التعزير بالمال عند المماطلة في تسديد الديون والفواتير، هل هو تقسيط أم ربا ؟ وبيان من يأخذ الربح في التجارة بالمال المهضوم أو المغصوب - الطاهر زياني

                       التعزير بالمال عند المماطلة في تسديد الديون والفواتير،

                                    هل هو تقسيط أم ربا ؟  

                           وبيان من يأخذ الربح في التجارة بالمال المهضوم 

 

                                   كتابة: الطاهر زياني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله وبعد :

فهذا مبحث حول ما يسمى بالشرط الجزائي أو حكم الغرامة أو التعزير بالمال جراء تأخير الغنيّ الواجد والمماطل سدادَ دينه، أو فاتورته، ومن ثَمَّ تعطيله لمصالح دائنه ، وبيان من يأخذ الربح المتولد من ذلك الاستعمال من طرف الغاصب لمال مغتصبه، أَهَلْ يأخذه الغاصب أو المغصوب أو يقتسمانه مشاطرة بينهما ؟ أم غير ذلك ؟  

وقد قسمته إلى المطالب التالية :

المطلب الأول : أنواع الشرط الجزائي:

المطلب الثاني : حكم الغرامة المترتبة على تأخير سداد الفواتير وبيان صورها وبيع التقسيط:

المسألة الأولى: بيع التقسيط وصوره:

المسألة الثانية:

المسألة الثانية: حكم الغرامة المترتبة على المماطلة والتأخير في سداد الديون والفواتير وبيان صورها:

الفرع الأول: بيان صور الزيادة المترتبة على تأخير الفواتير :

الفرع الثاني: تحقيق مناط توفر شرط الدفع حالا وبداية العقد:

المطلب الثالث : أهم الفروق بين الربا، وتغريم المماطل :

المطلب الرابع: الاختلاف في التعزير بالمال-الشرط الجزائي التعزيري- مقابل مماطلة الواجد في سداد الديون:

المسألة الأولى: أحوال المماطل من حيث استغلال مال مُقرضه، وبيان الربح لمن؟

الحالة الأولى: ألا يستعمل مال الدائن، أو يستعمله في أغراضه الشخصية:

الحالة الثانية: أن يقوم هذا المماطلُ باستثمار ذلك المال أو يخلطه مع ماله التجاري:

المسألة الثانية: أقوال العلماء في الشرط الجزائي- التعزير بالمال- للمماطل والغاصب:     

المسألة الثالثة: شروط جواز الغرامة المالية الناتجة عن المماطلة في تسديد الحق :

المسألة الرابعة: أدلة مشروعية التعزير المالي والشرط الجزائي للمماطل والظالم:

المطلب الخامس: ذكر غلة المال المغصوب لمن تعود ؟ للمالك المظلوم أو للغاصب الظالم أو لهما معا ... ؟:

المسألة الأولى: تحرير الأقوال:

المسألة الثانية: أدلة من قال بأن الربح والغلة للمالك المظلوم، وأن ليس للظالم شيء، إلا أجرة نفقته وجهده:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الأول : أنواع الشرط الجزائي : هي ثلاثة والله أعلم  :  

أولا : الشرط الجزائي مقابل التأخير في تنفيذ الأعمال: وهذا قد أُجيز بشرط أن لا تكون هنالك ظروف قاهرة تعيق المقاول عن أداء عمله في وقته المحدد ، لأن المسلمين على شروطهم .

والثاني : الشرط الجزائي مقابل التأخير في تسديد القروض كما سيأتي .

والثالث : الشرط الجزائي مقابل التأخير في الديون الناتجة عن البيوع أو الإجارة .

ويدخل في هذا الغرامة المترتبة عن تأخير سداد فواتير الكهرباء والماء والغاز ونحو ذلك كما في :  

المطلب الثاني : حكم الغرامة المترتبة على تأخير سداد الفواتير، وبيان صورها وبيع التقسيط:

المسألة الأولى: بيع التقسيط وصوره:

الفرع الأول: تعريف بيع التقسيط:

لغة: الحصةُ والذَّنوب أو النصيبُ والكفل، (قسط جار أقسط عدل) تقسّط اقتسم،

وفي الشرع: هو عقد على مبيع لا ربوي، حالّ، بثمن مؤجل معلوم لا يتغير .

الفرع الثاني: أدلة مشروعيته:

نقل غير واحد الإجماع على مشروعية بيع التقسيط .

1/ أما دليل التنجيم ففي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}،[ أي صدقا ووفاء]،

والمكاتبة شرعا: أن يكاتب السيّد عبدَه على مال يؤديه منجما عليه، فإذا أداه فهو حر"،

2/ ورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقالَتْ: كَاتَبْتُ أهْلِي علَى تِسْعِ أوَاقٍ، في كُلِّ عَامٍ وقِيَّةٌ...".

 

3/ وأما دليل الزيادة نظير الأجل فلأنه بيع وليس دينا،

الدليل 4 / حديث عبد الله بن عمرو: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهّز جيْشا فنفدت الإبل ، فأمره أن يأخذ في قلائص الصدقة ، فكان يأخذ البعير بالبعيرين [والشاة بالشاتين] إلى إبل الصدقة»،

وفي رواية:" فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع ظهرا إلى خروج المصدق فابتاع ـ اشترى ـ عبد الله بن عمرو البعير بالبعيرين وبأبعرة إلى خروج المصدق "،

وفيه دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، لأن الحيوان الحي من جنس السلع   وليس من جنس الطعميات الربوية حتى يُذبح.

ولذلك يجوز بيعه بالزيادة تفاضلا، وبالتأخير نسيئة، كما هو مذهب الجمهور خلافا للحنفية،

وقد ورد هذا الحديث من طرق:

الطريق الأول : طريق ابن إسحاق : له عنه طرق:

أولا: رواية يونس عن ابن إسحاق: قال البخاري في التاريخ من ترجمة عمرو :" وقال عبيد عن يونس: عن ابن اسحاق عن أبي سفيان الحرشي عن عمرو "، فلم يذكر مسلما والصواب ذكره كما قال الثقات .

ثانيا : رواية عبد الأعلى عن ابن إسحاق :

. قال ابن أبي حاتم:" ورواه عبد الاعلى السامى عن محمد بن اسحاق عن أبى سفيان عن مسلم عن عمرو بن حريش الزبيدى قال قلت لعبد الله بن عمرو: إنا بأرض ليس بها ذهب ولا فضة نبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والشاة بالشاتين ؟ فقال: امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اجهز جيشا فنفدت الابل فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفدت الابل، فقال: خذ في قلاص الصدقة، قال فجعلت آخذ البعير بالبعيرين إلى ابل الصدقة "،

وقال البخاري في التاريخ من ترحمة عمرو :" وقال عبد الاعلى: عن ابن اسحاق عن ابى سفيان عن مسلم بن كثير عن عمرو بن حريش، تابعه جرير وإبراهيم : 

ثالثا: رواية جرير عن ابن إسحاق :

قال أحمد (2/171) حدثنا حسين يعني ابن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن محمد يعني ابن إسحاق عن أبي سفيان عن مسلم بن جبير عن عمرو بن الحريش قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: إنا بأرض ليس بها دينار ولا درهم، وإنما نبايع بالإبل والغنم إلى أجل، فما ترى في ذلك؟ قال: على الخبير سقطت، جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا على إبل من إبل الصدقة، حتى نفدت، وبقي ناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتر لنا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إذا جاءت، حتى نؤديها إليهم "، فاشتريت البعير بالاثنين والثلاث قلائص، حتى فرغت، فأدى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من إبل الصدقة ".

تابعه أبو أمية الطرسوسي نا حسين بن محمد المروزي نا جرير بن حازم عن محمد بن إسحاق عن أبي سفيان عن مسلم بن جبير عن عمرو بن الحريش قال: سألت عبد الله بن عمرو نحوه، خرجه عنه الدارقطني في السنن .

وهذا إسناد متصل رجاله ثقات إلا عمرو بن حريش : 

رابعا : رواية إبراهيم عن ابن إسحاق : قال أحمد في المسند (2/216) حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أبو سفيان الحرشي وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده عن مسلم بن جبير مولى ثقيف - وكان مسلم رجلا يؤخذ عنه، وقد أدرك وسمع - عن عمرو بن حريش الزبيدي عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: قلت: يا أبا محمد، إنا بأرض لسنا نجد بها الدينار والدرهم، وإنما أموالنا المواشي، فنحن نتبايعها بيننا، فنبتاع البقرة بالشاة نظرة إلى أجل، والبعير بالبقرات، والفرس بالأباعر، كل ذلك إلى أجل، فهل علينا في ذلك من بأس؟ فقال: على الخبير سقطت، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي، قال: فحملت الناس عليها، حتى نفدت الإبل، وبقيت بقية من الناس، قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، الإبل قد نفدت، وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم؟ قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها، حتى ننفذ هذا البعث "، قال: فكنت أبتاع البعير بالقلوصين والثلاث من إبل الصدقة إلى محلها، حتى نفذت ذلك البعث، قال: فلما حلت الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم "،

تابعه البخاري فقال في التاريخ من ترجمة عمرو :" قاله سعيد بن محمد عن يعقوب بن ابراهيم عن أبيه عن ابن اسحاق حدثني سفيان بن جبير مولى ثقف الحرشى وكان ثقة عن عمرو ".

هكذا قال إبراهيم بن سعد وهو أوثق الناس في ابن إسحاق ، وقد تابعه ثقتان جرير وعبد الأعلى، وخالفهم حماد فزاد فيه يزيد، لكن قد صرح ابن إسحاق هنا بالتحديث، مما يدل على سماعه من شيخه مباشرة وهو ثقة، ولئن كان حفظه حماد فهذا يعني أن ابن إسحاق كان قبل ذلك قد سمعه عن شيخه بواسطة يزيد، ثم لقي شيخه هذا فحدث عنه مباشرة ، لكن حماد قد اختلفوا عنه :

خامسا : رواية حماد عن ابن إسحاق : وقد اختلفوا عنه :

1. قال الطحاوي في معانيه وقد كان أيضا، قبل نسخ الربا، يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والدليل على ذلك :

(5736) أن ابن أبي داود حدثنا قال: ثنا أبو عمر الحوضي ح وحدثنا نصر بن مرزوق ثنا الخصيب ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريث عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا , فنفدت الإبل , فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة , فجعل يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ", ثم نسخ ذلك .

القلائص جمع قلوص وهي: الناقة الشابة، ولفظة " ثم نسخ ذلك " من كلام الطحاوي ذكرها بنفسه من فهمه للحديث كما أنه قدم له بالنسخ، يؤكد ذلك أنه لم يذكر أحد من الثقات هذه اللفظة داخل هذا الحديث ، واختلفوا في ذكر مسلم وذكر عمرو بن حريش :

2/ قال الطبراني 14738 - أخبرنا بِشرُ بن موسى ثنا العلاء بن عبد الجبارِ العطار ح. وحدثنا عبدُالله بن محمد بن عبد العزيز البغويّ ثنا عبدُ الواحدِ بن غِيَاثٍ قالا: ثنا حمادُ بن سلمةَ عن محمد بن إسحاقَ عن يزيد بن أبي حبيبٍ عن أبي سفيانَ عن عمرِو بن حَريشٍ قال: قلتُ لعبد الله بن عمرٍو: إنّا بأرضٍ ليس بها ذهبٌ ولا فضةٌ، أفنبيعُ البعيرَ بالبعيرين، والبقرةَ بالبقرتين، والشاةَ بالشاتين؟ قال: أمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ أُجهِّزَ جيشًا فنَفِدتِ الإبلُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، نَفِدتِ الإبلُ ؟ فقال :« خُذْ فِي قَلاَئِصِ الصَّدَقَةِ»، فجعلتُ آخذُ البعيرَ بالبعيرين إلى إبلِ الصدقةِ "، فلم يذكرا هنا عن حماد : مسلمَ بن جبير ، والصواب أنه مذكور ، وفي روايات مفصولة عنهما أنفسهما :

3/ قال الطبراني 14580 - حدثنا بِشْر بن موسى ثنا العَلاء بن عبد الجبَّار ثنا حمَّاد بن سَلَمة عن محمَّد بن إسحاق عن [يزيدَ بن أبي حبيب] عن [مسلم بن جُبَير] عن أبي سُفيانَ عن [عَمرو بن حَرِيش] عن عبد الله بن عَمرو قال: أمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أجهِّزَ جيشًا، فنَفِدَتِ الإبِلُ، فقلتُ: يا رسولَ الله، نَفِدَتِ الإِبلُ، فقالَ: «خُذْ في قِلاَصِ الصَّدَقَةِ» ، فأخذتُ البعيرَ بالبَعيرَين إلى إبِل الصَّدَقة ".

4/ وقال البيهقي في السنن (5/471) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ أنا الحسن بن محمد بن إسحاق ثنا يوسف بن يعقوب القاضي ثنا عبد الواحد بن غياث ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق [عن يزيد بن أبي حبيب] [عن مسلم بن جبير] عن أبي سفيان عن [عمرو بن حريش] قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة , أنبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والشاة بالشاتين؟ فقال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جيشا فنفدت الإبل فقلت: يا رسول نفدت الإبل, فقال: " خذ في قلاص الصدقة " قال: فجعلت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة"، قال البيهقي: اختلفوا على محمد بن إسحاق في إسناده , وحماد بن سلمة أحسنهم سياقة له وله شاهد صحيح ".

وهذان الطريقان المنفصلان هما الأصح عنهما ، وقد توبعا على ذلك :

5/ قال أبو داود 3357 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن [مسلم بن جبير] عن أبي سفيان [عن عمرو بن حريش] عن عبد الله بن عمرو: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة»، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ".

6. وقال الدارقطني 3054 - ثنا الحسين بن إسماعيل نا يوسف بن موسى نا أبو عمر الحوضي نا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن [مسلم بن جبير] عن أبي سفيان [عن عمرو بن حريش] عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل, قال: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم  «أن آخذ في قلائص الصدقة» , فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ".

قال : ثنا محمد بن يحيى بن مرداس نا أبو داود نا حفص بن عمر ثنا حماد بن سلمة بإسناده مثله .

7\ورواه أبو بكر والبغوي قال: حدثنا عبد الاعلى بن حماد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريش قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة فنبيع البعير بالبعيرين والبقرة بالبقرتين والشاة بالشاتين قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جيشا فتعذرت الابل، فقلت: يا رسول الله تعذرت الابل، قال: خذ من قلائص الصدقة، قال: فجعلت آخذ البعيرين إلى إبل الصدقة ".

تابعهم الخصيب ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريث عن عبد الله بن عمرو مثله ، وهذا هو الأصح من حديث حماد، وقد روي عنه من غير ذكر عمرو بن حريش وهو غير محفوظ :

8\قال الحاكم (2/65) أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل القارئ ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا أبو عمر الحوضي ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن [مسلم بن جبير] عن أبي سفيان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من قلائص الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين»، قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي ، والصواب بذكر عمرو كما روى الأكثرون عن حماد .

والصحيح في هذا الحديث رواية إبراهيم بن سعد وجرير بن حازم وعبد الأعلى ثلاثتهم عن محمد ابن إسحاق عن أبي سفيان عن مسلم بن جبير عن عمرو بن الحريش قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، فذكره، وإبراهيم بن سعد من أوثق الناس في ابن إسحاق ، كيف وقد تابعه ثقتان ، وخالفهم حماد فقط واختلفوا عنه وزاد فيه " يزيد ". 

وقد مر تصريح ابن إسحاق بالتحديث، مما يدل على سماعه من شيخه مباشرة وهو ثقة، ولئن كان حفظه حماد فهذا يعني أن ابن إسحاق كان قبل ذلك قد سمعه عن شيخه بواسطة يزيد، ثم لقي شيخه هذا فحدث عنه مباشرة ، لكن حماد قد اختلفوا عنه، ورواية الثقات ممن اتفقوا عليهم أولى من رواية من اختلفوا عنه، ولذلك قال ابن حجر في تعجيل المنفعة من ترجمة مسلم: وفي رجال اسناده اختلاف بالتقديم والتأخير .. ويترجح برواية ابراهيم بن سعد على رواية حماد باختصاصه بابن اسحاق، وقد تابع جرير بن حازم ابراهيم كما تقدم فهى الراجحة ".

وبهذا البيان كانت رواية الثلاثة عن ابن إسحاق عن أبي سفيان عن مسلم بن جبير عن عمرو بن الحريش قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص هي الصحيحة، ورجالها ثقات، إلا عمرو بن حريش، فإن أبا سفيان ثقة، كما في المسند عن ابن إسحاق حدثني أبو سفيان الحرشي وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده، ووثقه ابن معين والذهبي أخيرا بعد أن عرفه .  

وأما مسلم فثقة قال عنه الإمام أحمد :" وكان مسلم رجلا يؤخذ عنه، وقد أدرك وسمع ".

قال ابن أبي حاتم في العلل 1167:" قلت لأبي : من مسلم بن جبير ؟ قال : هو مصري، قلت : فأبو سفيان من هو ؟ قال : هو الشامي، إن لم يكن الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير عن أبي سفيان رجل من أهل الشام عن بجير بن ريسان عن عبادة في الصلاة بين التراويح، قال : لا أدري من هو".

ومسلم بن جبير هذا هو نفسه ابن كثير : وقد ترجمه ابن أبي حاتم فقال عن الدارمي قال قلت ليحيى بن معين: محمد بن اسحاق عن ابى سفيان ما حال أبى سفيان ؟ فقال: ثقة مشهور، قلت: عن مسلم بن كثير عن عمرو بن حريش الزبيدى ؟ قال: هذا حديث مشهور ".

وروى يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عنه: حدثنى أبو سفيان الحرشى وكان ثقة ".

وأما عمرو بن حريش فهو أبو محمد الزبيدى، قال عنه ابن حجر : مقبول، وأما ابن حبان فقال في الثقات :" عمرو بن حبشي الزبيدي يروى عن بن عباس وابن عمر روى عنه عبد الله بن مقدام وهو الذي يقال له عمرو بن حريش "، قال ابن حجر :" كذا قال وفرق بينهما غير واحد فالله أعلم"، وأما الذهبي فقال عن عمرو :" ما روى عنه سوى أبي سفيان، ولا يدرى من أبو سفيان أيضا "، وهذا من تناقضه فقد وثق أبا سفيان كما في الكاشف .

ومما قد يدل على أن عمرو بن حريش نفسه هو ابن حبشي كونهما في نفس الطبقة، وكلاهما لقب الروايات ب " الزبيدي "،

فالحاصل أن الحديث متصل محفوظ من طريق إبراهيم بن سعد ومن تابعه، ورجاله ثقات إلا عمرو فأمره محتمل، لكنه قد توبع متابعة صحيحة، يصح بها الحديث : 

الطريق الثانية : طريق عمرو بن شعيب : ورد من وجهين :

1.      قال البيهقي (5/471) :" وله شاهد صحيح :

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن الحارث الفقيه أنا علي بن عمر الحافظ (وهو عنده في سننه 3052 قال): ثنا أبو بكر النيسابوري نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني ابن جريج أن عمرو بن شعيب أخبره عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا, قال عبد الله بن عمرو: وليس عندنا ظهر , قال فأمره النبي صلى الله عليه وسلم «أن يبتاع ظهرا إلى خروج المصدق» , فابتاع عبد الله بن عمرو البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى خروج المصدق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فصح الحديث وبالله التوفيق .

2. ورواه عبد الرزاق 14144 قال: أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يجهز جيشا، فقال: ليس عندنا ظهر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ابتع لي ظهرا إلى خروج المصدق» فابتاع عبد الله البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى خروج المصدق ".

حدَّثَ عمرو بهذا الحديث على الوجهين، ورواية ابن وهب عن ابن جريج صحيحة، فقد سمع منه وهو شاب صغير يافع، فاق سن التحمل، فصح الحديث، ومما يؤكد صحة روايته أن ابن جريج قد صرح فيها بالتحديث وبالله التوفيق .   

دليل 5/ قال أبو بكر : نا يزيد بن هارون عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحيوان بالحيوان نسيئة ".

دليل 6/ عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي مريم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا فجاءه بإبل مسان فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلكت وأهلكت» قال: يا رسول الله، إني كنت أبيع البكر بالبكرين، والثلاثة بالبعير المسن يدا بيد، وعلمت حاجتك إلى الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذاك إذا أو فلا عليك إذا»

دليل 7/ قال أبو بكر قال: نا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن الحكم، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحيوان واحد باثنين، يعني نسيئة»

آثار متعددة:

قال البخاري في الصحيح:" باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة وقال ابن عباس «قد يكون البعير خيرا من البعيرين» واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين فأعطاه أحدهما، وقال: «آتيك بالآخر غدا رهوا إن شاء الله» وقال ابن المسيب: " لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل " وقال ابن سيرين: «لا بأس بعير ببعيرين نسيئة».

الدليل 8/ رواه مالك 1166 عن نافع أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه , يوفيها صاحبها بالربذة ".

الدليل9/ قال الشافعي في مسنده .1452 - أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن بعير ببعيرين، قال: قد يكون البعير خيرا من البعيرين.

الدليل10/ قالَ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه (8/21) أَنا معمر عَن بديل الْعقيلِيّ عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير أَن رَافع بن خديج اشترى منه بعيرا ببعيرين فأعطاه أحدهما، وقال: «آتيك غدا بالآخر رهوا»

الدليل 11/ أبو بكر (4/305) أبو بكر قال: نا حفص بن غياث، عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان واحد باثنين لا يصلح» يعني نسيئة ".

الدليل 12/ قال الشافعي: 1453 - أخبرنا مالك، عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمد بن علي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه باع جملا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفرع الثالث: صور بيع التقسيط:

إذا باع الرجل سلعته بإحدى ثمَنَيْنِ إلى إحدى الأجَلَيْن فلا يخلو ذلك من إحدى ثلاثة صور:

الصورة الأولى: أن يفترقا ولم يتفقا على ثمن: فهذه محرمة اتفاقا، للجهالة والنهي عن بيعتين في بيعة،

قال الترمذي: وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يَقُولَ أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِنَقْدٍ بِعَشَرَةٍ وَبِنَسِيئَةٍ بِعِشْرِينَ وَلَا يُفَارِقُهُ عَلَى أَحَدِ الْبَيْعَيْنِ.

الصورة الثانية: أن يتفرقا وقد اتفقا على ثمن واحد وأجل معين: فيجوز اتفاقا،

قال الترمذي:" فَإِذَا فَارَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَتْ الْعُقْدَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا"،

وقال البغوي: أما إذا باتّه على أحد الأمرين في المجلس ، فهو صحيح بلا خلاف فيه"،

كأن تقول: بعتك السيارة حلولا الآن بمائة مليون، وإلا لسنة بمائة وعشرين، فيقول المشتري قبلت بالثاني.

الصورة الثالثة: أن يشترطا أو يتفقا على أثمان وآجال متعددة، كل أجل بزيادة معينة:

كأن تقول في السابقة: بعتك السيارة حلولا الآن بمائة مليون، وإلا لسنة بمائة وعشرين، ثم إذا لم تسدد أزيدك عشرا في كل سنة، وهذا ربا محرم،

الصورة الرابعة: أن يتفقا على التسديد خلال أجل موسع بكذا، فإذا انقضى الأجل صار البيع بزيادة كذا:

كأن تقول: أبيعك هذه السلعة ديْنا بألف طيلة شهر، فإن تأخرت بعد الشهر، أزيد عليك ثلاثين مثلا.

لأنه بقبول المشتري هذا البيع، فقد صار مدينا من البائع بألف،

فهذا ممنوع كسابقه، لأنهما إذا تفرقا على ذلك صار ثمن السلعة ديْنا في ذمة المشتري، فتكون تلك الزيادة في مقابل الدّين، إضافة إلى النهي عن بيعتين في بيعة، والنهي عن بيع الدين بالديْن خاصة مع الزيادة الربوية التي تكون في مقابل الأجل.

,وأما الزيادة في مقابل الاختلاف في سعر العملة ففيها تفصيل آخر شرحته على هذا الرابط.

 

دليل منع هذه الصورة أن من شروط بيع التقسيط كما في تعريفه: أن يكون الثمن واحدا والأجل معلوما، قد بُت فيه على أحد البيعتين قبل أن يفترقا.

كما قال الترمذي:" فَإِذَا فَارَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَتْ الْعُقْدَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا"،

وقال البغوي: أما إذا باتّه على أحد الأمرين في المجلس ، فهو صحيح بلا خلاف فيه"،

فأما لو قال له: أبيعك كذا طيلة مدة 15 يوما بألف، ثم بعدها بألف ومائة، فهو من بيعتين في بيعة كما سيأتي في تسديد الفواتير.

قال الإمام ابن قتيبة، في غريب الحديث (1/ 18):" ومن البيوع المنهي عنها شرطان في بيع، وهو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين , وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير , وهو بمعنى بيعتين في بيعة ",

وفي معنى الحديث قول ابن مسعود: " الصفقة في الصفقتين ربا ". وفي لفظ لابن حبان: "لا يحل صفقتان في صفقة ". 

الفرع الرابع: شروط بيع التقسيط:

يجوز بيع التقسيط مع الزيادة بشروط:

1/ أن يكون الثمن واحدا والأجل معلوما، قد بُت فيه على أحد البيعتين قبل أن يفترقا.

كما سبق.

إضافة إلى أن تعريف بيع التقسيط: هو عقد على مبيع حال بثمن مؤجل يؤدى جملة أو مفرقا على أقساط.

2ـ ألّا يكون العوضان ربوييْن مما يجري بينهما ربا الفصل والنسيئة، لأنه يشترط فيها التقابض، ولا يؤديان إليه كبيع العينة.

3ـ أن يكون البائع مالكا للسلعة، أو مُوكلًا عليها، أو مأمورا بشرائها، كالبنك إذا كانت لديه وكالة إما من الشركة المالكة، أو له وكالة من الآمر بالشراء كما في بيع المرابحة المشروع.

4 ـ أن تكون السلعة معلومة وحالّة، وأما الثمن فيكون مؤجلا ولو شطرا منه

فلو كانت السلعة غائبة، فقد صار من بيع الديْن بالدين والكالئ بالكالئ.

,وأما المليء الواجد الغني، إذا تماطل في أداء الحق لصاحبه فهل يجوز أن تُفرض عليه غرامة مالية مقابل مماطلته وظلمه، ففيه خلاف هاك بيانه:

المسألة الثانية: حكم الغرامة المترتبة على المماطلة والتأخير في سداد الديون والفواتير وبيان صورها:

ينبغي الإشارة إلى أن بعض الدول المتقدمة تعتمد في تسديد أجور الكهرباء ونحوها على بطاقة شحن تحتوي على رصيد ، بحيث يذهب الزبون أو المستهلك ليشتري بطاقة فيها رصيد فإذا نفذ رصيده اشترى رصيدا آخر وهكذا، وإن لم يشتر قُطع عنه التيار ، وهذه معاملة لا شبهة فيها، وليْتها تُعمم في بلدان المسلمين حتى يزول الإشكال .

لأنه في بلادنا: تعتمد هذه المعاملة على الاشتراك الشهري، بحيث تبعث الشركة للزبائن أوراقا تطالبهم فيها بدفع استحقاقاتهم، تحتوي على حساب كمية الاستهلاك وثمنها، ثم تُدفع تلكم الأوراق إلى المواطنين، كإشعار لهم بأن المدة قد حانت، وأنه حان وقت تسديد الأجر في أجل أقصاه خمسة عشر يوما، فمن تأخر أُضيفت عليه غرامة زائدة مقدارها ثلاثمائة دينار وهكذا.

وصورته: إما أن تسدد إلى الأجل الفلاني ألفا مثلا، فإن تأخرت زدنا عليك كذا.

فههنا إشكال قد يشتبه بالربا، إلا أن هذه المعاملة بيع أو إجارة وليست قرضا، لكن هل هي بيع تقسيط جائز أم لا؟

والجواب الإجمالي: أن من شروط بيع التقسيط: أن الأجل إما أن يكون حالاّ بكذا، أو إلى أجل موحد بزيادة كذا، فتكون الزيادة واحدة لا متكررة وهذا الشرط في بيوع التقسيط متوفر هنا.

لكن الإشكال في عدم توفر الشرط الأول: وهو أن يكون تعيين ثمن الشراء الأول حالاّ ومعلوما قد بُت فيه قبل أن يتفرقا كما قال الترمذي،

وبالتالي يختار الزبون أحد الثمنيْن قبل أن يتفرقا ولا بد، تجنبا لبيعتيْن في بيعة، أو بيع الدين بالدين.   

ففي ذلك إذا عدة صور:

الصورة الأولى: صورة بيع التقسيط المشروعة:

كأن تقول الشركة:

إما أن تدفع الآن حالاّ ألفا مثلا، أو نؤجلك خمسة عشر يوما أو نحوها لكنك ستدفع ألفا وثلاثين، ثم لا زيادة بعد ذلك،

فإن هذه الصورة لا إشكال فيها أنها من بيع التقسيط الجائز، لكن لا يعملون بها .

الصورة الثانية: تابعة لبيع التقسيط المشروع:  

كأن تقول الشركة:

إما أن تسدد في اليوم الفلاني نصيبك حالا بألف، أو بعده بيوم أو بمدة معينة بألف وزيادة، فإنها من بيع التقسيط المتوفرة شروطه.

الصورة الثالثة: إما أن تسدد نصيبك أقساطا معينة طيلة هذه الأيام الموسعة الممتدة إلى خمسة عشر يوما مثلا بلا زيادة، فإن تأخرتَ زدنا عليك كذا كل عشرة أيام مثلا مقابل التأخير .

فهنا انخرم الشرطان: فصار الأمر ربا. 

ذلك أن الثمن مقسط على أيام متعددة وهذا ما يخالف بيع التقسيط كما أسلفنا.

كما أن الزيادة متعددة: وهذا ما يخالف شرط بيع التقسيط.

لأنهم يقولون لك: كلّ تأخر عن خمسة عشر يوما ستدفع فيه ثلاثمائة دينار مقابل هذا التأخير وهكذا، فإن هذه الزيادة ربوية لأنها انتقلت من البيع إلى الزيادة بسبب الديْن.

الصورة الرابعة المعمول بها: إما أن تسدد نصيبك في أحد الأيام الموسعة الممتدة إلى خمسة عشر يوما مثلا بلا زيادة، فإن تأخرتَ زدنا عليك كذا مرة واحدة في مقابل مطلق التأجيل في هذا البيع .

فهل هذا الأجل الموسّع طيلة 15 يوما بلا زيادة يُبطل بيع التقسيط ؟ لأن العلماء يشترطون في جوازه أن يكون الدفع إما حالا بكذا أو مؤجلا بكذا.

فهنا قد توفر شرط وهو: أن هذه الزيادةَ واحدةٌ فقط في مقابل مطلق تأخير البيع، فهذه تنطبق على شروط بيع التقسيط كما أسلفنا.

وانخرم شرط، وهو أن الثمن متعدد ومُقسط على أيام متعددة، لم يُبَتَّ فيه على أحد الثمنيْن قبل التفرق، وهذا من بيعتيْن ببيعة، وهو ما يخالف بيع التقسيط الذي يشترط فيه كون الثمن حالاّ كله في هذه الصورة.

لأن من شروط التقسيط: أن يكون الدفع إما حالّا حاضرا كله بكذا، أو مؤجلا بزيادة كذا مرة واحدة، تجنبا لبيع الديْن بالديْن والكالئ بالكالئ المنهي عنه.   

1/ فهل يقال هنا: بأن هذه الزيادة محرمة لمخالفتها معايير بيع التقسيط؟

2/ أم يمكن تخريجها: على أنها غرامة ناتجة عن مماطلة الواجد في تسديد الدين؟  

لكن العلماء المجيزين للتعزير بالمال يشترطون في جواز الغرامة أن تكون على غني مماطل كما سيأتي.

وأما هذه الشركات فالفقير المُعدم، والغني الواجد عندهم سواء في غرامة التأخير.

بل  إن بعض الموظفين يتسامحون مع ذوي الجاه والنافذين، ويتسلطون على المساكين.

وبالتالي لا ينطبق الشرط الجزائي التعزيري على هذه المعاملة هنا، فتبقى ممنوعة لعدم توفر شروط بيع التقسيط، وعدم توفر شروط الشرط الجزائي.

3/ لكن هل يمكن تخريجها على توفر شروط بيع التقسيط فيها، فيكون إرسال الورقة ليس هو عملية التبايع، بل هو مجرد إشعار بدخول وقت السداد أو اقترابه؟ وإنما ذهاب الزبون إلى الشركة هو المعيار في بدإ العقد،

وبالتالي تكون جائزة إذا انطبقت على الصورة المشروعة في بيع التقسيط كما سنُبين:

الفرع الثاني: تحقيق مناط توفر شرط الدفع حالا وبداية العقد:

حيث نقول: منذ متى يبتدئ احتساب بدإ العقد: هل بوصول ورقةِ إشعارِ دفع السداد إلى المواطنين ؟

أم بذهابهم إلى الشركة لأجل التسديد ؟

والجواب هو الثاني، لأن وصول تلك الورقة هو مجرد إشعارٍ للمواطنين بوصول وقت السداد، وإعلامهم بأن لديهم فُسحة طيلةَ خمسة عشر يوما حتى يَذهب الزبون للشركة ليسدد مستحقاته .

ثم إن المواطن والزبون إذا ذهب إلى الشركة أو وكيلها لدفع السداد، فإنه من ههنا يبتدئ وقت إجراء العقد

وعليه : ففي هذه المسألة ثلاث صور واحتمالات :

الصورة الأولى المشروعة: بأن تُحدد الشركة لكل زبون مَثَلا يوما معينا لسداد ديْنه بكذا حالاّ، فإن تأخر عنه زادوا عليه كذا، فإن هذه الصورة تنطبق تماما على بيع التقسيط( وحدة الأجل، وتعيين أحد الثمنيْن)، وليْتَهُم يفعلونها.     

الصورة الثانية المشروعة: أن تذكر الشركة في شروطها: بأنه لحظة وصول المواطن إلى مجلسها طيلة أي يوم من ذلك الأمد الموسع، فإنه منه يبدأ احتساب العقد.  

فإذا قدم المواطن : تشترط الشركة عليه أو تقول له – صراحة أو ضمنا - :

إما أن تدفع الآن حالا، أو نُرجئك إلى أجل لكن بمبلغ زائد،

وبالتالي يكون المواطن على علم مسبق بهذا الشرط إذا أتى، فله أن يختار حينئذ بين الذهاب في الوقت المحدد لتسديد الدين بلا زيادة، فإن تأخر فهو على علمٍ ورضا ببيع التقسيط واحتساب الزيادة عليه والله أعلم .

شرط أن يكون الثمن الزائدُ واحدا، كأن تقول الشركة: إما ان تدفع حالا ما استهلكته مما هو مستحق عليك، أو تتأخر وتزيد ثلاثمائة دينار مقابل مطلق التأخير، وهذا الشرط لا يخالف بيع التقسيط كما أسلفنا.

فإن تعددت الزيادة كان ممنوعا، لأنه مفضي إلى الربا وبيع الدين بالدين كما بيّنا.

الصورة الثالثة المشكوك فيها: وهي المعمول بها: بأن تشترط أو تقول الشركة للمواطن الذي يقدم إليها قبل انتهاء أَمَدِهِ الموسّع:

لكَ أن تدفع حالا الآن، أو إلى الأجل الموسع المتبقي من الخمسة عشر يوما المتبقية بلا زيادة، فإن انتهى ذلك الأجل ولم تسدّد زدنا عليك مبلغا كذا،

فتكون صورة هذه المعاملة كالتالي:

" أبيعك هذا الغاز أو الماء أو الكهرباء بكذا وكذا للوحدة.

وأما السداد فلا يكون إلا كل ثلاثة أشهر، لأن الغاز والكهرباء والماء يتعذر أو يصعب فيه البيع بالدفعة المعينة يوميا أو في كل لحظة ومجلس ... كما هو البيع مثلا في الدقيق والغذاء وسائر السلع... 

فإذا انقضت المدة أرسلنا لك إشعارا أو إعلاما بالدفع: فيه حساب الوحدات المستعملة وثمنها.

فتكون تلك الوحدات كلها بعد الثلاثة أشهر بمثابة بيع سلعة واحدة .

ثم يقولون :" لقد استهلكت من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا مليون وحدة، سعرها عشرة آلاف دج مثلا.

فإما أن تسدده طيلة الخمسة عشر يوما المقبلة، فإن تأخرت زدنا عليك مائة مثلا.

فما سبب هذه الزيادة؟

فإن كانت بسبب التأجيل في البيع فلا بد من توفر شروط بيع التقسيط فيها:

نظرنا في ذلك فوجدنا أنه انخرم منها شرط اختيار أحد البيعتيْن قبل المفارقة: وهو أن تدفع إما حالا في المجلس بكذا، وإما مؤجلا بزيادة كذا، فيختار الزبون أحد البيعين قبل التفرق   كما في التقسيط:

1/ وهذا ما لم يتوفر في هذه ا لمعاملة فتكون ممنوعة، للنهي عن بيعتين في بيعة وصفقتين في صفقة، والنهي عن شرطين في بيع،

فإن هذه النصوص تقتضي أن يتفارقا على عقدة واحدة أو ثمن واحد معين ولا بد، وإلا كان مذموما.

ولأن تلك الزيادة ستكون في مقابل التأجيل، مع عدم توفر شرطها وهو قبض الثمن كلّه حالا كما قدمنا.

خرج الترمذي 1231 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ»

قال الترمذي:" وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ قَالُوا: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِنَقْدٍ بِعَشَرَةٍ، وَبِنَسِيئَةٍ بِعِشْرِينَ، وَلَا يُفَارِقُهُ عَلَى أَحَدِ البَيْعَيْنِ، فَإِذَا فَارَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَتِ العُقْدَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا " قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمِنْ مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعَكَ دَارِي هَذِهِ بِكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي غُلَامَكَ بِكَذَا، فَإِذَا وَجَبَ لِي غُلَامُكَ وَجَبَ لَكَ دَارِي، وَهَذَا يُفَارِقُ عَنْ بَيْعٍ بِغَيْرِ ثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَلَا يَدْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ صَفْقَتُهُ ".

قال البغوي في شرحه :" هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أكثر أهل العلم لأنه لا يدرى أيهما جعل الثمن انتهى

وقال في النيل:" والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين ".

وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (4/358) :" وهذا التفسير قد رواه الإمام أحمد في روايته عن سماك ففي المنتقى عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة ". قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا وكذا ".

قال الشوكاني في النيل:" قوله من باع بيعتين في بيعة"، فسره سماك بما رواه المصنف يعني صاحب المنتقى عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا ". بمعنى البيع بأحد الثمنيْن قبل البت بثمن واحد قبل التفرق.

فإذا بطلت هذه المعاملة من الشركة، فهل يمكن أن:

2/ تُـخـَــــــرّج تلك الزيادة على مسألة أخرى وهي:

مسألة الشرط الجزائي التعزيري على الموسرين الواجدين في مقابل مماطلتهم في تسديد القروض والديون.

فإن هذا الشرط نفسه يندرج ضمن مسألة التعزير بالمال،

فتكون صورة هذه المعاملة على التفصيل التالي:

" أبيعك هذا الغاز أو الماء أو الكهرباء بكذا وكذا للوحدة.

وأما السداد فلا يكون إلا كل ثلاثة أشهر...  

فإذا انقضت المدة أرسلنا لك إشعارا أو إعلاما بالدفع: فيه حساب الوحدات المستعملة وثمنها.

فتكون تلك الوحدات كلها بعد الثلاثة أشهر بمثابة بيع سلعة واحدة .

فإذا كان ثمنها ب 10 آلاف دج، فإما أن تسدد هذا المبلغ طيلة مدة موسعة قدرها 15 يوما، وإما أن تغرم جزاء التأخير، لأنه سيلحق الضرر بمؤسستنا.

فهنا الأصل أن يسدد الزبون في اليوم الذي يطالبوه فيه بالسداد، أما وأنهم قد أخروه هذه المدة الموسعة، فتكون تلك الخمسة عشر يوما هي تفضُّل وإحسان من البائع أو المؤسسة.

ويكون ذلك الثمن دينا في ذمة الزبون طيلة المدة.

وذلك كمن اشترى سلعة أو جهازا، فقال له البائع تكرما: أُمهلك خمسة عشر يوما للسداد فقط، فإن تأخرت تحملت مسؤولية التأخر.

فهذه أشبه بصورة القرض: أُقرضك ألفا دج لمدة 15 يوما فقط، فإن تأخرت تحملت مسؤولية التأخر،

مع الفرق بين القرض الربوي، وبين البيع كما أسلفنا..

إضافة إلى عدم دخول هذه المعاملة في صورة بيع التقسيط لأجل هذه المدة الموسعة....     

ثم إذا تأخر هذا الزبون في تسديد ديْنه، تحمل مسؤوليته تأخره، غرمته الشركة بزيادة مبلغ معيّن.

فما حكم هذه الزيادة التغريمية في الشرع؟

والجواب من حيث الجملة: أن هذا الشرط الجزائي أو التغريم بالمال، إنما يجوز في الشرع على الموسرين الواجدين، والأصل في كل زبزن أنه موسر قادر على سداد ديْنه لأنه تحمله وقبل به. 

لكن إن ثبت أنه معسرٌ أو أفلس وافتقر.. فلا يحل تغريمه شرعا.

وقد اختلف العلماء في هذه العقوبة المالية، فمنعتها طوائف من العلماء وألحقتها بالربا، وأجازتها طوائف أخرى بشروط، وفرقوا بينها وبين الربا كما سيتبين في: 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الثالث : أهم الفروق بين الربا، وتغريم المماطل :

ذلك أن الفائدة الربوية المحرمةَ يتوفر فيها ما يلي:

1. أن الزيادة الربوية مشروطةٌ في القروض منذ ابتداء العقد ، وأما التغريم فهو تابع للبيوع والتأجير.

2. أن الزيادة الربوية مشروطة على الموسر والمعسر سواءا في القروض، بل عامة الربا مبني على استغلال حاجة الفقراء والمحتاجين، وأما التغريم فلا يحل أن يكون على المُعسر أبدا، فإن فعلته الدولة أو الشركات على المعسرين فهو ظلم محرم.

لأنه إذا حل الأجل وكان معسرا، أنظروه ولا بدّ كما في القرآن ،

وإن كان موسرا ولم يُسدد بل ماطل وكذب فقد خالف الشرط وتعدى وظلم وخان وصار من المغتصبين ، والمغتصب والخائن ظالم ضامن ولو لم يرضَ .

 3. أن الزيادة الربوية تكون في مقابل تأخير الأجل، وأما التغريم ففي مقابل الظلم والمماطلة والكذب وإخلاف الشروط والإضرار بالدائن مع عدم رضاه بذلك.

4. أن الربا مبني على التراضي المسبق بين الطرفين على تلك الزيادة، وأما التغريم فلا يقبله لا المعسر، ولا المماطل الموسر الظالم، لأن مقصوده الربح والاستحواذ على المال .    

5/ أن المماطل الواجد قد فوّت على دائنه أن يستعمل ماله في مشاريعه أو حاجياته، بل قد يكون استعمل ذلك مال دائنه في مصلحته الخاصة أو مشاريعه بغير إذن صاحبه، بخلاف المعسر فلا مال كافٍ له أصلا. 

فإن قيل: بأن أصحاب ربا القروض قد يحتجون بتفويت المصلحةِ مِنْ مَالِهِم أيضا، ولذلك يزيدون.

قيل عنه: أن المُقرض هو الذي تنازل وسمح بقرض ماله إلى غيره طيلة مدة محددة، ولذلك يحرم عليه طلب الزيادة والتكثر،

بخلاف ما لو انتهت المدة المشروطة، فإن الدائن لم ولن يسمح باستعمال ماله، لعلمه بأنه سيحتاج إلى مالِهِ في ذلك الوقت، فإذا تماطل عنه المدين الواجد فقد ألحق به الضرر ماديا ونفسيا .

وأما ان استعمله المدين في تجارته وحاجياته، فقد استعمله بغير إذن مالكه، فهو مال مغصوب، سيأتي حكمه وحكم ما تولد منه، لمن يكون؟  

ولو علم هذا الظالم المماطل معنى الإحسان والشكر، لسعى إلى ردّ قرضه لصاحبه في وقته أو قبله، ويشكره عليه، بل حتى يعطيه زيادة من غير اشراطها المسبق تكريما له كما فعل النبي عليه السلام مع جابر وغيره.  

ولما استحل ظالم أن يُهدي لمقرضه شيئا حتى يُلينه أو يرْشُوَه ليصرفه عن طلب حقه .

وإذ قد تقرر أنّ الغنيَّ المماطلَ مغتصبٌ وخائن فهو إذًا ضامن غارم كما ذكر العلماء .

ولا يُعقل أن يقف الإسلام مع هذا الظالم لِيعمل ويُتاجر ويمرح بمال غيره ويربح به، بينما صاحب المال وهو الفاعل للخير المحتاج ليعمل بماله، ثم نقول له: اصبر فقط حتى يرجع لك رأس مالك، بينما يبقى ذلك الظالم الخائن المماطل يتنعم فيه ويفرح ويتلاعب ويتاجر به! أهذا هو جزاء الإحسان ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الرابع:الاختلاف في التعزير بالمال-الشرط الجزائي التعزيري- مقابل مماطلة الواجد في سداد الديون:

لا يخلو أمر المدينِ من أن يكون موسرا أو معسرا كما أسلفنا، فإن كان معسرا وجب إنظاره إلى ميسرة بالإجماع ، وإن كان غنيا موسرا وحل الوقت ولم يُسدد دينه فقد خالف الشرط والوعد، فهو ظالم متعد مغتصب بالإجماع .

ولذلك سيكون الكلام هنا عن هذا المماطل الظالم المتعدي الآخذ أموال غيره بالباطل، المتاجر بها، وبيان أحواله :

المسألة الأولى: أحوال المماطل من حيث استغلال مال مُقرضه، وبيان الربح لمن؟ 

ذلك أن هذا الواجدَ الظالم المماطل لا يخلو من حيث استعمالِهِ لمال دائنه بعد نفاذ الأجل من أمرين :

الحالة الأولى: ألا يستعمل مال الدائن، أو يستعمله في أغراضه الشخصية:

وذلك بأن يستعمل هذا المال الذي تحوّل من ديْن مباح إلى غصبٍ حرامٍ استغلالا شخصيا تذهب معه تلك العين، أو يُبقي ذلك الدين عنده فلا يستعملها أبدا ،

ففي هذه الحالة يعاقب المماطل بالتعزير البدني أو المالي فقط، ولا يضمن الربح، إذْ لا غلة ولا ربح في هذا المال والله أعلم . 

قال البهوتي:" ولا يُضمن ربحٌ فات على مالك بِحَبْسِ غاصبٍ مال تجارة مدة يمكن أن يربح فيها، إذا لم يتجر فيه غاصب  ".

الحالة الثانية: أن يقوم هذا المماطلُ باستثمار ذلك المال أو يخلطه مع ماله التجاري:

بحيث يتولد من ذلك أرباح وغلات أخرى، وهذا هو الغالب من صنيع هؤلاء الظلمة المماطلين، فإنهم يستثمرون في أموال المظلومين، من غير إذنهم، ولا يسددونها لهم، بل يبقى يتجر بماله هو بينما يترك دائنه ينتظر وينظر.

وقد أجمع السلف على أن مال هذا المماطل هو مال محرم يُلحق بالمال المغصوب .

والمال المحرّم المغصوب وما توالد عنه له أحكام وعقوبات وشروط توبة عند السلف :

فمن شروط توبته أن يُرجع الحقوق وما توالدت عنه لأصحابها،

كما سيأتي في فقه حديث أصحاب الغار الثلاثة وحديث الفضولي.

ومن ذلك أن المماطل يستحق عقوبة التعزير ، وقد اتفق السلف على تعزيره بالسجن واختلفوا في تعزيره بالضرب أو المال ، وسنتكلم الآن عن الاختلاف في التعزير بالمال – خاصة الناتج عن تأخير القروض .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثانية: أقوال العلماء في الشرط الجزائي- التعزير بالمال- للمماطل والغاصب:     

القول الأول : المنع : خاصة في باب القروض كما هنا، ويدخل في ذلك الزيادة في باب البيوع المؤجلة، سدا لذريعة ربا القروض المحرم.

كما أن من منع من العقوبات المالية فإنه يمنع هنا الشرط الجزائي أيضا والله أعلم،

وإنما منعوا من ذلك كما قالوا سدا لذريعة الربا وليلَّا يتسلط الحكام على أموال المسلمين،

وفي الحقيقة هذا استدلال ضعيف، وإلّا فليمنعوا أيضا من عقوبة السجن والتعزير بالضرب ونحو ذلك، حتى لا يتسلط الحكام أيضا على أبدان المسلمين ضربا أو سجنا، وهذا كلام يُعطل عقوبة التعزير التي جاء الإسلام بها وأجمعت عليها الأمة .

إن العلماء الذين أجازوا التعزير بالمال لم يفتحوا هذا الباب على مصراعيه للحكام ولا لغيرهم، بل جعلوا في ذلك شروطا وضوابط كثيرة معروفة عند العلماء، أساسها العدل ومصلحة عموم الناس.

القول الثاني: جواز الشرط الجزائي والتغريم المالي بشروط:

وذلك لوجود الفروق الكثيرة بين الربا، وتغريم الظالم كما سبق :  

قال البرزلي في فتوى له واصفا ما حدث في بوادي إفريقية وما غلب عليهم من غش وخيانة وأكل للأموال :" ... غلب عليهم الجهل ... وأخْذُ الأموال بالخيانة والغش والحرابة والمعاملات الفاسدة، أن يُفعل بهم ما يقطع هذه المفاسد، من التعرض لبعض مال الجناة وبدنه، وسجنه عقوبة له، فيُوقف من ماله ما يحسم به مادته، إما بإعطائه للمجني عليه، أو يرد عليه إن حسنت حالته، أو يُوضع في بيت المال أو يُتصدق به .."، ثم نسب هذا القول للمالكية ،

لكن المالكية لم يزالوا كغيرهم من المذاهب مختلفين في مسألة الغرامة المالية ،

والعجب أن هذه المسألة اجتهادية فيها خلاف كبير، ومع ذلك يدعي العديد بنقل الإجماع على ما يؤيد مذهبه، ويرد على مخالفه بذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الاختيارات (120) في عقوبة المماطل :" ... ومن كان قادرا على وفاء ديْنه وامتنع أُجبر على وفائه بالضرب والحبس ، ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ... "،

ثم ذكر العقوبات المالية فقال:" وللحاكم أن يبيع عليه ماله ويقضي دينه ولا يلزمه، وإذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أخرجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد " ،

ثم قال :" ولو كان قادرا على أداء الديْن وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك، إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه "،

ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم معروف وكثير في إجازتهما العقوبات المالية .

وسيأتي عن شيخ الإسلام أنه جعل حتى غلة وربح ذلك الدين والمال المنهوب إن عمل به الغاصب فإن المغصوب المظلوم هو الذي يأخذه، أو يُقسم بينهما.    

وقال الشيخ عبد الله بن منيع من المعاصرين : " القول بضمان ما فات من منافع المال نتيجة مطل أدائه لمستحقه قولٌ تسنده قواعد الشريعة وأصولها، والنصوص الصريحة والواضحة في ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ".

ثم إن هذه الغرامة المالية لها حقيقتان وفائدتان: فهي عقوبة تعزيرية رادعة للظالمين بنقيض قصدهم، وهي أيضا تعويض ماليٌّ يجبر خاطر المظلومين وخسائرهم .  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثالثة: شروط جواز الغرامة المالية الناتجة عن المماطلة في تسديد الحق :

لقد اشترط المجيزون لتلك الغرامة الزائدةِ على الظالمِ المماطل عدة شروط نذكر منها :

. ألّا يكون الدائن ولا المدين قد اشتراطا تلك الزيادة من أول إبرام عقد القرض، أو تواطآ على ذلك حتى لا يكون ربا .

قال الحطاب المالكي: " إذا التزم المدعى عليه للمدعي، أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه؛ لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدَّين أو غيره، وسواء كان شيئاً معيناً أو منفعة  ".

. أن يكون الدين مسمى لأجل محدود معلوم ، فلو لم يُسمه من الأول، فإنه لا ينبغي له مطالبته في وقتٍ ما بالزيادة الناتجة عن تأخر التسديد، حتى يخبره بالوقت .

. أن يكون المدينُ موسرا مماطلا ، فأما إن كان معسرا فلا يحل تعزيره، لقوله تعالى :{ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة 280] .  

. اشترط بعضهم بأن يكون الضرر للدائنِ واقعا على المال وهو متوفر هنا .

. اشترط بعضهم بأن يُدفع المال الزائد في أوجه البر، والصحيح عدم اشتراط ذلك لأن المتضرر هو الدائن، ولا يُجبر على التنازل من ماله أو غلة ماله لأجل أوجه الخير .

وقد استدل هؤلاء المجيزون بما يلي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الرابعة: أدلة مشروعية التعزير المالي والشرط الجزائي للمماطل والظالم:

1/ قال تعالى :{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة 280]، ففرّق الله تعالى بين المعسر والموسر، وهذا عموم يدخل فيه الفرق بينهما أيضا في الإنظار وفي رد رؤوس الأموال. 

فالمعسر يُنظر ولا بد، والموسر المماطل يعاقب ولا بد.

2/ قال تعالى :{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }[ المائدة 2] وقد قدمنا أنه:

3/ من عدالة الإسلام ألّا يُعقل أن يقف الإسلام مع الظالم المماطل وهو يعمل ويُتاجر ويمرح بمال غيره ، بينما صاحب المال وهو الفاعل للخير الذي احتاج ليعمل بماله ثم نقول له : اصبر فقط، حتى يرجع لك رأس مالك ، بينما يبقى الظالم المماطل يتنعم بماله، مستحوذا على غلته لوحده، فرحا بذلك!

أهذا هو العدل؟ أهذا هو جزاء الإحسان ؟! كلا وربي.

بل إن الإحسان هو إعانة المظلوم الدائن حتى يسترجع حقه، ويُعوض الظالمُ له ما تضرر به من جراء كثرة مطالباته لمدينه منذ انتهاء وقت الدين حتى يوفيه حقه .

ومن التعاون والإحسان أيضا أن يؤخذ بأيدي ذلك الظالم المتلاعب الفاعل للمنكر، حتى يُرجِع الحق إلى مستحقيه، وأن يغرّم على ذلك نقيضا لقصده، حتى يكون عبرة لغيره من الفساق المتلاعبين الذين كثروا في هذا الزمان، فإنا رأيناهم يعملون بأموال غيرهم ويتلاعبون بهم ، فإذا جمعوا منها أموالا كثيرة ربما ردوا رأس المال لدائنيهم زعما منهم أنهم تابوا، والله المستعان، ولا يُعقل أن يكون الإسلام عونا وظهيرا للمجرمين .

4/ قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء]، وقال أيضا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ، [المائدة1 ] وهذا الغني المُماطل مخالف للعقد، خائن للأمانة والعهد، فاعل للمنكر، فتجب عقوبته شرعا بنقيض قصده في التكثر بالمال.

5/ وقال أيضا :{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، [النساء 59] وقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ" (87 } [النساء ].  

6/ خرج البخاري (2287) ومسلم (1564) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع »،

فقد سمى المماطلَ بالظالمِ المتعدي المغتصبِ لمال غيره .  

قال ابن حجر والعيني في عمدة القاري وغيرهما :" وَاسْتدلَّ- السبكي - بِأَن منْع الْحق بعد طلبه وَانْتِفَاء الْعذر عَن أَدَائِهِ كالغصب، وَالْغَصْب كَبِيرَة، وتسميته ظلما يشْعر بِكَوْنِهِ كَبِيرَة ".

7/ وقد ذهب العامة إلى قاعدة :" أن منافع العين المغصوبة مضمونة من مغتصبها "، وهذا الغني الواجد الذي لم يُسدد مال غيره عند أجله فهو ظالم متعد، لأنه أخذ مال غيره واستعمله لمصلحته من غير إذن صاحبه، وعلى حساب تفويت مصلحة مالكه،  فيجب عليه الضمان له، بل إن ما تولد من ماله فهو له على ما سنبين .

8/ قال ابن ماجه في سننه باب الحبس في الدين والملازمة ثم خرج 2427 عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لي الواجد يحل عرضه وعقوبته "، صححه ابن حبان والحاكم والذهبي .

وهذا الحديث أصل في تشريع عقوبة التعزير للمماطل ، ثم هذه العقوبة عامة كما في الحديث، وهي شاملة للعقوبات البدنية والسجن والتعزير بالمال .

وقد مضى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في عقوبة المماطل بدنيا أو ماليا :" ولو كان قادرا على أداء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك ، إذ التعزير لا يختص بنوع معين ، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وَقَدْرِهِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ

وقال أيضا :" وللحاكم أن يبيع عليه ماله ويقضي دينه ولا يلزمه ، وإذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أخرجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد".

وقال الإمام ابن مفلح في الفروع :" وأما تمكين مثل هذا يعني الممتنع عن الوفاء ظلما من فضل الأكل والنكاح فهذا محل اجتهاد، فإنه من نوع التعزير، فإن رأى الحاكم أن يعزره به كان له ذلك، إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد ولي الأمر في تنوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله "،

وهذا هو مذهب الحنبلية وغيرهم .

9/ خرج ابن ماجه (2340) عن عبادة بن الصامت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن لا ضرر ولا ضرار» وللدارقطني بزيادة : من ضار ضره الله, ومن شاق شق الله عليه ».

ومطل الواجد يُضر بالدائنِ فاعلِ الخيرِ - فرْدًا كان أو بَنْكًا أو مؤسّسة - ضررًا حسيا كبيرا لأنه يُعطل تجارته وأعماله أو منافعه، بل ويُكبده خسائر مادية متيقنة جرّاء محاولاته المتكررة لاسترجاع ماله أو غير ذلك، ولذلك كانت المصلحة المناسبة أن يضمن ذلك المغتصبُ له.

ولا ننسى أيضا ذلك الضرر النفسي الكبير الذي يحدث في نفس المُقرض الذي يشعر بالحزن والكآبة لضياع ماله، وخيانة صاحبه له، وقلب المعروف شرّا .

10/ والقاعدة تقول " الضرر يُزال"، ولا يزول هنا إلا بتعويض الدائن مالا مقابل حرمانه من الانتفاع بماله. 11/ أن غرامة التأخير العمد هي أيضا عقوبة بنقيض قصد ذلك الظالم المماطل، فإن مقصوده هو الاستكثار بمال غيره، فيُعاقب بنقيض قصده وأخذ المال منه .

12/ القياس على جواز بيع العربون: فإن للبائع أن يأخذ ذلك المال مقابل إبقاء السلعة لأجل المشتري – المُعربن -، فإن رجع أكمل تسديد ماله وأخذ السلعة، وإن لم يجئ جاز للبائع أن يأخذ ماله ، مقابل تفويته فرصا للبيع في ذلك الأجل، فكذلك الدائن هنا، بل هو أولى،

لأن ذلك المدين المماطل قد فوت على المُقرِض الفُرصَ والفرص الكثيرة التي حالت دون انتفاعه بماله، بل وأتعبه أيضا حسيا ومعنويا بمماطلته وكذبه عليه، بل قد يتسبب في خسائر له كما هو معلوم ،

- والمثل الشعبي: واسأل المُجرب ولا تسأل الطيبب -.

12/ القياس على السارق وآخذ الضالة واللقطة عمدا، وكذا من اغتصب أو اختلس مالا دون مقدار حد القطع أو شروطه، فإنه يغرم مثلين وضعفيْن إضافة إلى العقوبة البدنية كما في الحديث الذي خرجه أبو داود (4390) وغيره عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» "،

وقد فُسرت هذه العقوبة هنا في رواية أخرى بقوله :" ثمنها مرتين، وضرب نكال "،

وفي حديث آخر لا تزيد عن عشر جلدات.

والجامع بينهما أن كليهما أخذ واستولى على مال غيره بالباطل واستعمله لمصلحة نفسه . 

13/ وقد ورد حديث صحيح في أن الذي يعمل بمال غيره أو دَيْنه أو يُتاجر به من غير إذن صاحبه فإن ذاك المال وما تولد عنه كله يرجع إلى صاحبه الأول ، لأن ما تولد عن الشيء يأخذ حكمه، والتابع تابع كما في :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المطلب الخامس: ذكر غلة المال المغصوب لمن تعود ؟ للمالك المظلوم أو للغاصب الظالم أو لهما معا ...؟:

المسألة الأولى: تحرير الأقوال:

القول الأول : ذهب الشافعي في الجديد وأكثر المالكية إلى أن الغلة تعود للغاصب لا للمالك الحقيقي، لأنه هو المتسبب فيها، الكادّ عليها، كما أنها لو تلفت عنده لضمنها، والغنم بالغرم،

قال الخرشي:" وحكى صاحب المقدمات الاتفاق على أن ربح الدراهم والدنانير للغاصب "،

ثم قال:" والحاصل أن الراجح أن الربح للغاصب مطلقا كما أفاده بعض الشيوخ خصوصا وقد علمت أنه كلام مالك وابن القاسم وحكى الاتفاق عليه ابن رشد "، ولم يصح هذا الاتفاق بين المالكية كما سننقل.

وذهب يوسف إلى قول مالكٍ من أن الريعَ للغاصب لأن المال ملك له، وهو يضمنه ، وهو الذي تعب وعَمِل به،

واستدلوا بحديث عمر الآتي في استلاف ابنيه من بيت المال، وقوله لهما :"أديا المال وربحه ..."،

قالوا :" فلم يُنكر عمر قول ابنه : لو هلك المال أو نقص ضمناه "، فلذلك طاب له ربحه ، ولا أنكره أحد من الصحابة بحضرته "، والعجب أن هذا الحديثَ حجة عليهم ، لأن عمر قال لهما :" أديا المال وربحه "، ثم إنّ أبا موسى الأشعري والي البصرة هو من أسلفهما المال متأولا، وأمرهما بالاتجار به ففعلا كما سيأتي، لا أنهما اغتصبا أموال المسلمين وحاشاهم من ذلك وكلا ، وأين قياس عمل الصحابة الأطهار على هؤلاء المغتصبة الأشرار ؟!  

ووالله أنه لقول عجيب باطل غريب لا دليل عليه، ويكفي في بيان خطئه ما فيه من تشجيع بل وتحريض للفساق على السرقة والغصب وأكل الأموال بالباطل والنهب، ثم العمل به، ثم يتملكون كل ربحِه وغلتِه ، بينما يكتفي ذلك المظلوم المغصوب بالمشاهدة ويبقى كئيبا حزينا ينظر في الظلمة وهم يتمتعون ويغنوْن بماله، لا والله ليس هذا من أمْر الإسلام في شيء، ولا قوة إلا بالله، وهذا قول عجيب يتناقض مع عدالة الشرع الحكيم، وسيأتي أن عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم على خلاف هذا القول المخالف للعدالة وتحريم الظلم والغصب وما تولد منه، كما في الحديث الآتي :" من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ".

القول الثاني: وقيل يأخذ المغصوب مقدار ما كان يربح منه عادة:

قال الخرشي في شرح مختصر خليل :" اعلم أن اللخمي حكى فيمن غصب دراهم أو دنانير هل يغرم ما يربح منها أو ما كان يربح فيها صاحبها ؟ ثلاثة أقوال فقيل لا شيء للمغصوب منه إلا رأس ماله استنقصها الغاصب أو اتجر فيها فربح وهو قول مالك وابن القاسم،

وقال ابن سحنون: لك – للمغصوب - ما كنت تتجر فيها لو كانت في يديك، ولم يتجر فيها الغاصب، بل قضاها في دين أو أنفقها ".

القول الثالث: التفريق بين الموسر والمعسر:

قال الخرشي:" وقيل: إن اتجر فيها وهو موسر كان الربح له، وإن كان معسرا فالربح لصاحبها، وهو قول ابن مسلمة وابن حبيب في الولي يتجر بمال يتيمه لنفسه جعلا له الربح إن كان موسرا ولليتيم إن كان معسرا، والقول الثالث أن للمغصوب منه قدر ما كان يربح فيها أن لو كانت في يده"،

القول الرابع: أن الغلة الناتجة عن غصب يُتصدق بها: وهو قول الحنفية ورواية عن الإمام أحمد.

قال البابرتي في العناية :" ومن غصب جارية وباعها بعد ضمان قيمتها فربح فيها أو غصب دراهم وأدى ضمانها واشترى بها شيئا وباعه وربح فيه تصدق بالربح في الفصلين عند أبي حنيفة ومحمد ". 

واستدلوا بحديث الشاة التي أخذت بغير إذن أهلها فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق بلحمها على الأسارى ، لكن الحديثَ لا علاقة له بالغصب الظاهر، بل هو من باب أخذ مال الزوجة من مال زوجها تأوُّلا، لأنه عليه السلام لما قال : «أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها»، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة، أن أرسل إلي بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطعميه الأسارى».

القول الرابع: أن الغلة قسمةٌ مشاعةٌ بين الغاصب والمغصوب مثل المضاربة تماما،

قال مَالِكٌ في الموطإ :" فِي رَجُلٍ أَخَذَ مَالاً قِرَاضًا مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ، فَعَمِلَ فِيهِ قِرَاضًا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ: إِنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، وإِنْه إن نَقَصَ في المال فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ، وَإِنْ رَبِحَ فَهو على ما كان بينهما ووصفا أول مرة "، وقال في إجارة العبد بغير إذن سيده :" الغلة للسيد "،

هذا هو الصحيح من مذهب مالك، وقد يكون قولا قويا لو تفضل المالك على سبيل التبرع بمنح الظالم جزءا من الربح.  .

القول الخامس: أن الغلة لمالك المال المظلوم، وليست للغاصب أصلا، وإنما قد يكون للظالم أجرة عمله ونفقته لا غير:

وهو قول جمهور السلف من الحنابلة والظاهرية وقول للإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة، بل نُقل إجماعا، قال المجد ابن تيمية في المحرر (1/362) :" وإذا غصب دراهم فاتجر بها فرِبْحُها للمالك".

وهو قول الإمام مالكٍ: قال الطبري في اختلاف الفقهاء (176) :" واختلفوا في حكم غلة المغصوب، فقال مالك: إذا آجر الغاصب المغصوب، وكان دوابا، فإن لأرباب الدواب إذا علموا ذلك كراء ما حمل عليه غرما عليه إن سلمت الدابة، وإن تلفت خُيّر أهل الدابة بين الثمن والكراء "حدثني بذلك يونس عن ابن وهب عنه" .

ثم نقل الطبري عن الشافعي أيضا قال:" ... ولا يكون لأحد غلة بضمان إلا للمالك "حدثنا بذلك عنه الربيع".

وأما الشافعية: فقد جاء في المجموع للنووي : (فصل) وإن غصب دراهم فاشترى سلعه في الذمة، ونقد الدراهم في ثمنها وربح، ففي الربح قولان، قال في القديم: هو للمغصوب منه، لأنه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد، فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد، وقال في الجديد: هو للغاصب لأنه بدل ماله فكان له ".

ثم قال: (فصل):" وإن غصب عبدا فاصطاد صيدا فالصيد لمولاه، لأن يد العبد كيد المولى، فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التي اصطاد فيها فيه وجهان، أحدهما: تلزمه لأنه أتلف عليه منافعه ، والثانى: لا تلزمه لأن منافعه صارت إلى المولى ".  

وقال ابن قدامة : إذا غصب أثمانا فاتجر بها أو عروضا فباعها واتجر بثمنها فالربح للمالك والسلع المشتراة له ، وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب: إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك "،

وقال ابن حزم في المحلى (8/135):" فمن غصب شيئا، أو أخذه بغير حق، لكن ببيع محرم، أو هبة محرمة، أو بعقد فاسد، أو وهو يظن أنه له: ففرض عليه أن يرده إن كان حاضرا، أو ما بقي منه إن تلف بعضه أقله أو أكثره ومثل ما تلف منه، أو يرده ومثل ما نقص من صفاته، أو مثله إن فاتت عينه وأن يرد كل ما اغتل منه، وكل ما تولد منه، كما قلنا سواء سواء: الحيوان، والدور، والشجر، والأرض، والرقيق، وغير ذلك سواء في كل ما قلنا. فيرد كل ما اغتل من الشجر، ومن الماشية: من لبن، أو صوف، أو نتاج، ومن العقار: الكراء"،

وقال أيضا (5/250) :" وأما إن كان البذر مغصوبا فلا حق له، ولا حكم في شيء مما أنبت الله تعالى منه; سواء كان في أرضه نفسه أم في غيرها, وهو كله لصاحب البذر; لقول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، ولا يختلف اثنان في أن غاصب البذر إنما أخذه بالباطل, وكذلك كل بذر أخذ بغير حق فمحرم عليه بنص القرآن أكله, وكل ما تولد من شيء فهو لصاحب ما تولد منه بلا خلاف, وليس وجوب الضمان بمبيح له ما حرم الله تعالى عليه ".

ثم ردّ على من جعل الغلة للظلمة ثم قال :" يلزمهم أن يجعلوا أولاد المغصوبة من الإماء والحيوان للغاصب بهذا الخبر, وهم لا يقولون بذلك ".

وهذا قول قوي يدعمه المعقول والحس والفطرة والمنقول ، وسد باب الذريعة على الفساق حتى لا يأخذوا الأموال من غيرهم بالباطل ليعملوا بها ثم يأخذوا ريعها، وهناك أقوال أخرى تفصيلية تشبه هذا القول:  

القول السادس: أن الغلة مناصفة بين المالك والغاصب:

قال شيخ الإسلام كما في المجموع (30/322) وسئل عن الأموال التي تقبض بطريق المناهب ..؟ فأجاب :" الحمد لله رب العالمين ، أما المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتى حصل منه نماء : ففيه أقوال للعلماء: هل النماء للمالك وحده ؟ أو يتصدقان به ؟ أو يكون بينهما كما يكون بينهما إذا عمل فيه بطريق المضاربة والمساقاة والمزارعة، وكما يدفع الحيوان إلى من يعمل عليه بجزء من دره ونسله، أو يكون للعامل أجرة مثله إن كانت عادتهم جارية بمثل ذلك "،

- فتأمل كيف أنه لم يذكر قول المالكية الأول لوضوح ضعفه وتعدد روايات مالك فيه – ثم قال شيخ الإسلام :" كما فعل عمر بن الخطاب لما أقرض أبو موسى الأشعريُّ ابنيه من مال الفيء مائتي ألف درهم، وخصهما بها دون سائر المسلمين، ورأى عمر بن الخطاب أن ذلك محاباة لهما لا تجوز، وكان المال قد ربح ربحا كثيرا بلغ به المال ثمانمائة ألف درهم، فأمرهما أن يدفعا المال وربحه إلى بيت المال، وأنه لا شيء لهما من الربح لكونهما قبضا المال بغير حق . فقال له ابنه عبد الله : إن هذا لا يحل لك ؛ فإن المال لو خسر وتلف كان ذلك من ضماننا فلماذا تجعل علينا الضمان ولا تجعل لنا الربح؟ فتوقف عمر، فقال له بعض الصحابة : نجعله مضاربة بينهم وبين المسلمين : لهما نصف الربح وللمسلمين نصف الربح فعمل عمر بذلك ".

ثم قال ابن تيمية: وهذا مما اعتمد عليه الفقهاء في المضاربة وهو الذي استقر عليه قضاء عمر بن الخطاب ووافقه عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو العدل ؛ فإن النماء حصل بمال هذا، وعمل هذا، فلا يختص أحدهما بالربح ولا تجب عليهم الصدقة بالنماء ؛ فإن الحق لهما لا يعدوهما ؛ بل يجعل الربح بينهما كما لو كانا مشتركين شركة مضاربة ".

قال الإمام الشافعي في الأم :" ولم يقل عمر ولا أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكما الربح بالضمان، بل جمع عليهما الضمان وأخذ منهما بعض الربح،

وقد يُقال هنا - والله أعلم – بأن أبا موسى الأشعري إنما أقرضهما من بيت المال متأولا لأنه كان أميرا، ولذلك يجوز أن يأخذَ المقترض المتأولُ إذا تاجر في المال متأولا فإنه يأخذ النصف كالمضاربة، وعلى هذا يُحمل اتفاق الصحابة الذي ذكر شيخ الإسلام ، وقال الشافعي في الأم :" حكم فيه بأن أجاز منه ما كان يجوز على الابتداء، لأن الوالي لو دفعه إليهما على المقارضة جاز، فلما رأى ومن حضره أن أخذهما المال غير تعد منهما وأنهما أخذاه من وال له فكانا يريان والوالي أن ما صنع جائز ".

وهذا بخلاف ذلك المستلف الظالم المماطل المتعمد للغصب والنهب والمماطلة فإنه لا يأخذ شيئا من الغلة جزاءا له ، ولا يأخذ إلا أجرة أجير، مع إنزال العقوبة عليه والله أعلم، كما في:

القول السابع: أن الأصل مع الغلة تعود لمالكها الأصلي، لما مرّ، فإن كان آخذ المال متأولا فإنه يأخذ النصف، وأما ذلك الغاصب الظالم فلا يأخذ إلا أجرة المثل عن عمله فيه: كما أسلفنا،

وهذا أقوى الأقوال وأعدلها لما أسلفنا وبالله التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثانية: أدلة من قال بأن الربح والغلة للمالك المظلوم، وأن ليس للظالم شيء، إلا أجرة نفقته وجهده:

واستدل هؤلاء بما يلي: 

المسألة الثانية: أدلة من قال بأن الربح والغلة للمالك المظلوم:

وهي كل الأدلة السابقة العامة في وجوب العدل والوفاء بالعهوج والعقود والأمانات، وتحريم الظلم والغدر والمماطلة... إضافة إلى:

1/ قاعدة : "ما تولد عن الشيء أخذ حكمه ".

2/ قاعدة :" التابع تابع ".

3/ أن ذلك المال ولو عمل به فليس ملكا له بل هو لغيره، وهو مال محرم خبيث.

الدليل 4/ وفيه أن الظالم لا يستحق ربحا عدا الأجرة وما أنفق:

خرجه الترمذي (1366) نا قتيبة نا شريك بن عبد الله النخعي عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته»،

قال:" هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من هذا الوجه من حديث شريك بن عبد الله، والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن، وقال: لا أعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من رواية شريك "،

وقد رواه أيضا يحيى وعبد الغفار بن الحكم مع قتيبة كلهم شريك، وقتيبة ممن روى عن شريك قبل الاختلاط وله شاهد آخر :  

فقد أخبر النبي عليه السلام بأن الغاصب يتحمل الغرم ولا يأخذ الغنم إلا النفقة والأجرة، وهذا أمر مستثنى من حديث :" الغنم بالغرم "، و " الخراج بالضمان "، لأن فاعلبه متعد عتل أثيم. 

وقيل معنى " له نفقته "، أي يتصدق بعمله على المساكين كفارة له، وأما الزرع وربحه فلمالكه .

وقيل : بل تُحسب على رب الزرع النفقة ، وعليه فالغاصب يأخذ قدر نفقته وأجرته فقط ، وهو دليل لمن قال بأن الغاصب لا يستحق إلا الأجرة والنفقة على ذلك المال المغصوب كما في رواية القطان.

الدليل 5/ قال الترمذي : قال محمد حدثنا معقل بن مالك البصري قال: حدثنا عقبة بن الأصم عن عطاء عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ".

ورواه يحيى القطان عن أبي جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بزرع ، فقال : لمن هذا الزرع ؟ قالوا : لظهير قال : ليرد صاحب الأرض عليه نفقته، وليأخذ أرضه "، وخالفه حماد عن أبي جعفر فأرسله ، والموصول أصح.

وفيه دليل على أنه تُحسب على رب الزرع النفقة ، والغاصب يأخذ قدر نفقته وأجرته فقط، وهذا هو الصواب والله أعلم وبالله التوفيق .    

قال ابن أبي حاتم في العلل (1427) قال أبي : هذا يقوي حديث شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء ، ويرد عليه نفقته "، قال أبي:" روى هذا الحديث غير شريك، وحديث يحيى لم يسنده غير يحيى بن سعيد ... والصحيح : حديث يحيى ، لأن يحيى حافظ ثقة ".

قال:" وأما الشافعي فإنه يدفع حديث عطاء، وقال: عطاء لم يلق رافعا"، قال أبي: بلى، قد أدركه ".

الدليل 6/ وفيه إعطاء الأصل مع الغلة للمالك، ولو لم يكن فعل الأجير غصبا، لكن هنا على سبيل التبرع والفصل.

خرج البخاري في الصحيح (2272) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: ... قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون "، وبوب عليه :" باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم، وكان في ذلك صلاح لهم". لا لَه .

فإذا كان هذا في أمر رجل صالح أجّر أجيرا ولم يظلمه ولا تلاعب به، بل إن الأجير هو الذي لم يأت ليطالب بحقه، بل هو من ترك ماله ديْنا في رقبة ذلك الرجل الصالح وذهب، ومع ذلك فإن هذا الرجل الصالح لمّا عمل بماله واستثمره، أَرْجع له ديْنه وكل ما تولد عنه من أموال وأرباح ،

فكيف  الأمر - يا عباد الله – بمن يظلمون ويماطلون، ولأموال منْ فَتَحَ عليهم أبواب الخير يجحدون، ولجميلهم يُنكرون، أليس هؤلاء أولى بأن يتوبوا ويُرجعوا الديون وما تولد عنها لمستحقيها .

ولقد صِرنا نراهم يتلاعبون بأموال المسلمين، ويخادعون الله والمؤمنين، فيجمعون الأموال عن طريق الديون والغصب والاستحواذ على الأمانات ... مع تتبع الرخص ، فإذا جمعوا الكثير من الأموال قالوا كذبا : تبنا إلى الله، ثم يُرجِعون – هذا إن أحسنوا - رأس المال فقط لذلك المظلوم أو الدائن المسكين، الكئيب الحزين، متبعين للهوى وربما زلّات العلماء إن عرفوها.  

ألا فليتقوا الله الرقيب العليم، وليعلموا أنه من شروط التوبة هو التخلص من كل ذلك المال الحرام وما تولد عنه وإرجاع المظالم لأصحابها والله المستعان .

وفي هذا الحديث من الفقه إعطاء الأصل مع الغلة للمالك، ولو لم يكن فعل الأجير غصبا، لكن هنا على سبيل التبرع والفضل، وإلا فإن المتأول أو المحسن يجوز له مقاسمة الربح مشاعا مع المالك الأصلي:

الدليل 7/حديث عمر مع ابنيه في ربح الفضولي للمال المتأَوَّل من خزينة بيع المسلمين الذي وقع بين أيديهما كأمانة ليسلماه للخليفة، فاتجرا به في الطريق:

وفيه قول عمر لابنيه لما استلفا مالا من بيت المال وربحا فيه :" قال : أَكُلَّ الجيش أسلفه كما أسلفكما ؟ قالا: لا، قال عمر رضي الله عنه: " ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه "، ثم تراجع عمر إلى النصف، لأنهما متأوّلان لا مغتصبان كما سيتبين :

قال الإمام مالك في الموطإ من كتاب القراض: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرج عبد الله, وعبيد الله, ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق, فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، فرحب بهما وسهّل، وهو أمير البصرة، فقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه, فتبتاعان به من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا، [ففعل ] وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدمَا على عمر قال: أكلَّ الجيش أسلفه كما أسلفكما؟ فقالا: لا، قال: أدّيا المال وربحه، قال: فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك هذا يا أمير المؤمنين هذا, لو هلك المال أو نقص لضمناه ؟ فقال: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين , لو جعلته قراضا ؟ قال: قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله , وعبيد الله , نصف ربح ذلك المال "،

ورواه أبو مصعب وابن القاسم والإمام الشافعي وابن بكير عن مالك به، وهو حديث صحيح، ولأكثره شواهد ، كما قال ابن كثير في مسند عمر :" ورواه الدارقطنى من وجه آخر عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده به وهو أصل كبير اعتمد عليه الأئمة في هذا الباب ".   

فهذا عمر قال للمتأَوِّليْن :" أديا المال وربحه "، فما بالكم بما سيقول في ذلك الغاصب الظالم الأثيم ؟؟

الدليل الثامن: وليس بصريح:

قال الفسوي في تاريخه (1/465) حدثنا عبدان حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا عبيد الله بن موهب حدثني عبيد الله بن عبد الله قال: سمعت أبا هريرة يقول:" قدمت على عمر بن الخطاب من عند أبي موسى الأشعري بثمان مائة ألف درهم فقال لي: بماذا قدمت؟ قلت: قدمت بثمان مائة ألف درهم. قال: ألم أقل إنك تهامي أحمق، إنما قدمت بثمانين ألف درهم، فكم ثمان مائة ألف درهم! فعددت مائة ألف حتى عددت ثمان مائة، فقال: أطيب ويلك؟ قال: نعم. قال: فبات عمر ليلته أرقا، حتى إذا نودي بصلاة الصبح قالت له امرأته: يا أمير المؤمنين ما نمت الليلة؟ قال: كيف ينام عمر بن الخطاب وقد جاء الناس ما لم يكن يأتيهم مثله منذ كان الإسلام، فما يؤمن عمر لو هلك وذلك المال عنده فلم يضعه في حقه، فلما صلى الصبح اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه قد جاء الناس الليلة ما لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام، وقد رأيت رأيا فأشيروا علي، رأيت أن أكيل للناس بالمكيال، فقالوا: لا تفعل يا أمير المؤمنين إن الناس يدخلون في الإسلام ويكثر المال ولكن أعطهم على كتاب، فكلما كثر الناس وكثر المال أعطيتهم عليه، قال فأشيروا علي بمن أبدأ منهم؟ قالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك. ومنهم من قال: أمير المؤمنين أعلم. قال: لا. ولكني أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب إليه فوضع الديوان على ذلك "،

                     وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

                    

                                  كتبه أبو عيسى الطاهر الزياني

 

تعليقات

https://draft.blogger.com/blog/posts/3654001511298507959

المأثور في القراءة في القبور، وعلى المقبور

البرهان في استحباب القراءة الجماعية للقرآن ، تأليف: الطاهر زياني

الشهب في استحباب حمل العصا في الخطب "، تأليف الطاهر زياني

النُّبذة، في أحكام العصائر والأنبذة "، تأليف: الطاهر زياني

الفرق بين الندبة المشروعة، والاستغاثة الممنوعة: الطاهر زياني

البراهين الجِياد، على استحباب التكبير الجماعي أيام العشر والأعياد الطاهر زياني

فتح المجيد في أدلة أقسام التوحيد كتابة: الطاهر زياني

المنار، في زكاة الفطر والمال والدينار، والزروع والثمار، وحسابها بالتدقيق في العصر الحديث الكاتب: الطاهر زياني

جمع الأخبار، في بقاء الجنة وزوال النار

الترويح في عدد صلاة التروايح كتابة: الطاهر زياني