في مكان، ويقول لك: اِيتني بماء، فتبحث ولا تجد، فتقول له: لا ماء – موجود-، أي ذات الماء وجنسه غير موجود.

وأما نفي الصحة والأحقية أو حصرهما: وذلك بأن يكون الشيءُ موجودًا لكنه غير صحيح، أو: ليس حق: ويسمى نفي الصحة.

كأن تبحث في المثال الأول عن الماء، ولا تجد إلا ماءً نجسا، فتقول له:" لا ماء"، أي يوجد ماء لكنه ليس بصحيح.

ومن هذا القبيل قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}[محمد 19]

وأما نفي الكمال والتمام: فيكون في نفي الحسن أو القبح أو الإخبار أو الزمن والمكان: 

وذلك بأن يكون الشيء المنفي موجودا، وصحيحا، لكنك إما أن تنفي كماله وتمامه: ويسمى نفي الكمال، أو تبرز كمال مكانته حسنا أو قبحا، وهذا النفي فيه أضرب: ...

الضِّرب الثاني: نفي الكمال والتمام في الزمان: 

فمن ذلك آيات نفي الخروج من النار، ونفي التخفيف من العذاب ونحو ذلك:

فأما أدلة تخليد عصاة الموحدين ونفي دخولهم الجنة، فهي محمولة على نفي الدخول الزماني التام الأوّلي، الذي يدخله المقربون وأصحاب اليمين منذ أول مرة، فإنهم دخولهم تام كامل، وأما دخول المعذبين فهو دخول ناقص غير كامل، نقص منه أمد من الزمن، مع الخير.

وهكذا أدلة التأبيد: أو أدلة نفي خروج العصاة من النار، فهي لا تعني نفي ذات الخروج كما يزعم الخوارج، بل هي محمولة على نفي كمال الخروج وتمامه، لأن خروجهم ناقص مشوب بالعذاب السابق.

لأنه تعالى نفى بقاءهم تمام كل الزمان وكماله بلا نهاية، فذاتُ خروجهم موجودة، وخروجهم من النار أمر حقيقي ثابت صحيح متواتر، لكنه ليس بكامل لما سبقه من أذى وتعذيب وحرق.

وأما أدلة تأبيد الكفار ونفي خروجهم، فهي ليست محمولة أيضا على ذات الخروج طيلة الزمان كله، بحيث لا يخرجون منها بلا نهاية، بل هي محمولة على إحدى أمور:

. إما على نفي كمال الخروج وتمامه مقارنة بخروج العصاة، إذ لا بد لهم من يوم يخرجون فيه لكن بعد ملايين السنوات من خروج المسلمين، أي: بعد أحقاب أطول بكثير من أمد العصاة. 

. أو أنها محمولة على أنهم لا يخرجون من النار الخروجَ التام المريحَ الذي يتبعه نعيمٌ كما فُعل بالموحدين، بل إن المشركين يصيرون إلى زوال بعد أحقاب من العذاب، وأما الموجدون فيخرجون إلى الجنان والنعيم.

. أو يحمل نفي الخروج على نفي الوحدة أيضا، وهو مثله في المعنى، بأن يُنفى عنهم خروجٌ خاص فقط، وهو خروجٌ كخروج عصاة الموحدين من النار إلى النعيم الأبدي، بل خروجهم إلى زوال كما سيأتي ... 

الرابع: نفي الوحدة:  أي أن الشيءَ المنفيَّ، موجودٌ صحيح ٌوكامل، لكن نفينا جزءا ووحدةً معينةً منه فقط: وفي هذه الحالة لام النفي تعمل عمل ليس: كأن يقول لك أحدهم: ايتني بقلم أسود من الحقيبة، فتقول: لا قلمٌ في الحقيبة، وهذا نفي خاص لنوع معين، مما يعني وجودَ أقلام أخرى بألوان أو أنواع أخرى. 

ولَكَ أن تُقدر هذا النفي بجملة فعلية فتقول:" لا يوجد قلمٌ - في الحقيبة-.  

ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة 254]. فنفى بيعا وخلة وشفاعة مخصصة للكافرين، بينما أثبت ذلك للمؤمنين في أماكن أخرى.

والتقدير: لا يوجد بيع ولا خلة ولا شفاعة للمشركين، بينما يوجد شيء من ذلك للموحدين.

ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذبح الموت:" يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: وهل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيُذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موتٌ، ويا أهل النار خلودٌ فلا موتٌ

وهذا معارض بما خرجه مسلم 185 عن النبي صلى الله عليه وسلم:" أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة .."، ثم يُلقون في نهر الحياة.

ووجه الجمع: أن نحمل النفي في الحديث الأول على موت مخصوص، ويكون النفي من نفي الوحدة لا الجنس.

فيكون التقدير: أي: لا موتٌ في النار، أو: لا يوجد موتٌ في النار، و: لا موتٌ في الجنة، أو: لا يوجد موتٌ في الجنة "، أو: لا يموت أحدٌ يوم القيامة، 

وإنما نفى هنا موتا خاصا وهو السابق المعهود الذي يعرفونه عن طريق عزرائيل، كما نطق بذلك الحديث، وأما موتٌ آخر فهو موجود مثبت كما مر.

وأما الكفار فلا يموتون ولا يفنون إلا بعد أحقاب طويلة من العذاب ثم يفنوْن ويزولون كما وردت بذلك النصوص التي طرتها في كتابي:" بقاء الجنة وفناء النار".

وعلى هذا تتنزل آيات نفي خروج المشركين من النار أبد الآباد، وإنما نفى خروجا خاصا وهو الذي الذي يكون بعده النعيم والدخول إلى الجنة، فإنها لن تكون إلا نصيب الموحدين.

وإليك البراهين الشرعية على ذلك:

المطلب الثالث: ما ورد في تقييد الخلود بالمشيئة والإرادة:

الدليل الأول: تقييد خلود أهل النار بالمشيئة والإرادة:

قال سبحانه وتعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) }[الأنعام].

وهي نص صريح في الكفار، لما يلي:

1/ بدليل قوله تعالى { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} مع قوله أيضا: { قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس }ـ واعجب بقوم يخالفون نص القرآن، ويجعلون الآية على المسلمين.

2/ مع قوله تعالى في آيات أخرى: { بل كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن }...

ولذلك قال ابن القيم:" قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصا بأهل القبلة فإنه سبحانه: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنس ...}

وفي هذه الآية أوجه من الفهم:

. أن إرداف الخلود بالمشيئة دليل على تعلق ذلك بمشثيئة الرب.

. أن في جعل المشيئة بالفعل الماضي " شاء" يدل على تحقيقها كما ذكر الرازي وغيره، وسيأتي.  

. أن إرداف ذلك بالحكمة والعلم، يقتضي إيكال أمر ذلك إلى حكمة الله وعلمه.   

. أن الخلود والتأبيد يعنيان المدة الطويلة، لا أن معناهما: ما لا نهاية له كما سيأتي.

ولذلك قال الشوكاني في تفسيره:" المعنى الذي تقتضيه لغة العرب في هذا التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات، إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها "، ثم ذكر التأويلات الأخرى وأخبر بأنها متكلفة، مع أنه لا يقول بهذا القول والله أعلم.

وقال ابن كثير في تفسيره:" قال: { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي: مأواكم ومنزلكم أنتم وأولياؤكم. { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله ".

ثم أورد حديث ابن عباس المفسر التالي:

الدليل الثاني: حديث ابن عباس:

قال الطبري في تفسيره للآية:" وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته"، ثم قال: حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:" {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينزلهم جنَّةً ولا نارًا "، يقصد بذلك تنزيل الخلود المؤبد.

وقد تابعه ابن أبي حاتم عن أبي صالح، ورواية علي عن ابن عباس وجادة جيدة، له نسخة كبيرة في التفسير عنه، وله شاهد:  

دليل ثالث: حديث ابن عباس: وفيه إذا انتهت الأحقاب أمر الله نار جهنم أن تأكل أجساد الكفرة وبهذا يخرجون من عذابها. 

قال الطبري في تفسيره للآية: وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها.

ذكر من قال ذلك: حُدثت عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض)، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، قال: استثناءُ الله، قال: يأمر النار أن تأكلهم ". ولم يصح.

قال الرازي:" هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم ".

وسيأتي ما رواه أبو سنان عن ابن عباس قال:" الحُقْب ثمانون سنة ".

الدليل الرابع: وفيه تفسير الخلود وتقييده بمشية الله تعالى وإرادته، وبيان أن الجنة هي التي لا تنقطع ولا تُجذ: حيث قرر ابن القيم بأن رحمة الله صفة ذاتية فيه، فهو الرحمن في ذاته، الرحيم بعباده، ورحمته وسعت كل شيء، وقد سبقت غضبه الذي هو من صفات الفعل المتعلقة بالمشئية: 

قال الله تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } [هود]

خرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم النخعي قال: ما في القران آية أرجى لأهل النار من هذه الآية".

لكن قال التأبيديون: الاستثناء محمول على أهل التوحيد، وهو بعيد، لأن نفس الأسلوب موجه لأهل التوحيد ممن مصيرهم الجنة.

ولذلك قال الاستثنائيون: بل الاستثناء في الآية محمول على المشركين كما هو ظاهر، وهذه الآية حجة في فَناء أهل النار لوجوه:

الوجه الأول: أن هذه الآية مقيدة ومفسرة لآيات التأبيد والخلود:

قال ابن القيم:" وقد سأل حربٌ – في مسائله - إسحاق بن راهويه عن هذه الآية فقال: سألت إسحاق قلت: قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} فقال أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن ". يعني هي المبينة للمراد بالخلود وأنه متعلق بالمشيئة. 

الوجه الثاني: أن اللهَ تعالى علّق خلودَ المشركين بشيئين:

أولاهما: بمدة دوام السماوات والأرض، والمعهودة هي سماء الدنيا الفانية هذه، يوم يطويها الرب، ثم يجعل الأرض كسرة يأكلها أهل الجنة وتفنى.

والثاني: أنه علق الخلود بلفظتي المشيئة ثم الإرادة معا، وأكد تحقيقها بالفعل الماضي في قدر الله السابق، وأن مشيئة الله نافذة لا تُخلف كمشيئة العباد.  

قال أبو العباس بدر الدين الرازيّ في تفسيره معلقا على الثعلبي: هذا يشعر بفناء أهل النار وبفناء عذابهم ".

ثم أيد ذلك بأن المشيئة أتت بالفعل الماضي "شاء" الذي يقتضي التحقيق، وبأن مشيئة الرب نافذة لا تتخلف كمشيئة العباد، فقال الرازي:" ولأن الخُلفَ في كلام العباد جائز، ولا كذلك في كلام الله إذ لا يجوز الخلف فيه، وإنه تعالى أثبت المشيئة مشيئة الإخراج بلفظ الاستثناء من الخلود فيكون الإخراج مراد، ومشيئته أزلية قديمة، فيكون الإخراج ثابتاً لا محالة فينتفي الخلود لا محالة".

الوجه الثالث: إطلاق لفظ الخلود والتأبيد على فاعلي الكبائر كما مر.

الوجه الرابع: إتباع مشيئة تخليد الكفار في النار بلفظ الإرادة مباشرة:

قالوا: ثم أردف ذلك بقوله:" إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ "، فعلّق الله خلود أهل النار فيها بإرادته ومشيئته.

الوجه الخامس: إتباع مشيئة تخليد أهل الجنة بنفي الجذ والانقطاع مما يبين الفرق بين الحلوديْن: 

قالوا: بينما لما ذكر الله ذلك في أهل الجنة عقبه بقوله :" عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ"، فأخبر تعالى بأن عطاء الجنة زائد غير مجذوذ ولا مقطوع، وماله من نفاذ ولا نهاية له.

قال الطبري في تفسيره للآية:" وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: (عطاء غير مجذوذ)، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض، قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان ".

وقال الإمام المفسر الثعلبي :" أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار فلم يقل عقيب الاستثناء (عذاب غير مقطوع) بل اقتصر على الاستثناء ".

وقال ابن القيم:" فعلمنا أنه الله سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلا لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة عطاء غير مجذوذ، فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدا، فالعذاب مؤقت معلق، والنعيم ليس بمؤقت ولا معلق ".

الوجه السادس: أن خلود أهل الجنة نابع من رحمة الله وسعة فضله ووعده وأنه لا يخلف الميعاد، بينما تعذيب ثم زوال أهل النار نابع من وعيده وعدله ومشيئته وحكمته وعلمه وسعة رحمته.

الأثر الخامس: أثر ابن زيد:

قال الطبري في تفسيره للآية: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:(خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، فقرأ حتى بلغ:(عطاء غير مجذوذ) ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال:(عطاء غير مجذوذ)، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار ".

الدليل السادس: بيان الصحابة أن آية المشألة، هي المفسرة لآيات الخلود والتأبيد والمقيدة لها:

وفي هذا رد صريح على من زعم بأن آيات الأحقاب والمشيئة منسوخة بآيات التأبيد ونفي الخروج من النار، وقد وهِم، لأن النسخ لا يكون في الاعتقاد والآخرة، وإنما في الأحكام:

قال ابن القيم: وقد سأل حربٌ -كما في مسائله- إسحاقَ بن راهويه عن هذه الآية فقال: سألتُ إسحاق قلت: قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن"، ثم استدل بتفسير بعض الصحابة فقال:

1/ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:" هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إلا ما شاء ربك أن ربك فعال لما يريد}"، وقال المعتمر:" أتى على كل وعيد في القرآن ".

2/ قال: حدثنا أبو معن حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن سليمان التيمي عن أبي نضرة عن جابر ابن عبد الله أو بعض أصحابه في قوله {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله ".

3/ وخرجه عبد الرزاق عن ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله ، أو أبي سعيد الخدري، أو رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ( إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، قال:« هذه الآية تأتي على القرآن كله» يقول :« حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه »، قال: وسمعت أبا مجلز يقول : « هو جزاؤه ، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه ».  

4/ تابعهم يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي نضرة , عن جابر، أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تقضي على القرآن كله {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107]"، خرجه عنه ابن بطة 1310"

5/ ورواه معتمر بن سليمان قال: قال أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد , أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: إنها قاضية على القرآن كله: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107] قال المعتمر: قال أبي: عنى على كل وعيد في القرآن ".

وبه يقول أبو نضرة الراوي، كما خرجه البيهقي 336 عنه قال: ينتهي القرآن كله إلى: {إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107] "

وهذا الحديث صحيح صريح في حمل آيات التأبيد على المشيئة، والصحابة كلهم عدول لا يضر تعيينهم، وسواء أكان الصحابي جابر أم أبو سعيد، أم غيرهما، أم هم جميعا أو بعضهم، فإنهم كلهم عدول وكلهم حجة في التفسير وبالله التوفيق.

ولذلك قال الألباني في رفع الأستار (ص 78):" وهذا إسناد صحيح موقوف، والتردُّد الذي فيه لا يضر؛ لأنه انتقال من ثقة إلى ثقة، والصحابة كلُّهم عدول حتى مَن لم يُسمَّ منهم ".

هذا وقد ورد ذلك عن صحابة آخرين، واعجب بقوم يتكلفون المحامل، ويؤولون الصريح، ويتناقضون: فمرة يزعمون أن قول الصحابي في أمور الغيب والاعتقاد حجة له حكم المرفوع، وتارة يردون:  

الأثر السابع: تفسير الاستثناء عن قتادة التابعي الكبير:

قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي ثنا هشام ثنا ابن خالد ثنا شعيب بن إسحاق ثنا ابن أبي عروبة عن قتادة قوله: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} «الله أعلم بتثنيته على ما وقعت به»

الدليل الثامن: وفيه التنصيص على فناء النار من حديث أبي هريرة:

نقله ابن القيم عن حرب خرجه في «مسائله» (ص 429) عن إسحاق بن راهويه ثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أما الذي أقول: إنه سيأتي على جهنَّم يوم لا يبقى فيه أحد، وقرأ: {فأما الذين شقوا ففي النار خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ... } الآية.

وهذا أثر صحيح صريح، وقد زاد فيه عبيد الله من تفسيره:" كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين"، 

وقد صحَّحه الألباني في تعليقه على «رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار»، ولنا ما صح عن الصحابة أفضل خلق الله وهو صريح عنهم في الكفار، وله ولغيره رأيُه ومحامله المخالفة لنص الحديث.    

ومما يؤكد أن هذا الحديث المفسر للآية إنما هو في أشقياء الكفار: ذكرُ الخلود في الآية مع نار جهنم، ثم ذكر الموحدين السعداء، ثم قوله تعالى واصفا لهؤلاء الأشقياء بعد ذلك مباشرة :{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ، مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}

وقال تعالى واصفا الشهيق للكفار: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)} [الملك]

وسيأتي عن أبي هريرة نفسه ما يؤكد ذلك بعد هذه الآية المؤكدة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الرابع: بيان لبث الكفار في نار جهنم لمدة أحقاب طويلة، وحساب الحقب، وتبيين أوّل أهل النار فَناءً:

ولو كانت الأحقاب غير منتهية لما احتيج في تفسيرها إلى السنن والآثار التي فسرتها بمدة معيّنة:  

الدليل الأول: وفيه مكوث الكفار في نار جهنم لمدة أحقاب طويلة من أحقاب الآخرة:  

حيث أخبر الله بأن الكفار سوف يلبثون أحقابا من الزمن، يزداد عليهم فيها العذاب، ولا يتذوقون فيها برودة ولا شرابا، ولا يخفف عنهم من العذاب طيلة زمن هذه الأحقاب. 

قال تعالى :{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) } [النبأ]

والآية نص صريح في الكفار، لأنهم هم من لا يرجون الحساب، ويكذبون بالآيات، فلا معنى لتكلف تفسيرها بالموحدين، وقد استدل بها ابن القيم وغيره على فناء النار، وعلى هذا فسرتها السنن والآثار التالية، وإن فيه تفسير كل حقب بعدد معين من السنوات دليل على الفَناء، إذ لو كانت الأحقاب عندهم بمعنى الخلود اللامتناهي، لفسروها بذلك، كما يفعل التأبيديون. 

الدليل الثاني: خرج البزار في مسنده 9049- حدثنا عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير حدثنا الحجاج بن نصير حدثنا همام عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {لابثين فيها أحقابا} قال الحقب ثمانون سنة ".

قال:" وهذا الحديث لا نعلم أحدا رفعه إلا الحجاج بن نصير عن همام وغيره يوقفه ".

قلت: رجاله ثقات غير حجاج فيختلفون فيه، وقال عنه ابن عدي عن ابن معين:" كان شيخا صدوقا، ولكنهم أخذوا عليه شيئا من حديث شعبة , يعني أنه أخطأ في أحاديث من أحاديث شعبة"، ثم قال ابن عدي:" ولا أعلم له شيئا منكرا غير ما ذكرت، وهو في غير ما ذكرته صالح "،

وقد توبع على رفعه:

قال الطبري في تاريخه حدّثني به محمد بن سنان القزاز: حدَّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا زبّان عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "الحُقْب ثمانون عامًا، اليوم منها سدس الدنيا". ولم يصح بهذا اللفظ الذي تفرد به مرفوعا: زبان.

وقد وقفه غيرهما، وهو أولى، وله حكم الرفع:

. فقال الطبري حدثنا تميم بن المنتصر أخبرنا إسحاق عن شريك عن عاصم بن أبي النَّجود عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال:" الحُقب: ثمانون سنة، والسنة: ستون وثلاث مئة يوم، واليوم: ألف سنة".

وقال أبو حاتم: حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة في هذه الآية: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23] ، قال: «الحقب ثمانون عاما»

 وقال هناد في الزهد 219 - حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: «الحقب ثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما , كل يوم ألف سنة»

هذا أثر صحيح له حكم الرفع، وقد ورد مرفوعا أيضا من أوجه أخرى:

الدليل الثالث: وفيه تأكيد خروج أهل النار بعد المكث فيها أحقابا طويلة، وحساب الحقب:

قال ابن كثير: وقال البزار: حدثنا محمد بن مِرْدَاس حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال: سألت سليمان التيمي: هل يخرج من النار أحد؟ فقال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا. قال: والحُقْب: بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون".

قال البزار:" لا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ نَافِعٍ إِلا سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ ".

ورواه الحسن بن عرفة ثنا سليمان بن مسلم عن سليمان التيمي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يخرج من دخل النار حتى يمكث فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون».

قال الهيثمي:" فيه سليمان بن مسلم الخشاب، وهو ضعيف جدا".

كذا قال، وأخطأ، فإن سليمانَ ليس هو الخشاب، وإنما هو أبو العلاء الخزاعي، مختلف فيه، فقيل مجهول كما زعم العقيلي، بينما وثقه ابن حبان وقال عنه الذهبي في التاريخ:" ما كان به بأسا"، وقال البزار: بصري مشهور "، فصح الحديث، خاصة مع شاهده السابق، وما سيلحق.

وهو نص صريح مفسر للآية، وأنه محمول على الكفار كما في الآية الصريحة بذلك،

يؤكد ذلك أن النبي عليه السلام أقسم حالفا بالله أن النار لن يخرج منها إلا من لبث أحقابا طويلة، وقد أخبر عليه السلام نفسه بأن نار أهل التوحيد سيخرج منها أهلها بسرعة، منهم من يخرج بعد لحظة ومنهم ساعة ومنهم أكثر وأقل إلى ألف عام لا أكثر.

وأما نار أهل الكفر فهي أحقاب وأضعاف كثيرة، فلنحسبْ أدناها:

نضرب: 80 * 360 * 1000 = 28800000

أي: 28 مليون، وثمانمائة ألف للحقب الواحد.

وقد أخبر الله ونبيه بأن أقل ما يلبث الكفرة أحقابا، وأقل الجمع ثلاثة وعليه:

نضرب: 00000 288 مليون * 3 = 86400000

أي: 86 مليونا عاما، وأربعمائة ألف عام، وهي المدة التي يبتدئ بها أول زوالٍ وفناءٍ لأشخاصٍ من أهل الكفر، ثم يلتحق بهم غيره على حسب درجة الكفر، إلى أن تفنى نار جهنم.

ووالله إنها لمدة طويلة عسيرة، على الكافرين غير يسيرة، لا يمكن للبشر أن يتصورها تحت النار والجوع والعذاب الشديد، أعاذنا الله من نار جهنم.

ولك أن تتصورَ يا عبد الله سجْنَ سنة فقط، تأكلُ فيها وتشرب وتستريح، وبلا تعذيب؟

تصور كيف ستَمر عليك؟ إنها أليمة بلا شك ...

ثم لَكَ أن تتصورَ غطسةً واحدةً في نار جهنم تُنْسيك كل نعيم الدنيا،

فكيف بعذاب مئات السنين إلى ألف سنة في نار الموحدين؟

ثم كيف الأمر بعذاب ملايين السنوات في نار المشركين، والتي هي دركات بعضها أشد حرا من بعض أعاذنا الله من نار جهنم.

دليل رابع : وفيه اضطراب في المتن، مع ضعفه:  

خرجه الطبراني  7957 وابن أبي حاتم وابن أبي عمر في مسنده عن مروان بن معاوية الفَزَاري

عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال: فالحقب ألف شهر، الشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة".

وخرجه الخطيب ( 9 / 122 ) عن عبد الله بن مسعود بن كدام عن جعفر عن القاسم عن أبي

أمامة مرفوعا به.

قال ابن كثير: وهذا حديثٌ منكر جدًا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك"،

قلت: القاسم ثقة، وما له علة غير جعفر بن الزبير، وبه يضعف:

ولهذا الحديث شواهد موقوفة أخرى:

الدليل الخامس: أثر علي:

قال هناد في الزهد 220: حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ سُفْيَان عَنْ عمار الذَّهَبِيّ عَن سالِم بْن أَبِي الْجَعْد أَن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب سَأَلَ هلالا البحري مَا تَجِدُونَ الحقب فِيكُم قَالَ:" نجده فِي كتاب اللَّه ثَمَانِينَ سنة، السّنة اثْنَا عشر شهرا، الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، الْيَوْمُ ألف سنة".

تابعه عبد الله بن عمران الرازي ثنا وكيع ثنا سفيان مثله.

وهو حديث حجة رجاله ثقات.

ونقل ابن القيم عن علي نحوه فقال في مختصر الصواعق :" وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء ، وقال:" ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء ".   

الدليل السادس: أثر ابن عباس في تفسير الأحقاب:

قال الطبري حدثنا ابن حميد: ثنا مهران عن أبى سنان عن ابن عباس قال:" الحُقْب ثمانون سنة ".

هذا حديث مقارب، رجاله صدوقون، محمد بن حميد الرازي مختلف في توثيقه،  ومهران هو ابن أبي عمر مقارب. وأبو سنان: هو سعيد بن سنان الصغير الشيباني، مختلف فيه مقارب،

وقد مضى عن ابن عباس تقييد الخلود بآية المشيئة:

فروي علي عن ابن عباس قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينزلهم جنَّةً ولا نارًا "، يقصد بذلك تنزيل الخلود المؤبد.

ومر عن ابن عباس: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض)، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، قال: استثناءُ الله، قال: يأمر النار أن تأكلهم ".

الدليل السابع: حديث عبد الله بن عمرو، أو ابن مسعود أو معا في تفسير الأحقاب:

1/ قال الطبري: حُدثت عن هشيم قال: ثنا أبو بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو قال:" الحقب: ثمانون سنة ". رواه الثقات عن هشيم:

2/ فقال عبد الله بن أحمد في علله (2250) حدثني أبي حدثنا هشيم قال أخبرنا أبو بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو أنه قال:" الحقب ثمانون سنة ".

3/ وقال حرب في «مسائله» (ص 429) حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال:" ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا ".

ومن هذا الوجه خرجه غير واحد، وهو محمول على نار الكافرين، وفسره بعضهم تكلفا بنار الموحدين ووهِم:

4/ كما أخرجه البزار وغيره عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو قال : " يأتي على النار زمان تخفق أبوابها ليس فيه أحد ". [يعني من الموحدين]

ولذلك تعقبه الحافظ ابن حجر على هذا التفسير والإدراج، مع أنه لا يقول بالفناء، قال :" كذا فيه ، ورجاله ثقات، والتفسير لا أدري ممن هو؟ وهو أولى من تفسير المصنف ". والأظهر أنه من تفسير البزار، فإن غيره لم يذكره.   

وقد جعله بعضهم من حديث ابن مسعود، ولا يضر الاختلاف في تعيين الصحابي، ويحتمل أنه حفظه عنهما معا:

5/ خرج الحاكم) 2/556 (ثنا يحيى بن منصور القاضي ثنا أبو عبد الله البوشنجي ثنا أحمد بن حنبل ثنا هشيم أنا أبو بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23] قال: «الحقب ثمانون سنة».

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.

وقد أنكره بعضهم على أبي بلج من غير حجة بينة، منهم الذهبي نفسه، فإنه ثقة مشهو، وقد صحح حديثه هذا الحاكم والذهبي نفسه.  

وما أوردوه عن الحسن أنه أنكره، فإنه ثبتت عنه عدة أقوال متناقضة في هذه المسألة، منها إثبات الفناء، ولا ترد الأحاديث بآراء الحسن ولا غيره والله المستعان، كيف وقد تناقضوا ورووا الفناء أيضا كما في:   

الدليل الثامن: حديث عمر في خروج أهل النار منها، بعد مدة طويلة شُبهت بعدد حبات رمل عالج: وقد تقدم أن عصاة المسلمين يخرجون من النار بعد لحظات إلى يوم أخروي مقدر بألف سنة، لا يزيدون، وأما أهل النار فيمكثون أحقابا ملايين السنوات، وهي أقرب في التشبيه بعدد حبات الرمل لمدينة عالج:

وقد روى هذا الحديثَ الحسنُ البصري نفسُه عن عمر:

قال ابن القيم في الحاذي في بلاد الأفراح: وقد روى عبد بن حميد وهو من أجل أئمة الحديث في تفسيره المشهور: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كمقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه "،

وقال: حدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } [23/78].

قال ابن القيم: ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه، إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها؛ فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه. ولفظ: «أهل النار» لا يختص بالموحدين؛ بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون».

قال ابن القيم ص 436:" فقد رواه عبدٌ، وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة، عن هذين الجليلين سليمان بن حرب وحجاج ابن منهال وكلاهما عن حماد بن سلمة وحسبك به، وحماد يرويه عن ثابت وحميد وكلاهما يرويه عن الحسن، وحسبك بهذا الإسناد جلالة، والحسنُ وإن لم يسمع من عمر، فإنما رواه عن بعض التابعين، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به، وقال عمر بن الخطاب "،

قال:" ولو قدر أنه لم يحفظ عن عمر، فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا، فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأئمة لكانوا أول منكر له ..".

قلت: قال أبو زرعة :" كل شيء يقول الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له أصلاً ثابتا ما خلا أربعة أحاديث".

الدليل التاسع: حديث رافع الطائي:  

رواه الدولابي 379 - حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّار ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ رَافِعٍ الطَّائِيِّ قَالَ: عَادَهُ نَاسٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْجُنْدِ فَقَالُوا: حَدِّثْنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] ثَمَانُونَ [أَلْفَ] سَنَةً، وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا ". زيادة " ألف" كأنها مقحمة.

الأثر العاشر: ووردت بذلك بعض الآثار عن التابعين:

. روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: ( أحقابا) قال:« بلغنا أن الحقب، ثمانون سنة من سني الآخرة »

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الخامس: إخبار نبي الله عيسى يوم القيامة بإمكانية المغفرة للمشركين، وبيان أن المراد برحمة الله لهم، هي: زوالهم وفناؤهم: 

الدليل الأول: قال الله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}

وردت الآية بقراءتين: يومُ على الدنيا، وورد بالنصب على يوم القيامة، بمعنى أن عيسى عليه السلام سيقول يوم القيامة لربه :" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ".

وقد تقرر في اللغة أن لفظة :"إن" ظنية التحقيق، مما يعني إمكانية المغفرة للمشركين ممن يجعلون له الولد.

ولا يقولَن قائل: هذا منسوخ، أو أنه تشريعٌ لِمَنْ قبلنا فقط  ، لأن العقائد متحدة، ولا يجوز أن تُنسخ، لكن ما المقصود بالمغفرة؟

والجواب أن المراد بها هي رحمتهم بعْد أحقاب طويلة، وذلك بإفنائهم من الوجود في النار، حتى لا يبقى لهم أثر، جمعا بين الأدلة، كما يُفني الله الحيوانات يوم القيامة.

وأما المغفرة التي تتضمن دخول الجنة فلن تكون إلا من نصيب الموحدين  

وفيما يلي بعض الأدلة على أن ذلك القول يوم القيامة:

الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في تفسير الآية، ووجه إمكانية المغفرة للمشركين :

قال الترمذي 3062 - حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس عن أبي هريرة قال :" يلقى عيسى حجته، ولقّاه الله في قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] " قال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] " الآية كلها" قال: «هذا حديث حسن صحيح»

الدليل الثالث: حديث أبي موسى:

رواه أبو إسماعيل الترمذي ثنا أبو عبد الله بن أبي السري العسقلاني ثنا الوليد بن مسلم حدثني مروان بن جناح قال: سمعت أبا عبد الله مولى لعمر بن عبد العزيز وكان ثقة، قال: سمعت أبا بردة بن أبي موسى يحدث عمر بن عبد العزيز، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى صلى الله عليه وسلم، فيذكره الله عز وجل نعمته عليه فيقر بها ويعرفه، فيقول: {يا عيسى ابن مريم، اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} [المائدة: 110] الآية، ثم يقول: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم، هو أمرنا بذلك، قال: فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيُجاء بهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام، حتى يُوقعَ عليهم الحجة، ويُرفعُ لهم الصليب، ويُنطلقُ بهم إلى النار ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي الختام، أسأل ربي الرحمان، أن يجنبنا الخذلان، وعذاب النيران، ولو لِلَحظة من زمان، فإن عذابها لشديد، وإن زمان مكثها لبعيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو أهل التقوى والمغفرة.

  كتبه أبو عيسى الزياني وفرغ منه يوم الأحد 5 جمادى الأولى 1442 الموافق 15/12/2020


تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني