مشروعية الاجتماع والإطعام، عن أموات أهل الإسلام كتابة: الطاهر زياني

 

                  مشروعية الاجتماع والإطعام عن أموات أهل الإسلام

 

 

 

 

                                                أبو عيسى الطاهر زياني

 

                                                 المقدمة :

الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب شديد العقاب، قضى بالموت على جميع العباد، والصلاة والسلام على خير المرسلين، ونبي رب العالمين، أرسله الله رحمة للعالمين، فبلغ الأمانة وأدى الرسالة حتى أتاه اليقين، وهكذا قضى بالموت على جميع الأولين والآخرين، فأَخذ أرواحهم بِأيديه الْقَاهِرَة، ناقلا إياهم من القصور إلى ظلمات الحافرة، مذلّا بالموت رقاب الجبابرة ، كاسرا بصدمته ظُهُور الأكاسرة، قاطعا به أعمال الدنيا من الآخرة ، لكن جاد بفضله على خلقه من نعمائه المتظاهرة ، وآلائه المتظافرة ، فجعل لهم فُرصا بلحوق الأجر إلى الدار الآخرة ، كما ثبت ذلك في الأدلة المتكاثرة ، فمن ذلك أن فتح لهم برحمته أبواب الدعوات، وصنوف الصدقات، والإطعام عن الأموات، وهذا ما أحببت أن أتكلم عنه في هذا المبحث المتواضع، الذي تناولت فيه مشروعية صنع الطعام لأهل الميت من طرف آله وأقربائه وعَصَبته المقربين، أو صنيعته من طرف أهل الميت أنفسهم لأقاربهم وأهليهم وخاصتهم، أو لسائر الناس وعامتهم، وهكذا التجمع عندهم، ومشروعية رجوع المشيعين للجنازة إلى بيت أهل الميت إن هم دفنوه وانصرفوا عنه، ثم ذكرت في الأخير خبر جرير المعارض لكل الأحاديث وبينت علله، وتأويله، وقد قسمته على النحو التالي:

المبحث الأول: مشروعية الوضيمة وهي الطعام عن الميت، أو صنيعة الطعام لأهله:،

المطلب الأول: إعداد الطعام لأهل الميت، من طرف آله وأقربائه وعصبته المقربين، وبيان حكم الاجتماع عند أهل الميت:

المطلب الثاني (عكس الأولى): مشروعية صنيعة الطعام من طرف أهل الميت أنفسهم، لأقاربهم وأهليهم وخاصتهم، مع جواز اجتماع الناس أو النسوة في بيت أهل الميت :

المطلب الثالث: مشروعية التجمع عند أهل الميت وصنيعة الطعام عموما لجميع الناس، أيا كان الصانع، أهل الميت أم غيرهم :

المسألة الأولى: أدلة مشروعية التجمع عند أهل الميت وصنيعة الطعام عموما لجميع الناس:

المسألة الثانية: مشروعية التجمع عند أهل الميت وصنيعة الطعام طيلة مدة الافتتان وهي سبعة أيام :

 المسألة الثالثةُ : مشروعية التصدق عن الميت بالإطعام أو غيره، ولزوم تنفيذ وصيته بأن يُطعم عنه ويُنحَر ويُتَصدق:

المسألة الرابعة : في استحباب قضاء النذر عن الميت إن نذر طعاما أن يُطعم عنه:

المسألة الخامسة : في عموم استحباب التصدق عن الميت بعد موته بالطعام، ونحْر الضأن أو سقاية الماء:

المسألة السادسة: في عموم التصدق عن الميت بعد موته بأي شيء كان ، ويدخل في ذلك الإطعام :

المبحث الثاني: مشروعية اجتماع الرجال أو النسوة عند أهل الميت، إذا لم يكن هنالك نياحة :

 المطلب الأول: تواتر الأدلة بمطلق الاجتماع عند أهل الميت أيام الدفن والحداد الثلاثة:

المطلب الثاني: مشروعية رجوع المشيعين من الجنازة إلى بيت أهل الميت أو غيره إن هم دفنوه وانصرفوا:

المبحث الثالث: ذكر خبر جرير في النهي عن التجمع وصنيعة الطعام، وبيان وجهه وعلله:

المطلب الأول: أدلة النهي عن الاجتماع والإطعام وبيان عللها:

المطلب الثاني: ذكر المسالك بين الأحاديث الصحيحة المبيحة للإطعام والاجتماع، وحديث جرير المضطرب:

المسألة الأولى : مسلك الترجيح :

المسألة الثانية : مسلك الجمع :

وأما عن عادتي في طريقة العزْو: فإنْ كان حديثا ذكرته معتمدا على الترقيم غالبا، وأما في باقي المصادر فإني أذْكر الجزء والصفحة في غضون الصفحة لا في الهامش .

كما أنني أذكْر درجة الحديث والحكم عليْه من خلال كلام المــحَدّثين أو تخريجهم ، فإن لم أجد اجتهدت رأيي، فما كان من صحيح أو حسن كتبته بالتعريف هكذا " الدليل أو الحديث"، وما شككت فيه أو لم أجده، أو كان محتملا كتبته بصيغة الشك :" دليل أو الدليل "، وما كان من ضعيف أكتبه بصيغة التنكير : "دليل"، أو بالكلام في أحد رواته ، أو بصيغة التمريض :" رُوي" ، وقد سميته ب:" مشروعية الاجتماع والإطعام عن أموات أهل الإسلام".  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الأول: مشروعية الوضيمة وهي الطعام عن الميت، أو صنيعة الطعام لأهله:،

لقد جاءت السنة التقريريةُ مؤكدةً مشروعيةَ اجتماع الناس وحتى النسوة في بيت الميت لأجل دفنه ومواساة أهله، كما جاءت السنن القولية والفعلية في استحباب الوضيمة وهي على نوعين:

نوع مختلف فيه وهو صنيعة الطعام من طرف أهل الميت أنفسهم نحو غيرهم وأضيافهم صدقة عن ميتهم،

فقيل بمشروعيته وقيل بكراهته وقيل بتحريم ذلك أو بدعيته، استدلالا بحديث جرير الآتي ذكره .  

ونوع مشروع بالاتفاق، وهي أن يصنع جيران الميت أو آله وأقاربه من بني عمومته ونحوهم، لأهل الميت طعاما لمواساتهم وإظهارِ التكافل معهم .

وفي كل ذيْن وردت أدلة وآثار :

المطلب الأول: إعداد الطعام لأهل الميت، من طرف آله وأقربائه وعصبته المقربين، ولو كان في ذلك اجتماع:

الدليل الأول : وفيه استحباب التكافل مع أهل الميت وصنيعة الطعام لهم، خاصة من بني عمومتهم:

خرج ابن ماجه 1611 وحسنه الألباني من حديث عبد الأعلى عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن أم عيسى الجزار حدثتني أم عون ابنة محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت :" لما أصيب جعفر رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فَقَالَ:" إِنَّ آلَ جَعْفَرٍ قَدْ شُغِلُوا بِشَأْنِ مَيِّتِهِمْ فَاصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا"،

فهذا نبي الإسلام، عليه الصلاة والسلام، هو الذي تكفل بصنيعة الطعام لبني الأعمام، وقد كان أهل جعفر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنفسِهِم، لأن جعفر هذا هو ابن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ومن آله المُقربين،

ونفس الأمر أكّده إبراهيم بن سعد في متابعته :

2/ قال أحمد (6/370) نا يعقوب نا أبي (إبراهيم بن سعد) عن ابن إسحاق ثنا عبد الله بن أبى بكر عن أم عيسى الجزار عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب عن جدتها أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دَبَغتُ أربعين منيئة، وعَجنتُ عجيني وغسلت بَنِيّ، ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم، قالت: فقمت أصيح واجتمع إلي النساء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال :" لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم"،

هذا حديث حسن، وفيه من الفقه جواز اجتماع النسوة في بيت الميت، ومشروعية صنيعة الطعام عن الميت من آله وبني عمومته، وفيه أيضا أن النهي عن الصياح والبكاء إنما هو ذاك المصحوب باللطم والضرب وقول الهجر، كما في هذه المتابعة التالية لابن إسحاق على حديثه :

3/ قال ابن سعد (8/281) أخبرنا محمد بن عمر ثني مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أم عيسى بنت الجزار عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت: أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد هنأت، يعني دبغت أربعين إهابا من أدم، وعجنت عجيني وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخل علي رسول الله فقال: يا أسماء أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه فبكى فقلت: أي رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء؟ قال: نعم قتل اليوم. قالت: فقمت أصيح فاجتمع إلي النساء. [وفي رواية:" فاجتمع إلينا النساء"]، قالت: فجعل رسول الله يقول: يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي صدرا، قالت: فخرج رسول الله حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول: واعماه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" على مثل جعفر فلتبك الباكية، ثم قال: اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم"،

وهذا حديث حسن، فالواقدي مختلف فيه، وقد أفردته بترجمة خاصة خلاصتها أنه صدوق حجة في السير والمغازي، ربما يهم في غيرها، وقد تابعه ابن إسحاق كما مضى، وأم عيسى صحابية كما قال ابن ماكولا في الإكمال:" أم عيسى بنت الجزار العصرية، لها صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وكذلك ذكرها ابن الأثير وابن حجر في تبصير المنتبه والإصابة ضمن الصحابة ، لكنه غفل في التقريب فقال :" لا يعرف حالها"، لأنها هي نفسها بنت الجزار الخزاعية كما هو مُبين في كثير من الروايات، وقد روت عن أم جعفر التي قيل عنها أنها مقبولة، لكنّ الصحابي إذا روى عن شخص ارتفعت جهالته، وقد احتج بها الطحاوي في شرح مشكله (3/94) فقال:" وَاحْتَجْنَا أَنْ نَعْلَمَ مَنْ أُمُّهُ الَّتِي رَوَى عَنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ فَإِذَا هِيَ أُمُّ جَعْفَرٍ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدْفَعُهُ..."،

كما ذكر الشيخ الألباني في الإرواء (3/162) أن الحافظ ابن حجر في التلخيص (170) بعدما عزا حديثا لهما في الغسل بنفس الإسناد قال:" وإسناده حسن وقد احتج به أحمد وابن المنذر وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما"، وللحديث شاهد جيد :

4. خرجه الحاكم (1/527) من طريق الحميدي ثنا سفيان ثنا جعفر بن خالد بن سارة ني أبي وكان صديقا لعبد الله بن جعفر أنه سمع عبد الله بن جعفر قال: لما نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم» قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وجعفر بن خالد بن سارة من أكابر مشايخ قريش، وهو كما قال شعبة: اكتبوا عن الأشراف فإنهم لا يكذبون، وقد روي غير هذا الحديث مفسرا "،

هكذا رواه الناس عن سفيان عن جعفر بن خالد، ورواه الشافعي أنا سفيان عن جعفر بن محمد ، والصواب ابن خالد، قال الترمذي: جعفر ثقة وهو ابن خالد بن سَارَّة، وحسن الحديث (998) .

وقد استدل جماعة بهذا الحديث فأطلقوا القول بأن صنيعة الطعام من طرف أهل الميت أنفسهم أمر مكروه، وبالغ بعضهم فادعى ببدعية ذلك حتى من طرف أقارب الميت المقربين، وليس كما قالوا لأن النبي عليه السلام هو الذي أمر أهله بصنعة الطعام لآل جعفر، وهو من آل بيت النبي عليه السلام وبني عمومته ومن عصبته كما مر، وليس في هذا الحديث نهيٌ لأهل الميت من صنيعة الطعام لأنفسهم أو لغيرهم، وكل ما فيه هو استحباب التكافل معهم لا غير.

وأما حديث جرير فسيأتي بيان ضعفه واضطرابه .

وقال بعض الحنابلة بالكراهة لم يتجاوزوها، لكن إن وُجد الأضياف جاز صنع الطعام لهم ولو من أهل الميت، فقال في المغني :" َأَمَّا صُنْعُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا لِلنَّاسِ فَمَكْرُوهٌ "، ثم قال:" وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ جَازَ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مَيِّتَهُمْ مِنْ الْقُرَى وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ إلَّا أَنْ يُضَيِّفُوهُ" .

ثم إن الأمر بصنيعة الطعام ليس بأمر إيجاب اتفاقا، بل هو للاستحباب فقط كما قال عامة العلماء، ولذلك فليس في ها الحديث أصلا ما يفيد تحريم إعداد الطعام من أهل الميتِ أنفسِهِم إن هم أرادوا ذلك، بل كل ما فيه أن مصيبة الموت قد تشغلهم عن ذلك، فأُمر الناس بالتكافل معهم، ويُفهَم من هذا أنهم إن وجدوا الوقت أو استطاعوا الجمع بين الانشغال بالميت تكفينا وتهيئة ونحو ذلك، مع صنيعة الطعام لأضيافهم وأقاربهم وخاصتهم جاز لهم ذلك، بل واستحب أيضا، وإن كان الإعداد من أقاربهم أو جيرانهم أفضل، وقد جاء في ذلك عدة آثار وأخبار :

ديلي ثاني: حديث جرير :" كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنيعة الطعام بعد ما يدفن من النياحة "، وسيأتي أنه حديث لا أصل له.

المطلب الثاني: مشروعية صنيعة الطعام من طرف أهل الميت أنفسهم، لأقاربهم وأهليهم وخاصتهم، مع جواز اجتماع الناس أو النسوة في بيت أهل الميت :

استدلالا بما خرجاه في الصحيح (خ: 5417 ، م: 2216) من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن، إلا أهلها وخاصتها، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت: كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن".

ولأحمد (6/80) عنها قالت: كانت إذا أصيب أحد من أهلها فتفرق نساء الجماعة عنها وبقي نساء أهل خاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، ثم أمرت بثريد فيثرد، وصبت التلبينة على الثريد ثم قالت: كلوا منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب بعض الحزن".

المطلب الثالث: مشروعية التجمع عند أهل الميت وصنيعة الطعام عموما لجميع الناس، أيا كان الصانع، أهل الميت أم غيرهم :

وفي ذلك أدلة :

المسألة الأولى: أدلة مشروعية التجمع عند أهل الميت وصنيعة الطعام عموما لجميع الناس:

الدليل الأول : قال أبو داود 3332 حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن إدريس نا عاصم بن كيب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال :" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر :" أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه" فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا..."،

وفيه مشروعية الاجتماع على الطعام بعد الجنازة، إذا تطوع أي شخص بصنيعة الطعام للناس والحضور، وهل يدخل في إطلاق ذلك أهل الميت أم لا ؟ :

فذهب الأكثرون إلى دخولهم في ذلك :

ذكر التبريزي في المشكاة (3/292) هذا الحديث بسنده ومتنه بلفظ:" فلما رجع استقبله داعي امرأته فأجاب ونحن معه وجيء بالطعام "، وقال الملا في مرقاة المفاتيح:" فلما رجع - أي من المقبرة- استقبله داعي امرأته -أي زوجة المتوفي -..."،

وقال في عون المعبود: (داعي امرأة) كذا في النسخ الحاضرة، وفي المشكاة : داعي امرأته"، بالإضافة إلى الضمير، قال القاري: أي زوجة المتوفي، وكذا ذكره في حاشية الطحاوي بلفظ:" داعي امرأته، فجاء وجيء بالطعام"، الحديث، ثم قال:" وفي شرعة الإسلام: والسنة أن يتصدق ولي الميت له قبل مضي الليلة الأولى بشيء مما تيسر له فإن لم يجد شيئا فليصل ركعتين ثم يهد ثوابهما له، قال:" ويستحب أن يتصدق على الميت بعد الدفن إلى سبعة أيام كل يوم بشيء مما تيسر ،

قال البرهان الحلبي: وهذا (حديث جرير في النهي) إنما يدل على كراهة ذلك عند الموت فقط، على أنه قد عارضه ما رواه الإمام أحمد أيضا بسند صحيح وأبو داود عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما رجع استقبله داعي امرأته فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ووضع القوم فأكلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك اللقمة في فيه"، الحديث، فهذا يدل على إباحة صنع أهل الميت الطعام والدعوة إليه .

قال: بل ذكر في البزازية أيضا من كتاب الاستحسان: وإن اتخذ طعاما للفقراء كان حسنا، وفي استحسان الخانية: "وإن اتخذ ولي الميت طعاما للفقراء كان حسنا إلا أن يكون في الورثة صغير فلا يتخذ ذلك من التركة"،

وقال الطهطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح:" فهذا يدل على إباحة صنع أهل الميت الطعام والدعوة إليه، بل ذكر في البزازية أيضا من كتاب الاستحسان وإن اتخذ طعاما للفقراء كان حسنا اهـ

وقد كان يُفعل كل ذلك في زمن الصحابة والفاروق عمر رضي الله عنهم ، كما سيأتي.

الدليل الثاني: مشروعية الإطعام بعد الدفن وتشييع الجنازة: قال ابن أبي خيثمة في تاريخه 4269- حَدَّثَنا قطبة بن العلاء بن المنهال الغنوي قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق أبو إسرائيل عن أبي إسحاق عن عَمْرو بن ميمون قال: شيعنا علقمة بشن لنا القادسية فأتينا بطعام كثير فأصبنا منه ، ثم أمر فاشترى لنا من نبيذ القادسية ، فقلت لبعض جلسائه ؟ لأن شاء لأُغْنِينَّه ".

قالوا في ترجمة الإمام الجنيد:" ولما حضرته الوفاة دخل عليه أبو محمد الجريري رضي الله عنه فقال: ألك حاجة قال: نعم إذا مت فغسلني وكفني وصل علي فبكى الجريري وبكى الناس معه ثم قال له الجنيد وحاجة أخرى فقال: وما هي فقال: تتخذ لأصحابنا طعام الوليمة، فإذا انصرفوا من الجنازة رجعوا إلى ذلك حتى لا يقع لهم تشتيت، فبكى الجريري ثم قال والله لئن فقدنا هاتين العينين ما اجتمع منا اثنان أبداً قال أبو جعفر الفرغاني فكان والله كذلك الأمر بعد وفاة الجنيد وإنما كان كذلك الاجتماع ببركة الشيخ ورؤيته رضي الله عنه ".

دليل ثالث: أثر جرير وعمر: في مشروعيىة الاجتماع من الصحابة وإنكار عمر لذلك وحده:

روى سعيد بن منصور في سننه ولم أجد إسناده: أن جريرا وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هل يناح على ميتكم ؟ قال: لا، قال: فهل تتجمعون عند أهل الميت وتجعلون الطعام؟ قال: نعم، قال: ذاك النوح"،

فدل هذا الخبر على اجتماع القوم وصنيعتهم للطعام، وأن عمر وحده هو من أنكر ذلك، وليس في هذا الخبر أبدا ـ مع الجهل بإسناده ـ أن الصحابة قد تراجعوا عما كان يفعلونه لِقول عمر وحده، لأنه أمر مسكوت عنه في هذا الخبر، مع عدم صحته ونكارته، لأن الوارد عن عمر الفاروق أنه قد أوصى حتى عند موته بصنعة الطعام عنه، وفُعل ذلك به بحضرة جميع الصحابة بلا إنكار كما سيأتي .

ثم طلبنا المنطوق لهذا الخبر فوجدنا أنَّ الأرجح فيه إن صحّ أن جريرا إنما أخبر عمر رضي الله عنه بأن اجتماع النسوة للنياحة مع صنعة الطعام هو النياحة، لأن الغالب على النسوة إذا اجتمعن نِحْنَ وصِحْن كما هو معروف عنهنّ، فمنَعَهنّ عمر من ذلك سدا لباب الذريعة المعروف عند العلماء، دليل ذلك ما :

2. قال أبو بكر في المصنف باب ما قالوا في الإطعام عليه والنياحة، حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة قال: قدم جرير على عمر فقال: هل يناح قبلكم على الميت؟ قال لا، قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت ويطعم الطعام؟ قال: نعم، فقال: تلك النياحة "،

وهذا خبر منقطع بل معظل ومنكر، ولو صح فإنما هو محمول على ما ذكرنا، وأنّ اجتماع الرجال أو النسوة إذا لم يكن فيه نياحة فلا بأس به كما سيأتي ذكر ذلك بأدلته في بابه .

3. قال أسلم في تاريخه (126) ثنا عبد الحميد: نا يزيد بن هارون نا عمر أبو حفص الصيرفي وكان ثقة قال: ثنا سيار أبو الحكم قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت بعد ما يدفن من النياحة "،

ولم يذكر الإطعام، وقيد النهي غن لاجتماع فقط بما بعد الدفن، إلا أنه أكثر إعضالا من سابقه ، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة الكثيرة المبيحة لمطلق الإطعام والاجتماع، الناهية عن النياحة والصياح فقط .

وبما أن القوم سيستدلون بقصة جرير وحادثة عمر مع ضعفها واضطرابها، فليعلموا أن ليس في هذا الخبر ذِكرٌ لتراجع جرير وغيره إلى قول عمر أبدا، بل كل ما فيه هو أن الإطعام كان أمرا مشتهرا بين الصحابة في زمن الفاروق عمر، وأن عمر وحده هو من أنكره، وليس فيه أن جريرا وغيره قد رجعوا إلى قوله أو صوّبوه، كيف والخبر منقطع، ثم هو منكر مخالف لما ورد عن عمر رضي الله عنه وسائر الصحابة معه كلهم على استحباب الإطعام كما في :

الدليل الرابع : وفيه جواز صنيعة الطعام من المال الذي أوصى به الميت في زمن عمر رضي الله عنه وبتوصية منه ولو بعد الدفن:

قال ابن حجر في المطالب العالية (5/328): باب صنعة الطعام لأهل الميت: قال أحمد بن منيع نا يزيد بن هارون ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال:" كنت أسمع عمر رَضِيَ الله عَنْه يقول: لا يدخل أحد من قريش في باب إلا دخل معه ناس، فلا أدري ما تأويل قوله حتى طُعن عمر رَضِيَ الله عَنْه، فأمر صهيبا رَضِيَ الله عَنْه أن يصلي بالناس ثلاثا، وأمر أن يجعل للناس طعاماً، فلما رجعوا من الجنازة جاؤوا وقد وضعت الموائد، فأمسك الناس عنها للحزن الذي هُمْ فيه، فجاء العباس بن عبد المطلب رَضِيَ الله عَنْه فقال: [ يا أيّها الناس قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلنا وشربنا بعده، ومات أبو بكر رضي الله عنه فأكلنا وشربنا، أيها الناس كلوا من هذا الطعام، فمد يده ومد الناس أيديهم فأكلوا، فعرفت تأويل قوله" ].

تابعه ابن سعد فقال في الطبقات (4/29) أخبرنا يزيد بن هارون وعفان بن مسلم وسليمان بن حرب قالوا: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: إن قريشا رؤوس الناس لا يدخل أحد منهم في باب إلا دخل معه فيه [طائفة من الناس]، فلم أدر ما تأويل قوله في ذا حتى طعن، فلما احتضر أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأمره أن يجعل للناس طعاما فيطعموا، قال عفان وسليمان: حتى يستخلفوا إنسانا. فلما رجعوا من الجنازة جيء بالطعام ووضعت الموائد فأمسك الناس عنها للحزن الذي هم فيه، فقال العباس بن عبد المطلب: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد مات فأكلنا بعده وشربنا، ومات أبو بكر فأكلنا بعده وشربنا. قال عفان وسليمان: وإنه لا بد من الأجل فكلوا من هذا الطعام. ثم مد العباس يده فأكل، ومد الناس أيديهم فأكلوا، فعرفت قول عمر إنهم رؤوس الناس ".

هذا حديث حسن كما قال الهيثمي في المجمع :" رواه الطبراني وفيه علي بن زيد وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وإنما حسنه لأنّ روايةَ رواية حماد عن علي بن جدعان من الحسن كما سيتبين، فقد قال عبد الحق الإشبيلي عن علي بن زيد:" من ضعفه أَكثر مِمَّن وَثَّقَه"، فإذْ قد اختلفت العلماء فيه وجب أن نترك التقليد وننظر في سبب جرحه، ففعلنا فوجدنا أنَّ من ضعّفه فإنما لسبب الاختلاط ومن ثَم التخليط :

قال ابن القطان الفاسي في بيان الوهم (3/334):" وَعلي بن زيد تَركه قوم وَضَعفه آخَرُون وَوَثَّقَهُ جمَاعَة ومدحوه، وَجُمْلَة أمره أَنه كَانَ يرفع الْكثير مِمَّا يقفه غَيره، وَاخْتَلَطَ أخيرا، وَلَا يتهم بكذب، وَكَانَ من الْأَشْرَاف الْعلية"، وقال الفسوي:" اختلط في كبره"، ومما يؤكد اختلاطه ما روى عبيد الله بن معاذ بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن علي بن زيد قبل أن يختلط"، فإذْ هُوَ قَد اختلط، حتى تركه بسبب ذلك قومٌ، فوجب أن ننظر علّ أحدا قد روى عنه قبل الإختلاط ؟

فنظرنا فوجدنا أنّ شعبة وحماد بن سلمة قد حدّثا عنه قبل اختلاطه، وكان حماد ممن يُتقِن حديثه ويميزُ خطأ الناس عنه، ووجدنا أن ابن أبي حاتم قال عن أبيه كما في علله: أَضْبَطُ النَّاسِ لِحَدِيثِ ثَابِت وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَة، بَيَّنَ خَطَأَ النَّاسِ"، وكذلك قال أحمد، وقال يحيى بن معين: حماد بن سلمة أروى عن علي بن زيد"،

وعليه يتنزل كلام من وثقه أو جعله صدوقا مثل: حماد بن سلمة والترمذي والعجلي ويعقوب بن شيبة والذهبي، وقد ذكره الذهبي في كتاب من تكلم فيه وهو موثق وقال:" صويلح الحديث، قال أحمد ويحيى: ليس بشيء وقواه غيرهما"، فصار الحديث حسنا، يُقوِّي ذلك أن روايته هذه قد رواها عنه أجل أصحابه وهو حماد بن سلمة،

ورواها علي بن زيد عن الحسن وهو أيضا من أجلّ تلاميذ الحسن، كما قال الأصمعي عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان وكان أعلم الناس بالحسن"،

فصار الحديث حسنا وهو صريحٌ في استحباب صنيعة الطعام عن الميت ولو من طرف أهل بيته، وأن هذا العمل كان منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأبي بكر ثم في زمن الفاروق عمر ، وقد صنع أهله بعد وفاته طعاما للناس بعد دفنه، وأكل منه جميع الصحابة بلا إنكار، وذكروا أنهم فعلوا ذلك أيضا بعد موت النبي عليه السلام وبعد أبي بكر وعمر ،كما قال الصحابي: " فأكلنا بعده وشربنا، ومات أبو بكر فأكلنا بعده وشربنا، وإنه لا بد من الأجل فكلوا من هذا الطعام ".

ولهذا الحديث في الإطعام عن الميت من ماله، أو من مال أهله، والاجتماع في بيته، شواهد أخرى عن غمر نفسه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:

وقد استفاد عمر هذه السنة من رسول الله عليه السلام بعد أن هداه إليها كما في:

المسألة الثانية: مشروعية التجمع عند أهل الميت وصنيعة الطعام طيلة مدة الافتتان وهي سبعة أيام :

دليل أول : قال محمد بن سعد نا محمد بن عمر نا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن عبد الله بن عكرمة قال: عجبا لقول الناس: إن عمر بن الخطاب نهى عن النوح، لقد بكى على خالد بن الوليد بالمدينة ومعه نساء بني المغيرة سبعا، يشققن الجيوب ويضربن الوجوه، وأطعموا الطعام تلك الأيام حتى مضت، ما ينهاهن عمر"،

في إسناده ابن أبي سبرة متروك وقد اتّهم، لكن قال عنه أبو داود وغيره: مُفتي المدينة وعالمها، وقال عنه الضبي في أخبار القضاة: هو من أهل العلم بالسيرة وأيام الناس، واسع العلم كثير الحديث، حدث عنه الناس، في حديثه ضعف"،

وهذا يعني أنه لم يكن ممن يتعمد الكذب، وعليه فيُقبل حديثه في الشواهد، وهي موجودة في بعض أجزائه:

فأما شاهد جزء اجتماع النسوة في جنازة أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه فهو:

الدليل الثاني: في مشروعية اجتماع النسوة في الجنازة ما لم يكن ندبا وقلقلة:  

قال البخاري في الصحيح بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ"، وَالنَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ"، وسيأتي وصله من طريقِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ:" لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَنْ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لِعُمَرَ أَرْسِلْ إلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ لاَ يَبْلُغُك عَنْهُنَّ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ ، قَال: فَقَالَ عُمَر: وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ"، وستأتي طرق هذا الحديث :  

وأما شاهد جزء الإطعام عن الميت سبعة أيام في زمن الصحابة وعمر بن الخطاب وما بعده فهو :

الدليل الثالث : وفيه استحباب الإطعام عن موتى أهل الإسلام، لمدة سبعة أيام :

قال ابن حجر في المطالب: باب صنعة الطعام لأهل الميت: قال أحمد في الزهد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا الأشجعي عن سفيان قال قال طاوس :" إن الموتى يفتنون في قبورهم سبعاً فكانوا يستحبون أن يُطعمَ عنهم تلك الأيام"،

ومن طريقه خرجه أبو نعيم في الحلية من ترجمة طاوس (4/11) قال حدثنا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي مثله،

وهذا أثر صحيح كما قال ابن حجر والسيوطي وذكر أن له حكم الرفع، وإنما يحدث طاوس وهو التابعي الكبير عمن كان قبله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل القرون، بنص النبي الكريم، وحاشاهم من الابتداع وألف كلا، ومن رمى أفعالهم بالبدعة فالبدعة به ألصق، وهو بها أولى من خير القرون.

وقد قال السيوطي في الديباج (2/490): إسناده صحيح وله حكم الرفع"،

وكذلك قال ابن حجر كما في الفتاوى الكبرى لما سئل بِمَا لَفْظُهُ: مَا قِيلَ إنَّ الْمَوْتَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ أَيْ يُسْأَلُونَ كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ :" نَعَمْ لَهُ أَصْلٌ أَصِيل، فَقَدْ أَخْرَجَه جمَاعَةٌ عَنْ طَاوُسِ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِسَنَدٍ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ طَاوُسِ فِي التَّابِعِينَ، بَلْ قِيلَ إنَّهُ صَحَابِيٌّ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بَعْضُ زَمَنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ"؟، قال: "وَحُكْمُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ الْمَرْفُوعَةِ لِأَنَّ مَا لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ إذَا جَاءَ عَنْ تَابِعِيٍّ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُرْسَلِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَة وَكَذَا عِنْدَنَا إذَا اعْتَضَدَ، وَقَدْ اعْتَضَدَ مُرْسَلُ طَاوُسِ بِالْمُرْسَلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، بَلْ إذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ صُحْبَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ كَانَ مُتَّصِلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِقَوْلِهِ الْآتِي:" عَنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إلَخْ لِمَا يَأْتِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَفِي بَعْضِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةُ" إنَّ الْمُنَافِقَ يُفْتَنُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" وَمِنْ ثَمَّ صَحَّ عَنْ طَاوُسِ أَيْضًا:" أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْ الْمَيِّتِ تِلْكَ الْأَيَّامَ"،

وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ التَّابِعِيِّ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمَرْفُوعِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُ بِهِ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ،

وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَزْوِ إلَى الصَّحَابَةِ دُونَ انْتِهَائِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ إنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ نَقْلًا لِلْإِجْمَاعِ، وَقِيلَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.."،اهـ ،

وللأثر شاهد آخر :

الدليل الرابع : قال السيوطي في الديباج (2/490) :" وذكر ابن جريج في مصنفه عن عبيد بن عمير: أن المؤمن يفتن سبعا والمنافق أربعين صباحا وسنده صحيح أيضا،

وَقد رَوَاه اِبْن جُرَيْجٍ فِي مُصَنَّفه عَنْ الْحَارث بْن أَبِي الْحَرث عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر قَالَ : يُفْتَن رَجُلَانِ مُؤْمِن وَمُنَافِق فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُفْتَن سَبْعًا وَأَمَّا الْمُنَافِق فَيُفْتَن أَرْبَعِينَ صَبَاحًا"،

وكذلك ذكره عنه ابن عبد البر في التمهيد (22/252) وغيره بهذا السند، وقد قال الحافظ كما سبق :" ... بِسَنَدٍ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ "، وقال السيوطي :" وسنده صحيح أيضا "، وعبيد بن عمير مخضرم أدرك زمن النبي عليه السلام، واختلف في صحبته له .

دليل خامس : في استحباب التصدق عن الميت أيام الافتتان:

ذكره ابن عبد البر في التمهيد (22/252)، عن عبد الرزاق في مصنفه (3/590) 6757 عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن عمر: إنما يفتتن رجلان مؤمن ومنافق، «أما المؤمن فيفتن سبعا، وأما المنافق فيفتن أربعين صباحا، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه»، قال ابن جريج: وأنا أقول: قد قيل في ذلك، فما رأينا مثل إنسان أغفل هالكه سبعا أن يتصدق عنه "، كلام ابن جريج صحيح عنه، لكنه عن ابن عمر منقطع .

دليل أو الدليل السادس: قال السيوطي وغيره :" وذكر بن رجب في أهوال القبور عن مجاهد :" أن الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم الدفن لا تفارقه"، وكذلك ذكره ابن عبد البر وغيره، وذكر ابن رجب أن هذا نقل عن الصحابة رضي الله عنهم .

المسألة الثالثةُ : مشروعية التصدق عن الميت بالإطعام أو غيره، ولزوم تنفيذ وصيته بأن يُطعم عنه ويُنحَر ويُتَصدق:

فقد جاءت شواهد أخرى في استحباب نحر الأنعام والبُدن عن الميتِ المسلمِ إن هو وصى بذلك :

الدليل الأول: ما مضى عن عمر حين أُطعم عنه بعد دفنه باتفاق الصحابة، ولفظه عن الأحنف: "كنت أسمع عمر رَضِيَ الله عَنْه يقول: لا يدخل أحد من قريش في باب إلا دخل معه ناس، فلا أدري ما تأويل قوله حتى طُعن عمر رَضِيَ الله عَنْه، فأمر صهيبا رَضِيَ الله عَنْه أن يصلي بالناس ثلاثا، وأمر أن يجعل للناس طعاماً، فلما رجعوا من الجنازة جاؤوا وقد وضعت الموائد، فأمسك الناس عنها للحزن الذي هُمْ فيه، فجاء العباس بن عبد المطلب رَضِيَ الله عَنْه فقال: [يا أيّها الناس قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلنا وشربنا بعده، ومات أبو بكر رضي الله عنه فأكلنا وشربنا، أيها الناس كلوا من هذا الطعام، فمد يده ومد الناس أيديهم فأكلوا ".

دليل أو الدليل الثاني: قال أبو بكر (3/386) باب ما يتبع الميت بعد موته: حدثنا هشيم عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن العاصي بن وائل كان يأمر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته من ذلك خمسين بدنة، أفأنحر عنه ؟ فقال:" إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصُمْتَ عنه أو تصدقت عنه أو عتقت عنه بلغه ذلك

في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو مدلس، لكن قد صرح بالتحديث عند أحمد ( 2/181) فصار الحديث مقاربا وله شواهد أخرى :

دليل أو الدليل الثالث: وفيه استحباب الذبيحة عن الميت، أو التصدق ولو بشيء من أجزاء الذبيحة كالكراع:

قال الطبراني في الكبير (6/21) حدثنا محمد بن شعيب الأصبهاني ثنا عبد الرحمن بن سلمة الرازي ثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء ثنا محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : توفيت أمي ولم توص ولم تصدق، فهل تقبل إن تصدقت عنها ؟ قال: نعم قال: فهل ينفعها ذلك؟ قال : نعم ولو بكراع شاة محترق"،

في إسناده محمد بن كريب وهو ضعيف يُكتب حديثه في الشواهد وهي موجودة .

دليل أو الدليل الرابع: لزوم تنفيذ وصية الميت إذا أمر بذبيحة عنه:

قال أبو بكر (3/783) حدَّثَنَا وَكِيع عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْد عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَعْقُوب عَن أَبِيه قَال: مَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْحَيِّ وَأَوْصَى أَنْ يُنْحَرَ عَنْهُ بَدَنَةٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَقَرَةِ؟ فَقَال: تُجْزِئ"، قَال: مِنْ أَيّ قَوْمٍ أَنْتَ؟ قلت: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، قَالَ: وَأَنَّى لِبَنِي رَبَاحٍ الْبَقَرُ؟ إِنَّمَا الْبَقَرُ لِلأَزْد وَعَبْدِ الْقِيسِ"،

سليمان بن يعقوب ذكره مسلم في المنفردات ممن تفرد عنه حماد، لكن قد روى هذا الخبر كل من أيوب وحماد وبعض أصحابهم عن سليمان به، وهو وإن كان مجهول الحال، فقد احتج به تلميذه حماد وهو أعرف الناس به :

فقال الفسوي في تاريخه (3/7): حدثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن سليمان بن يعقوب الرياحي قال: فلقيت سليمان فحدثني عن أبيه قال: أوصى إلي رجل وأوصى ببدنه، قال: فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلاً أوصى إلي وأوصى ببدنه فهل تجزيء عني بقرة؟ قال: نعم...، فذكر نحوه، وقال حماد: كان أيوب وأصحابنا يعجبهم هذا الحديث"، ونحن بحمد الله يُعجبنا ما أعجبَ سلفنا الذين من قبلنا .

وقد روي عن عمران أنه وصى أن يُطعم عنه :

دليل أو الدليل الخامس: استحباب الإطعام عن الميت بعد الدفن:

قال ابن زبر الربعي في وصايا العلماء (67) حدثنا محمد بن علي بن زيد الصايغ نا سعيد بن منصور نا حفص بن النضر السلمي قال حدثتني أم رملة بنت محمد بن عمران بن حصين عن أمها مريم بنت صيفي بن فروة أن عمران بن حصين لما احتضر قال:" إذا أنا مت فشدوني على سريري بعمامة فإذا رجعتم فانحروا وأطعموا "، توبع سعيد :

فقال ابن سعد في الطبقات (4/290) أخبرنا مسلم بن إبراهيم وعبيد الله بن محمد بن حفص القرشي التيمي قالا ثنا حفص بن النضر السلمي حدثتني أمي عن أمها وهي بنت عمران بن حصين أن عمران بن حصين لما حضرته الوفاة قال:" إذا مت فشدوا علي سريري بعمامتي فإذا رجعتم فانحروا وأطعموا "،

قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم وعبيد الله بن محمد بن حفص القرشي التيمي قالا حدثنا حفص بن النضر السلمي حدثتني أمي عن أمها وهي بنت عمران بن الحصين أن عمران بن الحصين لما حضرته الوفاة قال إذا أنا مت فشدوا علي سريري بعمامة وإذا رجعتم فانحروا وأطعموا "،

وخرجه الطبراني (18/106) حدثنا محمد بن علي بن شعيب ثنا خالد بن خداش ثنا حفص بن النصر السلمي عن أمه بنت محمد بن عمران عن أمها مريم بنت فروة أن عمران بن حصين فذكره،

قال الهيثمي (3/5) باب في الطعام يصنع :" رواه الطبراني في الكبير ومريم لم أجد من ذكرها "،

لكنها من بنات عمران بن حصين وقد حدثت بما جرى في منزلها وفي بيت أهلها، وهذا مما قد يقوي روايتها والله أعلم.

ومن ترجمة التابعي المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي قال ابن حجر في التهذيب: وقال البلاذري: أوصى المغيرة أن يدفن بأحد مع الشهداء وأن يطعم على قبره بألف دينار"،

المسألة الرابعة : في استحباب قضاء النذر عن الميت إن نذر طعاما أن يُطعم عنه:

فقد جاء أيضا نحر البدن والأنعام عن الميت بعد موته إن هو نذر ذلك، ومن أدلة ذلك :

الدليل الأول: قال أبو نعيم في معرفة الصحابة من ترجمة مروان بن قيس رضي الله عنه: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كَامِل وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَم قَالَا: ثنا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِي حَدَّثَنِي أَبِي ثنا عِمْرَانُ بْنُ يَحْيَى الْأَسَدِي سَمِعْتُ عَمِّيَ مَرْوَانَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ أَجْزَأَ الرَّعِيَّةَ عَنْ أَهْلِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ:" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ أَبِي تُوُفي وَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَكَّةَ وَأَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ نَمْشِيَ عَنْهُ، وَأَنْ نَنْحَرَ عَنْهُ بَدَنَةً مِنْ مَالِي؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَعَمْ إقْضِ عَنْهُ، وَانْحَرْ عَنْهُ وَامْشِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ لِرَجُلٍ، فَقَضَيْتَ عَنْهُ مِنْ مَالِكَ، أَلَيْسَ يَرْجِعُ الرَّجُلُ رَاضِيًا، فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يرْضَى"، وهذا حديث حسن، فقد قال الهيثمي:" رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات"، وفيه عمران بن يحيى: وثقه ابن حبان والهيثمي، وقد روى عنه كلٌّ من يحيى بن سعيد ومحمد بن عبيد وعيسى بن يونس .

المسألة الخامسة : في عموم استحباب التصدق عن الميت بعد موته بالطعام، ونحْر الضأن أو سقاية الماء:

سواءٌ أأوْصى بذلك أم لا، نذر ذلك أم لا، أو جعله في مطلق الصدقة وغير ذلك، لعموم الأدلة السابقة واللاحقة، ولما فعله السلف :

فروى عبد الرزاق 16344 عن الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال:" لو أن رجلا تصدق عن ميت بكراع تقبله الله منه". يعني به: كراع شاة ونحوها، وقد ورد ذلك مرفوعا كما في:

الدليل الأول:  قال الطبراني في الكبير (6/21) حدثنا محمد بن شعيب الأصبهاني ثنا عبد الرحمن بن سلمة الرازي ثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء ثنا محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: توفيت أمي ولم توص ولم تصدق فهل تقبل إن تصدقت عنها ؟ قال: نعم قال: فهل ينفعها ذلك؟ قال : نعم، ولو بكراع شاة محترق"، وقد مضى.

الدليل الثاني: وفيه عموم التصدّق عن الميت بسقاية الماء، وهو نوع من الإطعام عنه كما في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة 249]، ويبدأ التصدق عن الميت منذ أول أيام وفاته وما بعد ذلك :

1. قال النسائي: باب فضل الصدقة عن الميت 3664 أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا وكيع عن هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة قال قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء"، صححه الألباني .

وخرجه ابن خزيمة في صحيحه (4/123) حدثنا سلم بن جنادة حدثنا أبو معاوية عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن سعد قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها ؟ فقال: نعم، فقلت: أي الصدقة أفضل؟ قال: إسقاء الماء"، كذا رواه هشام عن قتادة وتابعه أبو معاوية عن شعبة عن قتادة فجعلاه عن سعيد بن المسيب عن سعد ، وخالفهما حجاج فجعله عن الحسن :

2. فقال النسائي أخبرني إبراهيم بن الحسن عن حجاج قال سمعت شعبة يحدث عن قتادة قال سمعت الحسن يحدث عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء"، فتلك سقاية سعد بالمدينة ".

وقال أحمد (5/284) ثنا حجاج قال سمعت شعبة يحدث عن قتادة قال سمعت الحسن يحدث عن سعد بن عبادة مثله ".

فإما أن تكون روايته عن الحسن أصح، أو أن لشعبة فيه طريقان، يؤكد ذلك رواية يونس ومنصور عن الحسن عن سعد :

3. فقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم نا منصور ويونس عن الحسن قال: قال سعد بن عبادة يا رسول الله ! إني كنت ابن أم سعد وإنها ماتت فهل ينفعها أن أتصدق عنها ؟ قال: نعم قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال: اسق الماء، قال: فجعل صهريجين بالمدينة "، قال الحسن: فربما سعيت بينهما وأنا غلام ".  

4. ورواه مروان بن معاوية عن حميد الطويل عن أنس أن سعدا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي توفيت ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال:" نعم وعليك بالماء"، قال موسى بن هارون: وهم فيه مروان بمكة، إنما هو عن حميد عن الحسن ".

المسألة السادسة: في عموم التصدق عن الميت بعد موته بأي شيء كان ، ويدخل في ذلك الإطعام :

فقد جاءت عدة نصوص تدل بعمومها على فضيلة التصدق عن الميت منذ وفاته إلى ما بعد ذلك، بأي نوع من أنواع التصدق، ويدخل في ذلك الإطعام عنه :

فمن ذلك ما خرجه مسلم والبخاري (2760) :" باب ما يستحب لمن يتوفى فجأة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت" من حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال:" نعم تصدق عنها "، وبوّب عليه ابن حبان: باب ذكر الإباحة للمرء أن يتصدق عن حميمه وقرابته إذا مات ".

بل إن عموم الصدقة عن الميت بعد موته من مكفرات ذنوبه: دليل ذلك ما خرجه مسلم من باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت (1630) عن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال:" نعم "، والأدلة في ذلك كثيرة ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الثاني: مشروعية اجتماع الرجال أو النسوة عند أهل الميت، إذا لم يكن هنالك نياحة :

المطلب الأول: تواتر الأدلة بمطلق الاجتماع عند أهل الميت أيام الدفن والحداد الثلاثة:

سبقت كثير من الأدلة على مشروعية اجتماع الرجال أو النسوة عند أهل الميت لغير النياحة وغيرها من المحاذير كالاختلاط والغيبة، إذ لا بد لكل جنازة من اجتماع عندها، حتى يحضروا دفنها ويُعزوا أهلها ويتدبّروا أمرها، وفي ذلك أدلة :

الدليل الأول: مر حديث أسماء قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دَبَغتُ أربعين منيئة، وعَجنتُ عجيني وغسلت بَنِيّ، ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم، قالت: فقمت أصيح واجتمع إلي النساء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال:" لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ".  

الدليل الثاني: وفيه مشروعية الجلوس للتعزية :

 قال البخاري :" بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاثَةً عَلَى الْجِنَازَة"، ثم خرج (1317) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث»

 ذكر ابن بطال وابن الملقن وابن حجر وغيرهم في شروحهم له، عن الطبرى قال: ينبغي لأهل الميت إذا لم يُخش عليه التغير أن ينتظروا اجتماع قومٍ تقوم منهم ثلاث صفوف للخبر"، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ : لاَ بَأْسَ بِهِ لأِهْل الْمَيِّتِ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَأْتُونَهُمْ وَيُعَزُّونَهُمْ"،

واستدل بعض الحنفية والمالكية على هذا الجلوس للتعزية بما قاله البخاري :" باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن"، ثم خرج عن عائشة 1299 قالت:"لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب، فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن، فذهب ثم أتاه الثانية لم يطعنه فقال: «انههن» فأتاه الثالثة، قال: والله لقد غلبننا يا رسول الله، فزعمت أنه قال: «فاحث في أفواههن التراب» فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء ..."،

الدليل الثالث : مضى ما خرجاه في الصحيح (خ: 5417 ، م: 2216) من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت: كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن".

الدليل الرابع : ما مر من حديث رجل من الأنصار قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر:" أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه " فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا..."، وفيه مشروعية الاجتماع على الطعام بعد الجنازة إذا تطوع أي شخص بصنيعة الطعام للناس والحضور .

الدليل الخامس : ما مر عن الأحنف بن قيس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول إن قريشا رؤوس الناس لا يدخل أحد منهم في باب إلا دخل معه فيه [طائفة من الناس]، فلم أدر ما تأويل قوله في ذا حتى طعن، فلما احتضر أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأمره أن يجعل للناس طعاما فيطعموا، حتى يستخلفوا إنسانا. فلما رجعوا من الجنازة جيء بالطعام ووضعت الموائد فأمسك الناس عنها للحزن الذي هم فيه، فقال العباس بن عبد المطلب: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد مات فأكلنا بعده وشربنا، ومات أبو بكر فأكلنا بعده وشربنا. قال عفان وسليمان: وإنه لا بد من الأجل فكلوا من هذا الطعام. ثم مد العباس يده فأكل، ومد الناس أيديهم فأكلوا، فعرفت قول عمر إنهم رؤوس الناس ".

الدليل السادس : خرج الطحاوي في معانيه (4/292) عن ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَتْ أُمُّ أَبَانَ بِنْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حَضَرْتُ مَعَ النَّاسِ, فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاس فَبَكَى النِّسَاء فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَلَا تَنْهَى هَؤُلَاءِ عَنِ الْبُكَاءِ ؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ... "، ومن هذا الوجه خرجاه في الصحيح .

الدليل السابع: خرجه الطبراني (24/306) عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه سيرين قالت: "حضرت موت إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت كلما صحت وأختي وصاح النساء لا ينهانا، فلما مات نهانا عن الصياح، وحمله إلى شفير القبر والعباس إلى جنبه، ونزل في قبره الفضل بن عباس وأسامة بن زيد وأنا أبكي عند قبره وكسفت الشمس فقال الناس: هذا لموته، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إنها لا تكسف لموت أحد ولا لحياته...".

وهذه أدلة صريحة في جواز اجتماع الناس حتى النساء إذا لم يكن هنالك ندب ونياحة ولقلقة، يؤكد ذلك :

الدليل الثامن: قال البخاري في الصحيح بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ"، وَالنَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ،

وهذا الخبر خرجه البيهقي في الكبرى (4/118) عن سعدان بن نصر – في جزئه-، وأبو بكر 11460 في مصنفه قالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ:" لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَنْ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لِعُمَرَ أَرْسِلْ إلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ لاَ يَبْلُغُك عَنْهُنَّ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ ، قَال: فَقَالَ عُمَر: وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ"،

ورواه محمد بن سعد ثنا وكيع وأبو معاوية وعبد الله بن نمير قالوا: حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره، فأرسل إليهن فانههن، فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعا أو لقلقة ".

ورواه عبد الرزاق 6685 - عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال لعمر: إن نسوة من بني المغيرة، قد اجتمعن في دار خالد بن الوليد يبكين عليه، وإنا نكره أن نؤذيك فلو نهيتهن، فقال: «ما عليهن أن يهرقن من دموعهن على أبي سليمان سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع، أو لقلقة»، يعني الصراخ".

ورواه شعبة عن الأعمش: سمعت أبا وائل يقول: لما توفي خالد بن الوليد رضي الله عنه بكاه نساء من نساء بني المغيرة ...، فذكره ,

وقال ابو عبيد  (4/ 172) حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمر أنه قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد فقال: وما على نساء بنى المغيرة أن يسفكن من دموعهن على ابى سليمان مالم يكن نقع ولا لقلقة"، قال الكسائى: النقع صنعه الطعام للمآتم، وأنكر ذلك أبو عبيد وقال: إنما النقيعة صنعة الطعام عند قدوم القادم، وانما المراد منه هنا رفع العلم، ومنه قول لبيد: فمتى ينقع صراخ صادق . يجلبوها ذات جرس وزجل

قال: وقال بعضهم: المراد به ههنا وضع التراب على الرأس، وضعّفه، وقيل: شق الجيوب وأنكره، قال: وأما اللقلقة فشدة الصوت لم أسمع فيه اختلافا "، وقال يونس النحوي: النقع مد الصوت بالنحيب واللقلقة حركة اللسان نحو الولولة "، وللأثر طرق أخرى :

وقد استفاد عمر هذه السنة من رسول الله عليه السلام بعد أن هداه إليها كما في:

الدليل التاسع: خرجه أحمد (1/335) والطيالسي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: لما توفي عثمان بن مظعون قالت امرأته: هنيئا لك يا ابن مظعون الجنة، قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نظرة غضبان، قالت: يا رسول الله ، فارسك وصاحبك، قال:« ما أدري ما يفعل به » فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يعد من خيارهم، حتى توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون» قال: وبكت النساء على رقية ، فجعل عمر ينهاهن أو يضربهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« مه يا عمر» قال: ثم قال: « إياكن ونعيق الشيطان؛ فإنه مهما يكون من العين والقلب فمن الرحمة، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان» قال: وجعلت فاطمة رحمها الله تبكي على شفير قبر رقية ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع عن وجهها باليد، أو قال : بالثوب"، وهذا حديث حسن لما مضى من توثيق لعلي بن زيد من رواية حماد:

دليل عاشر : قال الطبراني في الأوسط (7/28) 6753 - حدثنا محمد بن أبي زرعة ثنا هشام بن عمار نا خالد بن يزيد القسري ثنا أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت يا رسول الله إن نساء بني المغيرة قد أقمن مأتمهن على الوليد بن الوليد بن المغيرة فأذن لها فقامت وهي تقول ... أبكي الوليد بن الوليد بن المغيرة ... أبكي الوليد بن الوليد أخا العشيرة ".

الدليل الحادي عشر : في قصة موت أبي بن كعب رضي الله عنه الصحيحة المشهورة والتي فيها اجتماع  العدد الكبير بسبب ذلك، قال جندب:" فلما كان يوم الخميس [أو الجمعة] خرجت لبعض حاجاتي فإذا السكك غاصة من الناس لا آخذ في سكة إلا تلقاني الناس، قلت ما شأن الناس قالوا نحسبك غريبا، قلت: أجل، قالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب"، وقد خرجته بطرقه في كتابي " اللمعة في استحباب التحلق والتدريس يوم الجمعة ".

الدليل الثاني عشر : قال ابن سعد في الطبقات (3/18) أخبرنا عثمان بن عمر وعبيد الله بن موسى وروح بن عبادة قالوا: أخبرنا أسامة بن زيد عن نافع عن بن عمر قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد سمع نساء بني عبد الأشهل يبكين على هلكاهن، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، قال: فاجتمع نساء الأنصار عنده فبكين على حمزة ورقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ وهن يبكين فقال: يا ويحهن إنهن هاهنا حتى الآن، مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم "، وقد فُسر سبب النهي عن البكتاء وهو إزعاج النائمين :

قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري: أخبرنا محمد بن عمرو: نا محمد بن إبراهيم قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد، وبنو عبد الأشهل نساؤهم يبكين على قتلاهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لكن حمزة لا بواكي له. فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فساق نساءه حتى جاء بهن إلى باب المسجد يبكين على حمزة. قالت: عائشة: فخرجنا إليهن نبكي معهن، فنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونحن نبكي ثم استيقظ فصلى صلاة العشاء الآخرة، ثم نام ونحن نبكي، ثم استيقظ فسمع الصوت فقال: ألا أراهن ها هنا إلى الآن؟ قولوا لهن فليرجعن، ثم دعا لهن ولأزواجهن ولأولادهن، ثم أصبح فنهى عن البكاء كأشد ما نهى عن شيء".

الدليل الثالث عشر: قال ابن سعد (3/209) أخبرنا محمد بن عمر: أخبرنا مالك بن أبي الرجال عن أبيه عن عائشة قالت: توفي أبو بكر بين المغرب والعشاء فأصبحنا فاجتمع نساء المهاجرين والأنصار وأقاموا النوح، وأبو بكر يغسل ويكفن، فأمر عمر بن الخطاب بالنوَّح ففُرّقن، فوالله على ذلك إن كن ليُفرّقن ويجتمعن "، مالك هذا قال فيه أبو حاتم الرازي : هو أحسن حالاً من أخويه حارثة، وعبد الرحمن، وقد قال في أخيه عبد الرحمن: صالح، وهذا أصلح منه، ووثقه أيضا ابن حبان، وأبوه ثقة .  

فإذا كان اجتماع بعد اجتماع بلا نياحة فهو أمر مشروع اتفاقا .  

المطلب الثاني: مشروعية رجوع المشيعين من الجنازة إلى بيت أهل الميت أو غيره إن هم دفنوه وانصرفوا:

مضت أدلة الطعام بعد الرجوع من الجنازة، فإنها صورة من صور الاجتماع عند أهل الميت، طيلة أيام الحداد الثلاثة:

الدليل الأول: ما مضى منْ حديث رجل من الأنصار قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر :" أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه " فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا.."، ويشهد لهذا المعنى ما في:

دليل أو الدليل الثاني: خرجه أبو داود 3123 حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب ثنا المفضل عن ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ميتا، فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه فلما حاذى بابه وقف، فإذا نحن بامرأة مقبلة قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت: أتيت يا رسول الله أهْل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلعلك بلغت معهم الكدى ؟ قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال: "لو بلغت معهم الكدى " فذكر تشديدا في ذلك"، والكدي هي المقابر،

وقد بين هذا التشديد نافع بن يزيد :

فخرج الحاكم ومن طريقه البيهقي في سننه (4/60) قال: نا أبو عبد الله الحافظ انبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ثنا أبو اسمعيل ثنا سعيد بن أبي مريم انبأ نافع بن يزيد ني ربيعة بن سيف ثني أبو عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:" قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، فلما رجعنا وحاذينا بابه إذا هو بامرأة مقبلة لا نظنه عرفها، فقال:" ..... لو بلغت معهم الكدي ما رأيت باب الجنة حتى يراها جد أبيك"،

قد روى غير واحد هذا الحديث عن ربيعة بن سيف عن أبي عبد الرحمن الحبلي، واسمه عبد الله بن يزيد ثقة، وأما ربيعة فهو صدوق له مناكير، ومنزلة حديثه في مرتبة الحسن ما لم يكن حديثه منكرا أومستغربا، وقد صححه الحاكم وابن حبان، وحسنه ابن القطان والمنذري والبوصيري في الإتحاف، وضعفه آخرون بربيعة ، لكنه قد توبع:

فقد قال ابن عبد الهادي في المحرر:" وَقد تَابع ربيعَةَ عَلَيْه شُرَحْبِيلُ بنُ شريك وَهُوَ من رجال مُسلم"، والله أعلم بمكان المنابعة ودرجتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   

المبحث الثالث: ذكر خبر جرير في النهي عن التجمع وصنيعة الطعام، وبيان وجهه وعلله:

المطلب الأول: أدلة النهي عن الاجتماع والإطعام وبيان عللها:

هذا وقد عارض تلكم الأحاديث السابقة والكثيرة في مشروعية الاجتماع عند أهل الميت، واستحباب الإطعام عنه من ماله أو من طرف أهله أو آله أو غيرهم كما سبق .

عارض كل هذه الأحاديث خبرٌ واحد فقط، وهو أثر ضعيف موقوف، يُروى عن جرير رضي الله عنه، مع اختلاف الرواة عليه فيه، فمرة يُنسَبُ الفعل للصحابة، وتارة يُنسب النهي لفتوى جرير وحده، وتارة ينسب النهي لفنوى عمر، وأن جريرا وأصحابه يفعلون ذلك، ومرة فيه النهي عن الإطعام، وأخرى فيه النهي عن النعداد فقط لا الإطعام، بالإضافة إلى اختلافات وعلل أخرى في ستده هذا بيانها :

الأثر الأول : أثر جرير : مداره على إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير واختلف عنه :

أولا : رواية هشيم عن جرير: وهي موضوعة، لأنها مدلسة عن الكذابين ولا أصل لها من حديث الثقات :

1. فقال ابن ماجة 1612 حدثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد بن منصور ثنا هشيم ح وحدثنا شجاع بن مخلد أبو الفضل ثنا هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال :" كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة"،.

هكذا رواه سعيد وأبو الفضل عن هشيم، وجعله ابن منيع بلفظ: "كانوا ".

. فقال الطبراني (ك 2/307): حدثنا عبدان بن أحمد ثنا أحمد بن منيع ثنا هشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير قال: كانوا يرون أن اجتماع أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة

وهذا إخبار عن الصحابة أو عن بعضهم في أنهم كانوا يرون عموم صنعة الطعام مكروهة مطلقا أيا كان صانع ذلك ، أهم أهل الميت أو أقاربه أو جيرانه أو غيرهم، قبل أو بعد الدفن، وهذا يُخالف كل الأحاديث السابقة، لأن كل ما صح عن الصحابة على خلاف حديث جرير كما مضى،

وقد صححه جماعة من المتأخرين وهو وهْم شديد تتابعوا عليه .

فقد تفرد بهذا اللفظ هشيم عن اسماعيل، وهشيم يدلس عن المجاهيل والمتهمين، ولم يُصرح بالتحديث ههنا، ولا أراه إلا أخذه عن الكذابين ، ولا أصل له من سنن الأصحاب أبدا، بل هو موضوع عنهم، والدليل على تدليس هشيم وعدم سماعه له من اسماعيل، وإنما رواه عنه بواسطة الضعفاء أو المتهمين :

2. فقد رواه خالد بن القاسم المدائني وفيه كلام عن هشيم [عن شريك] عن اسماعيل كما قال الدارقطني،

ولذلك أنكر العلماء سماعه له من اسماعيل، وقال أحمد وأبو داود: زعموا أنه سمعه من شريك .

وهذا يدل على أنه أخذه عن شريك، وشريك سيء الحفظ فقط لا متهم ؟

لكنه مدلس أيضا، ولم يسمعه من اسماعيل بل بينهما واسطة متهمة، فدلسه عن وضاع، والحديث لا أصل له .

كما قال أبو داود في كما في مسائل الإمام أحمد (1867)": ذكرت لأحمد حديث هشيم عن إسماعيل ..., قال: " زعموا أنه سمعه من شريك، قال أحمد: وما أرى لهذا الحديث أصلا "،

فتأمل قوله :" ..ليس لهذا الحديث أصل"، أي لا أصل لذاته بكل طرقه لوهائها ، ولم يقل " هذا طريق لا أصل له"، ولا يقال عن حديث :" لا أصل له "، إلا إذا كان مرجعه إلى رواية المتهمين ، وهذا المتهم الذي أُخِذ عنه هذا الحديث هو نصر بن باب ، والحديث يرجع إليه، فيكون هشيم رواه عن شريك عن نصر بن باب عن اسماعيل :

. فقد رواه نصر عن اسماعيل ، لكن زاد فيه تقييد الكراهة بما بعد الدفن فقط لا قبله :

3. فقال أحمد في مسنده (2/204) ثنا نصر بن باب عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعه الطعام بعد دفنه من النياحة "،

ونصر هذا متهم بالكذب عند الجمهور، إلا عند الإمام أحمد وحده ومن قلّده، فإنه قد رضي به، ومع ذلك، وعلى الرغم من رواية أحمد لهذه المتابعة عن نصر فهو لم يعتد بها، بل قال الإمام أحمد نفسه عن هذا الحديث " لا أصل له "، ولذلك لم يذكره في مسند جرير أصلا ، بل ذكره في مسند عبد الله تبعًا ، وقد خالف من هو أوثق منه .

4. فقد رواه عباد بن العوام وهو ثقة عن اسماعيل بلفظ السؤال والنهي عن التعداد فقط ، ولم يذكر فيه النهي عن الإطعام، وهو الأصح لثقة كل رجاله مع اتصاله:

فقال الطبراني (2/207) 2278 حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني ثنا سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: قال جرير بن عبد الله: يعددون الميت أو قال أهل الميت بعدما يدفن؟ شك إسماعيل، قلت: نعم، قال: كنا نعدها النياحة "،

وهذا أصح حديث في الباب عن جرير،، ولا ذكر فيه للطعام ولا للاجتماع أصلا وهو الصحيح .

والمقصود بالتعداد المنهي عنه هو المبالغة في تعداد مآثر الميت، ربما حتى بما ليس فيه، وقد يدخل فيه عدّ الأيام أيضا من منذ لحظة الوفاة، ثم لهم في كل يوم عادة معينة يفعلونها حتى تنقضي الأربعون يوما .. فهذا هو الذي أنكره جرير وصح عنه، لا أنه أنكر الاجتماع والإطعام المتواتر.

وقد ورد هذا الخبر عن جرير بألفاظ أخرى:

الطريق الثاني : وقد ورد هذا الأثر عن جرير وعمر وأن جريرا كان يطعم ويجتمع وأن عمرا وحده هو الناهي مما يزيد من اضطرابه : وقد سبق ذكره .

1. فقد رواه سعيد بن منصور في سننه ولم أجد إسناده، وجعل فيه جريرا سأل عمر بن الخطاب عن هذا الفعل، ولفظ حديثه: أن جريرا وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هل يناح على ميتكم ؟ قال: لا، قال: فهل تتجمعون عند أهل الميت وتجعلون الطعام؟ قال: نعم، قال: ذاك النوح"، فدل هذا الخبر على اجتماع القوم وصنيعتهم للطعام ومعهم جرير، وأن عمر وحده هو من أنكر ذلك، وهذا الحديث يرجع إلى هذا التالي ولا يصح أيضا :

2. فقد قال أبو بكر في المصنف باب ما قالوا في الإطعام عليه والنياحة، حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة قال: قدم جرير على عمر فقال: هل يناح قبلكم على الميت؟ قال لا، قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت ويطعم الطعام؟ قال نعم، فقال: تلك النياحة "،

وليس فيه ما يدعي المخالفون من أن جريرا وأصحابه قد رجعوا عن قولهم، أو قالوا لعمر : أصبت، إذ لا يوجد ذلك في الخبر أصلا ، كما أن الصحيح عن عمر الفاروق أنه قد أوصى حتى عند موته بصنعة الطعام عنه، وفُعل ذلك به بحضرة جميع الصحابة بلا إنكار كما مضى، مما بدل على أنه خبر منكر،

ثم هو منقطع بل هو معضلٌ، إذ بيْن طلحة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمد بعيد ـ ثم هو مضطرب المتن لما بيناه، وليس له مرَدّ إلا أنه مأخوذ عن الكذابين المضطربين ولذلك قال الإمام أحمد : لا أصل له :

3. قال أسلم في تاريخه (126) ثنا عبد الحميد: نا يزيد بن هارون نا عمر أبو حفص الصيرفي وكان ثقة قال: ثنا سيار أبو الحكم قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" كنا نعدّ الاجتماع عند أهل الميت بعد ما يدفن من النياحة "،

ولم يذكر النهي عن الإطعام، وهذا أكثر إعضالا من سابقه، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة الكثيرة الناهية عن النياحة والصياح فقط ، المبيحة للإطعام والاجتماع، حتى عن عمر نفسه كما بينا .

دليل ثاني لا عبرة به: حدث به السلفي عن الصيدلاني نا عثمان بن عبد الرحمن بن يوسف الرقي نا عباد بن كثير عن شيبان الأعرج عن الحسن بن أبي الحسن حدثني أبو هريرة وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن يسار المزني كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «نهى أن يقعد الرجل في بيته للمصيبة ثم يؤتى فيعزا, ونهى عن الولولة على الميت, ونهى عن إطعام الناس على الميت , ونهى عن إصابة الطعام على الميت , ونهى عن إيصال الطعام إلى أهل الميت »، فيه عثمان لم أعرفه،

وعباد هو المتهم بوضع حديث المنهيات هذا ولا عبرة به، لأن إيصال الطعام لأهل الميت متفق على استحبابه كما مر والله المستعان .

أثر ثالث: خرج عبد الرزاق (3/550) عن معمر عن ليث عن سعيد بن جبير قال :" ثلاث من عمل الجاهلية: النياحة والطعام على الميت، وبيتوتة المرأة عند أهل الميت ليست منهم"، ليث لين، وقد تابعه فضالة وهو ضعيف، عن عبد الكريم وهو مثله، عن ابن جبير به وهو من التابعين، فلا يعارض به حتى لو صح الأدلة المرفوعة والموقوفة.

أو هو محمول على الاجتماع المذموم من اجتماع النسوة مع بيتوتهن عند أهل الميت، لأنه يكثر منهن الندب والصياح وإظهار الحزن والغيبة ، فإن ذلك هو النياحة التي نهى عنها جرير، والله أعلم .

المطلب الثاني: ذكر المسالك بين الأحاديث الصحيحة المبيحة للإطعام والاجتماع، وحديث جرير المضطرب:

لا يخلو ذلك إما أن نسلك مسلك الترجيح أو مسلك الجمع :

المسألة الأولى : مسلك الترجيح :

بحيث نقدم وجوبا أحاديث الجواز الصحيحة والكثيرة، مع أثر طاوس في استحباب الإطعام والاجتماع لعدة أمور :

أنها أصح سندا وأوضح دلالة، وأكثر عددا وأوثق رجالا، مع وجود الاتصال، وعدم الاختلاف فيها، لأنَّ كلَّ الأحاديث الكثيرة تؤيد أثر طاوس في استحباب الإطعام عن الميت كما مضى، بالإضافة إلى الشواهد الكثيرة جدا في هذا الباب، العامة والخاصة، كلها تؤيد ذلك، بخلاف حديث جرير، فإنه واحد، منكر ومضطرب، مع الاختلاف فيه :

. فأما الطريق الأولى ففيها هشيم وهو مدلس ولم يسمعه من اسماعيل، بل روايته ترجع إلى رواية شريك وفيه لين وتدليس، أو ترجع إلى نصر بن باب وهو متهم، وقد زاد التقييد بما بعد الدفن فقط، وأما الطريق الثالثة وما بعدها فهي معضلة ضعيفة، ولا يبعد أن ترجع برمّتها إلى طريق نصر هذا، ومع ذلك فقد اختلفوا في الألفاظ، ومَن هو الشخص المانع من الاجتماع، فروى بعضهم المنع من فتوى جرير وحده، وقال آخرون هو عُمر، وجعله آخرون عن الصحابة أو بعضهم، وجعل بعضهم الحوار مع قيس، وجعله آخرون مع عمر بن الخطاب وأنه هو الناهي وجرير وأصحابه هم الفاعلون والمبيحون، وغير ذلك من العلل التي توجب رد هذا الحديث، كيف وقد خالف الأحاديث الكثيرة في استحباب الاجتماع والإطعام كما مضى .

ولم يسلم من العلة إلا طريق عباد بن العوام عن اسماعيل، وهي الرواية الصحيحة والمتصلة، لكن ليس فيها ذكرٌ للنهي عن الإطعام ولا الاجتماع أصلا، وإنما أفتى فيها جرير بكراهة تعداد مآثر الميت فقط ، ولا يحل ترك رواية الثقات المتوافقة مع روايات الثقات الآخرين، والتمسك برواية عن متهم أو مجهول وبالله التوفيق .

المسألة الثانية : مسلك الجمع :

وذلك بناء على افتراض صحة اللفظ السابق _ ولم يصح _ فنقول:

1/ إن الاجتماع وصنيعة الطعام المنهي عنهما هما ما وافق مجالس النياحة والصياح والغيبة، أو ما زاد على زمن أيام الحداد الثلاثة، والجواز إذا لم يكن هنالك نياحة كما مضى من قول البخاري، وللأحاديث الصريحة في ذلك،

وهذا قول المالكية كما قال أشهب: وسئل مالك عن أهل الميت هل يبعث إليهم بالطعام ؟ فقال إني أكره المناحة، فإن كان هذا ليس منها فليبعث"،

قال ابن رشد كما في البيان والتحصيل: وهذا كما قال، لأن إرسال الطعام إلى أهل الميت لاشتغالهم بميتهم إذا لم يكونوا اجتمعوا لمناحة من الفعل الحسن المرغب فيه المندوب إليه ".

وفي الفواكه الدواني (1 / 332) قال:" وأما ما يصنعه أقارب الميت من الطعام وجمع الناس عليه فإن كان لقراءة قرآن ونحوها مما يرجى خيره للميت فلا بأس به، وأما لغير ذلك فيكره، ولا ينبغي لأحد الأكل منه إلا أن يكون الذي صنعه من الورثة بالغا رشيدا فلا حرج في الأكل منه، وأما لو كان الميت أوصى بفعله عند موته فإنه يكون في ثلثه ويجب تنفيذه عملا بفرضه".

2/ أو يُقال بأن الاجتماع المذموم محمول على اجتماع النسوة مع بيتوتهن عند أهل الميت ، لأنه يكثر منهن الندب والصياح وإظهار الحزن والغيبة ، فإن ذلك هو النياحة التي نهى عنها جرير، والله أعلم .

خرج عبد الرزاق (3/550) عن معمر عن ليث عن سعيد بن جبير قال :" ثلاث من عمل الجاهلية: النياحة والطعام على الميت، وبيتوتة المرأة عند أهل الميت ليست منهم"، ليث لين، وقد تابعه فضالة وهو ضعيف، عن عبد الكريم وهو مثله، عن ابن جبير به .

وقال عبد الرزاق: ذكره الثوري عن هلال بن خباب عن أبي البختري .

3/ أو يُحمَل النهي عن الإطعام على العقر: وهو الذبح والإطعام عند القبر أو في المقبرة، أو حمل الطعام إليها، مع تخصيص التعداد في ذلك كما في رواية جرير الصحيحة، فإن هذا هو المنهيّ عنه، لما روى عبد الرزاق  أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عقر في الإسلام»، قال: «كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة »، وبوب عليه أبو داود :" باب كراهية الذبح عند القبر".

قال في البزازية: يكره اتخاذ الطعام في اليوم الأول والثالث وبعد الأسبوع، ونقل الطعام إلى المقبرة في المواسم واتخاذ الدعوة بقراءة القرآن وجمع الصلحاء والقراء للختم أو لقراءة سورة الأنعام أو الإخلاص"،

ومع ذلك فقد تعقبه البرهان الحلبي فقال:" ولا يخلو عن نظر لأنه لا دليل على الكراهة إلا حديث جرير المتقدم، وهو ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة اهـ يعني وهو فعل الجاهلية"، وقد تقدم أنه متكر مدلس عن الكذابين، وًلا أصل له .

وأن الصواب فيه هو لفظ النهي عن التعداد للمآثر فقظ كما أسلفنا .

4/ وقد يقال بأن الاجتماع المذموم هو الذي يَسْتَدِيم فيه الْمُعَزِّي الْجُلُوسَ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى الحاجة فيحرجهم بذلك، وهو قول للحنابلة، يعضده قوله تعالى :{ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }[الأحزاب 53].

5/ وقد يحمله بعضهم على ما لو كانت صنعة الطعام من تركة الصغير، ففي استحسان الخانية:" وإن اتخذ ولي الميت طعاما للفقراء كان حسنا إلا أن يكون في الورثة صغير فلا يتخذ ذلك من التركة". ا هـ

6/ وقيل أن خبر جرير محمول على صنعة الطعام رياءا وسمعة ومفاخرة، أو تبذير ومغالاة ، أو على ما لو وصى الميت بالإطعام عنه بما زاد عن الثلث، فإن الوصية بأكثر من ذلك  منهي عنها، وأما الوصية بالإطعام بما دون الثلث وبما لا فخر أو مغالاة فيه ولا تبذير، فأمرٌ لا بأس بذلك كما مر وبالله التوفيق .

7/ أو يُحمل على الاجتماع للتعزية في المسجد وقال أبو داود في مسائله : قلت لأحمد: أولياء الميت يقعدون في المسجد يعزون؟ قال أما أنا فلا يعجبني أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت ".

8/ وقد يُقال بتقييد حديث جرير بالنهي عن صنعة الطعام بعد دفن الميت والجواز على ما قبل ذلك، كما مضى في رواية نصر بن باب لكنها لم تصح .

9/ وقيل بكراهة الاجتماع إذا اتخذ أهل الميت فسطاطا عند القبر وخالفوا وصية الميت، لما خرجه الحاكم (3/651) عن عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال لي أبي: «إني كبرت وذهب أصحابي وجماعتي فخذ بيدي»، قال: فاتكأ علي حتى جاء إلى أقصى البقيع مكانا لا يدفن فيه، فقال: «يا بني، إذا أنا مت فادفني ها هنا، ولا تضرب علي فسطاطا، ولا تمش معي بنار، ولا تبكين علي نائحة، ولا تؤذن بي أحدا، واسلك بي زقاق عمقة، وليكن مشيك خببا» فهلك يوم الجمعة فكرهت أن أؤذن الناس لما كان نهاني فيأتوني فيقولون: متى تخرجوه؟ فأقول: إذا فرغت من جهازه أخرجه، قال: فامتلأ على البقيع الناس ".

وخرج أحمد (2/292) عن المقبري عن عبد الرحمن بن مهران أن أبا هريرة قال حين حضره الموت: لا تضربوا علي فسطاطا، ولا تتبعوني بمجمر، وأسرعوا بي ..".

ورواه عبد الرزاق 6154 - عن معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري قال: «أوصى أبو هريرة أهله أن لا يضربوا على قبره فسطاطا، ولا يتبعوه بمجمر، وأن يسرعوا به».

والصواب جواز اتخاذه إذا اتخذ للحماية من الحر أو القر ، لما روى ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن عاصم اخبرنى أبو معشر عن محمد بن المنكدر قال: مر عمر بن الخطاب بحفارين يحفرون قبر زينب بنت جحش رضى الله عنها فى يوم صائف فضرب عليهم فسطاطا فكان أول فسطاط ضرب على قبر

وخرجه الحاكم (4/25) عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: «أوصت زينب بنت جحش، أن تحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعل عليه نعش» وقيل حمل عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه " ومر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه على حفارين يحفرون قبر زينب في يوم صائف فقال: «لو أني ضربت عليهم فسطاطا» وكان أول فسطاط ضرب على قبر بالبقيع "، وخرجه عبد الرزاق عن يزيد نحوه.

وروى أبو بكر (3/24) عن أبي معشر عن محمد بن المنكدر أن عمر ضرب على قبر زينب فسطاطا».

وروى عمران بن أبي عطاء قال:" شهدت محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس بالطائف فكبر عليه أربعا وأخذه من قبل القبلة حين أدخله القبر وضرب عليه فسطاطا ثلاثة أيام ".

وإنما يكره الفسطاط إذا اعتقد الناس أنه يظل صاحب القبر أو ينفعه لما قاله البخاري في الصحيح :" باب الجريد على القبر" :" ورأى ابن عمر رضي الله عنهما، فسطاطا على قبر عبد الرحمن، فقال: «انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله ».

10/ وذهب بعضهم إلى كراهة الاجتماع والإطعام مطلقا، وصنيع الشافعي على كراهة ذلك بعد الدفن لأنه قال في الأم :" وأكره المأتم وهى الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الاثر "، وبالغ بعضهم فمال إلى تحريم ذلك وتبديعه مطلقا كما هو ظاهرٌ في صنيع القرطبي في التذكرة (336) استدلالا بعموم حديث جرير . 

وقد تقدم أنه حديث مضطرب ومنقطع مدلس عن المتهمين ، ولا أصل له من حديث الثقات كما قال الإمام أحمد وأشار لذلك الدارقطني وبالله التوفيق، وهو منكر المتن لمخالفته الكثير من الأحاديث المبيحة لذلك  وبالله التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                     

                             الخاتمة  :

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتكمل الطاعات، وبعد :

فأحمد الله جل في علاه على منّه وكرمه، وتيسيره لي جمع هذا المبحث المتواضع، المتعلق بمسألة الإطعام والاجتماع عند أهل الميت، والذي بينت فيه بدلائله مشروعية هذا الاجتماع مع إعداد الطعام سواء أكان هذا الإعداد من طرف جيران الميت أو أقربائه وعصبته المقربين، اتجاه أهل الميت ، أو كان هذا الإعداد من طرف أهل الميت أنفسهم، اتجاه أقاربهم وأهليهم وخاصتهم ، أو لعموم الناس، ويمتد ذلك من موت الميت إلى ما بعد دفنه حتى سبعة أيام، وهي مدة الافتتان، كما ذكرت الأدلة على مشروعية وصية الميت بأن يُتصدق عنه أو يُطعم ويُنحَر، ويُقضى نذره في ذلك .

ثم ذكرتُ خبر جرير المعارض لكل أحاديث الإباحة، وبينت نكارته وعِلله ومخالفته لما هو أصح منه وأكثر عددا وأوثق رجالا، ثم ختمت البحث بذكر مسالك أهل العلم وطريقة توجيههم لحديث جرير، وكيفية الجمع بينه وبين غيره من أحاديث الإباحة الصحيحة والكثيرة، وبالله التوفيق , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

 

                       وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين                

                   

                            كتبه أبو عيسى الطاهر زياني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني