المُوقد في مشروعية الاحتفال بالمولد ، تأليف: الطاهر زياني
بسم الله وبعد:
فهذا فصلٌ متعلق بمشروعية الاحتفال بالمولد،
أنشره من كتابي:" أحكام الاحتفالات بالمولد والمناسبات"، ذكرت فيه أحكام
كل المناسبات الدينية والدنيوية بأدلتها، ومنها مناسبة المولد، الذي خصصت له كغيره
فصلا، قسمته على النحو التالي: ...
......................
المطلب
الرابع: الاحتفال بمولد الأنبياء، والمولد النبوي الشريف، وبيان ما وافقه من أحداث:
المسألة الأولى: ذكر أقوال
العلماء، وتعيين سبب الخلاف:
ذهب
الفاكهاني وابن تيمية في أحد قوليه فقط إلى بدعية الاحتفال بالمولد النبوي،
وخالفهم جماهير السلف فاستحسنوا ذلك.
ويرجع
سبب الاختلاف في ذلك إلى أمرين:
أولاهما:
هل للعيد أصل من الشرع أو من مصادر التشريع؟
فمن
قال بأن له أصل شرعي أجازه، ومن قال بعدم وجود أصل له، فقد اختلفوا في هذا التأصيل
الثاني:
وهذا
الثاني هو ما مر: هل الأصل في الأعياد التوقيف أم أنها توسيعية؟
فمن
قال بأنها توقيفية منع، ومن قال لا، فلا،
وإليك
أدلة الفريقيْن، مع مناقشتها:
القول الأول وأدلته: من زعم
بأن الأعياد توقيفية:
قالوا:
لا يصح القياس في هذا الباب، ولا ينبغي الاحتفال بالمولد بل هو بدعة ضلالة: وهو
قول الشيخ ابن تيمية من الحنبلية، والفاكهاني من المالكية.
وأما
المعاصررون فأمرهم ظاهر: جماعةٌ تبدع كل شيء وهم معروفون بالتبديع، وأخرى تبيح كل
شيء.
وقد
استدل المانعون بما يلي:
الدليل الأول: زعموا يأن الأصل في الأعياد التوقيف، وأن التشريع لا يؤخذ إلا
بنص خاص من الكتاب والسنة، معرضين عن عمومات الشريعة، وعن بقية مصادر التشريع، من قياس
واستحيان ومصلحة...
وبالتالي زعموا بأنه لا
ينبغي الاحتفال بالمولد، لأنه بدعة ضلالة:
الدليل
الثاني:
ثم استدلوا بما رواه حميد عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان [من
كل سنة] يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: يومان كنا نلعب فيهما في
الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما
يوم الأضحى ويوم الفطر»،
قالوا: وهذا لفظ يدل على الحصر ، ثم إن التفاضل
لا يكون إلا بين خير وشر، كما أن البدل يقتضي ترك المبدل منه.
وليس هذا بحجة لهم لأمور:
أولاها: لو
سلمنا بمفهوم التفاضل وحصره بين الخير والشر فقط، لكان غاية ما في هذا الحديث هو إبطال عيدَي
الجاهلية فقط، لأنه من خصائص المشركين واعتقاداتهم واصنامهم، لما
في ذلك من إعلاءٍ لشعاراتهم وعقائدهم، والشاهد في قوله :" كنا نلعب فيهما في الجاهلية
"، ثم
ذكر لهم بأن الله أبدل المسلمين بيومي العيد، بدل أعياد الجاهلية.
وأما
المولد النبوي فهو عيد خير البرية، لا عيد الجاهلية، بل به بدأت علامات نقض
الجاهلية، وتكسير الأوثان، وهدم سور كسرى، وخروج نور امتدى إلى بصرى... .
والثاني: أننا
لا نسلم لهم بأن هذا الحديث فيه إنكار لهذا العيد الجاهلي، لأن استدلالهم بالتفاضل لا يصح،
لأنه لا يلزم أن يكون التفاضل دوما بين خير وشر، بل يصلح أن يكون بين فاضل وأفضل
منه ، كما في الحديث :" صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما
سواه"، وقوله :"المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المومن الضعيف"،
وأبو بكر أفضل من عمر ...،
والثالث: أن استدلالهم بالبدل، وأنه
يعني ترك المبدل منه أو ذمه، أمر لا يستقيم:
ألم تروا قول عائشة رضي الله عنها للنبي عليه
السلام في شأن ذكراه لخديجة :" قد أبدَلَكَ اللهُ عز وجل بها خيرا منها
"، وليس في هذا نقض لفضل خديجة، بل كلتاهما فاضلتان، بل خديجة أفضل عند
الكثير من أم المؤمنين رضي الله عنهن.
والرابع: أن الإمامَ الطحاوي
في مشكله (1/270) (4/131) حمل الحديثَ على الاحتفال المصحوب باللهو المذموم الذي
لا فائدة منه ، أو ما فيه الخمور والمجون، فإنه مذموم، وأما غيره فممدوح .
فقال الطحاوي في مشكله
:" وأما التقليس في الحديث الأول الذي ذكرناه في هذا الباب، - سيأتي - فلا اختلاف بين أهل اللغة وبين من سواهم ممن
يؤخذ مثل هذا عنه أنه اللعب واللهو اللذان ليسا بمكروهين، كمثل ما أطلق في الأعراس
منهما، وإن كان ما يفعل في الأعياد وفي الأعراس منهما مختلفين، وذلك والله أعلم
إنما هو ليعلم أهل الكتابين أن في دين الإسلام سماحة "، ثم قال:" فإن
قال قائل: كيف تقبلون هذا وقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالفه
.."،
ثم ذكر حديث أنس الماضي الذي
استدل به من ضيق في الأعياد .
والوجه الخامس: قد ردّ الإمام أبو جعفر الطحاوي
في مشكله (4/131) على من فهم منه الحصر وذكر أن مجرد ما فيه هو إبدال يومين
بيومين، وليس فيه النهي عن غيرهما، ثم ذكر عدة أدلة أخرى تُضعِف هذا الفهم المُضيق
لما وسع الله على عباده كما سيأتي :
والسادس: اتفاق السلف على مشروعية الزيادة في
الأعياد على هذين اليوميْن، وتكاثر الأحاديث بذلك، مما يُبطل دعوى الحصر، فمن ذلك
:
1- تسمية الجمعة عيدا:
خرج الطحاوي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن
جابر قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم
فيخطب قائما خطبتين، فكان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكَبَر – هو الطبل- والمزامير
فيشتد الناس، ويَدَعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعاتبهم الله عز وجل
فقال: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} [الجمعة: 11] "،
ثم قال أبو جعفر: أفلا ترى أن الله لم ينههم عن
اللهو الذي قد أباح مثله فيما كان ذلك اللهو منهم فيه، وكذلك اللعب الذي قد أباحه
في الأعياد غير داخل في مثله من اللهو الذي قد نهاهم عنه في غير الأعياد، فبان بحمد
الله ونعمته أن لا تضاد في شيء مما ذكرناه من الآثار في هذا الباب عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والله نسأله التوفيق ".
2- ومن ذلك زيادة يوم
عرفة وأيام التشريق، على اليومين المذكورين في الحديث :
روى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : « يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عيد لأهل الإسلام ، وهن أيام
أكل وشرب »،
فزاد هنا: عرفة وأيام التشريق إضافة إلى
اليومين المذكوريْن .
3. ومن ذلك ثبوت
حديث الاحتفال بعاشوراء وغيره من الولائم ، وكذا التقليس في الأعياد والمناسبات
وقدوم الحكام إلى غير ذلك من الأدلة المذكورة في مظانها من كتابي.
4- ومن ذلك وجود الأدلة المُثبتة على أن الأصل
في الأعياد هو التوسيع كما سيأتي :
الدليل الثالث: استدلوا بوجود المحرمات في المولد، والمنع منه سدا لذريعة تفشيها، وهذا
من أفضع استدلالاتهم، لأنه يوجد أقبح من هذه المنكرات في العيدين، وفي شهر رمضان،
... حيث تكثر الأغاني والخمور والزنا والتقبيل أيام العيد، فهل سيحرمون المحرمات
فقط؟ أم سيلحقون العيد بالتحريم سدا للذريعة، فما يقال هنا يقال هنالك.
4/ قالوا: والاحتفال بالمولد فيه تشبه بأهل الكتاب الذين يحتفلون
بالمناسبات وبمولد المسيح والنوال ...،
وقد يؤيدون ذلك بما خرج البخاري وغيره عن طارق بن شهاب،
قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا، فقال عمر: "
إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت:
يوم عرفة وإنا والله بعرفة، وشك كان يوم
الجمعة أم لا " {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]
قالوا: فترك عمر الاحتفال بها، كما هو دأب اليهود في
الاحتفال.
والجواب: لو كان مطلق الاحتفال بدعة، لقال لهم عمر: ليس
لنا غير عيدين، أو أن ذلك حرام، وما شابه، لكنه اكتفى بتبيين معرفته ذلك.
بل إن نزول هذه الآية كان فعلا في يومي عيد واحتفال، ألا
وهو يوم الجمعة نفسه الذي هو عيد للمسلمين، إذافة إلى نزولها يوم عرفة وهو عيد آخر
كما بينا وسنبين في الحديث...
وأما
الجواب عن البابا نوال: فهو شخصية وهمية، يحتفل بها النصارى، وأما تاريخ مولد
المسيح فهو مجهول عند الأكثرين، ولو عرفناه حقا لفرحنا بمولده، بل وبمولد كل نبي
كما قال الله العلي، عن نبيه يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ
وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } وقال عن عيسى :{ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ
وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) }[].
الدليل السادس: قالوا: يوم 12 من ربيع وافق موته عليه السلام، فكيف تحتفلون في أعظم
مصيبة حلت على المسلمين، وهذا أسخف استدلال لأمور:
أولاها: أن الوفاة مصيبة من
وجه، لكنه يوم فرح بلقاء حبيب الله بربه من وجه آخر، حتى إنه عليه السلام خُير بين
البقاء والموت فقال: بل الرفيق الأعلى.
والمؤمن يفرح بلقاء الله، ويفرح
الله به، فكيف بنبي؟!!
والثاني: أن الفرح بفضل الله
وبرحمته وبمولد نبيه ومبعثه وهجرته، أمر مستمر، بخلاف الحزن الذي لا يجوز إحياءه
كما لا يجوز الحداد فوق ثلاثة أيام كما تفعل الرافضة في عاشوراء ندبا ولطما وحزنا،
بينما يحتفل به سائر المسلمين صوما وفرحا وتوسعة كما هو مبين.
السابع: قالوا: ذكر ابن تيمية وغيره أن أول من أحدثه هم الرافضة، والجواب:
أن الصالحي وغيرهم من أهل
العلم، قالوا: أحدثه ملوك صالحون من أهل السنة، بل ونقل العلماء أنه موجود منذ عصر
التابعين كما سيأتي.
فإن قالوا: هذا نقل بلا سند،
قلنا: ونقل ابن تيمية أو غيره عمن قبله مجرد نقل بلا سند، فلماذا تردون نقل طائفة
وتقبلون طائفة؟
وأمور التاريخ معظمها مجرد
روايات فقط، وما نقلُ ابن تيمية بأولى من غيره، ومن علم حجة على من لم يعلم، والمثبت
مقدم على النافي.
الدليل الثامن: زعموا بأن الترك
يدل على تبديع المتروك والصحيح أن الترك أو النفي يحتاج إلى استقراء ودليل شرعي، مثله مثل الإثبات ولا فرق كما هو مقرر في
الأصول، وسيأتي مزيد إبطال لهذه الشبه االتبديعية، بعد ذكر القول الثاني:
القول
الثاني: الأصل في الأعياد التوسيع، وأدلتهم:
وهم الجمهور، وقد اختلف
أصحاب هذا القول في المولد، هل له أصل من الشرع؟
أم هو مجرد استحسان وقياس
ومصالح مرسلة؟ أم هو بدعة حسنة؟
1. فذهبت
طائفة إلى أنّ له أصولا من السنة والقرآن سيأتي ذكرها.
2. وذهبت
طائفة إلى أن له أصولا من بقية مصادر التشريع المعروفة.
3.
واعترفت طائفة بأنه حدث بعد القرن الثالث، ومع ذلك استحسنوهـ، وجعلوه من قبيل
البدع الحسنة.
والجمع
بين الأقوال أن الاحتفال بالمولد على سبيل الفرح العشوائي من الناس له أصول من
الشرع ومصادر التشريع.
وأما
جعل هذا الاحتفال بصورة رسمية على هيآت معينة وأفعال محددة، فهو أمر محدث حسن
أحدثه الحكام المسلمون، ووافقهم العلماء الربانيون،
قال الإمام الصالحي في سبيل
الهدى :" قال الإمام الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي
شامة (599ه-665ه) في كتابه :" الباعث على إنكار البدع والحوادث "، بعد
أن ذكر تقسيمَ الإمام الشافعيّ للبدعة إلى حسنة ومذمومة ثم قال :" فالبدعة
الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي
كل مُبْتَدَع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور
شرعي، وذلك نحو بناء المنابر والربط والمدارس وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع
البر التي لم تعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع
المعروف والمعاونة على البر والتقوى "، ثم قال :
" ومن أحسن ما ابتدع في
زماننا هذا من هذا القبيل ما كان يفعل بمدينة " إربل " جبرها الله
تعالى، كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات
والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر
بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله وشكر الله تعالى على
من به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه
وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ".
وفيما يلي عرض أدلة هذا
القول وإبطال شبه التبديعيين:
المسألة الثانية: هل الترك يدل
على تبديع أو على حكم شرعي :
حيث
يدعى التبديعيون كعادتهم وادعاءاتهم الكاذبة باطلاعهم على جميع كتب السنة، وأن
المولد لم يثبت ولم يرِد، فهو إذًا بدعة،
قالوا: وقد ترك
النبي عليه السلام وأصحابه الاحتفال بالمولد مع وجود الدافع الداعي إلى هذا
الاحتفال، فهو إذًا بدعة ضلالة، وقد صحت الأحاديث
بتحريم البدع.
ثم
ازدادوا كذبا فقالوا: إنما أحدثه الشيعة والجهال ، ولو كان خيرا لسبقنا إليه السلف
الصالح .
وقد
تعقّبهم المُجيزون بأنه:
"كما
أن الإثبات يحتاج إلى دليل، فكذلك النفي لا بد له من تدليل ".
ثم
إن هذه الدعاوي النافية، لا دليل عليها ، لأن السنة وكتب التاريخ كثيرة جدا،
يستحيل تقصيها ، وعلى المرء أن يتقي الله ويقول :" لا أعلم دليلا "، لا
أن يقول " لا يوجد دليل، ثم يستلزم التبديع ".
قال
الإمام الصالحي في سبل الهدى والرشاد (1/368) من " الباب الثالث عشر في
أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما
يذم "، متعقبا قول من ادعى ذلك :" وتعقبه الشيخ - رحمه الله تعالى
- في فتاويه فقال: أما قوله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، فيقال
عليه: نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحُفّاظِ أبو الفضل
بن حجر أصلا من السنة، واستخرجت أنا له أصلا ثانيا ".
وبهذا تعلم أن
استدلالهم بالترك مع وجود الداعي يدل على البدعية: أمر لا يستقيم، لأن الترك لا يدل
على البديعية ولا التحريم، ولا ذكره أحد من الأصوليين في أقسام الحكم الشرعي،
بل قد ترك النبي
عليه السلام فعل الكثير من الأشياء، مع وجود الداعي إليها،
ولذلك لم يذكر
أحد من السلف الصالح باب الترك ضمن أقسام الحكم الشرعي، ولا ضمن أدلة مصادر
التشريع المعروفة ...
ذلك أن البدعة
هي اتخاذ عبادة بذاتها يُتقَرّبُ بها إلى الله بها، بخلاف المصالح المرسلة التي لا
تكون عبادات مستقلة، بل هي وسائل معينة على تحقيق العبادات، أو على جلب أحد
المقاصد الخمسة المعروفة ... ليُترك باب الاجتهاد للأمة والسعة لها...
وقد هم النبي
عليه السلام بفعل أمور، ثم تركها، ألا ترون أن النبي عليه السلام للصحابة في مرض
موته : ايتوني بكتاب أكتب إليكم، ثم ترك ذلك"،
ففي عزم النبي
عليه السلام على فعلها دليل على مشروعيتها، ثم في تركه لها، دليل على أن الترك لا
حكم له، فلو كان شرعا لما حل له ترك ذلك، مُعلما أمته الاجتهاد في معرفتها.
إضافة إلى أنه صلى الله عليه
وسلم لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره من كثرة قراءة وقيام على ما حدده له عليه السلام،
فقال له عبد الله: «إني أطيق أفضل من ذلك، فقال له عليه السلام: لا أفضل من ذلك»؛
فعلمه النبي عليه السلام الحد
المشروع والأفضل، ثم تركه عليه السلام على تحصيل التزامه وكثرة اجتهاده، ولم يقل
له أنك إن خالفت أو زدت فقد ابتدعت، كما يفعل التبديعيون الضالون.
ولذلك لما قرر لشاطبي وغيره
هذا الأمر قالوا:" كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه، فالصحابة رضي الله عنهم أتقى
لله من ذلك، وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه، وإذا كان كذلك؛ لم يمكن
أن يقال: إنها بدعة ".
ولولا أن عبد الله فهم منه
بعد نهيه الإقرار عليه؛ لما التزمه وداوم عليه حتى قال: ليتني قبلت رخصة رسول الله
صلى الله عليه وسلم! فلو قلنا: إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ؛ لكان
مقرا له على خطأ، وذلك لا يجوز ".
هذا وقد ترك
النبي عليه السلام فعل أشياء كثيرة، مع توافر الداعي لتحصيلها، وفعلها جائز بإجماع
المسلمين.
فقد ترك النبي
عليه السلام جمع القرآن الكريم في مكان واحد، كما ترك كتابة القرآن في مصحف واحد،
حتى فعل ذلك أبو بكر، ثم عثمان، في الجمْعين الأول والثاني...
وترك النبي عليه
السلام وأصحابه تنقيط حروف القرآن، حتى فعل ذلك التابعون، فهل لها ستُبدعون.
ترك ضبط الشكل
لكلمات القرآن، حتى فعل ذلك المسلمون، فهل ستبدعون..
ترك النبي عليه
السلام ترقيم الآيات، حتى فعل ذلك السلف السادات، من بعده.
ترك النبي عليه
السلام تقسيم القرآن إلى أجزاء، وتحزيبه إلى أثمان، وأرباع ونصف وحزب، وإنما أحدث
ذلك زمن التابعين وما بعده ...، فهل ستكونون لهم من المبدعين؟
بل كان تحزيب
المتأخرين للقرآن مخالفا للتحزيب الأول.
قال الزرقاني في "مناهل العرفان
في علوم القرآن" (1/283) باب" تجزئة القرآن"،" كانت المصاحف العثمانية
مجردة من التجزئة التي نذكرها ، كما كانت مجردة من النقط والشكل . ولما امتد
الزمان بالناس جعلوا يتفننون في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات ...".
ترك عليه السلام
كتابة المكي والمدني وأسباب النزول في القرآن، وكتبه العلماء الكرام، في المصحف.
ولذلك انتبه
أيها النبه لما سأقول:
إن معظم هذه
الأمور ظهرت بعد عصر الصحابة...، وأين؟
لقد ظهرت في
أظهر وأفضل كتاب متعبد به، وأفضل كلام وهو كلام الله المقدس...
فهل سيُبدعون
هذه الأمور..؟؟
. أمر النبي
عليه السلام ببناء المساجد وحفظ القرآن، لكن تَرَكَ اتخاذ الزوايا والربط والخانات
والمعاهد والجمعيات، مع وجود الداعي إليها وتوفره..، فهل ستبدعون ذلك؟
بل اتخذ الخلفاء
من المساجد مكتبات وزوايا ودور قضاء
. أمر النبي
عليه السلام ببناء المساجد، وترك هو وأصحابه بناء المآذن والمحاريب والصوامع، مع
القدرة على بنائها، وإنما أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وتبعه المسلمون لتمييز المساجد
عن غيرها.
كما قال ابن النجار في الدرة الثمينة: ومات عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وليس
للمسجد شرفات ولا محراب، فأول من أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز".
وليحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا
محراب فأوّل من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز وهو الذي عمل الرصاص على
طنف المسجد والميازيب التي من الرصاص وقيل إنما عمل الشرفات عبد الواحد بن عبد
الله النصريّ في ولايته سنة أربع ومائة ".
أمر النبي عليه
السلام بتسوية الصفوف، وترك اتخاذ الخط في الصف، وفرش المسجد ، ... مع توافر
الداعي لفعلها، فهل ستبدعونها.. ؟؟؟
فأما الصحابة
ففرشوا المساجد بالحصى، كما روى أبو عروبة عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كَانَ عُمَر أَوَّل مَنْ
حَصَى الْمَسْجِد فَقَالَ: احْصِبُوهُ مِنَ الْوَادِي الْمُبَارَكِ - يَعْنِي
الْعَقِيقَ - ".
وأما الفرش بالزرابي فهو محدث بعد ذلك.
ترك النبي عليه
السلام وأصحابه الفصلَ بين النساء والرجال في المساجد، حتى أحدث ذلك من
بعدهم.
أمر النبي عليه
السلام بصلاة الجمعة في مسجد واحد في البلدة، وهو المسجد الجامع، وترك تعداد
المساجد، وأول من عدّد الجمعة هو المعتضد،
قال الخطيب
البغدادي في تاريخه :" أوّل من سمح بتعدد الجمعة داخل البلد الواحد هو
الخليفة المعتضد بالله المتوفى سنة 219هـ، وقيل: أوّل من أفتى بذلك عطاء بن أبي
رباح التابعي المتوفى سنة 115هـ".
أمر النبي عليه
السلام بتعزير المنحرفين، وترك اتخاذ سجون للمجرمين، فهل لها ستبدعون...؟
أمر بعقد
الزواج، وبالتطليق على السنة ... ولم يتخذ لذلك سجلات خاصة لتوثيقها، فهل هي
بدعة؟
بل ترك النبي
عليه السلام صوم شهر بأكمله إلا شهر رمضان، فهل سيقولون إن التطوع بشهر كامل بدعة.
ترك
النبي عليه السلام قيام الليل بأكثر من إحدى عشرة ركعة، واتفق العلماء على جواز
القيام بأكثر من ذلك بكثير ..
ترك النبي عليه
السلام أذانيين للجمعة، وفعل ذلك الصحابة بعده ...
إذا: الترك لا
يدل على حكم شرعي، ولا على تبديع ولا نهي، إلا في اختراع عبادات مستقلة بذاتها وبالله
التوفيق.
مع أننا لا نسلم
لهم بترك الاحتفال بالمولد النبوي، بل هو أمر مشروع له أصول في الوحيين
سنذكرها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثالثة: ذكر القائلين
بالتوسع في الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من المناسبات الواقعة في نفس اليوم
وأدلتهم:
ذكرنا
بأن الجمهور على مشروعيى الاحتفال بالمولد، ثم اختلفوا هل له أصل من مصادر التشريع؟
فهل
أصله من المصادر المتفق عليها كالقرآن والسنة والإجماع، أم من المصادر المختلف
فيها كالاستحسان والقياس والمصالح المرسلة؟ أم هو من جنس البدع الحسنة ؟
1. فذهبت طائفة إلى أنّ له
أصولا من السنة والقرآن سيأتي ذكرها.
2. وذهبت طائفة إلى أن له أصولا
من بقية مصادر التشريع المعروفة.
3. واعترفت طائفة بأنه حدث بعد القرن الثالث، ومع ذلك
استحسنوهـ، وجعلوه من قبيل البدع الحسنة.
والجمع بين الأقوال أن الاحتفال بالمولد على سبيل الفرح
العشوائي من الناس له أصول من الشرع ومصادر التشريع.
وأما جعل هذا الاحتفال بصورة رسمية على هيآت معينة
وأفعال محددة، فهو أمر محدث حسن أحدثه الحكام المسلمون، ووافقهم العلماء
الربانيون، كما في:
الفرع الأول: تسمية السلف المجيزين للمولد:
مذهب الشافعية: لا يوجد اختلاف بينهم في مشروعية الاحتفال بالمولد، وألّفوا في ذلك
عدة مصنفات أبرزها كتاب السيوطي " حسن المقصد في عمل
المولد "،
وقد أورد الإمام الصالحي في سبل الهدى بابا كاملا حول
مشروعية المولد (1/362) فقال :" الباب الثالث عشر في أقوال العلماء في
عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم"،
قال الإمام الصالحي في سبيل الهدى :" قال الإمام الحافظ
أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة (599ه-665ه) في كتابه :"
الباعث على إنكار البدع والحوادث "، بعد أن ذكر تقسيمَ الإمام الشافعيّ
للبدعة إلى حسنة ومذمومة ثم قال :" فالبدعة الحسنة متفق على جواز فعلها
والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مُبْتَدَع موافق لقواعد
الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي، وذلك نحو بناء المنابر
والربط والمدارس وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في الصدر
الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر
والتقوى "، ثم قال :
"
ومن أحسن ما ابتدع في زماننا هذا من هذا القبيل ما كان يفعل بمدينة " إربل
" جبرها الله تعالى، كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه
وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان
إلى الفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله
وشكر الله تعالى على من به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة
للعالمين صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ".
وكذلك
نقل الإمام الصالحي الجوازَ عن السخاوي وابن الجزري المقرئ وسبط ابن الجوزي وابن
كثير والإمام ابن الجوزي وابن ظفر وابن قفل وابن الطباخ وظهير الدين ونصير الدين
والإمام ابو شامة والعلامة صدر الدين الجزري والحافظ ابن حجر وشيوخ الصالحي ، ثم
أطال الرد على من بدّعه، وكذلك فعل السيوطي.
وكذلك
ذكر ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج، أنه من البدع الحسنة التي يُثاب فاعلها،
ونقل ذلك عن جلال الدين السيوطي، وأن الحافظ أبا الخطاب بن دحية صنف مجلدا في
المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير ...
ثم
ذكر أن الحافظ بن ناصر الدين في كتابه المسمى بورد الصادي في مولد الهادي:"
قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد
النبي صلى الله عليه وسلم"،
وبه
قال محمد بن أحمد السيوطي والحافظ ابن حجر وأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد
بن أَحْمد اللَّخْمِي، وألف فيه :" أعذب الْمَوَارِد وَأطيب الموالد ".
وقال
شيخ القراء الحافظ أبو الخير ابن الجزري رحمه الله تعالى: .. فإذا كان أبو لهب
الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد صلى الله عليه
وسلم فما حال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ببشره بمولده وبذل ما
تصل إليه قدرته في محبته ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله
جنة النعيم ".
وجاء
في حاشية إعانة الطالبين (3/414) :" قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن
أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده عليه السلام
من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك - مع ما فيه من الاحسان
للفقراء - مشعر بمحبة النبي عليه السلام وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى
على ما من به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.
قال
السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الاسلام من سائر
الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون
بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم ".
.
وإنه لمن العجب المحرّم أن بعض من يكذب ويبتر كلام السلف يذكر كلامهم الأول فقط
" حدث بعد القرون الثلاثة "، ثم يتعمد حذف الباقي ليُوهِمَ قارئيه بأن
هؤلاء يبدعون المولد .
فقال
الصالحي: وقال الحافظ – ابن حجر رحمه الله تعالى -: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل
عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن
وضدها، فمن تحرى في عمله المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا.
ثم
استدرك فقال – ابن حجر - : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في
الصحيحين من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون
عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه موسى فنحن نصومه
شكراً لله تعالى، فقال: " أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه ".
قال:
فيستفاد من فعل ذلك شكراً لله تعالى على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو
دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع
العبادات والسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي
الكريم نبي الرحمة في ذلك اليوم ؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطاق
قصة موسى صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد
في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم حتى نقلوه إلى أي يوم من السنة ، وفيه ما فيه،
فهذا ما يتعلق بأصل عمل المولد.
قال:"
وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم
ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة
للقلوب إلى فعل الخيرات والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير
ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يتعين السرور بذلك اليوم لا بأس
بإلحاقه به، ومهما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلافا للأولى ".
انتهى.
وقال
الصالحي: وقال شيخنا - رحمه الله تعالى - في فتاويه: عندي أن أصل المولد الذي هو
اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي
صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمدّ لهم سماط يأكلونه
وينصرفون من غير زيادة على ذلك من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه
من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده
الشريف "،
قال:
وقد ظهر لي تخريجه على أصل صحيح غير الذي ذكره الحافظ، وهو ما رواه البيهقي عن أنس
رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة"، مع
أنه ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية،
فيحمل ذلك على أن هذا فعله صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى
إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته صلى الله عليه وسلم، كما كان يصلي على نفسه
لذلك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده صلى الله عليه وسلم بالاجتماع وإطعام
الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات والمسرات"،
وممن
استحسن ذلك أيضا الحافظ أبو شامة والعلامة ابن ظفر والحليمي والعلامة نصير الدين
المبارك وجمال الدين بن عبد الرحمن الشهير بالمخلص الكتابي، وظهير الدين جعفر
التزمنتي وصدر الدين موهوب بن عمر الجزري الشافعي والإمام الحافظ ابن كثير والحافظ
ابن حجر والسخاوي والسيوطي وغيرهم كثير.
. كما
ستأتي نقول أخرى عن علماء السلف والحكام والخلفاء الصالحين ممن أجازوه من خلفاء
الأمويين، وهارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي وبيبرس .... وغيرهم من الحكام
الصالحين كما سيأتي:
مذهب المالكية: ذهب جمهورهم إلى مشروعية ذلك، وخالفهم الفاكهاني فبدّع ذلك
وصنف فيه رسالة، وأما ابن حاج فإنه فصّل القول فيه كما هو مبين في سبل الهدى
للصالحي،
وفي شرح مختصر خليل للخرشي
قال:" وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج- رحمه الله تعالى- في كتابه
«المدخل» على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جداً وحاصله: مَدْحُ ما كان فيه من
إظهار شعار وشكر، وذمّ ما احتوى عليه من محرّمات ومنكرات، وأنا أسوق كلامه فصلاً
فصلاً "،
ثم ذكر كلامه فقال:"
فانظر إلى ما خصّ الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا
اليوم فيه فضلٌ عظيم لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه؟ فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا
الشهر الكريم أن يكرّم ويعظّم ويحترم الاحترام اللائق به، اتباعاً له صلى الله
عليه وسلم في كونه كان يخصّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البرّ فيها وكثرة الخيرات
".
ثم قال شارحا لكلامه:
" وحاصل ما ذكره: أنه
لم يذمّ المولد بل ذمّ ما يحتوي عليه من المحرّمات والمنكرات، وأول كلامه صريح في
أنه ينبغي أن يخصّ هذا الشهر بزيادة فعل البرّ وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من
وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد الذي استحسنّاه، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة
القرآن وإطعام الطعام وذلك خيرٌ وبرّ وقربة.
وأما قوله آخراً: إنه بدعة:
فإما أن يكون مناقضا لما تقدّم، أو أنه يحمل على أنه بدعة حسنة، كما تقدم تقريره
في صدر الباب، أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نيّة المولد كما أشار إليه
بقوله: «فهو بدعة بنفس نيته فقط، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد»
قال:" فظاهر هذا الكلام
أنه كره أن ينوي به المولد فقط ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه. وهذا إذا
حقّق النظر يجتمع مع أول كلامه لأنه حثّ فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على
وجه الشكر لله تعالى إذ أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
وهذا هو معنى نية المولد. فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولاً ؟!..."،
وكذلك وجه كلامه الإمام
الصالحي في سبل الهدى .
وقال الشيخ الشنقيطي في
تفسيره :" .. قَوْلُ الْحَطَّابِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي
مُخْتَصَرِهِ فِي الصَّوْمِ : وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ - مَا نَصُّهُ : قَالَ
الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ : صِيَامُ الْمَوْلِدِ كَرِهَهُ
بَعْضُ مَنْ قَرُبَ عَصْرُهُ مِمَّنْ صَلُحَ عِلْمُهُ وَوَرَعُهُ، قَالَ : إِنَّهُ
مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُصَامَ فِيهِ ، وَكَانَ
شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُورِيُّ يَذْكُرُ ذَلِكَ كَثِيرًا
وَيَسْتَحْسِنُهُ . انْتَهَى.
قُلْتُ - الشنقيطي-
:" لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه:" وأما
المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل
فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع
البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب - أمر مباح لا ينكر على
أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح "،
فاستدل له من القياس، وأنه
أولى بالاحتفال من سائر المناسبات الأخرى ثم قال :
" والحكم بكون هذه
الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع
فيه ظلام الكفر والجحود، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل
الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان - أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة
وتدفعه الآراء المستقيمة .
ولقد كنت فيما خلا من الزمان
خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله
وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك
أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم: إني صائم ، فنظر إلي
سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في
مثله الصيام بمنزلة العيد ، فتأملتُ كلامه فوجدته حقا ، وكأنني كنت نائما فأيقظني
. انتهى بلفظه ".
وأما الشاطبي فقد حاول
الإنكار على القرافي وابن عبد السلام لما نقلا الاتفاق على تقسيم البدعة إلى خمسة
أقسام، لكنه رفض ذلك التقسيم، والمتأمل في كلامه يرى بأنه جعل الخلاف معهم لفظيا
لا حقيقيا، فقد ذكر الشاطبي بأن الكثير من الأشياء التي يسمونها بدعة، لا تسمى
بدعة بل مصالح أو استحسان ونحو ذلك، ولذلك نرى الشاطبي قد تراجع عن إنكاره هذا
التقسيم:
فقد ذكر في الاعتصام أولا،
إنكار هذا التقسيم، ثم نجده بعد ذلك ذكر (1/410) إشكالية:" أن التزام
النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل، وإذا خالفت؛ فالمتعبد بها ـ على ذاك
التقدير ـ متعبد بما لم يشرع، وهو عين البدعة،
ثم قرر بأنه ليس كل ما زيد
على المشروع ولو كان فيه مشقة فهو بدعة أو فعل مذموم، واستدل بحديث ابن عمرو لما ألزم
نفسه بعبادات فوق ما بينه له النبي عليه السلام، حيث قال:"
فإن انتظمتها أدلة الذم؛ فهو
غير صحيح؛ لأمرين:
أحدهما: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره، وقال له: «إني أطيق أفضل من
ذلك، فقال له عليه السلام: لا أفضل من ذلك»؛ تركه بعد على التزامه، ولولا أن عبد
الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه؛ لما التزمه وداوم عليه حتى قال: ليتني قبلت
رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلو قلنا: إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على
العموم ـ؛ لكان مقرا له على خطأ، وذلك لا يجوز.
كما أنه لا ينبغي أن يعتقد
في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه،
فالصحابة رضي الله عنهم أتقى لله من ذلك، وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام
وأشباهه، وإذا كان كذلك؛ لم يمكن أن يقال: إنها بدعة "....
ثم ذكر الأمر الثاني
فقال:" وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم؛ فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس
بمنهي عنه، بل هو مما يتعبد به، وليس من قبيل المصالح المرسلة ولا غيرها مما له
أصل على الجملة، وحينئذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا؟ لكن فحيث
يكون له أصل على الجملة لا على التفصيل؛ كتخصيص ليلة مولد النبي صلى الله عليه
وسلم بالقيام فيها، ويومه بالصيام، أو بركعات مخصوصة، وقيام ليلة أول جمعة من رجب،
وليلة النصف من شعبان، والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام، وما
أشبه ذلك مما له أصل جلي، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله".
ثم صوب الأمر الأول فقال
:" والجواب عن الأول: أن الإقرار صحيح ...
قال:" فالأمر بالعبادة
شيء، وكون المكلف يوفي بها أو لا شيء آخر، فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لابن
عمرو على ما التزم دليل على صحة ما التزم، ونهيه إياه ابتداء لا يدل على الفساد،
وإلا لزم التدافع، وهو محال"،
وبالمشروعية قال إبراهيم بن
أبي بكر بن عبد الله بن موسى الانصاري، أبو إسحاق التلمساني،
قال ابن فرحون: وله تآليف
أخرى، منها (مقالة في علم العروض الدوبيتي) وقصيدة في المولد الكريم ".
ومن ذلك قول عبد السلام بن
عبد القادر الفاسي في ترجمة " زينب بنت المهدي ابن سودة":" وكانت
تقيم المولد النبوي كل سنة، والكل باحتفال وكرم وسخاء."
ومنهم محمد بن الشاهد الجزائري: شاعر، من فقهاء المالكية، من أهل مدينة الجزائر مولدا ونشأة، تولى الافتاء على مذهب الإمام مالك سنة 1192 هـ. وكان ينظم الموشحات ويلحنها ولا سيما في ذكرى المولد النبوي الشريف.
الفرع
الثاني: أصناف أدلة القائلين بالتوسع في الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من
المناسبات الواقعة في نفس اليوم، وبيان أحداثه:
ذكرنا اختلاف أصحاب هذا
القول في المولد، هل له أصل من مصادر التشريع ؟ أم هو مجرد استحسان وقياس ومصالح مرسلة ؟ أم بدعة حسنة ؟
والأصح أن له أصولا في الشرع،
إضافة لما ذُكر، ثم إن هذه الأدلة هي على أجناس، إليك بيانها في المسائل التالية:
الجنس الأول من الأدلة: تعدّد
الأحداث العظيمة التي وقعت في الإسلام يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، مما
يدل على فضله:
يعتقدُ الكثيرُ من الناس أنّ
يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول هو مناسبةٌ للمولد النبوي الشريف فحسب،
وليس ذاك فقط، بل هو من أهم المناسبات العظيمة والأوقات الجليلة في تاريخ الأمة
الإسلامية، حيث شاء المولى جل وعلا أن تَحدُث فيه أعظم المحطات والوقائع التاريخية
في الحضارة الإسلامية.
تلك الوقائع التي كانت مفصلا
فاصلا بين الحق والباطل، والظلمات والنور، ففي مثل هذا اليوم وُلد سيّد الخلقِ
محمدٌ، وفيه بُعث نبيًّا، وفيه وَصَل مهاجرا إلى المدينة، وفيه عُرج به إلى ربه،
وفيه انتقل إلى الرفيق الأعلى، وكل ذلك مما صحت به الأحاديث والآثار .
وعليه: فلنا أن نتساءل:
أَهَلْ وقعت كل هذه الأحداث العظيمة في مثل هذا اليوم والتاريخ العظيمِ صدفة
وعبثا؟ أم وقعت بإرادة حكيمة من رب عليم، خبير حكيم ؟؟
وجواب
كل مسلم هو الثاني، ولذلك لما قرر عمر رضي الله عنه أن يجعل للمسلمين سنةً يبدأ
منها تاريخهم، اختار كل جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بدأ عدّ سنة المسلمين من
أحد هذه المحطات السابقة، لِعِلْمهم بفضلها كما سبق من حديث ابن سيرين قال:
أن رجلا من المسلمين قدم من أرض اليمن فقال لعمر : رأيت باليمن شيئا يسمونه
بالتاريخ يكتبون من عام كذا من شهر كذا، فقال عمر: إن هذا لحسن فأرّخوا ، فلما
أجمع على أن يؤرخ شاورهم فقال قوم : بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قوم :
بالمبعث ، وقال قوم : حين خرج مهاجرا من مكة ، وقال قائل : لوفاته حين توفى، فقال
قوم: أرخوا خروجه من مكة إلى المدينة ، ثم بأي شيء نبدأ فنصيره أول السنة ? فقالوا :
رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه، وقال آخرون: شهر رمضان، وقال بعضهم: ذو الحجة
، وقال آخرون : الشهر الذى خرج من مكة، وقال آخرون: الشهر الذى قدم فيه ، فقال
عثمان : أرخوا من المحرم أول السنة وهو شهر حرام ، وهو أول الشهور في العدة ، وهو
منصرف الناس عن الحج ، فصيروا أول السنة المحرم، وكان ذلك سنة سبع عشرة في ربيع
الأول "، تابعه يحيى بن سعيد عن قرة، وهو أثر صحيح مشهور، صريح في تعظيم السلف لهذه
المناسبات، حتى إنهم قرروا كتابة التاريخ بناءا عليها، ولهذا الأثر شواهد عدةٌ سبق ذكرها .
وإليك تبيين هذه المناسبات الواقعة يوم الثاني
عشر من ربيع الأول، في المطالب التالية :
الحدث
الأول: المولد النبوي تاريخه وأعماله:
ذهب
أبو معشر إلى أن مولده عليه السلام كان لليلتيْن خلتا من ربيع الأول، وقال
ابن حزم: لثمان، وقيل لتسع، وقيل عشر، واعتمد بعضهم على الحساب الفلكي وهو خطأ
لأنه حساب تقريبي ليس تماما كما هو معروف، والصواب مذهب الجمهور - منهم إمام المؤرخين
ابن إسحاق – القائلين بأن تاريخ المولد النبوي كان يوم الاثنين الثاني عشر 12 من
شهر ربيع الأول .
وكذلك
خرج ابن عساكر من طريق معروف بن خربوذ وغيره من أهل العلم قالوا: ولد
رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل وسميت قريش آل الله وعظمت في العرب، ولد
لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول"،
وقال
القرطبي في تفسيره :" قال الماوردي في كتاب أعلام النبوة: ولد رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول "،
قال
ابن كثير في البداية (2/320) :" وهذا هو المشهور عند
الجمهور "، وهو الصحيح لما فيه من جمع بين الآثار المتعارضة كما سيأتي
فتأمل:
دليل أول: وهو أثر مجمل فيه تعيين يوم الولادة وهو
يوم الإثنين فقط، استدلالا بما خرجه أحمد (1/277) عن موسى بن داود عن ابن لهيعة عن
خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: " ولد النبي صلى الله
عليه وسلم يوم الإثنين، واستنبئ يوم الإثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم
الإثنين، وقدم المدينة يوم الإثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، ورفع
الحجر الأسود يوم الإثنين "، زاد عمرو بن بكير عن ابن لهيعة
:" ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين {اليوم أكملت لكم دينكم }"،
وذكر ابن عساكر بأنها زيادة غير محفوظة .
دليل ثاني: وهو أثر مبين ورد فيه بأن كل تلك
الأحداث كانت يوم الاثنين في النصف الأول من شهر ربيع الأول، ومن المعلوم أن
الثاني عشر من الشهر، من النصف الأول فتنبّه :
1.
خرج الفاكهي في أخبار مكة (3/384) حدثنا محمد بن عبد الملك الواسطي نا معلى بن عبد
الرحمن ثنا عبد الحميد بن جعفر عن عبد الله بن أبي جعفر عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال :" وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه السورة يوم الاثنين في أول شهر ربيع
الأول، ودخل المدينة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وقبض صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول " ،
المعلى
ضعيف عند الأكثرين وقد اضطرب في السند ، وورد عنه أنه بزيادة الزهري في السند :
2.
قال الفاكهي: حدثنا أحمد بن حميد الأنصاري عن المعلى بن عبد الرحمن ثنا عبد الحميد
بن جعفر عن [الزهري عن عبيد الله بن عبد الله] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال
:" وُلد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وقبض
صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول "،
تابعه
خلف بن محمد عن المعلى نحوه بلفظ :" ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الاثنين في ربيع الأول"،
ومعنى
رواية :" يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول "، أي في النصف الأول منه
لأمرين ،
أولاهما:
أنه قال: "أول شهر"، ولم يقل " أول يوم "، والثاني : للجمع
بينه وبين رواية " في ربيع الأول"،
3.
وقد رواه خيثمة عن خلف بن محمد الواسطي عن المعلى بن عبد الرحمن عن عبد
الحميد بن جعفر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: ولد
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول, وأنزلت عليه النبوة يوم
الاثنين في أول شهر ربيع الأول , وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول
".
وكذلك
هي الآثار التالية المتوافقة والمفسرة: من حديث ابن عباس وغيره رضي الله عنهم كما
سيتبين:
الدليل الثالث: وهو دليل مفسر
موافق لما سبق، له طريقان :
1. قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان عن
سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل
يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه
هاجر، وفيه مات ".
قال
ابن كثير في البداية والنهاية (3/135) :" فيه انقطاع، وقد اختاره الحافظ عبد
الغني بن سرور المقدسي في سيرته "،
وقد
ذكر بعضهم عثمان بدل عفان، وهو تصحيف، وعثمان لا أدري أهو بن عثمان أم بن عمر
وكلاهما ثقة، والصواب عفان، وقد ورد الحديث بإسنادٍ مزيد متصل صحيح :
2.
قال الإمام البغوي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان عن [سليم بن حيان] عن
سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس قالا :« وُلد رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل، يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول،
وفيه بعث، وفيه عرج إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات صلى الله عليه وسلم »، كذا
قال :"يوم الفيل"، وغيره قال" عام الفيل"، وهو الصواب، خرجه
عنه الجورقاني في الأباطيل والصحاح (122) قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر
بن علي الحافظ أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا عيسى بن علي بن علي بن عيسى
إملاء قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي فذكره .
وهو
حديث صحيح: محمد بن طاهر بن علي هو ابن القيسراني المقدسي الظاهري، ثقة حدث شبه
اتفاق على توثيقه، وإنما تكلم فيه بسبب بعض مذهبه وبعض فتاويه.
وهو
مصنف كتاب رجال الصحيحين والسؤالات وأطراف الغرائب، وأطراف الصحيحين وغيرهما
وأطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان (تذكرة الحفاظ )، ومعجم الشيوخ والأنساب
المتفقة والمؤتلف غير ذلك من كتب العلل والحديث والمصنفات الكثيرة التي تدل على
سعة علمه، وهو أول من ضم سنن ابن ماجه إلى الكتب الستة، وله ذكر كثير في علم مصطلح
الحديث.
وصفه
تلميذه الجورقاني بالحافظ، وقال عنه ابن الجوزي: صنف كتاباً سماه صفوة التصوف،
يضحك منه من رآه، ويعجب من استشهاداته بالأحاديث التي لا تناسب، وكان داودي، فمن
أثنى عليه، فلِحِفظه الحديث"، فذمه في تأليفه في التصوف وما يخالف مذهبه،
واعترف بحفظه للحديث.
وقال
عنه ابن خلكان :" وكان من المشهورين بالحفظ والمعرفة بعلوم الحديث، وله في
ذلك مصنفات ومجموعات تدل على غزارة علمه وجودة معرفته... "
وذكره
السيوطي في طبقات الحفاظ وقال :" الحافظ العالم المكثر الجوال ".
وذكره
الذهبي في السير وفي تذكرة الحفاظ وقال :" الإمام الحافظ العالم المكثر
الجوال "، وقال في السير: " وكتب ما لا يوصف كثرة بخطه السريع، القوي
الرفيع، وصنف وجمع، وبرع في هذا الشأن، وعني به أتم عناية، وغيره أكثر إتقانا
وتحريا منه ".
وقال
:" قال ابن عساكر سمعت محمد بن اسماعيل الحافظ يقول: أحفظ من رأيتُ ابن طاهر
"، فقدمه على عامة حفاظ زمانه .
وقال
أبو زكريا بن منده – في تاريخه - : كان ابن طاهر أحد الحفاظ حسن الاعتقاد جميل
الطريقة صدوقا، عالما بالصحيح والسقيم ،كثير التصانيف، لازما للأثر".
قال
السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت الصحيحين وسنن أبي داود سبع مرات بالاجرة وسنن ابن
ماجه عشر مرات ".
وقال
السلفي: كان فاضلا يعرف، ولكنه كان لحنة"، أي يلحن في النحو .
وقال
السمعاني: سألت ابا الحسن الكرخي الفقيه عن ابن طاهر فقال: ما كان على وجه الأرض
له نظير..".
وقال
شجاع الذهلي :" له تصانيف حسنة مفيدة في علم الحديث ".
وقال
ابن الغزي :" هو الإمام المحدث الحافظ ".
وقال
ابن العماد في شذرات الذهب :" وكان من أسرع الناس كتابة، وأذكاهم وأعرفهم
بالحديث، والله يرحمه ويسامحه ".
ثم
قال :" وقال الحافظ ابن ناصر الدّين: كان حافظا، مكثرا، جوّالا في البلاد،
كثير الكتابة، جيد المعرفة، ثقة في نفسه، حسن الانتقاد، ولولا ما ذهب إليه من
إباحة السماع ".
وقال
شيرويه في تاريخ همذان – وهو تلميذه وأعرف به - :" كان ثقة صدوقا حافظا عالما
بالصحيح والسقيم حسن المعرفة بالرجال والمتون كثير التصانيف جيد الخط لازما للأثر
بعيدا من الفضول والتعصب خفيف الروح قوى السير في السفر ".
فإذ
قد ثبتت إمامته وثقته بيقين، فلا يقبل فيه الجرح إلا بيقين :
وقد
نظرنا في ذلك فوجدنا أنهم جرحوه لأنه كان يُصحّف كما قالوا ، ولأنه كان يرى جواز
النظر وإباحة الغناء، وهذا لا يطعن في الثقة والضبط أبدا، لأنه كان ظاهري المذهب،
وهمْ يجيزون الغناء العفيف .
فقال
الصفدي: وكذلك الحافظ اسماعيل بن أحمد الطلحين كان سيء الرأي فيه "،
وهذا
ليس بجرح في الضبط، بل في المذهب فقط .
قال:"
وذكره الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الدقاق فأساء الثناء عليه جدا ونسبه
إلى أشياء"،
وهذا
أيضا ليس في الضبط بل في المذهب والأشياء التي يذهب إليها .
ومع
ذلك فقد تعقب كلَّ ذلك الجرح الإمامُ الذهبي فقال في تذكرة الحفاظ :" وقد
ذكره الدقاق في رسالته فحط عليه ..وقال: .. وله أدنى معرفة بالحديث .."،
قال
الذهبي: " هو أحفظ منك بكثير يا هذا، ثم قال: وذكر لي عند الاباحة"، قلت
– الذهبي - : بل الرجل مسلم معظم للآثار، وإنما كان يرى إباحة السماع لا الإباحة
المطلقة التي هي ضرب من الزندقة والانحلال ".
فإذا
كان الدقاق ثقة، فإن ابن طاهر أوثق منه بكثير عند الذهبي .
وقال
ابن ناصر: ابن طاهر لا يحتح به، صنف في جواز النظر إلى المرد وكان يذهب مذهب
الإباحة"، وهذا تفسير لا يجرح أبدا، وقد كان كثير من الحفاظ يبيحون السماع
وحتى النبيذ وهم ثقات .
وأجاز
جماعة من السلف النظر إلى الأمر إذا لم يكن بشهوة، بل قد ثبت مشروعية النظر إلى
الخنثى من الرجال والنساء سواء،
وورد في الصحيح من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة؛ أن مخنثا
[يقال له هيت] كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدونه من
غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة ... ثم منعه بسبب إفشاء أسرار النساء,
ولذلك
قال الذهبي متعقبا : معلوم جواز النظر إلى الملاح عند الظاهرية وهو منهم ".
وقال
في السير :" فحاشا ابن طاهر، هو والله مسلم أثري، معظم لحرمات الدين، وإن
أخطأ أو شذ، وإن عنيت إباحة خاصة، كإباحة السماع، وإباحة النظر إلى المرد، فهذه
معصية، وقول للظاهرية بإباحتها مرجوح". دوقد كان هذا في زمنهم، وأما في
زمننا فأكثر الذكور مردان، فلا مناص من النظر, والعمل يقول الظاهرية
قال
ابن عساكر: مصنفاته كثيرة لكنه كثير الوهم وله شعر حسن وكان لا يحسن النحو"،
وقد
فسر وهْمه وهو اللحن في النحو، وكذلك حمله السلفي على التصحيف، لا الوهم في الحفظ
، فقال السلفي: كان فاضلا يعرف لكنه لحنة "،
واعجب
بقوم يجعلون هذا الكلام مع المُجَرّحين، مع أنه هو قد عدّله وأثنى عليه ، وإنما
تكلم عن تصحيفه ، وقد كان أوثق الناس شعبة يُصحف ولم يطعن ذلك في حفظه، فافقهوا
قبل أن تتكلموا وتجرحوا أئمة المسلمين ونقادهم .
ثم
إن هذا الحديث يفسر الحديثَ السابق عن عبد الله بن أبي جعفر عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال :" ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول ..."،
أي
في النصف الأول وهو اليوم الثاني عشر .
الأثر الرابع: قال ابن الصواف في جزئه (ر49)- أخبرنا عقبة
بن مكرم حدثنا المسيب بن شريك حدثنا محمد بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: كان بين الظهران راهب من الرهبان يدعى عيضا من أهل الشام وكان مختصرا بالعياض
بن وائل , وكان الله عز وجل قد أتاه علما كثيرا , وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة
من طب ورفق وعلم , وكان يلزم صومعة له , ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس , ويقول:
إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم هذا زمانه ومن
أدركه واتبعه أصاب حاجته , ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته , وبالله ما تركت أرض
الحمر والحمير أو الأمن , ولا حللت أرض البؤس والخوف والجوع إلا في طلبه , وكان لا
يولد بمكة مولود إلا يسل عنه , فيقول: ما جاء بعد.
فيقال:
صفه.
فيقول:
لا, ويكتم ذلك الذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى
أذى ما يقضي إليه من الأذى يوما فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
خرج
عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيضا فوقف في أصل صومعته , ثم نادى: يا عيضا.
فناداه:
من هذا؟ فقال: أنا عبد الله.
فأشرف
عليه، فقال: كن أبوه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين
, ويبعث يوم الاثنين , ويموت يوم الاثنين. قال: وإنه قد ولد لي مع الصبح
مولودا، قال: فما سميته؟ قال: محمدا ...، ثم ذكر وصفه وفيه : قال: فحمل برسول الله
صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء المحرم , وولد يوم الاثنين اثنتي عشرة
خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل".
قوله
:" وولد يوم الاثنين اثنتي عشرة خلت من رمضان "، وهم انقلب على الراوي، وإنما هو الربيع .
أثر خامس: وقد ورد أن المولد كان يوم العاشر من
ربيع الأول : وهو قول قريب من السابق ، بل لا يعارضة لأنه من باب إلغاء ذكر
بعض الشيء .
رواه
الحسن بن عثمان أخبرني ابن أبي زائدة عن مجالد عن عامر قال:" ولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول ".
الأثر السادس: قال
الواقدي حدثنا ابن أبي سبرة عن أبي جعفر محمد بن علي قال ولد رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول "، خرجه عنهما ابن عساكر
(3/75) .
الحدث الثاني: ذكر وفاته عليه السلام يوم الإثنين 12 ربيع الأول :
ومن
جلالة هذا اليوم أن اختار الله تعالى فيه إلحاق خليله وصفيه محمد عليه السلام إليه
فيه :
قال
ابن عساكر في إتحاف الزائر (159) :" واتفقوا أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم
الاثنين، قالوا كلهم وفي ربيع الأول، غير أنهم قالوا أو قال أكثرهم: في الثاني عشر
من ربيع الأول "،
ثم
تعقبهم فقال :" ولا يصح أن يكون توفي في يوم الاثنين إلا في الثاني من الشهر،
والثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة في حجة
الوداع كانت يوم الجمعة، وهو التاسع من ذي الحجة ..." ،
والقول
الأول قول الجمهور هو الأصح، وكذلك قال ابن حبان في صحيحه (15/37) :" وذاك أن
المصطفى صلى الله عليه وسلم قبضه الله إلى جنته يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت
من شهر ربيع الأول سنة عشرة من الهجرة "،
1/
وكذلك رجحه الطبري في تاريخه، ثم خرج (2/241) من طريق عبيد الله عن نافع عن
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع، فأراهم
مناسكهم، فلما كان العام المقبل حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة
عشر؛ وصدر إلى المدينة، وقبض في ربيع الأول ".
2/
وخرج من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم عن أبيه
قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول في اثنتي عشرة ليلة مضت
من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء ".
ومضى
ما صحّ من حديث جابر وابن عباس قالا: وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل
يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه
هاجر، وفيه مات "،
وقد
اعترض معترضون على الاحتفال فيه وقالوا: كيف تحتفلون بيوم مات فيه رسول الله عليه
السلام؟ وقد أجاب عنه الصالحي وغيره بأن الأحزان لا يجوز الندب فيها ولا التحازن ولا الحداد فوق ثلاثة أيام بنص الحديث، خلافا لما
يفعله الشيعة دوما بندب الحسين.
ثم
كيف يستدل تبديعيوا المولد علينا بشيء هم لم يفعلوه، فهلا ندبوا النبي عليه السلام
في هذا اليوم كما تندب الرافضة الحسين؟؟
وأما
المسلمون فالأفراح عندهم بأيام الله فإن الخطاب فيها مستمر إلى يوم القيامة، ولو
أعملوا عقولهم لوجدوا بأن وفاة النبي عليه السلام أمر عظيم، حتى أنه هو اختاره، وأنه
يومٌ اشتاق فيه الرحيلَ إلى الرفيق الأعلى،والجنات العلا، وسأل الله ذلك، فتقبل الله دعاءه ونقله إلى
جواره في جنة عدنه.
ولذلك كان من صورِ تعظيم السلف
ليوم الإثنينِ رجاءهم الموتَ في يومه أو ليلته : كما
في :
الدليل الثالث: قال البخاري في الصحيح: باب موت يوم الاثنين، ثم خرج (1387) عن
عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: في كم كفنتم
النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: «في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا
عمامة» وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: «يوم
الاثنين» قال: فأي يوم هذا ؟ قالت :« يوم الاثنين » قال: أرجو فيما بيني وبين
الليل ..."، فمات فيه رضي الله عنه .
وخرجه ابن بشران في الأمالي
(1114) من طريق عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضر – حضرته
الوفاة - ، قال :" .... ثم قال: أي يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: قلت: في يوم الاثنين، قال: وأي يوم هذا؟ قلت: يوم الاثنين، قال: إني لأرجو
من ربي عز وجل فيما بيني وبين الليل، قالت: فمات ليلة الاثنين، ودفناه قبل أن يصبح
.."،
ثم إنه قد حدثت أعظم الوقائع
والمناسبات الكبيرة بين هذين الحدثيْن المُمَيّزيْن، ميلاده عليه السلام إلى
وفاته:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحدث
الثالث: بدْأ نبوّته عليه السلام يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول:
من المعلوم أن بدْأ الرسالة
ونزول القرآن كان يوم الاثنين من شهر رمضان، وأما أمر النبوة والرؤيا الصادقة فقد
سبق ذلك بحوالي خمسة أشهر، حيث بدأ يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول،
فتأمل التوفيق بين مختلف
الأدلة :
1. فقد مضى ما صحّ من حديث
جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين
الثاني عشر من ربيع الأول ، وفيه بُعث ، ..."،
2. وخرج البخاري (3) عن عائشة أم المؤمنين
أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي
الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه
الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن
ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه
الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ اقرأ، قال: «ما أنا
بقارئ»، قال: " فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت:
ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،
فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي
خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم} [العلق: 2] " فرجع بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها،
فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ...قال:" بينا أنا أمشي إذ
سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين
السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني " فأنزل الله تعالى:
{يا أيها المدثر. قم فأنذر} [المدثر: 2] إلى قوله {والرجز فاهجر} [المدثر: 5].....".
وفي حديث لجابر :" ... فانطلقت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني
وصبوا علي ماء باردا فأنزلت علي {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر}.
3. وخرج الحاكم (2/242)
وصححه عن حسان بن حريث
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" فُصل القرآن من الذكر
فوُضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى
الله عليه وسلم ويُرتّله ترتيلا ".
وهذا يعني أنه نُبّئ أولاً
في شهر ربيع الأول، ثم أنزلت عليه الرسالة والقرآن في شهر رمضان من يوم الإثنين،
حيث نزل القرآن دفعة ليلة القدر، وبعدها مباشرة أخذ جبريل ينزله مفرقا على النبي
عليه السلام، فكانت نبوته الأولى بالرؤيا الصادقة في ربيع الأول، وتأكدت رسالته
بقوله تعالى في رمضان : {إقرأ}، ثم بعدها مباشرة أمر بالرسالة والبلاغ في قوله
:{يا أيها المدثر }.
وأما رواية معلى بن عبد
الرحمن ثنا عبد الحميد بن جعفر عن عبد الله بن أبي جعفر عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال :" ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في أول شهر
ربيع الأول، وأنزلت عليه السورة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول .."،
فمُعلى
مِمّن يهم في حديث عبد الحميد بن جعفر ، وهذه اللفظة " أنزلت عليه السورة يوم
الاثنين في أول شهر ربيع الأول "، وهْم بلا شك، لأن أول ما نزل من القرآن كان
في رمضان، ولذلك كان الصواب هي رواية من قال :" وفيه بعث أو
استنبئ " .
وقد
كان عليه السلام يخص شهر رمضان بالاعتكاف في غار حراء ويصنع الطعام للناس والزوار
:
كما
قال محمد بن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان أنه سمع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
يسأل عبيد بن عمير الجندعي، عن بُدُوّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال
عبيد: كان صلى الله عليه وسلم يجاور بحراء من كل سنة شهرا، ويطعم من جاءه من
المشركين، فإذا قضى جواره لم يصل إلى بيته حتى يطوف بالكعبة، فبينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بحراء، وكان يقول: " لم يكن من الخلق شيء أبغض إلي من شاعر أو
مجنون، كنت لا أطيق النظر إليهما، فلما ابتدأني الله عز وجل بكرامته أتاني رجل في
كفه نمط من ديباج، فيه كتاب، وأنا نائم فقال: اقرأ، فقلت: وما أقرأ؟، فغطني حتى
ظننت أنه الموت، ثم كشط عني، فقال: اقرأ، فقلت: وما أقرأ؟ فعاد لي مثل ذلك فقال:
اقرأ، فقلت: وما أقرأ؟ فعاودني بمثل ذلك، فقلت: أنا أمي، ولا أقولها إلا تنحيا من أن
يعود لي بمثل الذي فعل بي، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق}
[العلق: 2] إلى قوله {علم الإنسان ما لم يعلم} ...".
ثم
إن النبوة والرسالة كانا يوم الإثنين معا، كما مر حديث ابن عباس قال: " ولد
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، واستنبئ يوم الإثنين، ...".
وخرج
أبو يعلى (المقصد العلي 3/186) عَنْ حَبَّة عَنْ عَلِيّ قَال: بُعِثَ رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَأَسْلَمْتُ
يَوْمَ الثُّلاثَاءِ ".
وخرجه
الحاكم (3/121) عن مسلم الملائي عن أنس رضي الله عنه قال: «نبئ النبي صلى
الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء ».
وخرج
(3/201) عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلَّى
يوْم الاثنين وصلت معه خديجة رضي الله عنها، وأنه عرض على عليٍّ يوم الثلاثاء
الصلاة فأسلم "،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحدث
الرابع: ما ورد في مِعراجه ليلة الإثنين 12 من ربيع الأول :
اختلفوا
في عدد مرات وقوع المعراج؟ وهل وقع مع الإسراء؟ أم منفصلا عنه؟ كما اختلفوا في سنة
المعراج اختلافا كثيرا، والمهم أنه كان قبل الهجرة.
وأمّا
في الشهر فقيل هو في رجب، وقيل ذي الحجة، وقيل غير ذلك، والصواب قول الجماهير، على
ما قاله العيني في عمدة القاري (17/20) :" قيل: كَانَ قبل الْهِجْرَة بِسنة،
فِي ربيع الأول، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين، حَتَّى بَالغ ابْن حزم فَنقل
الْإِجْمَاع على ذَلِك "،
وهو
الصحيح لما صح من حديث جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء،
وفيه هاجر، وفيه مات ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شذ عبد العزيز بن عمران فروى عن
إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنين عن الحارث بن
حزمة قال: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لأربع
عشرة مضت من ربيع الأول، وكان يوم بدر يوم الاثنين من رمضان، وتوفي يوم الاثنين لخمس
عشرة من ربيع الأول ". ولم يصح:
والصواب الذي تواترت به الأحاديث أن مقدمه
وموته كان في الثاني عشر منه.
فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي
عليه السلام خرج من مكة مهاجرا ليلة الجمعة 27 صفر، حيث لبث في الغار ثلاثة أيام،
لينطلق إلى مكة أول ربيع الأول، ليصل المدينة: في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول،
المصادف ليوم مولده، وفي ذلك أدلة :
1/ مضى حديث ابن عباس :" ...ودخل المدينة يوم الاثنين في أول شهر ربيع
الأول "،
أي
في النصف الأول منه، وقد بينته روايات أخرى أنه " ودخل المدينة في اليوم
الثاني عشر منه ".
صح
من حديث جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم
الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر،
وفيه مات "،
2/
خرجه البيهقي في الدلائل (2/511) باب ذكر التاريخ لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة، والحاكم (3/475) والضياء في المختارة مصححا له من طريق الوليد بن مسلم عن
عبد الله بن يزيد عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه قال: «قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول،
فأقام بالمدينة عشر سنين ».
الدليل الثالث: قال البخاري في الصحيح :" باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه إلى المدينة، ثم خرج (3905) ... عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا
قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع
المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة،
فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، .. فلم يملك اليهوديّ أن قال بأعلى صوته:
يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني
عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ..."، وقد ورد شبه المتصل :
خرج
ذلك عبد الرزاق (5/384) عن معمر: قال الزهري وأخبرني عروة بن الزبير أنه لقي
الزبير وركبا من المسلمين كانوا تجار المدينة بالشام قافلين إلى مكة فعرضوا للنبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثياب بياض، يقال كسوهم أعطوهم، وسمع المسلمون
بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة
فينتظرونه حتى يؤذيهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره، فلما انتهوا
إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله
وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يتناهى اليهودي أن نادى بأعلى صوته يا معشر
العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فلقوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى أتوه بظاهر الحرة فعدل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ".
وروى
أحمد بن حنبل حدثنا حجاج بن محمد حدثنا ليث بن سعد حدثني عقيل عن ابن شهاب قال
:" كان بين ليلة العقبة وبين مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر
أو قريب منها، وكانت بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في ذي
الحجة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول، وتوفي في
ربيع الأول لتمام مهاجره من مكة إلى المدينة عشر سنين "، وله طرق أخرى أوضح :
دليل رابع: خرّجه
أحمد من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال :" أقامَ رسولُ الله بمكة بعد
نزول الوحي عليه ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر فقدم المدينة في شهر ربيع الأول ليلة
الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت منه ".
وابن
إسحاق من أعلم الناس بالسير، وقدْ ورد قوله موصولا كما في:
الدليل الخامس: رواه
عنه البيهقي في الدلائل (2/512) عن ابن إدريس قال: حدثنا ابن إسحاق عن محمد بن
جعفر عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويمر قال: أخبرني بعض قومي قال: قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع
الأول "،
وهذا
حسن بشواهده .
ورواه أبو نعيم في الصحابة من ترجمة صرمة: عن سعيد بن يحيى بن سعيد
الأموي، حدثني أبي، ثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن
الزبير، عن عبد الرحمن، عن عويمر بن ساعدة، قال: لما سمعنا مخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم كنا نخرج كل يوم ننتظره، فقدم المدينة يوم الاثنين لثنتي عشرة مضت
من ربيع فقال في ذلك صرمة بن أبي أنس وهو يذكر شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكة:
ثوى بمكة بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا
مواتيا
وذكر الأبيات
الدليل السادس: وفيه توافق يوم
الهجرة مع يوم الوفاة وذلك في 12 من ربيع الأول:
1. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَان عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ
اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ آخِرُ مَا
عَهِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ:" لا
يَتْرُكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ"، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ
رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا،
قَالَتْ: كَمُلَ فِي هِجْرَةٍ عَشْرُ سِنِينَ كَوَامِلَ ".
2. قال ابن سعد في الطبقات (8/58) خبرنا محمد بن عمر أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن أبيه
عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قالت: سمعت عائشة تقول: تزوجني رسول
الله صفي شوال سنة عشر من النبوة فبل الهجرة لثلاث سنين وأنا ابنة ست سنين، وهاجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم على المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة
ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من المهاجر،
وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين ".
الدليل السابع:
قال أبو حاتم الرازي حدثنا محمد
بن عابد الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن يزيد عن أبي البداح بن عاصم
بن عدي عن أبيه قال قدم رسول الله المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من
شهر ربيع الأول فأقام بالمدينة عشر سنين". خرجه الضياء في الأحاديث المختارة
194 مصححا له، وحسنه الذهبي في
التاريخ (1/12)
الدليل الثامن: اتفاق السلف والمؤرخين
على ذلك التاريخ:
قال الشربيني والبغوي
والقرطبي في التفسير وغيرهم في تفسير الجمعة:" ذكر أهل السير والتواريخ: أن
النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف،
وذلك يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى، فأقام
بقباء يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج من بين
أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن
واد لهم، وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجدا فجمع هناك وخطب ".
وقال القرطبي:" قال أبو حاتم البستي: صلى
المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة
كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل
باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان".
وتقلوه عن ابن عبد البر في كتاب الدرر في
المغازي والسير.
فإذا
ثبت دخوله عليه السلام المدينة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فقد ثبت
احتفال الصحابة بهذا اليوم فرحا بمقدمه عليه السلام:
الدليل 9/ في سبب تسمية
المدينة بالمنورة:
قال أنس وذكر النبي صلى الله
عليه وسلم قال:" شهدت يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن منه ولا
أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .."، خرجه عنه أحمد
(3/287) بإسناد صحيح ،
الدليل 10/ فرح الصحابة بمقدم
رسول الله مهاجرا إليهم:
خرج البخاري (4941) عن
البراء قال: " أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن
عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر
بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا
بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله قد جاء "،
قال القرطبي في تفسيره من
قوله تعالى [لهو الحديث ]: قال القشيري: ضرب بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح، فكن
يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار ".
الدليل 11/ خرج الخلعي في فوائده الصحاح أخبرنا عبد الرحمن بن عمر بن
محمد الشاهد قال: حدثنا محمد بن جعفر بن دران غندر: حدثنا الفضل بن الحباب سمعت
عبيد الله بن يحيى عن عائشة تقول: " لما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقولُنَّ:
طلع البدر علينا ... من
ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا
لله داع ".
.هكذا رواه عن عبيد الله عن عائشة، وقيل تصجيف صوابه عبيد الله بن
عائشة:
ورواه البيهقي في دلائل
النبوة (2/503) عن الحافظ أبي بكر الإسماعيلي سمعت أبا خليفة سمعت ابن عائشة يقول:
لما قدم عليه السلام المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:..."، وهو معضل صحيح
كما قال الحفاظ، لثبوت ذلك في هذا الشعر، وتلقي الناس له بالقبول.
قال
البيهقي (5/266) أخبرنا أبو نصر بن قتادة قال أخبرنا أبو عمرو بن مطر
قال سمعت أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول: "لما قدم النبي المدينة جعل
النساء والصبيان والولائد يقلن
( طلع البدر علينا % من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر
علينا % ما دعا لله داع )
قال
محب الطبري في الرياض النضرة :" عن ابن الفضل ابن الحباب
الجمحي قال سمعت ابن عائشة يقول أراه عن أبيه قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون:
طلع البدر علينا ... من ثنيات
الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
قال:" خرجه الحلواني على شرط الشيخين ".
وقد قال ابن حبان في الثقات
(1/131) :" فتلقى الناس والعواتق فوق الجاجير والصبيان والولائد يقولون:
طلع البدر علينا ... من
ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع وأخذت الحبشة يلعبون بحرابهم لقدوم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا بذلك ".
وللحديث شواهد كثيرة:
الدلبل 12/ احتفال
الصحابة بمقدم رسول الله:
خرجه البيهقي في الدلائل
(2/508) عن ابن صرمة عن يحيى بن سعيد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس
قال:" قدم رسول الله المدينة فلما دخل المدينة جاءت الأنصار برجالها ونسائها
فقالوا إلينا يا رسول الله، فقال: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي
أيوب، قال: فخرجت جوارٍ من بني النجارِ يضربن بالدفوف وهن
يقلن: نحن جَوَار من بني النجار .. يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهم رسول الله فقال
أتحبوني؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله، قال: أنا والله أحبكم وأنا والله أحبكم
أنا والله أحبكم ".
وله متابعات صحيحة جيدة :
رواها
ابن يونس عن عوف الأعرابي عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس مثله ، خرجها عنه
الطبراني في الصغير (78) وابن ماجه (1899) بإسناد صحيح.
ومن هذه الوجه خرجه الخلال
والبزار (13/504) عن ابن أبي عدي عن عوف عن ثمامة عن أنس قال: لما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة تلقاه جواري الأنصار فجعلن يقلن:
نحن جواري من بني النجار. .
يا حبذا محمد من جار ".
وقال أبو يعلى (الزوائد
4/252) حَدَّثَنَا سَعِيد – بن أبي الربيع - نا رَشِيد - أبو عبد الله- نا ثَابِت
عَنْ أَنَس قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ وَهُنَّ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَقُلْن:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي
النَّجَّار ... يَا حَبَّذا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارٍ
فَقَالَ نَبِي اللَّه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِنَّ» .
وخرجه أبو نعيم في الحلية
(3/120) عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجوار من الأنصار
وهن يضربن بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار ...
يا حبذا محمد من جار ".
الدليل الثالث عشر: ما ورد في
التهادي ولبس الجديد في هذا الموسم 12 من ربيع الأول، وتسمية ذلك بالموسم:
خرج
ذلك أحمد (3/402) والطبراني والحاكم (3/551) - وصححه ووافقه الذهبي-، وابن أبي
عاصم (1/420) في المثاني عبيد الله بن المغيرة عن عراك بن مالك أن حكيم بن حزام
قال: «كان محمد صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي في الجاهلية، فلما تنبأ،
وخرج إلى المدينة، شهد حكيم الموسم [وهو كافر]، فوجد حلة لذي يزن تباع
بخمسين درهما، فاشتراها ليهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم بها عليه [بالمدينة]
وأرادهُ على قبضها، فأبى عليه وقال: «إنا لا نقبل من المشركين شيئا، ولكن أخذناها بالثمن»، فأعطيتها إياه، حتى أتى المدينة، فلبسها فرأيتها
عليه على المنبر، فلم أر شيئا قط أحسن منه فيها يومئذ، ثم أعطاها أسامة بن زيد،
فرآها حكيم على أسامة، فقال: يا أسامة، أنت تلبس حلة ذي يزن، قال: نعم، لأنا خير
من ذي يزن، ولأبي خير من أبيه، ولأمي خير من أمه، قال حكيم: فانطلقت إلى مكة
أعجبهم بقول أسامة]"،
تُرى:
أي موسم هذا الذي حضره حكيم بن حزام زمن النبوة ؟
أهو
موسم عاشوراء؟ أم الحج أم المولد؟؟
لمعرفة
ذلك لا بد من معرفة أن حكيم بن حزام كان ممن أسلم متأخرا عام الفتح، وكان تاجرا صديقا
للنبي عليه السلام منذ الجاهلية، وكان يزوره، فحدث أن خرج إلى اليمن بعد صلح
الحديبية، ليشتري حلة كانت مِلْكا لملكها، ثم قفل إلى المدينة المنورة لزيارة
النبي عليه السلام، فوافاه في موسم الهجرة النبوية إلى المدينة،
ولا يمكن أن يقول أحد أن
الموسم هو موسم الحج، إذ لم يكن حج آنذاك، لكون مكة المكرمة تحت حكم قريش، ولأنه
عليه السلام ما حج إلا في آخر حياته بعد فتح مكة،
وأما هذا الحديث فهو متقدم
قبل فتح مكة، فلما قدم المدينة زمن هذا الموسم أراد إهداء النبي عليه السلام هدية
بمناسبة هذا الموسم العظيم.
وقد سمى الصحابي هذا اليوم
بالموسم،
ولا يمكن أيضا أن تكون هذه
الواقعة أثناء صلح الحديبية، لا بل بعدها،
لأن صلح الحديبية كان قرب مكة المكرمة، حين منعوه من دخولها للعمرة، ثم تصالحوا،
وقد دل هذا الحديث أن الموسم
الذي حضره حكيم كان في المدينة المنورة، كما هو مصرح بذلك:
وفي
قوله :" كان محمد النبي أحب الناس إلي في الجاهلية،
فلما تنبأ، وخرج إلى المدينة خرج حكيم بن حزام الموسم "، إشعار بأنه موسم
الوصول إلى المدينة المنورة يوم 12 من ربيع الأول،
وقد ورد ما يدل على أن هذه الزيارة كانت بين
زمن الجديبية وفتح مكة:
روى الطبري في تهذيب الآثار عن عبد الملك بن
مسلمة حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة: أن حكيم بن حزام خرج إلى
اليمن فاشترى حلة ذي يزن ، فقدم بها المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فأهداها له ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إنا لا نقبل هدية مشرك
» . فباعها حكيم ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت له ، فلبسها ،
ثم دخل فيها المسجد ، فقال حكيم : فما رأيت أحدا قط أحسن منه فيها ، لكأنه القمر
ليلة البدر ، فما ملكت نفسي حين رأيته كذلك أن قلت : ما ينظر الحكام بالحكم بعدما
بدا واضح ذو غرة وحجول إذا واضخوه المجد أربى عليهم بمستفرغ ماء الذناب سجيل فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه الطبراني في الكبير 3094 عن محمد بن
إبراهيم ثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن حكيم بن حزام قال : خرجت إلى
اليمن فابتعت حلة ذي يزن فأهديتها إلى النبي صلى الله عليه و سلم في المدة التي
كانت بينه وبين قريش، فقال : لا أقبل هدية مشرك فردها فبعتها فاشتراها فلبسها ثم
خرج إلى أصحابه وهي عليه فما رأيت شيئا في شيء أحسن منه فيها صلى الله عليه وسلم
فما ملكت أن قلت :
( ما
ينظر الحكام بالفضل بعدما ... بدا واضح من ذي غرة وحجول )
( إذا
قايسوه المجد أربا عليهم ... بمستفرغ ماء الذناب سجيل )
فسمعه
رسول الله صلى الله عليه و سلم فالتفت إلي يبتسم ثم دخل وكساها أسامة بن زيد ".
وصح
عن جابر وابن عباس أن الوصول من الهجرة كان يوم 12 من ربيع الأول،
قال القرطبي في تفسيره من
قوله تعالى [لهو الحديث ]: قال القشيري: ضرب بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح، فكن
يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار .
الدليل 14: وفيه الضرب
بالدف عند الوصول من الهجرة:
قال الطبراني في الأوسط
(3943) ثنا علي بن سعيد الرازي ثنا عبد الرحمن بن الفضل بن موفق ثنا أبي نا
إسرائيل عن النعمان عن الأوزاعي عن سالم عن سديسة مولاة حفصة عن حفصة قالت: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد نذرتُ أن أضرب بالدف إن قدم من مكة، فبينا أنا
كذلك إذ استأذن عمر، فانطلقت بالدف إلى جانب البيت فغطيته بكساء، فقلت: إن نبي
الله أحق أن يهاب، فقال: «إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه ».
وخرجه أبو نعيم في مسند أبي
حنيفة النعمان (186) عن إسرائيل عن النعمان أبي حنيفة عن الأوزاعي عن سالم بن عبد
الله عن سديسة مولاة حفصة قالت: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وقد نذرت أن أضرب
بالدف إن قدم مكة .."، فذكر مثله ولم يذكر حفصة وهو اختلاف لا يقدح.
ثم خرجه عن إبراهيم بن عبد السلام
ثنا عبد الرحمن بن الفضل بن موفق ثنا أبي عن إسرائيل عن أبي حنيفة عن سالم عن
سديسة عن حفصة قالت: نذرت امرأة أن تضرب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالدف فقال لها: «فِ نذرك»، لكن لم يذكر الأوزاعي ، وذكره هو المحفوظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجنس الثاني: بيان أن الأصل
في الأعياد التوسيع، وحضور النبي عليه السلام وزوجاته إلى الاحتفالات العرفية
الجاهلية:
استدلالا بما مضى من صحيح البخاري (949) باب
الحراب والدرق يوم العيد، عن عائشة قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر
فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم ؟! فأقبل عليه رسول
الله عليه السلام فقال: "دعهما". فلما غفل غمزتهما فخرج.
وكان يوم عيد، يلعب السودان بالدرق والحراب،
فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وإما قال: «تشتهين تنظرين؟» فقلت: نعم،
فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: «دونكم يا بني أرفدة» ..
قهذا عليه السلام احتفل وأقر الاحتفال بهذا
العيد الجاهلي يوم بعاث، قال ابن الجوزي: إنه يوم كان الأنصار في الجاهلية اقتتلوا
فيه"،
وقال العيني في عمدة القاري عن يوم بعاث: "
يَوْم حَرْب كَانَ بَين الْأَوْس والخزرج بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ كل وَاحِد من
الْفَرِيقَيْنِ ينشد الشّعْر وَيذكر مفاخر نَفسه ".
ثم إنّ عمر دخل عليهم فزجرهم ولم يُقر:
كما خرج النسائي (1596) والبزار (7739) عن سعيد
عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد
فزجرهم عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهم يا عمر فإنها هم بنو أرفدة
".
ثم أخبر عليه السلام بأن الأصل في الأعياد
التوسيع :
فقد زاد الحميدي (256) عن يعقوب عن عائشة
:" وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَبُوا يَا
بَنِي أَرْفَدَةَ تَعْلَمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً»
.
وخرج أحمد (6/116) (6/233) عن عائشة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يومئذ لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، أني
أرسلت بحنيفية سمحة "،
وخرجه الحارث (866) عن عبد الرحمن بن إسحاق عن
الشعبي رفعه الى النبي صلى الله عليه و سلم : مر على أصحاب الدركلة قال خذوا يا
بني ارفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة قال فبينما هم كذلك إذ جاء
عمر رأوه ابذعروا "، أي تفرقوا.
وهذه نصوص صريحة في أن الأصل في الأعياد والاحتفالات
هو التوسيع والفسحة لا التضييق،
الجنس
الثالث: ما ورد من أدلة عامة أو خاصة على الاحتفال بالثاني عشر من ربيع:
الصنف الأول: الأدلة القرآنية
وصورها:
من
بينها أدلة عامة حاثة على الفرح بفضل الله تعالى وأيامه الفاضلة:
1. كما مر في
قوله تعالى: {وذكرهم بأيام الله (5)} [إبراهيم ]،
2. وقوله أيضا
:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (58)}
[يونس]، ولا فرح أكبر من يوم مولد نور البشرية محمد عليه السلام.
3. مع قول ابن عباس
:" يعني بفضل اللهِ القرآنَ، وبرحمتهِ يعني محمدا صلى الله عليه
وسلم "..
ومن أعظم فضائل
الله علينا هي تلك المناسبات الدينية والتي
على رأسها مولد هذا النبي الكريم ومبعثه وهجرته ومعراجه إلى ربه تعالى ، ولذلك حُق
للمسلمين أن يفرحوا بهذه الأيام العظيمة وأن يميزوها على غيرها بمزيد اهتمام وعناية
وفرح وتأريخ ، حيث كان من صور تعظيم
السلف لهذه الأيام والمناسبات الدينية، اختيارهم لها لأجل التاريخ وبدإ العد
الإسلامي .
الصنف
الثاني: اجتماع الصحابة في شهر المولد لكتابة التاريخ واقتراح أن يكون المولد من
بينها:
حيث اجتمع الصحابة رضي الله عنهم تحت إمرة عمر بن الخطاب في شهر المولد
ربيع الأول، فقرروا كتابة التاريخ الإسلامي، ثم اختلفوا في تحديد السنة التي
يؤرخون منها، باقتراح عدد من المناسبات الدينية:
أهي من المولد أو من الهجرة أو من البعثة ... أم غير ذلك؟
ثم اتفقوا على كتابة التاريخ من سنة الهجرة النبوية التي كانت في 12 من
ربيع الأول:
قال أبو جعفر الطبري: فإذا
كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم
اياه قبل مقدم النبي ص المدينة بشهرين وأيام، هي اثنا عشر، وذلك أن أول السنة
المحرم، وكان قدوم النبي ص المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التاريخ
من وقت قدومه، بل من أول تلك السنة ".
وهذا
أحد صور تعظيم السلف لهذه الأيام والمناسبات الدينية، وهو اختيارهم لها لأجل
حساب التاريخ وبدإ العد الإسلامي، ثم اتفاق الصحابة على البداية بتاريخ الهجرة على
غيره من المناسبات، واختيار المحرم ليكون أول السنة لكونه من أفضل الشهور الحرام،
كل ذلك لأجل كتابة التاريخ وبدإ العد الإسلامي:
وقصّة ذلك أنه حدث اجتماع
للصحابة رضي الله عنهم في شهر المولد ربيع الأول، حيث قرروا كتابة التاريخ
الإسلامي، ثم اختلفوا في تحديد السنة التي يؤرخون منها، أهي من المولد أو من
الهجرة أو من البعثة ...، كما قال الغزي وابن العديم في بغية الطلب (1/28) والصفدي
في الوفيات ونقلوه عن الشريف المرتضى في غؤؤ الفوائد قالوا :" وأول من أرخ
الكتب من الهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة، وكان سبب
ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر رضي الله عنه أنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين
كتب لا ندري على أيها نعمل، قد قرأنا صكاً منها محله شعبان فما ندري أي الشعبانين
الماضي أو الآتي، فعمل عمر رضي الله عنه على كتب التاريخ "،
وفي
ذلك أدلة كثيرة خرجها ابن عساكر في التاريخ (1/41 ..) وغيرُه:
كما قال الصفدي في الوفيات:" وأول من أرخ الكتب من الهجرة عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة، وكان سبب ذلك أن أبا موسى
الأشعري كتب إلى عمر رضي الله عنه أنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري
على أيها نعمل قد قرأنا صكاً منها محله شعبان فما ندري أي الشعبانين الماضي أو
الآتي فعمل عمر رضي الله عنه على كتب التاريخ "،
. قال ابن أبي خيثمة في تاريخه نا علي بن محمد عن قرة
بن خالد عن ابن سيرين قال: أن رجلا
من المسلمين قدم من أرض اليمن فقال لعمر: رأيت باليمن شيئا يسمونه بالتاريخ يكتبون
من عام كذا من شهر كذا، فقال عمر: إن هذا لحسن فأرّخوا، فلما أجمع على أن يؤرخ
شاورهم فقال قوم: بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قوم : بالمبعث، وقال قوم :
حين خرج مهاجرا من مكة، وقال قائل: لوفاته حين توفى، فقال قوم: أرخوا خروجه من مكة
إلى المدينة،
ثم بأي شيء نبدأ فنصيره أول السنة ? فقالوا:
رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه، وقال آخرون: شهر رمضان، وقال بعضهم: ذو الحجة
، وقال آخرون : الشهر الذى خرج من مكة، وقال آخرون: الشهر الذى قدم فيه ، فقال
عثمان: أرخوا من المحرم أول السنة وهو شهر حرام، وهو أول الشهور في العدة، وهو
منصرف الناس عن الحج ، فصيروا أول السنة المحرم، وكان ذلك سنة سبع عشرة في ربيع
الأول "،
تابعه يحيى بن سعيد عن قرة، وهو أثر صحيح مشهور، صريح في تعظيم السلف لهذه المناسبات،
حتى إنهم قرروا كتابة التاريخ بناءا عليها، ولهذا الأثر شواهد عدةٌ:
الصنف الثالث: أدلة فيها إشعار
بعظمة أيام مولد الأنبياء:
قال تعالى عن نبيه يحيى :{ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ
وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } []
فأعظم الله تعالى يوم مولد أنبيائه، ويوم مبعثهم ويوم
وفاتهم، وجعله أمنا وسلاما، وقد اجتمعت كل هذه الأحداث في نبينا، يوم 12 من ربيع
الأول، ففيه ولد وفيه هاجر، وفيه انتقل إلى جوار ربه، كما مر.
5- ونفس الشيء قاله الله عن نبيه عيسى :{ وَالسَّلَامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}[]
الصنف
الرابع: تعداد الأحداث والإرهاصات العظيمة التي
وقعت يوم المولد:
منها
حديث هشام بن سعيد: كان خرج إلى الشام، فاقتنص فى طريقه ظبية في اليوم الذى وُلد
فيه رسول اللّه (ص) فلما صارت فى يديه و قبض عليها»، تكلّمت وقالت: ولد أحمد بن
عبد الله سيد المرسلين، ففزع هشام وارتعشت يداه وذهبت الظّبية. فلما قدم الشام دخل
على قيصر وأخبره بذلك؛ فبعث إلى الرّهبان وجمعهم وأخبرهم بذلك، فقالوا: رأينا
الصّوامع فى هذه اللّيلة قد أضاءت نورا ومالت حتى ظننّا أنّها سقطت، ورأينا قناديل
الكنائس كلّها منكوسة». قال: فحفظوا ذلك اليوم، فاذا هو اليوم الذى ولد
فيه رسول اللّه (ص)"، (أعلام النبوة لأبي حاتم 285).
الصنف الخامس: في التخفيف
عن كل من يفرح بمولده عليه السلام :
خرج
البخاري في الصحيح (5101) من مرسل عروة قال .. :" وثويبة مولاة لأبي
لهب: كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه
بعض أهله بشر حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم [راحة] غير أني
سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة ".
وللبيهقي
في الصغرى (3/40) :" فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله في النوم بشر حيبة، فقال
له: «ماذا لقيت؟» فقال أبو لهب: «لم ألق بعدكم رخاء غير أني سقيت في هذه بعتاقتي
ثويبة، وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع ».
قال
الحافظ ابن كثير في البداية (2/332) :" وذكر السهيلي وغيره: إن الرائي
له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه أن أبا
لهب قال للعباس إنه ليخفف علي في مثل يوم الاثنين، قالوا:" لأنه لما بَشّرته
ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته فجُوزِيَ بذلك لذلك
".
وقال
عبد الحق الإشبيلي في العاقبة في ذكر الموت (232) :" رُوى عَن
الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ قَال : كنت مؤاخيا لأبي لَهب،
فَلَمَّا مَاتَ أخبر الله عَنهُ بِمَا أخبر، وحزنت عَلَيْهِ، وأهمني أمره،
فَسَأَلت الله حولا كَامِلا أَن يرينيه فِي الْمَنَام ، قَال: فرأيته يلتهب نَارا
فَسَأَلته عَن حَاله فَقَالَ: صرت إِلَى النَّار وَالْعَذَاب لَا يُخَفف عني وَلَا
يروح إِلَّا لَيْلَة الِاثْنَيْنِ فِي كل اللَّيَالِي وَالْأَيَّام، قلت: وَكَيف ذَلِك؟
قَالَ: ولد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مُحَمَّد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فجاءتني
أُمَيْمَة فبشرتني بِوِلَادَة أمه إِيَّاه، فَفَرِحت وأعتقت وليدة فَرحا بِهِ
فأثابني الله بذلك أَن يرفع عني الْعَذَاب فِي كل لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ".
وكذلك
قال ابن حجر في فتح الباري (9/154) :" وذكر السهيلي أن العباس قال لما
مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال فقال ما لقيت بعدكم راحة إلا أن
العذاب يخفف عني كل يوم اثنين قال وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم
الاثنين وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها ".
فإذا
كان هذا التخفيف بأعتى الكفار بسبب فرحه بمولده عليه السلام، فكيف الأمر بمسلم
موحد ؟!
وإذا
كان تخصيص الإعتاق في المولد مما يخفف عن الكافر، فكيف الأمر بتخصيص الصدقة من
مسلم :
قال
الصالحي في سبيل الهدى والرشاد (1/366) :" وقال شيخ القراء الحافظ أبو
الخير ابن الجزري ... فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن
بذمّه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد صلى الله عليه وسلّم فما حال المسلم
الموحّد من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم ببشره بمولده وبذل ما تصل إليه قدرته في
محبته؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم "،
ثم قال :
.
وذكرَ أَنَّ الْحَافِظَ بْنَ نَاصِرِ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِوِرْدِ
الصَّادِي فِي مَوْلِدِ الْهَادِي:" قَدْ صَحَّ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ يُخَفَّفُ
عَنْهُ عَذَابُ النَّارِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِإِعْتَاقِهِ ثُوَيْبَةَ
سُرُورًا بِمِيلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَنْشَدَ
...
إذا
كان هذا كافرٌ جاء ذمّه ... وتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
أتى
أنّه في يوم الاثنين دائماً ... يخفّف عنه بالسّرور بأحمدا
فما
الظّنّ بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسروراً ومات موحدا
قال
الصالحي : وقال شيخنا- رحمه الله تعالى- في فتاويه: عندي أن أصل المولد الذي هو
اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى
الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمدّ لهم سماط يأكلونه وينصرفون من
غير زيادة على ذلك من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر
النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف ".
الصنف
السادس: في استحباب تحري الدعاءِ يومَ الاثنين، وذلك لمولده عليه السلام فيه:
1/ كما خرج
الآجري (4/1876) والبيهقي في الدلائل (2/217) والبزار (الكشف 3/169) من طريق إسحاق
بن إبراهيم الحنيني قال أسامة بن زيد بن أسلم المدني: حدثني أبي عن جدي قال: قال
لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أتحبون أن أعلّمكم أول إسلامي ؟ قلنا : نعم .. ،
قال : فذكر قصة إسلام عمر، وفيها :" فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمدا رسول الله ، فخرج القوم مبادرين وكبروا استبشارا بذلك ، وقالوا : أبشر يا
ابن الخطاب ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاثنين، فقال: «اللهم أعز
دينك بأحب هذين الرجلين إليك إما عمر وإما أبي جهل بن هشام » وإنا نرجو أن تكون
دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "،
قال البزار
:" لا نعلم رواه بهذا السند إلا الحنيني ، ولا نعلم في إسلام عمر أحسن من هذا
الإسناد ، على أن الحنيني خرج من المدينة فكف واضطرب حديثه ".
ففي إسناده إذًا
الحنيني وقد كان صالحا ثم اضطرب لما خرج من المدينة ، وقد روى عنه هذا الحديثَ جمعٌ
كبير، منهم الحسن
بن الصباح ومحمد بن رزق الله وسفيان الطائي ومُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بُرْدٍ
الْأَنْطَاكِيُّ الذي سافر إلى الحجاز وتوفي لما كان عائدا من مكة ، فلا يبعد
سماعه من الحنيني في المدينة، وبقي الحديث معلا بأسامة بن زيد
وفيه لين ، وقد نقل البخاري توثيق ابن المديني لأسامة واستحسن حديثه الدارمي ،
ولهذه القصة في إسلام عمر شواهد كثيرة .
2/ خرج
الحاكم (3/574) وابن سعد في الطبقات (3/242) من طريق الواقدي عن عثمان بن هند بن
عبد الله بن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قال: أخبرني أبي عن يحيى بن –
عمران - عثمان بن الأرقم حدثني جدي عثمان بن الأرقم أنه كان يقول: أنا ابن سبع
الإسلام، أسلم أبي سابع سبعة، وكانت داره على الصفا وهي الدار التي كان النبي صلى
الله عليه وسلم يكون فيها في الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، فأسلم فيها
قوم كثير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين فيها: «اللهم
أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام» ، فجاء عمر بن
الخطاب من الغد بكرة، فأسلم في دار الأرقم، وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت
ظاهرين، ودعيت دار الأرقم دار الإسلام، وتصدق بها الأرقم على ولده، فقرأت نسخة
صدقة الأرقم بداره: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز
الصفا، أنها صدقة بمكانها من الحرم لا تباع، ولا تورث شهد هشام بن العاص، وفلان
مولى هشام بن العاص، قال: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون
ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر "، .. قال ابن الهمام :" أخرج
الحاكم بسند فيه الواقدي وهو حسن عندنا "، وهو كذلك لأن الواقدي فيه اختلاف كثير
ولتخصيص الدعاء
في يوم الإثنين شاهد آخر :
3/ قال
ابن شبة في تاريخ المدينة (1/60) حدثنا أبو غسان عن ابن أبي يحيى عن خالد بن رباح
عن المطلب بن عبد الله بن حنطب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاثنين في
مسجد الفتح ، واستجيب له عشية الأربعاء بين الصلاتين "، قال أبو غسان: وسمعت
غير واحد ممن يوثق به: يذكر أن الموضع الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الجبل، هو اليوم إلى الاسطوانة الوسطى الشارعة في رحبة المسجد الأعلى ".
أبو غسان محمد
بن يحيى ثقة، وابن أبي يحيى لم أعرفه رغم إكثار ابن شبة الرواية عنه، إلا أن يحيى بن معين قال:"
سحبل بن أبي يحيى، وأنيس، ومحمد، وإبراهيم بنو أبي يحيى كلهم ثقات، إلا إبراهيم
فإنه ليس بثقة "، وخالد بن رباح إن كان هو البصري فثقة،
وأراه هو، إذ ليس لغيره ترجمة والله اعلم ، وللحديث شاهد آخر :
4/. خرجه
البخاري في الأدب (704) عن عبد الرحمن بن كعب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: دعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في هذا المسجد، مسجد الفتح، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء،
فاستجيب له بين الصلاتين من يوم الأربعاء قال جابر: ولم ينزل بي أمر مهم غائظ إلا
توخيت تلك الساعة، فدعوت الله فيه بين الصلاتين يوم الأربعاء في تلك الساعة، إلا
عرفت الإجابة ".
الصنف السابع: استحباب الصوم
في يوم مولده ومبعثه عليه السلام، شكرا لله على فضله ومَنّهِ علينا بنَبيّه :
خرجه مسلم 1162 عن أبي قتادة مرفوعا :"
وسئل عن صوم يوم الاثنين ؟ فقال :« ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه
- »، وفي لفظ :" فيه ولدت وفيه أوحي إليّ".
وخرجه الحاكمُ في المستدرك (2/658) عن أبي
قتادة أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين ؟ قال: «إن ذلك اليوم الذي ولدت
فيه وأنزل علي فيه »،
وقد كره بعض المالكية الصوم في هذا اليوم لأنه يوم
عيد وأكل، وهو قياس مخالف لهذا النص :
وقد بوّب عليه ابن حبان في صحيحه :" ذكر
استحباب صوم يوم الاثنين، لأن فيه ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل
عليه ابتداء الوحي".
وبوّب عليه ابن
خزيمة "
باب استحباب صوم يوم الاثنين إذ النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، وفيه
أوحي إليه، وفيه مات صلى الله عليه وسلم ".
وقد ذكر الصالحي في سبيل الهدى من " الباب
الثالث عشر في أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من
ذلك وما يذم" .. فقال (1/372) :" فتشريف هذا اليوم متضمن تشريف هذا الشهر
الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضّله بما فضل الله تعالى به الأشهر
الفاضلة وهذا منها، لقوله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن
دونه تحت لوائي»، وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله تعالى به من العبادات
التي تفعل فيها، لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها. وإنما يجعل
التشريف بما خصّت به من المعاني "، قال:" فانظر إلى ما خصّ الله به هذا
الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضلٌ عظيم لأنه صلى الله
عليه وسلم ولد فيه ؟
قال :" فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر
الكريم أن يكرّم ويعظّم ويحترم الاحترام اللائق به ، إتباعاً له صلى الله عليه
وسلم في كونه كان يخصّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البرّ فيها وكثرة الخيرات
" اهـ .
وقال الصالحي في
سبل الهدى (1/365) في معرض استدلاله على المولد :" وقال الشيخ الإمام العلامة
صدر الدين موهوب بن عمر الجزري الشافعي: هذه بدعة لا بأس بها، ولا تكره البدع إلا
إذا راغمت السّنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، ويثاب الإنسان بحسب قصده في
إظهار السرور والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.
الجنس الرابع: في عقيقة النبي
عليه السلام عن نفسه بعد نبوته تنويها بمولده:
الجنس الرابع: في عقيقة النبي
عليه السلام عن نفسه بعد نبوته تنويها بمولده، وأمره بالاحتفال بالعقيقة عن
مواليدنا:
قالوا: وإذا جاز للمسلمِ
الاحتفالُ بمولد ابنه، عن طريق العقيقة عنه، وصنع الوليمة لذلك، فللاحتفال بمولد
أكرم الخلق أولى من الاحتفال بمواليدنا.
وإذا ثبت أن جد النبي عليه السلام،
عبد المطلب، قد عق عنه، وأن العقيقة لا تعاد، وأن النبي عليه السلام قد عق عن نفسه
بعد مبعثه نبيا، فدل هذا على أنه إنما فعل ذلك شكرا لله تعالى على نعمة ولادته:
استدلالا بحديث
أنس الذي ورد عنه من وجهين:
1/
خرجه البزار عن عوف بن محمد المراري حدثنا
عبد الله بن المحرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد
ما بعث نبيا ".
وخرجه ابن شاهين في الأفراد عن أبي قتادة الحراني قال: حدثنا عبدالله الجرشي عن قتادة، عن
أنس ...
قال: هذا حديث غريب، ولا أعرف
لعبدالله الجرشي غير هذا الحديث عن قتادة، وقال القاسم عن الفضل قال: قال أبوقتادة:
هذا أفادناه شعبة عن هذا الشيخ، وقال: ليس يروي هذا الحديث أحد غيره ".
وقال البزار:" حديثا عبد
الله بن محرر لا نعلم رواهما أحد، عن قتادة، عن أنس غيره، وهو ضعيف الحديث جدا، وإنما
يكتب من حديثه ما ليس عند غيره ".
وحكم عليه عبد
الرزاق والنووي وغيرهما بالبطلان بسبب تفرد عبد الله به، بيد أن له متابعتين، أحدهما جيدة خفيت عن القوم:
2/ تابعه اسماعيل بن مسلم عن قتادة عن
أنس به.
قال ابن حجر في الفتح :" وأخرجه أبو الشيخ
من وجهين آخرين أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة وإسماعيل ضعيف أيضا
..."،
ثم اتهمه بسرقة الحديث، وأخطأ في اتهامه:
قال الألباني في الصحيحة متعقبا عليه :" على
أن ابن المثنى لم يتفرد بالحديث، بدليل متابعة قتادة عند إسماعيل بن مسلم - و هو
المكي البصري - و هو و إن كان ضعيفا فإنه لم يتهم ، بل صرح بعضهم أنه كان يخطىء، و
قال أبو حاتم فيه وهو معدود في المتشددين: " ليس
بمتروك ، يكتب حديثه"، أي للاعتبار و الاستشهاد به ، ولذلك قال ابن سعد :
" كان له رأي و فتوى ، وبصر وحفظ للحديث ، فكنت أكتب عنه لنباهته " .
قال الألباني : فمثله يمكن
الاستشهاد بحديثه فيقوى الحديث به ".
ثم قال :" أما قول
الحافظ المتقدم فيه : " لعله سرقه من ابن المحرر " . فهو مردود بأن أحدا
لم يتهمه بسرقة الحديث مع كثرة ما قيل فيه والله أعلم ".
وللحديث
متابعة أخرى:
3/ خرج سليمان بن أحمد الطبراني في
الأوسط 994 حدثنا أحمد حدثنا الهيثم حدثنا عبد الله عن ثمامة عن أنس أن النبي عليه
السلام عق عن نفسه بعد ما بعث نبيا ".
هذا حديث حسن رجاله ثقات عدول،
قال الهيثمي في مجمع
الزوائد: ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل وهو ثقة، وشيخ الطبراني
أحمد بن مسعود الخياط المقدسي ليس هو في "الميزان"،
أحمد هو بن مسعود المقدسي من رجال الطبراني
الثقات لأن الذهبي وابن حجر ذكرا أن مشايخ الطبراني الغير المجروحين في الميزان من
الثقات، ولذلك قال الشيخ حماد الأنصاري: هو صدوق فإن
أبا عوانة أخرج له في صحيحه".
تابعه أبو بكر
عبد الله بن محمد في النفقة وأبو حاتم محمد بن إدريس الرازي قالا: ثنا عمرو بن
محمد الناقد ثنا الهيثم بن جميل نا عبد الله بن المثنى بن أنس الأنصاري حدثني ثمامة
بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه
بعدما جاءته النبوة
خرجه
عنه الضياء في الأحاديث المختارة الصحاح ر1833 مصححا له،
قال
زين الدين العراقي في طرح التثريب :" له طريق لا بأس بها رواها
أبو الشيخ وابن حزم من رواية الهيثم بن جميل عن عبد الله المثنى عن ثمامة عن أنس وذكرها
والدي رحمه الله في شرح الترمذي ".
وقال
الغماري:" فالحديث على شرط الصحيح، ثم وجدت الحافظ ذكر في الفتح
خلاف ما ذكره في التلخيص مع زيادة وتوسع ".
قال
ابن حجر:" ثانيهما من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل
وداود بن المحبر قالا حدثنا عبد الله من المثنى عن ثمامة عن أنس، وداود ضعيف لكن
الهيثم ثقة، وعبد الله من رجال البخاري، فالحديث قوي الإسناد، وقد أخرجه محمد بن
عبد الملك بن أيمن عن إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد، وأخرجه الطبراني في
الأوسط عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده، فلولا ما في عبد الله بن
المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحًا، لكن قد قال ابن معين: ليس بشيء، وقال
النسائي: ليس بقوي، ثم ذكر أقوال ضعفه ثم قال: ووثقه العجلي والترمذي وغيرهما،
فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد. أحدهم بالحديث لم يكن حجة، وقد مشى الحافظ الضياء
على ظاهر الإِسناد فأخرج هذا الحديث في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين
".
قال
الغماري:" ولا يخفى أن الحق معه في تصحيح هذا الحديث فإِن عبد
الله بن المثنى ثقة احتج به البخاري، فهو على شرطه، وغاية ما ضعف به أنه ربما أخطأ
وأنه لم يكن من أهل الحديث، وكلا الأمرين بعيد عن هذا الحديث إذ ليس فيه ما يشتبه
بغيره حتى يقع فيه الخطأ، ولا فيه ما ينكر حتى يحكم برده مع ثقة راويه، والله أعلم".
وقال الألباني
في الصحيحة 2726 :" و هذا إسناد حسن رجاله ممن احتج بهم البخاري في
" صحيحه " غير الهيثم ابن جميل ، و هو ثقة حافظ من شيوخ الإمام أحمد ...
والهيثم
بن جميل وثقه الحفاظ، وأخطأ في حقه ابن عدي.
وعبد
الله بن المثنى احتج به البخاري كما قال الحاكم وصحح له، ووثقه العجلي والدارقطني،
وقال أبو زرعة وابن معين: صالح.
وتكلم فيه أبو
داود والعقيلي تبعا له، وقد مضت متابعته، وخلاصة القول
فيه أنه صدوق يهم، لكنه ثقة في روايته عن عمه ثمامة كما هنا، ولذلك قال
الألباني:" رجاله ثقات اتفاقا غير عبد
الله بن المثنى و هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك ، فإنه وإن احتج به البخاري فقد اختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، كما
ترى في " التهذيب " وغيره ، و ذكره الذهبي في " المتكلم فيهم بما
لا يوجب الرد " ( 129 / 190 ) ، فهو وسط، و أفاد
الحافظ ابن حجر في " مقدمة الفتح " ( ص 416 ) أن البخاري لم يحتج به إلا في روايته عن عمه ثمامة... قال: فلعل ذلك
لصلة عبد الله بعمه ، و معرفته بحديثه ، فهو به أعرف من حديث غيره "،
وقد استدل به طائفة من السلف
على عمل المولد.
قال الصالحي: وقال شيخنا -
رحمه الله تعالى - في فتاويه: عندي أن أصل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما
تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما
وقع في مولده من الآيات ثم يمدّ لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على
ذلك من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله
عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف "،
قال: وقد ظهر لي تخريجه على
أصل صحيح غير الذي ذكره الحافظ، وهو ما رواه البيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة"، مع أنه ورد أن جده عبد
المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا
فعله صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين
وتشريعا لأمته صلى الله عليه وسلم، كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضا
إظهار الشكر بمولده صلى الله عليه وسلم بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه
القربات والمسرات"،
الجنس الخامس: ما ورد من أدلة
في استحباب تعظيم عاشوراء، وصيامه، وقياس المولد عليه أولويا:
فقد وقعت فيه أحداث عظيمة
مثل التي وقعت يوم الثاني عشر من ربيع، كما ذكرت ذلك في مبحث الاحتفال بعاشوراء:
1/ كما روي عنه عليه السلام
:" ... فجرت به السفينة ستة أشهر آخر ذلك يوم عاشوراء أهبط على الجودي , فصام
نوح ومن معه والوحش، وفي يوم عاشوراء أغلق الله البحر لبني إسرائيل، وفي يوم
عاشوراء تاب الله عز وجل على، آدم وعلى مدينة يونس، وفيه ولد إبراهيم صلى الله
عليه وآله وسلم»
2/ ذكرت في مبحث "
الاحتفال بعاشوراء"، أدلة ذلك ومنها:
ما خرجه ابن ماجه في
سننه: باب الغناء والدف، ثم خرج 1897 من طريق أبي الحسين قال:" كنا بالمدينة
يوم عاشوراء، والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ، فذكرنا ذلك
لها فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسي، وعندي جاريتان
يتغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر، وتقولان فيما تقولان: وفينا نبي
يعلم ما في غد "، فقال :" أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا
الله "، صححه الألباني، وقد خرجَ البخاري أصله (5147) مختصرا .
ففي قوله :" كنا
بالمدينة يوم عاشوراء، والجواري يضربن بالدف ويتغنّين "، لأكبر دليل وأوضحه
على احتفال الصحابة والسلف بسائر الأزمنة الشريفة غير العيدين ، ولفظ " كنا
" يفيد الاستمرارية ، وأن ذلك الاحتفال كان من دأب السلف والصحابة ، وقد خاب
من بدّع ذلك ، وأما الاحتفال بالأعراس فله أدلة كثيرة .
فإذا جاز الاحتفال والضرب
بالدف في يوم عاشوراء الذي نجى الله فيه نبيه موسى ، فَلَلْاِحتفال أوْلى باليوم
الذي ولد فيه محمد ، وفيه بُعث وفيه هاجر ونجاه الله من الكفار، وفيه عرج به إلى
ربه وفيه انتقل إليه ...
ولذلك قال ابن حبيب وهو أحد
أئمة المالكية :
لا تنس ينسك الرحمن عاشورا *
واذكره لا زلت في الأخبار مذكورا
قال الرسول صلاة الله تشمله
* قولا وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا
سعة * يكن بعيشته في الحول مجبورا
فارغب فديتك فيما فيه رغبنا
* خير الورى كلهم حيا ومقبورا.
2/ وقد أجاز العلماءُ
كلهم النقيعة وهي الطعام لقدوم المسافر فرحا به، واتفقوا على مشروعية العقيقة فرحا
بالمولود، ولرسول الله عليه السلام هو أولى بأن يُفرح بيوم مولده ومقدمه ، وقد ورد
أنه عق عن نفسه بعدما كبر وجاءته النبوة، مع كون جده عبد المطلب قد عق عنه ذاكرا
اسم الله وحده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الرابعة: ذكر بداية
الاحتفال الرسمي بالمولد بداية رسمية من طرف الحكام والولاة :
ذكرنا
في السابق أدلة من قال بأن للمولد أصولا شرعية، إلا أن الاحتفال الرسمي من طرف
الحكام ظهر متأخرا، ربما في زمن الأمويين ، ويقال بعْدهم والله أعلم، وزعم بعضهم
أنه من إحداث الرافضة، وهو خطأ بين:
قال
الصالحي في سبل الهدى والرشاد متعقبا قول من ادعى بأن الشيعة والجهال هم من أحدثه
:" إنما أحدثه ملك عادل عالم وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه
العلماء والصلحاء من غير نكير منهم، وارتضاه ابن دحية وصنف له من أجله كتابا،
فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه .. ".
ومع ذلك فقد كان الاحتفال
الرسمي قبله : حيث بدأ في زمن التابعين والله أعلم :
فقد
أورد البكري الدمياطي في حاشية إعانة الطالبين (3/415) وذكر كلام العلماء في تجويز
المولد فقال :" فائدة في فتاوى الحافظ السيوطي في باب الوليمة (سئل) عن
عمل المولد النبوي في شهر ربيع الاول ... فأجازه ثم قال :" وقد بسط الكلام
على ذلك شيخ الاسلام ببلد الله الحرام مولانا وأستاذنا العارف بربه المنان سيدنا
أحمد بن زيني دحلان في سيرته النبوية، ولا بأس بإيراده هنا ...
ثم
قال:" وحكي أنه كان في زمان الخليفة عبد الملك بن مروان شاب حسن الصورة في
الشام، وكان يلهو بركوب الخيل فبينما هو ذات يوم على ظهر حصانه إذ أجفل الحصان وحمله
في سكك الشام ولم يكن له قدرة على منعه فوقع طريقه على باب الخليفة فصادف ولده ولم
يقدر الولد على رد الحصان فصدمه بالفرس وقتله، فوصل الخبر إلى الخليفة فأمر
بإحضاره، فلما أن أشرف إليه خطر على باله أن قال: إن خلصني الله تعالى من هذه
الواقعة أعمل وليمة عظيمة وأستقرئ فيها مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضر
قدامه ونظر إليه ضحك بعدما كان يخنقه الغضب، فقال: يا هذا أتحسن السحر ؟ قال لا والله
يا أمير المؤمنين، فقال: عفوت عنك، ولكن قل لي ماذا قلت ؟ قال: قلت إن خلصني الله
تعالى من هذه الواقعة الجسيمة أعمل له وليمة لاجل مولد النبي عليه السلام، فقال
الخليفة: قد عفوت عنك، وهذه ألف دينار لأجل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت
في حل من دم ولدي، فخرج الشاب وعفى عن القصاص وأخذ ألف دينار ببركة مولد النبي
عليه السلام".
وقال
أيضا :" وحكي أنه كان في زمان أمير المؤمنين هارون الرشيد شاب في البصرة
مسرف على نفسه وكان أهل البلد ينظرون إليه بعين التحقير لأجل أفعاله الخبيثة، غير
أنه كان إذا قدم شهر ربيع الأول غسل ثيابه وتعطر وتجمل وعمل وليمة واستقرأ فيها
مولد النبي (ص) ودام على هذا الحال زمانا طويلا، ثم لما مات سمع أهل البلد هاتفا
يقول: احضروا يا أهل البصرة واشهدوا جنازة ولي من أولياء الله فإنه عزيز عندي،
فحضر أهل البلد جنازته ودفنوه، فرأوه في المنام وهو يرفل في حلل سندس واستبرق،
فقيل له بم نلت هذه الفضيلة ؟ قال بتعظيم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ".
واستمر الاحتفال حتى عصر صلاح الدين
الأيوبي، وهو الذي قضى على دولة الشيعة الفاطميين، وطرد الصليبيين:
قال
الصفدي في الوافي في ترجمة كوكبوري بن علي :" .. وشهد مظفر الدين هذا مع
صلاح الدين مواقف كثيرة أبان فيها عن نجدة وقوة، وثبت يوم حطين (583ه) وتبنين ...
وأثنى عليه القاضي شمس الدين ابن خلكان في وفيات الأعيان وطول ترجمته، وذكر له
معروفاً كثيراً، وذكر احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في كل سنة وما كان
يعتمده ".
وقال
اليونيني في ذيل المرآة (3/280) في ترجمة محمد بن أحمد بن منظور ولد
597 :" ويعمل في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويغرم عليها
جملة كثيرة ويجتمع فيه خلق كثير عظيم، "
وذكر
ابن جبير في رحلته (82) – زمن صلاح الدين – قال:" ذكر بعض مشاهدها
المعظمة وآثارها المقدسة – مكة والمدينة - ... ثم ذكر مكان مولده عليه السلام فقال
: " بنى عليه مسجد لم ير أحفل بناء منه أكثره ذهب منزل به والموضع المقدس
الذي سقط فيه صلى الله عليه وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله
رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة فيالها تربة شرفها الله بان جعلها مسقط أطهر الأجسام
ومولد خير الآنام صلى الله عليه وعلى إله وأصحابه الكرام وسلم تسليما. يفتح هذا
الموضع المبارك فيدخله الناس كافة متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الإثنين منه
لأنه كان شهر مولد النبي صلى الله عليه وسلم وفي اليوم المذكور ولد صلى الله عليه
وسلم وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها وهو يوم مشهور بمكة دائما
".
.
وقال الصالحي في سبل الهدى :" الباب الثالث عشر في أقوال العلماء في عمل
المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم ، الإجابة عن ذلك .
قال
الحافظ أبو الخير السخاوي في فتاويه :" عمل المولد الشريف لم يُنقل عن أحد من
السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام في
سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم بعمل الولائم
البديعة المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات
ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من
بركاته كل فضل عميم ".
قال
الصالحي :" وأول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد
كوكوبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد ".
قال
الحافظ عماد الدين بن كثير في البداية (13/159) وهو يمتد هذا الملك
الصالح :" أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار
حسنة وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما
شجاعا بطلا عاقلا عادلا - رحمه الله تعالى - وأكرم مثواه ، وقد صنف الشيخ أبو
الخطاب بن دحية - رحمه الله تعالى - كتابا له في المولد سماه: " التنوير في
مولد البشير النذير " فأجازه بألف دينار".
قال
تقي الدين المقريزي في السلوك (1/368) :" وَكَانَ يهتم بِعَمَل المولد
النَّبَوِيّ فِي كل سنة اهتماماً زَائِدا "، ثم ذكر المقريزي بأن هذا
الاحتفال كان من عادة الملوك في ذلك الزمان ، وكان يحضره الأئمة والعلماء :
فمن
ذلك قوله (5/409) :" وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِيه: عمل السُّلْطَان
المولد النَّبَوِيّ على عَادَته فِي كل سنة وَحضر شيخ الْإِسْلَام سراج الدّين عمر
البُلْقِينِيّ وَالشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن زقاعة وقضاة الْقُضَاة وعدة من شُيُوخ
الْعلم فِي الحوش من القلعة تَحت خيمة ضربت هُنَاكَ. وَجلسَ السُّلْطَان وَعَن
يَمِينه البُلْقِينِيّ وَابْن زقاعة وَعَن يسَاره الشَّيْخ أَبُو عبد الله المغربي
وَتَحْته الْقُضَاة. وَحضر الْأُمَرَاء فجلسوا على بعد مِنْهُ. فَلَمَّا فرغ
الْقُرَّاء من قراعة الْقُرْآن قَامَ الوعاظ وَاحِدًا بعد وَاحِد فَدفع لكل
مِنْهُم صرة فِيهَا أَرْبَعمِائَة دِرْهَم فضَّة وَمن كل أَمِير شقة حَرِير وعدتهم
عشرُون واعظاً. ثمَّ مدت الأسمطة الجليلة. فَلَمَّا أكلت مدت أسمطة الْحَلْوَى
فانتهبت كلهَا. فَلَمَّا فرغ الوعاظ مضى الْقُضَاة وأقيم السماع من بعد ثلث
اللَّيْل إِلَى قريب الْفجْر".
وقال
ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (12/73) في ترجمة السلطان برقوق :" وفى
ليلة الجمعة ثانى شهر ربيع الأول عمل السلطان المولد النبوىّ على العادة فى كلّ
سنة"،
ثم
قال :" نذكر صفة ما كان يعمل بالمولد قديما ليقتدى به من أراد تجديده
فلمّا كان يوم الخميس المذكور، جلس السلطان بمخيّمه بالحوش السلطانى، وحضر القضاة
والأمراء ومشايخ العلم والفقراء، فجلس الشيخ سراج الدين عمر البلقينى عن يمين السلطان،
وتحته الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقّاعة، وجلس على يسار السلطان الشيخ المعتقد
أبو عبد الله المغربى، ثم جلس القضاة يمينا وشمالا على مراتبهم، ثم حضر الأمراء
فجلسوا على بعد من السلطان، والعساكر ميمنة وميسرة فقرأت الفقهاء، فلمّا فرغ
القرّاء وكانوا عدّة جوق كثيرة، قام الوعاظ واحدا بعد واحد، وهو يدفع لكل منهم
صرّة فيها أربعمائة درهم فضة، ومن كلّ أمير شقّة حرير خاصّ وعدّتهم عشرون واحدا.
وأنعم
أيضا على القرّاء لكل جوقة بخمسمائة درهم فضة وكانوا أكثر من الوعّاظ، ثم مدّ سماط
جليل يكون مقداره قدر عشرة أسمطة من الأسمطة الهائلة، فيه من الأطعمة الفاخرة ما
يستحى من ذكره كثرة، بحيث إن بعض الفقراء أخذ صحنا فيه من خاصّ الأطعمة الفاخرة
فوزن الصحن المذكور فزاد على ربع قنطار.
ولمّا
انتهى السّماط مدّت أسمطة الحلوى من صدر المخيّم إلى آخره ... ".
وكذلك
ذكر الحافظ ابن حجر عادة احتفال الملوك والعلماء بذكرى المولد في كتابه
"أنباء الغمر "، وكذلك ذكر علماء التاريخ عادة الحكام والعلماء في
الاحتفال بهذا اليوم العظيم .
وقال
السخاوي في التحفة اللطيفة (1/91) في ترجمة برهان الدين بن جماعة الحموي عم
القاضي عز الدين بن جماعة:" وكان يعمل طعاما في المولد النبوي ويطعم
الناس ويقول لو تمكنت عملت بطول الشهر كل يوم مولد".
وقال
الجبرتي في عجائب الآثار :" ولهم عادات وصدقات في أيام المواسم، مثل
أيام أول رجب والمعراج ونصف شعبان وليالي رمضان والأعياد وعاشوراء والمولد الشريف،
يطبخون فيها الأرز باللبن والزردة ويملأون من ذلك قصاعاً كثيرة ويفرقون منها على
من يعرفونه من المحتاجين. ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء، فيفرقون عليهم
الخبز ويأكلون حتى يشبعوا من ذلك اللبن والزرده. ويعطونهم بعد ذلك دراهم ولهم
غير ذلك صدفات وصلت لمن يلوذ فيهم، ويعرفون منه الأحتياج، وذلك خلاف ما يعمل ويفرق
من الكعك المحشو بالسكر والعجمية والشريك على المدافن والترب في الجمع
والمواسم ".
وبالله
التوفيق.
الاحتفال بعاشوراء https://elzianitaher.blogspot.com/2020/08/4.html?showComment=1598379606993#c2507353133839531956
ردحذف