المُخبر في عدد درجات المنبر

                              المُخبر في عدد درجات المنبر                           

                             

                                  كتابة الطاهر زياني

                                                                                                                                      

بسم الله وبعد:

فهذا مبحث يتعلق بخُطب النبي عليه السلام في منبره، وكيف كان أمر بداية المنبر، وطريقة صنعه ودرجاته، وهل هي توقيفية أم اجتهادية؟ قسمته على النحو التالي:

المطلب الأول: أمر الخطبة وبداية المنبر:

المطلب الثاني: هل اتخاذ ثلاث درجات وقع قصدا أم اتفاقا، وما هو سبب صغر المنبر:

المطلب الثالث: ما ورد عنه عليه السلام أنه اتخذ المنبر من درجتـيْن، والجمع بينه وبين الثلاث درجات:

 المطلب الرابع: هل اتُّخِذ المنبر في مكة، وبيان من زاد فيه على ثلاث درجات:

المطلب الخامس: من كان يجلس في المرقاة الثانية والأولى أو أكثر مما يبين أن الثلاث ليست للحصر وكلام الإمام مالك في ذلك:

المطلب السادس: صفة المنبر النبوي، وبيان عدم التقيد به كما وكيفا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الأول: أمر الخطبة وبداية المنبر:

كان النبي عليه السلام يخطب قائما في عامة خطبه، وهو الأصل الأول في خطبه كلها، ثم إنه عليه السلام صار يتكئ في خطبة الجمعة على جذع، حتى أشار إليه بعض أصحابه باتخاذ المنبر، فقبل العرض، كما ذكرت أدلة ذلك في كتاب " الشهب في استحباب حمل العصا في الخطَب".

وأما في خطب العيد وغيرها فتختلف من موقف لآخر، والأمر واسع، وإنما السنة أن يقف الإمام على مكان مرتفع من غير تعيين كما ذكر السلف:

قال الشافعي في الأم:" فبهذا قلنا لا بأس أن يخطب الامام على شئ مرتفع من الارض وغيرها "، وقاله غيره من السلف وهو الصحيح.  

1/ فثبت عنه أنه كان يخطب قائما على قدميه:

خرج ابن ماجه (1288) عن عياض بن عبد الله أخبرني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد، فيصلي بالناس ركعتين، ثم يسلم، فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس، فيقول:" تصدقوا تصدقوا " فأكثر من يتصدق النساء، بالقرط والخاتم والشيء، فإن كانتْ حاجة يريد أن يبعث بعثا ذكره لهم، وإلا انصرف ".

وخرج عن أبي بحر قال: حدثنا إسماعيل ابن مسلم حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائما ثم قعد قعدة ثم قام ".

2/ وورد أنه خطب في مكان مرتفع: 

روى ابن جريج: أخبرني الحسن بن مسلم عن طاووس عن ابن عباس قال:" شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، قال: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل حتى جاء النساء مع بلال ...".

وفي قوله :" نزل" إشعار بأنه خطب في مكان مرتفع.

3/ وثبتت الخطبة على البعير:

كما خرج ابن ماجه (1285) عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن عائذ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقة حسناء، وحبشيٌّ آخذ بخطامها ".

ثم خرج عن سلمة بن نبيط عن أبيه أنه حج فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على بعيره".

4/ وورد عنه اتخاذ المنبر في المصلى للاستسقاء:

خرج البيهقي (3/484) عن حاتم بن إسماعيل ثنا هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال: أخبرني أبي وسمعته يحدث قال: أرسلني الوليد بن عقبة، وهو يومئذ أمير المدينة إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، فأتيته فقلت: إنا تمارينا في المسجد في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، فقال: لا، ولكن أرسلك ابن أخيك، ولو أنه أرسل فسأل، ما كان بذاك بأس، ثم قال ابن عباس: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلا، متواضعا، متضرعا، حتى جلس على المنبر، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد ".

5/ وثبت عنه الاستناد إلى جذعٍ في خطبة الجمعة: وذلك بعد مرحلة الخطبة قائما:

وقد ذكرت أدلة ذلك في بحثي:" الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب".

خرج ابن ماجه (1414) عن عبيد الله الرقي حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم خطبتك؟ قال: "نعم" فصنع له ثلاث درجات، فهي التي على المنبر، فلما وضع المنبر، وضعوه في موضعه الذي فيه ...".

وروى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَر: وَحَدَّثَنِي غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا بِبَعْضِ ذَلِكَ قَالُوا: .. فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ لِي غُلامًا يُقَالُ لَهُ: كِلابٌ أَعْمَلُ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيَعْمَلْهُ» فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَثْلَةٍ بِالْغَابَةِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ عَمِلَ مِنْهَا دَرَجَتَيْنِ وَمَقْعَدًا ..."،

ولم يصح هذا.  

6/ ولما قبل عليه السلام العرض كلف بعض أصحابه باتخاذ المنبر:

وذلك كما قيل سنة سبع وقيل ثمانية، والأرجح أنه صُنع قبل ذلك بكثير، ما بين أواخر السنة الثانية إلى الرابعة للدليليْن التالييْن:

. فورد أنه صُنع بعد الهجرة النبوية بعد هجرة: درة رضي الله عنها، وذلك بعد غزوة بدر سنة اثنتين:

روى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِع مَوْلَى ابْنِ عُمَر وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَم عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالُوا: قَدِمَتْ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي لَهَبٍ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرَةً فَنَزَلَتْ دَارَ رَافِعِ بْنِ الْمُعَلَّى الزُّرَقِيِّ، فَقَالَتْ لَهَا نِسْوَةٌ جَلَسْنَ إِلَيْهَا مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: أَنْتِ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي لَهَبٍ الَّذِي يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [المسد: 2] مَا يُغْنِي عَنْكِ مُهَاجَرَتُكِ، فَأَتَتْ دُرَّةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ مَا قُلْنَ لَهَا فَسَكَّتَهَا، ثُمَّ صَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَالِي أُوذَى فِي أَهْلِي ؟ فَوَاللهِ إِنَّ شَفَاعَتِي لَتَنَالُ قَرَابَتِي حَتَّى أُرْحَاءَ وَحَكَمًا وَصُدًى وَسَلْهَبٌ بِمَا لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَرَابَتِي "، وَسَلْهَبٌ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ مِنْ دَوْسٍ ".

وورد اتخاذ المنبر قبل حادثة الإفك في غزوة المريسيع من السنة الرابعة لما ثبت في الصحيحين (خ2661) عن عائشة في حديث الإفك وفيه قالت :" ... فثار الحيان الأوس والخزرج حتى [هموا] كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فخفضهم حتى سكتوا".

وقد اختلفوا في صانعه، وفي وقته كما ذكر ابن ناصر الدين في عرف العنبر في وصف المنبر:

فعند أبي داود: أنه تميم الداري، وقيل: صنعه مينا ذكره المنذري، وقيل ميمون النجار، أو قبيصة المخزومي، أو صباح غلام العباس، أو إبراهيم، أو باقوم -بالميم وباللام- غلام سعيد بن العاصي، وكذلك ذكر هذه الأقوال ابن الأثير وغيره، وقال ابن التين: عمله غلام لسعد بن عبادة، وقيل: للعباس، وقيل: لامرأة من الأنصار وهو الأصح، يقال اسمها عائشة:

خرج مسلم 544 عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد، قد تماروا في المنبر من أي عود هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو، ومن عمله، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه، قال فقلت له: يا أبا عباس، فحدثنا، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة - قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ - «انظري غلامك النجار، يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها» فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعت هذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: «يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي».

وفيه دليل على جواز ارتفاع الإمام، والمشي قليلا للحاجة.

المطلب الثاني: هل اتخاذ ثلاث درجات وقع قصدا أم اتفاقا، وما هو سبب صغر المنبر:

فلئن كان وقع قصدا فهو سنة مؤكدة، وإن وقع اتفاقا لأمور وظروف، فهو مشروع أو سنة تقريرية فقط:

وقد بينت السنن أن اتخاذ ثلاث درجات وقع اتفاقا، لأن النبي عليه السلام أمر النجار أن يتخذ له منبرا، ولم يبين له عدد درجاته، ثم إن الصحابي اتخذ له المنبر بثلاث درجات اجتهادا منه، وبسبب صغر المسجد، وقصر سقفه، مما يؤكد عدم إرادة العدد، وإن كان هو الأفضل مع جواز غيره، كما:

خرج ابن خزيمة في الصحيح (1755) والحاكم (1/416) عن ابن وهب ثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة عن ابن عباس أن رجليْن من أهل العراق أتياه فسألا عن الغسل يوم الجمعة أواجب هو؟ فقال لهما ابن عباس: من اغتسل فهو أحسن وأطهر، وسأخبركما: لما بدأ الغسل كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجين يلبسون الصوف، يسقون النخل على ظهورهم، وكان المسجد ضيقا، مقارب السقف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في يوم صائف شديد الحر، ومنبره قصير، إنما هو ثلاث درجات فخطب الناس فعرق الناس في الصوف، فثارت أبدانهم ريح العرق والصوف حتى كاد يؤذي بعضهم بعضا حتى بلغت أرواحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: «أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمسن أحدكم أطيب ما يجد من طيبه أو دهنه»

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.

وقد وردت أكثر الأحاديث في أن منبره عليه السلام كان ثلاث درجات يرقى على الثالثة منها:

روى أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضى الله عنه يقول: ارتقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس ...".

وروى سعيد بن أبي مريم ثنا محمد بن هلال حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احضروا المنبر» فحضرنا فلما ارتقى درجة قال: «آمين» ، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: «آمين» فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: «آمين»،

ورواه عبد الله بن يزيد الحضرمي عن مسلم بن يزيد الصدفي عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه نحوه.

المطلب الثالث: ما ورد عنه عليه السلام أنه اتخذ المنبر من درجتـيْن، والجمع بينه وبين الثلاث درجات:

خرج ابن حبان في صحيحه عن مبارك بن فضالة حدثنا الحسن عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: "ابنوا لي منبرا". فبنوا له منبرا له عتبتان، فلما قام على المنبر ليخطب، حنت الخشبة -حنين الولد، فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فاحتضنها فسكنت. قال: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى...".

صرح مبارك بن فضالة بالسماع من الحسن، لكن هل سمعه الحسن عن أنس؟:

خرج ابن عبد البر عن إبراهيم بن مرزوق، ثنا حبان بن هلال أبو حبيب المقرئ، عن مبارك، عن الحسن ثنا أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب مسندا ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: «ابنوا لي منبرا» ، قال: فبنوا له منبرا والله ما كان إلا عتبتين فلما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخشبة إلى المنبر حنت الخشبة، قال أنس: سمعت والله الخشبة تحن حنين الواله قال: فما زالت تحن حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنها".

ورواه ابن المبارك في الزهد ابن المبارك قال: أخبرنا المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، ويسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: «ابنوا لي منبرا» ، فبنوا له منبرا، إنما كان عتبتين ...،

وقد توبع مبارك بن فضالة على الحديث، وعلى سماع الحسن عن أنس:

رواه الطبراني ثنا أحمد بن محمد بن صدقة قثنا يحيى بن محمد بن السكن قثنا حبان بن هلال عن يزيد بن إبراهيم التستري قال سمعت الحسن يقول أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله ص كان يخطب يوم الجمعة مسندا ظهره إلى خشبة فلما كثر الناس قال ابنوا لي منبرا فبنوا له منبرا إنما كان عتبتين فلما تحول من الخشبة إلى المنبر حنت الخشبة قال أنس فسمعت الخشبة والله حنت حنين الناقة الوالهة حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فاحتضنها فسكنت ". 

ووجه الجمع بين الثلاث والثنتين أن من ذكر الثلاث فبالدرجتين والمجلس وهو المرقاة الثالثة، ومن ذكر مرقاتين فلم يحتسب المجلس، كما في رواية الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: إِن لي غُلَاما يُقَال لَهُ فلَان أعمل النَّاس، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فمره يعْمل، فَأرْسل إِلَى اثلة بِالْغَابَةِ فقطعها ثمَّ عَملهَا دَرَجَتَيْنِ ومجلساً ".  

قال العيني في عمدة القاري :" فَإِن قلت: فِي (الصَّحِيح) : ثَلَاث دَرَجَات، فَمَا التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: الَّذِي قَالَ: مرقاتين، كَانَ لم يعْتَبر الدرجَة الَّتِي كَانَ يجلس عَلَيْهَا، وَالَّذِي روى لَهُ ثَلَاثًا اعتبرها ".

المطلب الرابع: هل اتُّخِذ المنبر في مكة، وبيان من زاد فيه على ثلاث درجات:

مما يؤكد أن الثلاث درجات ليست للحصى، هو أن الخلفاء الراشدين كانوا يخطبون في مكة خاصة قياما كما كان الأمر في الهدي النبوي الأول قبل اتخاذ المنبر، حتى اتخذ معاوية رضي الله عنه المنبر في مكّة، بناه على ثلاث درجات، وأما منبر المدينة فزاد فيه معاوية إلى ست درجات أو تسع:

روى الفاكهيّ عن سفيان عن عبد العزيز بن عمر عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال:" لما قدمنا مكة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قائما بين البيت وزمزم، أي يخطب ".

وقال الفاكهي في أخبار مكة:" باب ذكر منبر مكة، وأول من جعله، وكيف كانوا يخطبون بمكة قبل أن يتخذ المنبر، ومن خطب عليه":

( 1791) - حدثنا ميمون بن الحكم ثنا محمد بن جعشم نا ابن جريج قال: قال عطاء: " ما جلس النبي صلى الله عليه وسلم على منبَر حتى مات، يعني يوم الفطر، وإنما كانوا يخطبون قياما لا يجلسون " قال: ولم يكن منبرٌ إلا منبرُ النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء معاوية أو حج بمنبر، فلم يزالوا يخطبون على المنابر بعده،

قال: وقال بعض المكيين: أول من خطبَ على منبر بمكة: معاوية رضي الله عنه، جاء بمنبرٍ من الشام صغير على ثلاث درجات، وإنما كان الخلفاء والولاة فيه يخطبون قياما على أرجلهم يوم الجمعة وغيره في وجه الكعبة وفي الحجر".

ورواه الأزرقي في أخبار مكة:" ما جاء في منبر مكة":" حدثني جدي عن عبد الرحمن بن حسن عن أبيه قال: " أول من خطب بمكة على منبرٍ: معاويةُ بن أبي سفيان، قدم به من الشام سنة حج في خلافته، منبرٌ صغيرٌ على ثلاث درجات، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياما في وجه الكعبة وفي الحجر، وكان ذلك المنبر الذي جاء به معاوية، ربما خرب، فيعمر ولا يزاد فيه، حتى حَجّ الرشيد هارون أمير المؤمنين في خلافته، وموسى بن عيسى عامل له على مصر فأهدى له منبرا عظيما في تسع درجات منقوشا، فكان منبر مكة، ثم أخذ منبر مكة القديم فجُعل بعرفة، حتى أراد الواثق بالله الحج، فكتب، فعُمل له ثلاثة منابر: منبر بمكة، ومنبر بمنى، ومنبر بعرفة، فمنبر هارون الرشيد، ومنابر الواثق كلها بمكة إلى اليوم ".

وقال أبو محمد الحضرمي في قلادة النحر (1/243): ولم يزل المنبر المذكور على حالته تلك إلى زمن معاوية رضي الله عنه، فيقال: إنه همّ بنقله إلى الشام فرجفت المدينة، فتركه وزاد من أسْفَلِهِ ستّ درجات، وكساه قطيفة "،

وورد أن معاوية رضي الله عنه هو الذي زاد في عدد الدرجات على المنبر النبوي، ستا، وزاد في غيره من المنابر خمس عشرة درجة:

1/ فقد ذكروا في ترجمته عن الزبير قال: هو أول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة رقاة".

2/ وروى عبد الرزاق 5244 - عن رجل من أسلم عن صالح مولى التوأمة أن باقول مولى العاص بن أمية «صنع للنبي صلى الله عليه وسلم منبره من طرفاء ثلاث درجات» فلما قدم معاوية المدينة زاد فيه، فكسفت الشمس حينئذ ".

الأسلمي ضعيف، وقد توبع:

قال ابن منده: ورواه محمد بن سليمان بن مسمول عن أبي بكر بن عبد الله وهو السبري عن صالح مولى التوأمة حدثني باقوم مولى سعيد بن العاصي قال: «صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرا من طرفاء الغابة ثلاث درجات، القعدة ودرجتيه».

3/ وذكر المقريزي وابن حجر في الفتح  أن الزبير بن بكار خرج في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال بعث معاوية إلى مروان وهو عامله على المدينة أن يحمل إليه المنبر فأمر به فقلع فأظلمت المدينة فخرج مروان فخطب وقال إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه فدعا نجارا وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم ".

قال:" ورواه من وجه آخر قال:" فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال:" فزاد فيه ست درجات، وقال:" إنما زدت فيه حين كثر الناس".

قال بن النجار وغيره:" استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا فأزيل منبر المظفر فلم يزل ذلك إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر الله له صالح عمله آمين ".

فأنت ترى ان السلف باركوا الزيادة ولم ينكروها، وإنما أنكر بعضهم تحويل المنبر من مكانه إلى مكان آخر لا غير.  

المطلب الخامس: من كان يجلس في المرقاة الثانية والأولى أو أكثر مما يبين أن الثلاث ليست للحصر وكلام الإمام مالك في ذلك:

مما يؤكدُ أنّ عددَ الدرجات غير محصورة بعدٍّ، أن الخليفة أبا بكر كان ينزل إلى الدرجة الثانية يخطب عليها، ثم نزل عمر إلى الدرجة الأولى وخطب عليها، مع زيادة معاوية رضي الله عن الجميع:

ذكر ابن النجار الدرة الثمينة في أخبار المدينة (97) قال:

وروى ابن أبي الزناد: كان صلى الله عليه وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله عنه قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان رضي الله عنه فعل كذلك ست سنين، ثم علا فجلس موضع النبي صلى الله عليه وسلم وكسى المنبر قبطية، فلما حج معاوية رضي الله عنه كساه قبطية وزاد فيه ست درجات، ثم كتب إلى مروان بن الحكم، وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر على الأرض، فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها وصار المنبر تسع درجات بالمجلس، لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده ".

قال ابن أبي الزناد: ولما قدم المهديّ المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس رضي الله عنه: إني أريد أن أعيد منبر النبي صلى الله عليه وسلم على حاله! فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العِيدَانِ وشُدَّ، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك، فلا أرى أن تغيره ".

وقال أبو محمد الحضرمي في قلادة النحر (1/243):" وهمّ المهدي بن المنصور العباسي أن يردّه إلى حاله الأول، فقال الإمام مالك: إنما هو من طرفاء، وقد شدّ إلى هذه العيدان وسمّر، فمتى نزعته خفت أن يتهافت، فتركه، ثم تهافت لطول الزمان، فجدّده بعض خلفاء بني العباس، واتخذ من بقايا منبر النبي صلّى الله عليه وسلم أمشاطا للتبرك بها".

وَذكر ابْن زبالة أَيْضا أَن الْمهْدي بن الْمَنْصُور لما حج سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة قَالَ للْإِمَام مَالك بن أنس رَحمَه الله: أُرِيد أَن أُعِيد مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَاله الأول".

فهذا الإمام مالكٌ قد نهى الخليفةَ المهديَّ من إرجاع المنبر إلى ثلاث درجات، وتركه على حاله ست درجات، فلو كان بدعة عنه تستوجب الكسر لأمر بكسره، خاصة ومعه تأييد أمير المؤمنين ".

وأما الشافعية: فقد ورد في شرج البهجة :" وَيُنْدَبُ أَنْ يَقِفَ الْخَطِيبُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ ، فَإِنْ طَالَ الْمِنْبَرُ ، فَبِالسَّابِعَةِ"، قال في الشرح:" قوله : فبالسابعة ) كأنه لفعل سيدنا معاوية رضي الله عنه له ؛ لأن { منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات غير المستراح } فلما خطب عليه أبو بكر نزل درجة ، ثم عمر درجة ، ثم علي درجة فلما تولى معاوية لم يجد درجة ينزل إليها فزاد ست درجات من أسفله ".

وأما الحنابلة فقد ورد في الفروع لابن مفلح وغيره :" تُسَنُّ خُطْبَتُهُ عَلَى مِنْبَرٍ أَوْ مَحَلٍّ عَالٍ ... قال: اتخاذ المنبر سنة مجمع عليها، وكان منبره عليه السلام ثلاث درجات يقف على الثالثة التي تلي مكان الاستراحة، ثم وقف أبو بكر على الثانية، ثم عمر على الأولى، تأدبا، ثم وقف عثمان مكان أبي بكر، ثم علي موقف النبي صلى الله عليه وسلم. ثم زمن معاوية قلعه مروان وزاد فيه ست درج، فكان الخلفاء يرتقون ستا يقفون مكان عمر".

وكذلك ذكر الحنفية وغيرهم.

المطلب السادس: صفة المنبر النبوي، وبيان عدم التقيد به كما وكيفا:

قال ابن الضياء في تاريخ مكة (274) :" ذكر الشَّيْخ محب الدّين عَن مُحَمَّد بن الْحسن بن زبالة قَالَ: كَانَ طول الْمِنْبَر مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأول فِي السَّمَاء ذراعين وشبراً وَثَلَاثَة أَصَابِع، وَعرضه ذِرَاع رَاجِح، وَطول صَدره وَهُوَ مُسْند إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذِرَاع، وَطول رمانتي الْمِنْبَر اللَّتَيْنِ كَانَ يمسكهما صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جلس يخْطب شبر وأصبعان، وَعرضه ذِرَاع فِي ذِرَاع وتربيعه سَوَاء، وَعدد دَرَجه ثَلَاث بالمقعد، وَفِيه خَمْسَة أَعْوَاد فِي جوانبه الثَّلَاث ".

قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي خلَافَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم، فَلَمَّا حج مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فِي خِلَافَته كَسَاه قبطية ثمَّ كتب إِلَى مَرْوَان بن عبد الحكم وَهُوَ عَامله على الْمَدِينَة أَن ارْفَعْ الْمِنْبَر عَن الأَرْض، فَدَعَا لَهُ النجارين ورفعوه عَن الأَرْض وَزَادُوا من أَسْفَله سِتّ دَرَجَات، وَصَارَ الْمِنْبَر بِسبع دَرَجَات بِالْمَجْلِسِ ".

وقال ابن النجار: وطول منبر النبي صلى الله عليه وسلم ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي صلى الله عليه وسلم ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين يمسكهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يخطب شبر واصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقدة، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر.

وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة، ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوباً من الحرير الأسود وله علم ذهب يكسى به المنبر، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستوراً على أبواب الحرم ".

فمن بدع الزيادة بلا سلف على ثلاث فليبدع كل ما زاد على هذا المنبر النبوي كما وكيفا من رمانة ومقعد وطول وعرض ومادة صنع ... والله المستعان.

 

 

                           

تعليقات

  1. راجع كتابي: الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب ، له علاقة بهذا البحث https://elzianitaher.blogspot.com/2020/06/blog-post.html

    ردحذف

إرسال تعليق

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني