تخريج حديث بداية الوحي، وتفنيد بلاغ هم النبي عليه السلام بالانتحار

 

             تخريج حديث بداية الوحي، وتفنيد بلاغ الهم بالانتحار

         

                         كتابة: الطاهر زياني

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله وبعد:

فهذا تخريج الحديث الصحيح في كيفية بداية الوحي إلى قصة موت مورقة بن نوفل وانقطاع الوحي,

ثم تخريج بلاغ الزهري المنقطع الضعيف في محاولة النبي عليه السلام الانتحار بسبب انقطاع الوحي وشدته.

وقد حاول أعداء الله الطعنَ في نبي الإسلام، بدعوى أنه حاول الانتحار، وحكموا عليه بالفسق والنار، وزعموا بأن الرواية في صحيح البخاري.

والجواب أن البخاري خرجها تبعا لا أصالة، بعد حديث بدإ الوحي، مبينا أنها بلاغ من أحد الرواة.

وإن كانت هذه الرواية في الانتحار بلاغا ضعيفا، فقد كانت في بداية الوحي بعد النبوة مباشرة، لكنها قبل الرسالة، وتنزيل الشرائع وتحريم الانتحار وغيره... ومع ذلك فلم تصح.

إضافة إلى تعارض هذا البلاغ، مع أدلة انقطاع الوحي عن النبي عليه السلام الثابتة، إذ كيف تصح الرويات بانقطاع الوحي مدة، بينما يسرد هذا البلاغ بأن جبريل كان يأتي النبي عليه السلام ويُصبّره أثناء ذلك؟؟؟

وإذا كان دين النصارى والأناجيل المعتمدة عندهم مبنية على وجادات أو على بلاغات يوسابيوس الذي قال في كتاب تاريخ الكنيسة: بلغني عن أورانيوس أنه بلغه عن الأناجيل الأربعة، فذكرها.

مع العلم أن هذا الكتابَ بلاغ بلا إسناد، ويوسابيوس وغيره من المجاهيل، ولا يعلم ضبطهم، فلو طبقنا علم الحديث عندنا عليهم، لكانت رواياته كلها موضوعة لا تحل.

خاصة وأنه كتبها بعد محمد نيقية 322م الذي كان سببه اخلاف النصارى بين التوحيد والتثنية والتثليث، وخرج المجمع بإلزام الناس بعقيدة التثليث مع مخالفة الأريسيين لهذا التحريف.   

وأما المسلمون فلا يُثبتون بهذه البلاغات الباطلة، حتى الحديث، فكيف بالقرآن.

ويرون بأن البلاغ هو من الأحاديث المنقطعة الضعيفة، ويزداد الانقطاع ضعفا إذا طال زمن الانقطاع كما هنا.

ولا يرى المسلمون الحديث صحيحا إلا إذا كان متصلا في الزمن، برواية الثقات والمعدلين، وهذا من تمام حفظ الله لدينه قرآنا وسنة.

وقد روى الحديثيْن السابقين الإمام الزهري،:

فأما الأول فقد أسنده صحيحا، وأما الثاني فقد جعله بلاغا مرسلا،

فاكتفى أكثر المحدثين بتخريج الحديث المسند كما فعل مسلم وأصحاب السنن وغيرهم من غير ذكر البلاغ.

بينما فضل آخرون كالبخاري، زيادة زواية البلاغ مع الحديث المسند، لأنها وقعت لهم مع الرواية المسندة، فرووها مع تبيين أنها بلاغ:  

أقول: 

1/ أما رواية الاتصال مع زيادة رواية البلاغ:

فقد خرجها البخاري في الصحيح (6982) وابن حبان في الصحيح 33 والإمام أحمد في مسنده وإسحاق في مسنده 840  كلهم عن عبد الرزاق في مصنفه 9719، أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة قالت: أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة يراها في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب له الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدة ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: » ما أنا بقارئ «، قال: » فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال لي: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارئ»، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارئ»، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] حتى بلغ {ما لم يعلم} [العلق: 5]، قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

ثم قال: «يا خديجة ما لي؟ » وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيته علي»، فقالت: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وكان أخا أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: أي عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعا، أكون حيا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمخرجي هم؟ » قال: نعم، لم يأت أحد قط بما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا لكي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منها تبدى له جبريل، فقال له: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك ".

ينتهي هذا الحديث الصحيح المتصل بقوله:" ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي حتى حزن النبي عليه السلام"،

وأما زيادة الهمّ بالانتحار فهي بلاغ وزيادة باطلة ليست من الحديث، وإنما هي من كلام الزهري بلاغا مرسلا، وليس لها أي شاهد يعضدها.  

ومن هذا الوجه خرجه البخاري في الصحيح (ر2) (4954) ومسلم (254... 258) وغيرهم بغير ذكر هذا البلاغ.   

وأما رواية الهم بالانتحار فتبدأ من قوله :" وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم [+ فيما بلغنا حزنا ..."، إلى آخر قوله :" فيقول مثل ذك ".

وليست هي من الحديث المتصل، بل هي بلاغ، وبلاغات الزهري واهية ضعيفة، والزهري من صغار التابعين، بَــيْنه وبين فترة بداية الوحي مدة طويلة أكثر من قرن، وأما ذكر البخاري لها، فإنه أتم الرواية الصحيحة التي وقعت له في كيفية بدإ الوحي، ثم نص أنها بلاغ، في قوله:" فيما بلغنا..."، ولم يسندها البخاري، بل جعلها من البلاغات، وليس لها أي شاهد مسند.

إضافة لكونها في بداية الوحي بعد النبوة مباشرة، لكنها قبل الرسالة، وتنزيل الشرائع وتحريم الانتحار وغيره... ومع ذلك فلم تصح.

إضافة إلى تعارض هذا البلاغ، مع أدلة انقطاع الوحي عن النبي عليه السلام الثابتة، إذ كيف تصح الرويات بانقطاع الوحي مدة، بينما يسرد هذا البلاغ بأن جبريل كان يأتي النبي عليه السلام ويُصبّره أثناء ذلك؟؟؟

وأما زيادة الهمّ بالانتحار فهي بلاغ وزيادة باطلة ليست من الحديث، وإنما هي من كلام الزهري بلاغا مرسلا، وليس لها أي شاهد يعضدها.  

واخلتفوا في قائلها:

1/ فزعم العيني وابن حجر أن راوي البلاغ هو معمر:

قال العيني في عمدة القاري :" وَهَذَا من بلاغات معمر وَلم يسْندهُ وَلَا ذكر رَاوِيه، وَلَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وَلَا يعرف هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ أَنه قد يحمل على أَنه كَانَ أول الْأَمر قبل رُؤْيَة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا جَاءَ مُبينًا عَن ابْن إِسْحَاق عَن بَعضهم، أَو أَنه فعل ذَلِك لما أحْرجهُ تَكْذِيب قومه كَمَا قَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك} أَو خَافَ أَن الفترة لأمر أَو سَبَب فخشي أَن يكون عُقُوبَة من ربه فَفعل ذَلِك بِنَفسِهِ وَلم يرد بعد شرع بِالنَّهْي عَن ذَلِك فيعترض بِهِ وَنَحْو هَذَا فرار يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام حِين تَكْذِيب قومه وَالله أعلم ".

وقال ابن حجر:" زاد البخاري في التعبير عن معمر قال: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا".

ثم قال:" وهذا من بلاغات معمر، ولم يسنده ولا ذكر راويه ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله، ولا يعرف هذا إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم –".

ثم ذكر بأنه محمول على إرادة ذلك في بداية النبوة، قبل الرسالة، وقبل علمه بها، وقبل تنويل الشرائع وتحريم القتل والانتحار.

قال ابن حجر:" مع أنه قد يحمل على أنه كان في أول الأمر قبل رؤية جبريل كما جاء مبينا عن ابن إسحاق عن بعضهم، أو أنه فعل ذلك لما أحرجه تكذيب قومه كما قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك} [الكهف: 6]، أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب فخشي أن تكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به، ونحو هذا فرار يونس حين تكذيب قومه، نبه على ذلك القاضي عياض ".

2/  والصواب أن راوي البلاغ هو الزهري، لأنه مشهور بالبلاغ، وبالإدماج بين الأحاديث والروايات المختلفة مع التمييز بينها.

فإن قيل: ما الدليل على أنها من بلاغات الزهري:

قيل: لأنه معروف بذلك، وقد قال هنا:" فيما بلغنا ..."،

ولخلو هذه الزيادة المنكرة من سائر الروايات، إلا في بلاغ الزهري، ولأن الرواة عن الزهري قد ذكروها عنه: 

 

2/ فخرجها الطبري في تفسير المدثر  حدثنا ابن عبد الأعلى: ثنا ابن ثور عن معمر، عن الزهريّ قال: فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، فحزن حزنًا، فجعل يعدو إلى شواهق رءوس الجبال ليتردّى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول: إنك نبيّ الله، فيسكن جأشه، وتسكن نفسه ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدث عن ذلك "،

ورواها ابن منده عن عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، أن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، ........

إلى قوله:" ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، فغدا من أجله مرارا لكي يتردى من ذروة شاهق جبال الحرم، فكلما أوفى ذروة جبل لكي يلقي نفسه، تبدى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله، فيسكن لذلك جأشه، ويبقي نفسه فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا، لمثل ذلك فإذا أوفى على ذروة الجبل تبدى له جبريل عليه السلام، فقال مثل ذلك ".

كذلك رواها بن بكير، حدثني الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب الزهري مثلهم.

 

          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني