تغيير المجتمعات، هل يبدأ من تغيير الأنفس؟ أم الحكام ؟ كتابة: الطاهر زياني


                                    
                                          العنوان:
                   تغيير المجتمعات، هل يبدأ من تغيير الأنفس؟ أم الحكام ؟ 

                                كتابة: أبي عيسى الطاهر زياني
                               

                                      بسم الله وبعد: 
فهذا بحث مختصر في كيفية التغيير المذكور في الآية :{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 11]، فهل يبتدئ التغيير من الحكام أوّلاً أم بالأنفس ؟ وإذا كان بالحكام، فما هو نوع التغيير المذكور في الآية إذا ؟
وهذا ما سنجيب عليه بعون الله تعالى في هذا المبحث الذي قسمته على النحو التالي:
المطلب الأول: عرض القضية :
المطلب الثاني: عرض قولِ من قال بالبدإ في إصلاح المجتمعات، بالنفس أولا :
المطلب الثالث: أنواع التغيير :
المطلب الرابع : عرض أدلة وقول من قال بأن التغيير يبدأ بالأنفس :
المطلب الخامس: عرْض أدلة وقول من قال بأن التغيير من الشر والطلاح إلى الخير والصلاح إنما يبدأ بالحكام أولا، ثم الرعية تبعا:
المسألة الأولى: ذكر الأدلة على حَمْل آية التغيير على حالة التغيير من الحسن والنعمة إلى السوء والضيق، وليس العكس:  
المسألة الثانية : ذكر بقية الأدلة على أن التغيير من السيء إلى الصلاح يحتاج للملوك المصلحين، وأما العكس فبسبب تسلط المفسدين:





المطلب الأول: عرض القضية :
يستدل أصحاب منهج التصفية والتربية بأن تغيير حال المجتمعات من الأسوإ إلى الحسن، لا بد أن يبتدئ أولا بالتغيير الفردي للأنفس، وذلك بإصلاحها أولا، قبل التطرق إلى إصلاح الحكام وصَلاحهم، أو حُسن اختيارهم عن طريق الشورى أو الانتخابات ونحو ذلك، بل ويُنكرون على من تطرق لهذه المسألة ويصفونه بالخارجي، جنوحا منهم إلى عقيدة التبرير والدفاع ، كما هو حال الرافضة مع حكامهم وأئمتهم المعصومين، وكما هو الحال في عقيدة الكهنة نحو تقديس الامبراطور، وعقيدة السلفية العلمانية في قداسة ولاة الأمور ...
وهذا الإطلاقُ خطأ شائع منهم، مخالف للسنن وفهم السلف، وللتاريخ والواقع الذي يشهد بأن عامة الأمم والدول إنما تطورت وتغيرت من السوء إلى الحسن بواسطة المصلحين، من الأنبياء والمرسلين، والدعاة الصادقين، والحكام المصلحين .
المطلب الثاني: عرض قولِ من قال بالبدإ في إصلاح المجتمعات، بالنفس أولا :
حيث سنعرض الآن الآيةَ التي قد يستدل بها هؤلاء، ثم نعرضها على فهم السلف والواقع،
فقال الله تعالى :{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) } [الرعد]
وأنت إذا تأملتَ في السياق والسباق للآية، فيمكن لك أن تطرح التساءلات التالية:
هل صحيح أن مطلق التغيير، سواء أكان للأفراد أو المجتمعات، وسواءٌ أكان التغيير من الفساد والبلاء إلى الصلاح والخير، أو العكس: بأن يتم التغيير من الصلاح إلى الفساد ؟
فهل كل ذلك إنما يبتدئُ بالتغيير الفردي النفسي أوّلا؟ ليتبَعَه التغيير الاجتماعي والسياسي ثانيا ولا بد؟
تفسير ذلك عندهم: بأن يتأدب أفراد الشعب أوّلا، فإذا صلحوا ولّى الله تعالى عليهم الصالحين ولا بد ...؟ 
أم إن التغيير إنما يحتاج أساسا وأولاً إلى مجيء المصلحين الصادقين، من الحكام الكَيّسين المخلصين، والعلماء الربانيين ...؟
فهُم من يُصلحون الرعية، بقوة السلطان مع قوة العلم؟ 
أم إن ذلك التغيير معادلة متكاملة تحتاج إلى تعاون الجميع ؟
وإذا كانت متكاملة، فمن هو الأصل الأول الذي إذا صلَح، صلُح معه المجتمع تبعا ؟ هل هم الأفراد أولا ؟ أم هم الحكام والأمراء ؟   
والجواب هو هذا الثاني بلا ريب، لأن الحاكم في البلد، بمنزلة القلب من الجسد، يَصْلح العامة بصلاحه، ويفسدون بطلاحه، مع عدم إلغاء معادلة إصلاح الأنفس والأفراد، فإن الحاكم هو المحرك والأساس المتين، والرعية هي المعين ...، ولذلك قال ذو القرنين الصالح لقومه :{ فأعينوني بقوة ...}، مقولةٌ أعاد مثلها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لما وُلّيا ...
وعليه: فتكون آية التغيير السابقة محمولة على حالة معينة في التغيير فقط كما سنبين :
المطلب الثالث: أنواع التغيير :
ذلك أن التغيير على نوعين:
أولاهما :التغيير من السوء والطلاح، إلى الخير والصلاح: تغييرٌ من الفسوق والانحلال والبلاء والضيق، إلى الطاعة والفضل والسعة والحكم الرشيد،
والثاني: العكس، وهو التغيير والانقلاب من الخير والصلاح إلى الشر والطلاح كما سيأتي:
فعلى أي أنواع التغيير تُحمل الآية ؟ والجواب في :   
المطلب الرابع : عرض أدلة وقول من قال بأن التغيير يبدأ بالأنفس :
1. وقد استدل هؤلاء بقول الله تعالى :{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) } [الرعد]، وقد فهموا منها عموم التغييريْن، من غير تأمل في سياقها ولا في تأويلها عند السلف.
2. كما استدلوا بما أخرجه ابن جميع الصيداوي (104) عن الكرماني بن عمرو ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كما تكونون يولى أو يؤمر عليكم»، المبارك ومن دونه ضعفاء، وفيه تدليس، ثم هو من قول الحسن.   
وخرجه البيهقي في شعبه (9/492) محمد بن عمرو القهندري نا يحيى بن هاشم نا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كما تكونوا كذلك يؤمر عليكم " قال :" هذا منقطع وراويه يحيى بن هاشم وهو ضعيف "،
بل يحيى متهم بالوضع والكذب، فلا يصلح حديثه في شيء.
3. واستدلوا بعموم أدلة تسليط الله الظالمين على الناس بسبب معاصيهم، وهي حجة عليهم، لأنها في حالة انقلاب الناس من الحسن إلى السيء، وقتئذٍ يعاقبهم الله بعقوبات شتى.
ومما يبطل تعليل كل شيء بتغيير النفس هو الواقع والتاريخ:
فجيل الصحابة والتابعين من الصالحين، هم أنفسهم من وُلي عليهم الخليفة علي، ثم معاوية، ثم وُلي على نفس الجيل يزيد بن معاوية والحجاج وغيره من الجبارين ...
ونفس الجيل الذي حضر سليمان بن عبد الملك حضرَ الخليفة عمر بن عبد العزيز لمدة سنتيْن ثم حضر من بعده من الملوك ...
ونفس الجيل الذي حضر هارون الرشيد حضر المأمون المعتزلي ... ثم حضر الصالح ... فالطالح، والأيام دول ...
ونفس الجيل الذي حضر جيل الروافض والمذلة، حضر صلاح الدين ... وبيبرس ... ومحمد الفاتح ... وهكذا عبر التاريخ مما يبين أن تغيير الأحوال متعلق بأحوال الملوك ...
المطلب الخامس: عرْض أدلة وقول من قال بأن التغيير من الشر والطلاح إلى الخير والصلاح إنما يبدأ بالحكام أولا، ثم الرعية تبعا:
المسألة الأولى: ذكر الأدلة على حَمْل آية التغيير السابقة على حالة التغيير من الحسن والنعمة إلى السوء والضيق، وليس العكس:  
1. قال الله تعالى :{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) } [الرعد].
حيث بيّن سياق الآية ولحاقها، أن الله تعالى يُغيّرُ أحوال عباده من الخير والحفظ والعطاء والنّعم والمراقبة، وإرسال الملائكة المعقبات الحافظات للعباد، إلى حال السوء والضيق والبلاء، بسبب عنادهم وعدم شكرانهم، وعلى هذا تحمل الآية الكريمة، بداية من تفسير القرآن بالقرآن إلى تفسيره بكلام السلف:       
2. أما عن تفسير القرآن بالقرآن فقد قال تعالى في آية أخرى: { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ . . . وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)}
ثم ضرب تعالى لذلك مثلا، فقال مباشرة :"
"كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}
فبين تعالى هنا بأن تغيير الأحوال من النعم والخير والصلاح إلى الفساد إنما يبدأ بتغيير الأنفس : 
3. أن سبب النزول يبين أن التغيير المقصود من الآية، إنما هو الانقلاب من الصلاح إلى الطلاح:
كما قال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل وأريد بن ربيعة:
قال ابن كثير في تفسيره :" وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة وهما عامريان يريدان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ... قتله، ... فأهلكهما الله وفيه:" وقال لهذين:
" إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ، من العافية والنعمة، حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، من الحال الجملية فيعصوا ربهم ".
4. أن تفسير السنة وكلام السلف يبين ذلك أيضا :
خرج ابن أبي حاتم عن جَهْم عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن مصداق ذلك في كتاب الله: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.
قال ابن كثير :" وقد ورد هذا في حديث مرفوع، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "صفة العرش": حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي حدثنا أبو حنيفة اليمامي الأنصاري، عن عمير بن عبد الله قال: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة، قال: كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني، وإذا سألته عن الخبر أنبأني، وإنه حدثني عن ربه، عز وجل، قال: "قال الرب: وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي".
قال :" وهذا غريب، وفي إسناده من لا أعرفه ".
لكن لمعنى هذا الحديث أدلة صحيحة وكثير جدا.
5. أن فهم السلف الطيب يبين المقصود من التغيير في الآية، وأنه الانقلاب من النعمة إلى السوء بسبب فساد العباد:  
فخرج البيهقي في الشعب (9/491) عن عمران بن حدير عن السميط قال: قال كعب الأحبار: " إن لكل زمان ملكا يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد هلكتهم بعث فيهم مترفيهم ".
وهذا عين ما قلناه، من أن التغيير من حالة الصلاح إلى الفساد فبسبب الأنفس والمفسدين، وأما التغيير من الفساد إلى الصلاح فبسبب المصلحين والحمد لله، وبه قال السلف الطيب أيضا:  
. سئل الأعمش عن قوله تعالى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) :" ما سمعتهم يقولون فيه ؟ قال: سمعتهم: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم "،
. وقال شيخ المفسرين الطبري في تفسيره :" ذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصيةٍ له وأهلَ ريبة، يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم، ومَنْعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله. ثم أخبر أنّ الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حَرَسهم، ولا يدفع عنهم حفظهم ".
وقال الطبري :" يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، وفعلنا ذلك بهم، بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم وبين أظهرهم، بإخراجهم إياه من بينهم، وتكذيبهم له، وحربهم إياه، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا ".
. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره :" يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْوَالٍ } [الرعد:11] ".
. قال الإمام الثعالبي :" ذكر سبحانه أنه لا يغيِّر هذه الحالة مِنَ الحفْظِ للعبدِ؛ حتَّى يغير العبد ما بنَفْسِهِ ".
وقال الثعالبي عن معاناها :" إِخبارٌ من اللَّه سبحانه ، إِذا أنعم على قومٍ نعمةً ، فإِنه بلُطْفه ورحمته لا يبدأُ بتغييرها وتنْكِيدها ، حتى يجيءَ ذلك منْهم؛ بأنْ يغيِّروا حالهم الَّتي تُرَادُ ، أو تَحْسُنُ منهم ، فإِذا فعلوا ذلك ، غيَّر اللَّه نعمته عنْدَهم بِنِقْمته منْهم ، ومثالُ هذه نِعْمَةُ اللَّه عَلَى قُرَيْشٍ بنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فكَفَروا به ، فغيَّر اللَّه تلك النعمة ، بأنْ نقلها إِلى غيرهم من الأنصار ، وأَحَلَّ بهم عقوبَتَهُ ".
وقال الطحاوي في مشكله (5/420) :" فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن الله عز وجل لا ينتزع من عباده فضلا تفضل به عليهم إلا بحادثة يحدثونها يستحقون بها ذلك منه , كما قال الله عز وجل: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160] الآية. وكما قال الله عز وجل: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الأنفال: 53]
وقال البغوي في تفسيره :" ... أراد أن اللّه تعالى لا يغيّر ما أنعم على قوم حتى يغيّروا هم ما بهم بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غيّر اللّه ما بهم، فسلبهم النعمة.
وقال السدي: نعمة اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلّم أنعم اللّه به على قريش وأهل مكة، فكذّبوه وكفروا به فنقله اللّه إلى الأنصار، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ".
. وقال القرطبي المالكي في الأحكام :" لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات "...
المسألة الثانية : ذكر بقية الأدلة على أن التغيير من السيء إلى الصلاح يحتاج للملوك المصلحين، وأما العكس فبسبب تسلط المفسدين والملوك الجبارين:
وفي هذا النوع المتمثل في التغيير من الشر إلى الحسن: فلا بد من تعاون الجميع على الإصلاح، بداية من الحكام المصلحين، والمصلحين الربانيين، اللذان هما السبب الرئيس للصلاح وحلول الخير، ودحر الشر، مع عمل الجميع على إصلاح ما يمكن أن يقدر على إصلاحه، للأدلة النقلية والواقعية والعقلية والتاريخية السابقة واللاحقة أيضا:
1/ خرج أبو نعيم والبيهقي في الشعب (9/491) عن عمران بن حدير عن السميط قال: قال كعب الأحبار: " إن لكل زمان ملكا يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد هلكتهم بعث فيهم مترفيهم ".
2. خرج الطبراني في الكبير (8/134) عن موسى بن عمير عن مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأئمة وادعوا لهم، فإن صلاحهم لكم صلاح»
موسى بن عمير هو أبو هارون القرشي الضعيف.
3. وقال ابن كثير في قوله تعالى: { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} وقوله :{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (6)،قال:" ولم يقولوا: نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم ".
4. وخرج الطبري عن سعيد عن قتادة، قوله:(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنَا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول: أكثرنا مترفيها: أى جبابرتها، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله(فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) وكان يقال: إذا أراد الله بقوم صلاحا، بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها ".
5. وخرج البخاري في الصحيح 3834 عن قيس قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس ... قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: «بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم»، قالت: وما الأئمة؟ قال: «أما كان لقومك رءوس وأشراف، يأمرونهم فيطيعونهم؟» قالت: بلى، قال: «فهم أولئك على الناس».  
6. ومن ذلك قول الحكماء:" الناس على دين ملوكهم ".
7. أن من طريقة الله تعالى بعد شيوع الفساد والمنكرات، وحلول الانحلال في المجتمعات، أنه يبعث المرسلين مبشرين ومنذرين ...
8. ثم بعد انقطاع الرسل كانت سنة الله الكونية: أن يُرسلَ المصلحين الصادقين، من حكام وعلماء مخلصين، ليُرجعوا الناس إلى الخير والنعمة والفضل الكريم .
9. بل إن الله تعالى قد وعد أمته بأن يُرسل عليهم على رأس كل قرن من يجدد لهم أمر دينهم حتى تقوم الساعة.
10. بل وعدهم أيضا بإرسال الخلفاء الراشدين، الهادين المهديين، إلى خروج الخليفة المهدي الأمين، الذي سيُوحد كلمة المسلمين، ويُرجعهم إلى تحكيم دين رب العالمين.
وفي كل مسألة مما ذكرتُ أدلة كثيرة تاريخية وشرعية لا يمكن إنكارها .
11. أن التاريخ والواقع قد بيَّنَا لنا أن الأمم المتخلفة التي تطورت: إنما تطورت بسبب حكامها الصادقين، ومصلحيها المخلصين، وفي ذلك نماذج تاريخية ومعاصرة كثيرة جدا.
12. أن الواقع يبين لنا أن الحاكم العادل إنما يأتي بالقوانين العادلة الموافقة للفطرة، والمفروضة بقوة العلم والسلطان معا، فإذا سادت العدالة والشورى ... سادت المحبة والتعاون على بناء الوطن ...
13. كما أن القانون العادل يمنع عصابة المفسدين من الإفساد والتعالي، بل ويحاسبهم ويعاقبهم على الإفساد، وهذا الردعُ من أكبر عوامل التطور.
14. كما أننا نلاحظ أصحاب منهج تربية الأنفس أولا، ما أقاموا دولة ولا وطنا، بل ورثوا أتباعهم التباغض والتفسيق وتبديع بعضهم بعضا، ومحاربة المصلحين، وليس يمكن لهم أن يبنوا دولة أصلا .
15. أن الواقع قد بيّن أن الأفراد ولوْ صلحوا أو أصلحواـ ثم واجههم حاكم مفسد، فسيتغلب عليهم بلا شك، وهو الذي سينشر ما يريد بلا ريب، لما يملك من قوة ونفوذ وإعلام ....
ولا يقال هنا:" كما تكونوا يولَّ عليكم"، فقد وُلّيَ الحجاج الطاغيةُ على أفضل الخلق من الصحابة والتابعين، امتحانا للمؤمنين ...
16. ومن ههنا نستنتج أن تفسير الآية السابقة محمول كما عند السلف على التغيير من حالة الصلاح إلى الطلاح لا العكس، وأن الناس تبع لملوكهم وبالله التوفيق.      


                    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني