تغير المزاج " الجاث لاق" وعلاقته بالرخصة في السفر

 

                  

                       تغير المزاج "الجاث لاق" وعلاقته بالرخصة في السفر

        

                                        كتابة : الطاهر زياني

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:

فهذا مبحث مختصر يتعلق بمسألة السفر، ومدته، وعلاقة ذلك بالعلم الحديث واكتشافاته، ولفهمه لا بد من طرح التساءلات التالية:

هل إذا ما غير المرءُ عادته في الطعام أو الشراب أو الإقامة ... يمرض ؟

وهل سيؤدي ذلك التغير إلى حلول المشقة أم لا؟

ثم ما علاقة هذه المشقة بحالة " الجاث لاق "؟

وما علاقة ذلك بالساعة البيولوجية؟

ثم ما علاقة الجميع بتغير المزاج والعادة؟

والجواب العام أن المرء إذا ما غير من عادته أو مزاجه في المطعم والمشرب والإقامة تحدث له حالة المشقة هذه المعروفة بالجاث لاق، بسبب مخالفة الجسم والفكر للساعة البيولوجية؟

وهل هذا يؤكد صحة القول بلزوم الترخص في كل زمان ومكان مهما تطور العلم ؟

كل هذا وغيره سنجيب عنه في هذا المبحث المقسم إلى المطالب التالية:

المطلب الأول: الساعة البيولوجية في عقل الإنسان:

المطلب الثاني: لماذا يمرض المرء إذا ما غير نظامه الغذائي:

المطلب الثالث: " الجاث لاق " في حالة السفر، وعلاقته بالترخص:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الأول: معنى الساعة البيولوجية في عقل الإنسان:

هي أن يعتاد المرءُ على فعل من الأفعال، أو يُركّز تفكيره عليه، فيحدث في عقله تنبيه اعتيادي عليه، بحيث لو أخره، أو غيره عن وقته المعتاد لحدث له إرهاق ودوار وقيء واضطرابات في المعدة، وهو ما يُعرف ب " الجاث لاق" "jet lag".

فإن قيل: ما علاقة هذه التسمية باللغة العربية؟

والجواب أن "الجاث": مشتق من الجثوّ، والفعل " جثا"، تقول:" جثا فلان على ركبتيه من شدة التعب والإرهاق أو الخوف، كما في سورة الجاثية: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) }  

وأما " اللاق": فمأخوذ من اللقيا واللقاء واللياقة معا، فإذا جمعت المعاني قلت:" هو مأخوذ مما يلاقيه المرء من تعب وإرهاق يضر بلياقته البدنية والفكرية ".

فلو أن إنسانا أراد سفرا مهما لمكان مهم، ووضع في عقله وقتا محددا لسفره، فسيستيقظ غالبا في ذلك الوقت، إن لم يحدث له أرق.

ولِفهم ذلك أكثر أضرب لكم أمثلة في المطلبين التاليين:

المطلب الثاني: لماذا يمرض المرء إذا ما غير نظامه الغذائي:

هبْ أن إنسانا، صام شهرا كاملا من رمضان، فسيحدُث في فكره مع بطنه ما يُعرف ب " الساعة البيولوجية"، الناتجة عن التفاعلات الكيميائية للهرمونات، المعروفة باسم " التمثيل الغذائي للجسم".

بحيث يألف البطن والهرمونات والفكر على الصوم والاستراحة صباحا طيلة النهار، لمدة شهر، فإذا ما غير الإنسان هذه الساعة البيولوجية المتأقلمة مع التمثيل الغذائي، أو غيَّر النظام الغذائي الذي ألِفَه، حينها يبدأ الجسم في إنتاج هرمونات " الكورْتيزول"، ونحوها، في وقت غير معتاد، فيتعب الجسم ويشعر المرء بالقيء والدوار.  

لكن ما هو الهدي النبوي لعلاج " الجاث لاق".

والجواب في أمور:

أولاها: في تعلم المنهج الإسلامي في التدريج: فلا بد أن يتم كل شيء بالتدريج، تماما كمنهج التدريج الإسلامي في تشريعه، بوضعه التكاليف الشرعية شيئا فشيئا، أو تحريم المحرمات رويدا شيئا فشيئا مراعاةً منه للعادة والألفة،

والثاني: أن النبي عليه السلام كان يُفطر يوم العيد على تمرات ثم يذهب إلى صلاة العيد، ولا يخفى ما في التمر من فوائد صحية كثيرة، خاصة وأن حلاوته طبيعية، ليست كالحلويات الاصطناعية التي تضر بالبدن خاصة يوم العيد.

خرج الترمذي 542 عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي".

قال الترمذي :" وقد استحب قوم من أهل العلم: أن لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم شيئا، ويستحب له أن يفطر على تمر، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع ".

ثم خرج عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على تمرات يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى.

وصح عن أنس بن مالك : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات، فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء».

وورد عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإن الماء طهور»

والثالث: أن النبي عليه السلام كان يحذر أمته من الشبع، ويقول لهم :"ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس".

ذلك أن المفسد للطعام نوعان:

أحدهما ما يُفسده لعينه كالخبائث المحرمات، وسائر المسكرات،

والثاني: ما يُفسده لقدره وتعدي حده، كالإسراف وفرط الشبع، وتغيير النظام الغذائي، ذلك أنّ من أكل حتى الشبع والسرف امتلأ بطنه، وانتكست بصيرته، وضاقت نفسه، وعلّ بدنه، وتشوشت أفكاره، لما يستولي على مراكز إدراكه من الأبخرة الغليظة المتصاعدة من معدته إلى دماغه، فلا يمكنه من نظر صحيح، ولا يتفق له رأي صريح، بل يغلب عليه الكسل والخمول، ومن ثم تكثر عليه الشهوة والفضول.

المطلب الثالث: " الجاث لاق " في حالة السفر، وعلاقته بالترخص:

ذهب الجمهور إلى أن العبرة في السفر بالبروز عن محل الإقامة، وأن لا علاقة لذلك بوجود المشقة، بل وجودها يزيد التأكيد على الأخذ بالرخصة فقط، وإن اختلفوا في تحديد مسافة السفر التي يثبت بها الترخص اختلافا كثيرا.

ومن زعم بترك الترخص المنوط بالسفر في هذا العصر الحديث فقوله مردود عليه من أوجه كثيرة منها:

1/ أنه لا يلزم المشقة في السفر حتى يترخص المسلم، بل وجود السفر هو السبب في الترخص الذي يلزم من وجوده الوجود.

2/ أن نفس السفر مشقة، لأنه خروج عن الأصل المعتاد وهو الإقامة: كما في صحيح البخاري 1804 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله»

3/ ولفهم ذلك حديثا لا بد من معرفة الساعة البيولوجية وعلاقتها بالمصطلح العلمي " التمثيل الجسمي والغذائي"، في الإنسان، وتعارضه مع العادة والساعة البيولوجية، وتأدية ذلك إلى مرض " الجاث لاق" علميا.  

فالساعة البيولوجية تجعل المرءَ مهيأً لأداء فعل معين، في وقت معين طويل، يعرف بالعادة والمزاج، فإذا ما غير الإنسان هذه الساعة البيولوجية المتأقلمة مع "التمثيل الجسمي"، وتلك البيئة، بحيث يجد نفسه في بيئة أخرى، ونظام جسمي آخر، حينها سيبدأ الجسم أيضا في إنتاج هرمونات " الكورْتيزول"، في وقت غير معتاد، فيتعب الجسم ويشعر المرء بالقيء والدوار.

وهذا ما يؤدي أيضا إلى اختلال " التمثيل الغذائي والجسمي" معا، بسبب الخروج عن الأصل المعتاد وهو الإقامة والبيئة والمناخ: كما في صحيح البخاري 1804 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله».

وتختلف قدرة المرء على تحمل مسافة السفر الاعتيادية، من شخص لآخر، مما يعني أن لا عبرة في السفر بطول المسافة، وإنما العبرة فيه بالبروز عن محل الإقامة وعدم رؤيتها، مع طروء الأمر الغير الاعتيادي لجسم الإنسان، مما يجعل المرءَ عرضة للمشقة، ولو كان في أطيب المراكب.

يؤكد ذلك ما ذكره الخبراء من أنه كلما طالت المسافة واشتدت السرعة، ازدادت معها حالة الإصابة ب " الجاث لاق"، بسبب سرعة الزمن مع سرعة التغير في البيئة والمناخ والزمن.

فهب أن إنسانا سافر من الشرق إلى الغرب، أو من الشمال إلى الجنوب في أسرع مركب، فسيتعرض لاضطرابات الرحلات وآثار الجاث لاق عبر عدد المناطق الزمنية التي يتم عبورها.  

ومن ههنا يتبين خطأ من زعم بإسقاط رخص الله تعالى مع هذا التطور العلمي الحديث والمركبات السريعة المتوفرة في هذا الزمان.

ويتبين لك السر في عدم تحديده عليه السلام لمسافة الركوب التي يتم فيها القصر والفطر والترخص، وأن التحديد إنما هو اجتهادات فقهية مأخوذة من أفعال له عليه السلام وتقصيره في بعض المناطق التي ذهب إليها، ذلك أن الفعل العارض الغير مقصود لا يؤخذ منه تحديد، وبقي القول الصحيح أن السفر هو البروز عن محل الإقامة نهائيا، بحيث لا يرى مدينته ومحيطها من كل الجهات، حتى إذا ما غاب إلى الجهة الأخرى لمدينته من وراء سهولها وهضابها وجبالها، فهو مسافر لأنه برز عن محل إقامته كما قال الظاهرية ومن معهم وبالله التوفيق.    

وبالله التوفيق.

 


تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني