جمع القرآن الكريم: كتابته وترتيبه، ورد الشبهات حول جمعه
جمع القرآن الكريم: كتابته وترتيبه
كتابة: أبو عيسى الطاهر زياني
المقدمة:
الحمد
لله رب العالمين، منزل الكتاب المبين، رحمة ونورا وبيانا للعالمين، أنزل كتابه
بالحق المبين، ووعد بحفظه من دسائس المندسين، وتحريفات المحرفين، فقال جل وعلا : { إِنَّا
نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
فيسر
حفظه في الصدور، وسخر صحْب نبيه لكتابته مفرقا في السطور، والرق المنشور، ثم جمعه
ليبقى خالدا إلى يوم النشور.
ومن هذا المنطلق فقد أحببت جمع بحث يتعلق بحفظ
كلام الله جل في علاه، وكيفية كتابته، وطرق جمعه، ومراحل تدوينه، مستعينا به جل في
علاه، مقسما إياه على النحو التالي:
المقدمة:
المبحث
الأول: مفهوم جمع
القرآن الكريم وكتابته وحفظه، وذكر الفروق بين ذلك:
المطلب الأول: مفهوم كتابة القرآن الكريم:
المطلب
الثاني: حفظ القرآن الكريم وبيان أنواعه، وكيفية نزوله:
الضرب
الأول: ما كان من فعل الرب:
النوع الأول: حفظ القرآن الكريم في
السماء في لوح محفوظ، إلى نزوله منه إلى السماء الدنيا.
الفرع الأول: الحكمة من تنجيم
القرآن ونزوله مفرقا:
الفرع
الثاني: مميزات القرآن المكي من المدني:
الضِّرب الثاني: ما كان حفظه بتسبب البشر توفيقا من الله:
النوع الأول: حفظ المشافهة والصدور:
النوع الثاني: حفظ
الكتابة والسطور:
المطلب الثالث: مفهوم كتابة وجمع القرآن الكريم، والفرق بينهما، وذكر زمن كل منهما:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث
الثاني: مراحل تدوين القرآن الكريم، كتابة وجمعا:
المرحلة
الأولى: كتابة القرآن الكريم مفرقا طيلة زمن الوحي، وبيان جمعه في زمن النبي عليه
السلام:
المطلب
الثاني: كيفية كتابة الوحي زمن نزوله، وترتيب سوره وآياته:
المسألة الأولى: ما ورد في ترتيب الآيات
والسور وتسميتها هل هو توقيفي:
الفرع الأول: ترتيب
الآيات توقيفي إجماعا:
الفرع الثاني: كيفية تسمية السور، وسببها، وبيان كونها توقيفية:
الفرع الثالث: ترتيب
السور في المصحف هل هو توقيفي:
المذهب الأول: من قال بأن
ترتيب السور غير توقيفي:
المذهب الثاني: من قال بأن ترتيب
السور توقيفي:
المسألة
الثانية: كيفية كتابة الوحي وبيان كتبته وأين كانوا يكتبون:
الفرع
الأول: الأدلة الإجمالية على كتابة القرآن الكريم:
الفرع
الثاني: الأدلة التفصيلية في كتبة الوحي وبيان مصاحفهم وكيفية كتابتهم وترتيبهم
لآياته وسوره:
الفرع الثالث: استشهاد
القراء زمن النبي عليه السلام بسبب الغدر بهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرحلة الثانية: جمع القرآن
الكريم في زمن أبي بكر الصديق:
المطلب الأول: أسباب الجمع في زمن أبي بكر، وبيان منهجه فيه :
المطلب الثاني: جماع أدلة جمع القرآن الكريم زمن أبي
بكر الصديق، وأسباب جمعه ومنهجه فيه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرحلة
الثالثة: جمع القرآن في زمن عثمان رضي الله عنه:
المطلب الأول: أسباب الجمع
في زمن عثمان، وبيان منهجه فيه :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث
الثالث: شبهات حول كتابة المصاحف:
المطلب الأول: دعوى المستشرقين بمخالفة
ابن مسعود ورفضه لحرق مصحفه المخالف للمصاحف العثمانية:
المطلب الثاني: احتجاجهم بمصحف عائشة، وتخطئتها لبعض كُتّاب المصحف:
المطلب
الثالث: احتجاجهم ببعض الأدلة المجيزة لرواية بعض آيات القرآن المتشابهة بالمعنى، إذا
كانت في نفس المعنى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول: مفهوم جمع القرآن
الكريم وكتابته وحفظه، وذكر الفروق بين ذلك:
المطلب
الأول: مفهوم كتابة القرآن الكريم:
أما الكتابة: فهي الخط والتأليف لكلمات القرآن الكريم
كما تكلم به رب العالمين، وأوحى بها إلى نبيه الكريم، مفرقة أو مجموعة .
ومن ههنا نستنتج بأن الكتابة قد مرت عبر مرحلتين:
أولاهما: في زمن النبي عليه السلام طيلة مدة الوحي
الممتدة بين الفترة المكية ثم المدنية: وقد كانت كتابة متفرقة تابعة لنزول آي
الذكر الحكيم.
والثانية: الكتابة زمن عثمان رضي الله عنه: كما سنبين.
ومن ههنا جاءت تسمية القرآن الكريم بالكتاب، كما في قوله
تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة 2]
المطلب الثاني: حفظ القرآن الكريم وبيان أنواعه، وكيفية نزوله:
وكل
الله تعالى حفظ التوراة والإنجيل إلى الأحبار والرهبان فضيعوهما، كما قال تعالى :{
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ}[المائدة]
بينما
أوكل الله تعالى حفظ كتابه إلى نفسه فقال تعالى :{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }[الحجر]
ويشتمل
حفظ القرآن الكريم على ضِربين:
ضِرب
من فعل الرب تعالى، وضرب من تسبب البشر توفيقا من الله وتسخيرا:
الضرب الأول: ما كان من فعل الرب:
النوع الأول: حفظ القرآن الكريم في
السماء في لوح محفوظ، إلى نزوله منه إلى السماء الدنيا.
استدلالا
بقوله تعالى :{ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: ٢١، ٢٢]
وقوله تعالى: {إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: ٧٥، ٨٠]
وقال عز وجل {فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: ١٣، ١٦]
النوع الثاني: حفظ القرآن الكريم عند نزوله إلى
السماء الدنيا، ثم إلى الأرض مفرقا عبر مرحلتين: المكية والمدنية، وبيان ميزات قرآن
كل مرحلة، والحكمة من تنجيمه:
ذلك أن الله تعالى أنزل
كتابه جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا ليلة القدر كما قال تعالى : {حم
(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا
مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)}[الدخان]
وقال أيضا :{
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ (2) } [القدر]
ثم أنزله مفرقا طيلة مدة
الوحي، على حسب الوقائع والاستفسارات والشبه... مبتدئا بالفترة المكية ثم المدنية.
خرج النسائي في السنن
الكبرى (7 / 247) وابن أبي شيبة في المصنف (16 / 469)، والحاكم في
"المستدرك" (2 / 242)، وصححه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " فُصِلَ
الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ
الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا"،
لفظ الطبراني (12/32) عن ابن عباس قال:"
أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل عليه
السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم ".
وقد أخبر القرآن الكريم بأن الله تعالى حفظ كتابه
من تحريف الجن والإنس، وجعل على السماء حرسا من استماع الجن، وذلك منذ بداية نزول
القرآن الكريم .
كما قال تعالى :{ وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً.
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ
يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي
الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا} [الجن: ٨، ١٠] ،
وقال عز وجل :{ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى
الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ
عَذَابٌ وَاصِبٌ. إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [
الصافات: ٧، ١٠]
وقوله :{
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا
يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}[الشعراء]
والأدلة المفسرة لذلك من
السنة كثيرة.
الفرع الأول: الحكمة من تنجيم القرآن ونزوله مفرقا:
ثم
إن القرآن الكريم كان ينزل من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقا، على حسب الوقائع
والأحداث:
. قال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ
بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}[الفرقان]،
. وقال أيضا:{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)}،
[الإسراء]
وتظهر
الحكمة من تنجيم القرآن الكريم عبر المرحلتين فيما يلي:
.
تحدي الكفرة والمشركين، بعدم تمكينهم من قتل النبي الكريم، حتى يتم هذا الدين ..
.
تثبيت قلب النبي عليه السلام ومن معه، إن هم شعروا بأن القرآن دوما معهم.
.
الإجابة على استفسارات
المسلمين، ورد شبه المشركين.
.
حسن فهمه وتفسيره، واستخراج علومه، وتبيين أحكامه وحِكَمِه، والمناسبات بين آياته،
مع التفريق بين الحق والباطل { فرَقناه} أي بيناه وجعلناه فرقا...
.
حسن ترتيله واستعابه،
وسهولة حفظه، وقراءته على مكث وتؤدة، فعن ابن عمر لما قال رجلٌ: قرأتُ المفصل في
ركعة، قال له: أفعلتموها إن الله لو شاء أنزله جملة واحدة ولكن فصله لتعطى كل سورة
حظها من الركوع والسجود ”.
.
التدرج بالناس،
والتخفيف عنهم، ومسايرة
وقائعهم...
.
بيان حفظ الله لدينه، وعناية المسلمين بكلامه، حتى بمكان نزوله .
.
معرفة السيرة النبوية، والمنهج
القرآني والنبوي في التدرج والتبليغ لأجل اتباعه،
وترك الاندفاع ...
. معرفة
تاريخ التشريع الإسلامي والناسخ من المنسوخ والمتقدم من المتأخر..
. معرفة يسر
الشريعة وتدرجها في الأحكام مع
مراعاة أحوال الناس .
الفرع الثاني: مميزات القرآن المكي من المدني:
إذا تبينت لك الحكم من تنجيم القرآن الكريم عبر مرحلتين: المكية
ثم المدنية، فينبغي أن نعلم أهم علامات وميزات القرآن المكي من المدني، وهي
كالتالي:
. أن القرآن المكي: يُرَكِّز على الأحكام الأخلاقية والعلمية
وأصول العبادات : كأمور العقيدة والتوحيد والقصص والعذاب وأمور الكون،
بينما المدني: يركز على الأحكام العملية: كالمعاملات والحدود
والجهاد و وتفاصيل العبادات والحلال والحرام .
. القرآن المكي: القرآن المكي يتضمن ذكر ومخاطبة الناس
والمشركين ومناقشتهم،
بينما المدني: يتضمن مخاطبة المسلمين، مع ذكر أهل الكتاب
والمنافقين، وفضح مؤامراتهم،.
. أن القرآن المكي آياته وسوره قصيرة، بينما المدني: قصيرة.
. أن القرآن المكي: من علاماته أن كل سورة تبدأ بحروف التهجي
فهي مكية، إلا البقرة وآل عمران فمدنيتان.
. أن القرآن المكي: يحتوي على السجدات.
الضِّرب
الثاني: ما كان حفظه بتسبب البشر توفيقا من الله:
وهذا
الضِّرب يطلق على معنيين:
النوع الأول: حفظ المشافهة والصدور:
هو
استظهار حفظه وتلاوة آياته قلبًا مشافهة من غير قراءة.
وقد
يسر الله تعالى لأمته حفظ كتابه، وهذا الشق يشترك مع أحد معاني الجمع للقرآن :
1/
كما في قوله تعالى: {
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) ...}[القمر]
وتيسير
القرآن يشتمل على تسهيل حفظه، وبيانه وتفصيله...
2/
وقال تعالى :{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) }
[القيامة]،
قال الطبري:" فقال بعضهم:
قيل له ذلك، لأنه كان إذا نزل عليه منه شيء عجل به، يريد حفظه من حبه إياه، فقيل
له: لا تعجل به فإنَّا سَنحفظُه عليك ". حتى لا تنساه.
وقال الطبري: وقوله:( إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) يقول تعالى ذكره: إن علينا جمع هذا القرآن في
صدرك يا محمد حتى نثبته فيه( وُقرآنَهُ ) يقول: وقرآنه حتى تقرأه بعد أن جمعناه في
صدرك ".
على أن بعض السلف فسر الآية أيضا
بجمع القرآن وتأليفه في السطور أيضا.
قال الطبري:" وكان آخرون يتأوّلون قوله:( وَقُرآنَهُ ) وتأليفه. وكان معنى
الكلام عندهم: إن علينا جمعه في قلبك حتى تحفظه، وتأليفه ".
3/
وقد أمرنا نبينا عليه السلام بحفظ وتحفيظ كتاب الله تعالى، وكثرة قراءته في غير ما
دليل.
النوع الثاني: حفظ الكتابة
والسطور:
حيث
أمر الشارع بكتابة القرآن في الصحف ونحوها كما سنبين، وهو يوافق مرحلة الجمع زمن
عثمان رضي الله عنه، حيث كتبه الصحابة في المصاحف،
وكذلك
يوافق مرحلة الكتابة زمن النبي عليه السلام على الأدوات المتوفرة في ذلك
الوقت.
المطلب الثالث: مفهوم كتابة
وجمع القرآن الكريم، والفرق بينهما، وذكر زمن
كل منهما:
الجمع في اللغة: هو ضم المتفرق.
قال ابن سيده في المحكم والمحيط الأعظم :" جَمَع الشيء
عن تفرِقةٍ، يَجْمُعه جَمْعا، وجمَّعه، وأجمعه، فاجتمع واجْدَمع، وهي مضارعة،
وكذلك تَجَمَّع، واسْتَجْمَع ".
وقال الراغب الأصفهاني :" الجمع: ضم الشيء بتقريب بعضِهِ من بعض، يقال: جمعته فاجتمع "
وقال ابن منظور: " جَمَعَ الشيءَ عن كل تفرقة يجمعه جمعاً، واستجمع السيل: اجتمع من كل موضع، وجمعت الشيء: إذا جئت به من هنا وهنا، وتجمَّع القوم: اجتمعوا أيضاً من هنا وهنا "
وقال الفيروز أبادي:" الجمع: تأليف المُتَفَرِّق " ...
وأما أبرز ألفاظ حقله المعجمي فهي كالتالي:
الضَّمُّ: جمع الشيء إِلى الشيء
الجَفْل، وهو تَجَمُّع الشيء في ذهابٍ
الجبل: تجمُّع الشيء في ارتفاعٍ، ومنه
الجبل.
والجبي: تجميع الشيء.
والدَّهْوَرة : جمعُ الشيء ثم قذفه في
مَهْوَاة
الحمش والجعْب والحوْش والخبْش هو الجمع من
متفرق.
والقمْش والقم: جَمع الشيء من ههنا وههنا.
والرزم والوزْم: وهو جمع الشيء القليل إلى
مثله
والركم:
يدل على تجميع الشيء، كتراكم السحاب وتسميته بالركام.
القَبْو،
وهو أن تجمع الشيء بيدك
والحشك
والحزب والحزق: تجمع الشيء، والـحِـزَق والأحزاب هي الجماعات.
والحقن: جمع الشيء والبول...
وأما في الاصطلاح:
فذكر علي بن سليمان العبيد في كتابه جمع القرآن حفظا
وكتابة (ص5) أنه يطلق على معنيين:
أولاهما: جمعه بمعنى حفظه في الصدور عن ظهر قلب،
قال:" ويدل له قوله
تعالى{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة] أي: جمعه في صدرك، وإثبات قراءته في
لسانك.
وما جاء عن عبد الله بن
عمرو رضي الله عنه أنه قال: "
جمعتُ القرآن فقرأته كلَّه في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى أن يطول عليك الزمان، وأن تملَّ، فاقرأه في شهر، فقلت: دعني أستمتع من قوتي
وشبابي قال: فاقرأه في عشرة، قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: فاقرأه في سبع، قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي فأبى"
قال:" فمعنى قوله: جمعت القرآن
أي: حفظته عن ظهر قلب.
ومن هذا المعنى: حديث أبي هريرة حدثني
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة،
ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ...".
وعن جابر بن عبد الله، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «من جمع القرآن فإن له عند الله دعوة مستجابة، إن شاء
عجلها له في الدنيا، وإن شاء ذخرها له في الآخرة».
ثم إن هذا الجمع قد ظهر منذ بداية الوحي،
فقد كان النبي عليه السلام يقرئهم القرآن ويستقرئهم، ويأمرهم بحفظه وتلاوته...في
غير ما دليل.
والثاني: جمعه بمعنى كتابته، على أساس أن الجمع هو ضم الحروف والكلمات والآيات
بعضها إلى بعض.
قال علي بن سليمان
العبيد
:" ويدل له ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري في قصة جمع القرآن الكريم في
عهد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ومما ورد فيه: قول عمر بن
الخطاب لأبي بكر – رضي الله عنهما: " وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . "
وقول أبي بكر الصديق لزيد بن ثابت – رضي
الله عنهما: " فتتبع القرآن فاجمعه " أي: اكتبه كله.
وقول زيد بن ثابت – رضي الله عنه -: "
فتتبعت القرآن أجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال ".
قلت:
وفي هذا التعريف والاستدلال نظر:
لأن
الجمع في هذه الأدلة في زمن أبي بكر، قد يفارق الكتابة، والمتأمل في ظواهر هذه
الأدلة التي ستأتي، سيجدها تفيد بأن الجمع في زمن أبي بكر كان مجرد تتبع آي القرآن
المكتوبة في الصحف والرقاع ونحوهما، فكانت توجد في زمنه عدة صحف وكتابات متفرقة،
ثم وضعوها في مكان واحد، حتى جاء زمن عثمان وجمعوها في مصحف واحد.
كما
ذكر أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع" ص (8): "عن هشام بن عروة عن
أبيه أن أبا بكر أول من جمع القرآن في المصاحف، وعثمان الذي جمع المصاحف على مصحف
واحد ".
ولذلك كان الأولى أن نعرف الجمع بتعريف جامع، فنقول بأن
جمع القرآن: هو تتبع متفرق آي القرآن الكريم من السطور، ثم وضعها في مكان واحد،
لأجل كتابتها بالترتيب الذي ذكره الرسول صلى الله
عليه وسلم في مصحف واحد ".
ومن
ههنا يظهر الفرق والعلاقة بين الجمع والكتابة، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل كتابة
هي جمع، وليس كل جمع يعتبر كتابة، فإن الكتابة هي مجرد تدوين كلام الله، سواء كله
أم مفرقا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الثاني: مراحل تدوين القرآن الكريم، كتابة وجمعا:
المرحلة
الأولى: كتابة القرآن الكريم مفرقا طيلة زمن الوحي، وبيان جمعه في زمن النبي عليه
السلام:
المطلب الأول: بيان كتابة القرآن مفرقا طيلة مدة الوحي، وأسباب عدم
جمعه في مكان ومصحف واحد زمن
النبي عليه السلام:
كان
للنبي عليه السلام ثمانية عشر من كتبة للوحي، منهم: الخلفاء ومعاوية وأبيّ وزيد بن
ثابت وسالم وابن مسعود وغيرهم،
فكان
يأمرهم بكتابة الآيات متفرقة، ويخبرهم بمكانها، فيكتبونها في الرقاع والصحف
والأضلاع والعسب والحجر ونحو ذلك.
فكانوا
يكتبون له الآية بعد الآية على حسب مكان وزمان النزول المتفرق طيلة مدة الوحي، المكية
والمدنية، وفي كل مرحلة كان له فيها كتبة للوحي خاصة، ولذلك مات النبي عليه
السلام، والقرآن لم يُجمع بعد في السطور في مكان واحد، فكان عليه السلام خائفا من
هذا الأمر، لكن الله تعالى طمأن نبيه بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]
وقوله له: {
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}[القيامة]
وقد مر كلام الطبري: وكان آخرون يتأوّلون قوله:(
وَقُرآنَهُ ) وتأليفه. وكان معنى الكلام عندهم: إن علينا جمعه في قلبك حتى تحفظه،
وتأليفه ".
قال البغوي في شرح السنة (4/519)
: " ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك جمعه في مصحف واحد، لأن
النسخ كان يرد على بعضه، ويرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته، كما ينسخ بعض أحكامه،
فلو جمعه، ثم رفعت تلاوة بعضه أدى ذلك إلى الاختلاف، واختلاط أمر الدين، فحفظه
الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين ".
يقول الزركشي في البرهان في علوم القرآن (1/262) :" وإنما لم يكتب في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم مصحف، لئلا يفضي إلى تغييره كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته
إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم".
ومع
ذلك فقد كان عليه السلام يحث أصحابه على حفظ الصدور كما أسلفنا، ويبين لهم مكان كل
آية وسورتها وترتيبها كما سنبين بعون الله تعالى.
المطلب
الثاني: كيفية كتابة الوحي زمن نزوله، وترتيب سوره وآياته:
المسألة الأولى: ما ورد في
ترتيب الآيات والسور وتسميتها هل هو توقيفي:
الفرع
الأول: ترتيب الآيات توقيفي إجماعا:
خرج البخاري (4530/ 4536) عن
ابن أبي مليكة، قال: ابن الزبير قلت: لعثمان بن عفان {والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا} إلى قوله {غير إخراج} [البقرة: 240] قال:
قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها؟ [أو تدعها]؟ قال: «[تدعها] يا ابن أخي، لا
أغير شيئا منه من مكانه».
وفي رواية لغيره:" لم تكتبها وقد
نسختها الآية الأخرى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا} [البقرة: 234]
يعني حتى ولو نسخ حكمها بالتالية، فإننا
نكتبها كما سمعنا.
. وخرج أحمد (4/218) عن هريم عن ليث عن
شهر بن حوشب عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
جالسا إذ شخص ببصره ثم صوبه حتى كاد ان يلزقه بالأرض قال ثم شخص ببصره فقال أتاني
جبريل عليه السلام فأمرني ان أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة { إن الله يأمر
بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم
تذكرون } "، ليث وشهر فيهما كلام.
ويشهد له الإجماع وما سيأتي من حديث عن ابن عباس: قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم
إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا
بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء
دعا بعض من كان يكتب ، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا...".
وسيأتي حديث زيد:" كنا
عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع".
وقد نقل غير واحد الإجماع على ترتيبها التوقيفي،
قال البغوي في شرح السنة (4/522) :"
على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبريل صلوات الله عليه إياه على ذلك،
وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها
كذا، روي معنى هذا عن عثمان رضي الله عنه.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لم يكن
النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ختم السورة حتى تنزل: بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا
نزل: بسم الله الرحمن الرحيم، علم أن السورة قد ختمت.
قال:" فثبت أن سعي الصحابة كان في
جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب
الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى
السماء الدنيا، كما قال الله سبحانه وتعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان}
[البقرة: 185]، وقال الله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] ".
قال الطاهر بن عاشور في مقدمة التحرير
والتنوير (1/79) :" وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبيء صلى
الله عليه وسلم حسب نزول الوحي، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجما آيات فربما نزلت
عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة، كما سيأتي قريبا، وذلك الترتيب مما يدخل في وجوه
إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة، فلذلك كان ترتيب آيات
السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غير عنه إلى ترتيب آخر لنزل عن
حد الإعجاز الذي امتاز به، فلم تختلف قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم في ترتيب آي
السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي المسلمين اليوم، وهو ما استقرت عليه
رواية الحافظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة التي كان يقرأ بها النبيء صلى الله
عليه وسلم في أواخر سني حياته الشريفة، وحسبك أن زيد بن ثابت حين كتب المصحف لأبي
بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن.
وعلى ترتيب قراءة النبيء صلى الله عليه
وسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كل من حفظه كلا أو بعضا،
وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ، ولم يكونوا يعتمدون على
الكتابة، وإنما كان كتاب الوحي يكتبون ما أنزل من القرآن بأمر النبيء صلى الله
عليه وسلم، وذلك بتوفيق إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون
عند ما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.
ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر
عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما
جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم،
قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إنما ألف
القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري
كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
موضع الآية.
واتساق الحروف واتساق الآيات واتساق
السور كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون
بين الآية ولا حقتها تناسب في الغرض أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب
الكلام المنتظم المتصل، ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء
ولكن وبل (1) ومثل أدوات الاستثناء، على أن وجود ذلك لا يعين اتصال ما بعده بما
قبله في النزول، فإنه قد اتفق على أن قوله تعالى: غير أولي الضرر نزل بعد نزول ما
قبله وما بعده من قوله: لا يستوي القاعدون إلى قوله: وأنفسهم [النساء: 95]
الفرع الثاني
كيفية تسمية السور، وسببها، وبيان كونها توقيفية:
ذكر عامة أهل العلم بأن أصل تسمية السور توقيفي،
وأن سبب التسمية إنما كان بسبب وصف أو واقعة تحدثت عنها، ثم اختلفوا في كيفية
تسمية السور:
القول الأول: اختصار التسمية بلفظين: المضاف والمضاف إليه"، كأن تقول:
سورة البقرة...سورة الناس.... وهكذا.
قال
الطاهر ابن عاشور في مقدمة التفسير :" وأما أسماء السور فقد جعلت لها من عهد
نزول الوحي، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة. وقد دل حديث ابن عباس
الذي ذكر آنفا أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا نزلت الآية: «ضعوها في
السورة التي يذكر فيها كذا»
قد
ثبت في «صحيح البخاري» قول عائشة رضي الله عنها:« لما نزلت الآيات من آخر البقرة»
الحديث وفيه عن ابن مسعود قال قرأ رسول الله النجم وعن ابن عباس أن رسول الله سجد
بالنجم.
وتأولوا
قول ابن عمر بأن ذلك كان في مكة حين كان المسلمون إذا قالوا: سورة الفيل وسورة
العنكبوت مثلا هزأ بهم المشركون، وقد روي أن هذا سبب نزول قوله تعالى: إنا كفيناك
المستهزئين [الحجر: 95] فلما هاجر المسلمون إلى المدينة زال سبب النهي فنسخ، وقد
علم الناس كلهم معنى التسمية ".
وقد
ترجم البخاري في كتاب فضائل القرآن قائلا: «باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة
وسورة كذا وسورة كذا» ثم ذكر فيه عدة أدلة:
الدليل الأول: خرج
(5040) عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآيتان من آخر
سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه»
الدليل 2: ثم خرج عن عمر بن الخطاب، يقول: سمعت هشام بن
حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت
لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، فلببته، فقلت: من أقرأك هذه السورة
التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: كذبت
فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة، التي سمعتك
فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوده، فقلت: يا رسول الله إني سمعت
هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان، فقال:
«يا هشام اقرأها» فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هكذا أنزلت» ثم قال: «اقرأ يا عمر» فقرأتها التي أقرأنيها، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن
أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه»
الدليل 3: ثم خرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها،
قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل في المسجد، فقال: «يرحمه الله
لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا»
الدليل الرابع: قال الدارمي في السنن
3439 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: «مَنْ
قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، فيه ابن
لهيعة، لكن إسحاق بن عيسى من قدماء أصحاب ابن لهيعة ممن روى عنه قبل الاختلاط،
والحديث له حكم الرفع:
5/ خرج أحمد بن محمد بن إسحاق ابن السني
في عمل اليوم والليلة (688) من طريق مظاهر بن أسلم المخزومي، أخبرني سعيد المقبري،
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر
آل عمران كل ليلة "
6/
خرج البخاري 4882 عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: «التوبة
هي الفاضحة، ما زالت تنزل، ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحدا منهم إلا ذكر فيها»،
قال: قلت: سورة الأنفال، قال: «نزلت في بدر»، قال: قلت: سورة الحشر، قال: «نزلت في
بني النضير»
7/
خرج مسلم (1296) عن الأعمش قال: سمعت الحجاج بن يوسف يقول: وهو يخطب على المنبر:
ألفوا القرآن كما ألفه جبريل، السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها
النساء، والسورة التي يذكر فيها آل عمران. قال: فلقيت إبراهيم فأخبرته بقوله،
فسبَّه وقال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد الله بن مسعود، فأتى جمرة العقبة،
فاستبطن الوادي، فاستعرضها، فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة،
قال فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن الناس يرمونها من فوقها فقال: هذا، والذي لا إله
غيره، «مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة»
8/ وخرج النسائي (8006) عن عائشة قالت سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في
المسجد ليلا فقال لقد أذكرني كذا وكذا من آية قد كنت أسقطهن من سورة كذا كذا
".
والأدلة على تسمية السور كثيرة جدا...
القول الثاني: ينبغي
ذكر السورة بالوصف كأن تقول :" السورة التي يُذكر فيها كذا ..."،
إلا
أن هذا الاختلاف لفظي لا حقيقي، لأن الأولين حذفوا جملة المبتدأ مع الفعل بعدها،
"يذكر "، واكتفوا بالمضاف والمضاف إليه لدلالة اللفظ عليه ... وفي ذلك
أدلة:
دليل أول: خرجه
البزار في "مسنده" (3759) من طريق سعيد بن سنان، بهذا الإسناد، عن النبي
صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والسورة التي
يذكر فيها المنافقون ".
فخير
بين التسمية المختصرة، والتسمية بالوصف.
الدليل الثاني: خرج
ابن الجارود في المنتقى (576) عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما أنزل
آخر الآيات من سورة البقرة التي يذكر فيها الربا خرج النبي صلى الله عليه وسلم
فقرأهن على الناس ثم حرم التجارة في الخمر»
فجمع
بين التسمية والوصف.
الدليل 3: خرجه
ابن خزيمة في الصحيح 1846 عن الضحاك بن قيس الفهري، عن النعمان بن بشير الأنصاري
قال: سألناه ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مع السورة التي
يذكر فيها الجمعة؟ قال: «كان يقرأ معها هل أتاك حديث الغاشية»
الدليل
4/ قال أبو بكر في المصنف (1/311) حدثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن
عمر قال: «كان يقرأ في الفجر بالسورة التي يذكر فيها يوسف، والتي يذكر فيها الكهف»
الأثر 5: قال أبو بكر في المصنف (2/239) حدثنا عبد الرحمن
بن محمد المحاربي عن ليث عن مجاهد " أنه كان يكره أن يكتب في المصحف تعشير،
أو يفصل، أو يقول: سورة البقرة، ويقول: السورة التي تذكر فيها البقرة "
الدليل السادس: حديث عوف عن يزيد عن ابن عباس:
خرج
ابن أبي داود في المصاحف واللفظ له (ص115) والترمذي 3086 وصححه وأبو داود (786)
وسكت عليه، والنسائي وابن حبان في الصحيح ذكر ما كان يأمر النبي صلى الله عليه
وسلم يكتبه القرآن عند نزول الآية بعد الآية (43) والضياء في المختارة مصححا له
(365) وأحمد بن عمرو البزار في المسند (2/9) 344 من طرق عن عوف عن يزيد الفارسي نا
ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى
براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما: (بسم الله الرحمن الرحيم)
ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا
نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: " ضعوا هؤلاء الآيات في السورة
التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا أنزل عليه الآية يقول: «ضعوا هذه الآية في السورة
التي يذكر فيها كذا وكذا» وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة
من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر:
(بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتهما في السبع الطوال ".
قال:"
وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ولا
نعلم رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عثمان، ولا روى ابن عباس عن عثمان
إلا هذا الحديث ".
قال
الترمذي:" هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن
ابن عباس ويزيد الفارسي هو من التابعين قد روى عن ابن عباس غير حديث، ويقال هو
يزيد بن هرمز، ويزيد الرقاشي هو يزيد بن أبان الرقاشي وهو من التابعين ولم يدرك
ابن عباس، إنما روى عن أنس بن مالك وكلاهما من أهل البصرة ويزيد الفارسي أقدم من
يزيد الرقاشي ".
وقال
الحاكم (2/241/ 360) :" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه "
وصححه
الذهبي والترمذي والضياء وابن حبان .
بينما
قال شعيب الأرنؤوط في التعليق على المسند: إسناده ضعيف و متنه منكر، ونقل تضعيفه
عن أحمد شاكر بالطعن في يزيد بن هرمز قائلا : فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد
به وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءة وسماعا وكتابة
في المصاحف وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور كأن عثمان كان يثبتها
برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا إنه حديث لا أصل له تطبيقا
للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث ".
وليس
هذا بعلة، ولم يشكك في البسملة في أوائل السور، إلا في سورة التوبة،
وقد
اختلف أهل الحديث في تعيين يزيد الفارسي هذا، وقد كان كاتبا للمصاحف زمن الأمويين
مما يدل على عدالته.
قال
ابن أبي حاتم:" " اختلفوا في يزيد أنه يزيد الفارسي أم لا؟
.
فلم يبينه قوم وصدقوه، قال الهيثمي عن حديث له:" رجاله ثقات"، وقال أبو
حاتم: صدوق،
.
وذهب قوم إلى أنه ابن هرمز وهو صدوق،
قال
عبد الرحمن بن مهدي:... هو يزيد بن هرمز. وكذا قاله أحمد بن حنبل.
قال
عبد الله بن أحمد في العلل:" سمعت أبي يقول يزيد بن هرمز هو يزيد الفارسي
قال
حرب: قال أحمد: يزيد الفارسي روى عنه عوف، وهو يزيد بن هرمز، وكان كاتب ابن عباس
".
وذكر
عن عون بن ربيعة، عن يزيد الفارسي، قال: وكان كاتبًا لابن عباس".
وقال
أبو عبد الله المقدمي في التاريخ والأسامي:" يزيد الفارسي هو يزيد بن هرمز
".
وقال
السمعاني:" يزيد بن هرمز هو يزيد الفارسي الذي روى عنه عوف الاعرابي ".
وقال
ابن حبان في الثقات :" يزيد بن هرمز هو يزيد الفارسي الذي روى عنه عوف
الاعرابي " وصحح له في الصحيح.
وقال
في مشاهير العلماء:" يزيد بن هرمز مولى بنى ليث أبو عبد الرحمن كان أمير
الموالي يوم الحرة وهو الذي يروى عنه عوف الاعرابي ويقول حدثنا يزيد الفارسي عن بن
عباس ".
.
وفرق جماعة بين ابن هرمز الفارسي الذي سكن المدينة، وبين يزيد هذا الذي سكن
البصرة، وروى عنه عوف البصري الفارسي.
وأنكر
يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحداً. وقال ابن المديني: ذكرت ليحيى قول عبد
الرحمن بن مهدي بأن يزيد الفارسي هو يزيد بن هرمز؟ فلم يعرفه، وقال: كان يكون مع
الأمراء.
قال
ابن أبي حاتم:" فسمعت أبي يقول: يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي، هو
سواه. فأما يزيد بن هرمز فهو والد عبد الله بن يزيد بن هرمز، وكان ابن هرمز من
أبناء الفرس الذين كانوا بالمدينة، وجالسوا أبا هريرة- مثل أبي السائب مولى هشام
بن زهرة ونظرائه-"
وفي
كلتي الحالتين فهو صدوق كما أبو حاتم:" وانما يروى عن يزيد بن هرمز الحارث بن
ابى ذباب، وليس بحديثه بأس، وكذلك صاحب ابن عباس لا بأس به ".
قال
المنذري:" والفارسي لا بأس به ".
والذي
يبدو أنه نفسه ابن هرمز الثقة، ولا شك أنه قدم من فارس مرورا بالبصر حيث التقى به
عوف الأعرابي، ثم استقر أخيرا في المدينة... والحجاز.
يؤكد
أنه هو نفسه ما ذكروا في ترجمة ابن هرمز الثقة أنه روى عن جماعة من البصريين
والمدنيين وكذلك الرواة عنه.
فقد
روى عنه محمد ابن على بن الحسين والزهري وعمرو بن دينار وسعيد المقبرى وقيس ابن
سعد.
وأما
تعليله بالمتن، وأن كان يشك في البسملة وتعيين سور القرآن، فليس كذلك، ولم يحدث
ذلك إلا في سورة التوبة والأنفال كما هو صريح.
قال
أبو جعفر الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/403): ففي هذا الحديث ظن عثمان رضي الله
عنه أنهما سورة واحدة وتحقيق ابن عباس أنهما سورتان ".
7/
وما روي من حديث عن أنس مرفوعا: «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا
سورة النساء وكذلك القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها آل عمران- وكذا
القرآن كله»،
فقال
أحمد بن حنبل هو حديث منكر وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ، ولكن ابن حجر أثبت
صحته. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يقول مثل ذلك
الفرع
الثالث: ترتيب السور في المصحف هل هو توقيفي:
ذكرنا
اتفاق السلف على أن ترتيب الآيات أمر توقيفي، ثم اختلفوا في ترتيب السور:
فجزم
الجمهور بأن كثيرا من سور القرآن كان مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بتوقيف
منه،
قال
الطاهر ابن عاشور:" على أن الجمهور جزموا بأن كثيرا من السور كان مرتبا في
زمن النبيء صلى الله عليه وسلم.".
ثم
اختلفوا فيما سوى تلك السور، هل هي مرتبة توقيفا أم اجتهادا من الصحابة ؟
فالجمهور
على أن الترتيب توقيفي في جميع السور.
لكنهم
اتفقوا على جواز التقديم والتأخير بين سور القرآن حين القراءة في الصلاة أو غيرها،
قال
ابن بطال : «لا نعلم أحدا قال بوجوب القراءة على ترتيب السور في المصحف بل يجوز أن
تقرأ الكهف قبل البقرة، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكسا،
فالمراد منه أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها»
ثم
اختلفوا في ترتيب السور الموجودة في المصحف، هل هو أمر توقيفي أم اجتهادي؟
وهكذا
اتفقوا على أن ترتيب المصحف تخللت فيه السور المكية والمدنية.
المذهب الأول: من قال بأن ترتيب السور غير
توقيفي:
الدليل الأول: جواز التنكيس عند القراءة اتفاقا:
خرج
مسلم في صحيحه (772) عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة،
فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى،
فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا
".
والذي
في ترتيب المصحف تقديم آل عمران على النساء، وفيه دليل على مشروعية التقديم
والتأخير عند القراءة، لا في كتابة المصحف.
لكن
قال عياض في «الإكمال» : «هو دليل لكون ترتيب السورة وقع باجتهاد الصحابة حين
كتبوا المصحف وهو قول مالك رحمه الله وجمهور العلماء»
وقد
وجه ابن عاشور هذه الرواية بقوله:" وإنما قرأها النبي كذلك إما لأن سورة آل
عمران سبقت في النزول سورة النساء التي هي من آخر ما أنزل، أو لرعي المناسبة بين
سورة البقرة وسورة آل عمران في الافتتاح بكلمة الم، أو لأن النبيء صلى الله عليه
وسلم وصفهما وصفا واحدا: «ففي حديث أبي أمامة أن النبي قال اقرءوا الزهراوين
البقرة وآل عمران".
ولذلك
لا يدل هذا الحديث على التنكيس في الكتابة، ولا على أن سور القرآن أمر اجتهادي كما
زعم عياض.
الدليل الثاني: ما ورد من تنكيس آخر في مصحف ابن مسعود:
الدليل الثالث: مصحف عائشة، وإجازتها لقراءة القرآن منكوسا تقديما
وتأخيرا بين السور:
حيث
كانت لا ترى القراءة على ترتيب المصحف أمرا لازما، كما خرج البخاري في صحيحه في
باب تأليف القرآن،
ثم
خرج (4993) عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ
جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك، وما يضرك؟ " قال: يا أم
المؤمنين، أريني مصحفك؟ قالت: لم؟ قال: لعلي أولف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير
مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل؟ " إنما نزل أول ما نزل منه سورة من
المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال
والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل:
لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم
وإني لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46] وما نزلت
سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده "، قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي
السور ".
المذهب الثاني: من قال بأن ترتيب السور
توقيفي:
وقع
في تفسير شمس الدين محمود الأصفهاني الشافعي»، في المقدمة الخامسة من أوائله «لا
خلاف في أن القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، وأما في محله ووضعه
وترتيبه فعند المحققين من أهل السنة كذلك إذ الدواعي تتوفر على نقله على وجه
التواتر "،
الدليل الأول: خرج
مسلم في الصحيح عن حديث النواس بن سمعان أن النبي قال: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة
وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما ثلاثة أمثال»
الدليل الثاني: ما
مضى من رواية عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم
أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم
تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال، فقال
عثمان: «كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان
إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي
يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر
القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا
أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
فوضعتهما في السبع الطوال» .
المسألة الثانية: كيفية كتابة
الوحي وبيان كتبته وأين كانوا يكتبون:
الفرع الأول: الأدلة الإجمالية على كتابة القرآن الكريم:
الدليل الأول: كتابة القرآن في الرق أو الرقاع: وهو
جلد مدبوغ يُطرى وينوع منه الصوف والشعر.
قال
تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)}[الطور]
.
وهذا من الألفاظ المشتركة بين
القرآن والكتب السابقة، واللوح المحفوظ وغيرها، كما قال القرطبي:" أي مكتوب،
يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ "،
وهو قول جمهور المفسرين الحاملين اللفظ المشترك على كل معانيه.
خرج
ابن حبان في الصحيح (114) والحاكم (2/249) وصححه ووافقه الذهبي، عن زيد بن ثابت
رضي الله عنه قال: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع ..."،
الدليل الثاني: الكتابة في أدوات آخرى:
خرج البخاري عن البراء، قال: لما
نزلت: {لا يستوي} [النساء: 95] القاعدون من المؤمنين {والمجاهدون في سبيل الله}
[النساء: 95]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع لي زيدا وليجئ باللوح والدواة
والكتف - أو الكتف والدواة -» ثم قال: " اكتب {لا يستوي القاعدون} [النساء:
95] ".
وسيأتي
تخريج هذا الحديث، وحديث زيد : فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع واللخاف والعسب
وصدور الرجال "،
الدليل الثالث: الكتابة في الصحف:
قال تعالى :{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا
كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) }[البينة]
وفي
حديث جمع القرآن التالي لما جمعوا متفرق القرآن زمن أبي بكر قال زيد:" قال: فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه
الله، ثم عند حفصة بنت عمر ". ثم حرقها مروان.
وستأتي مصاحف الكتبة من أصحاب رسول الله عليه
السلام.
الدليل الرابع: نهي النبي عليه السلام لكتبة الوحي من كتابة السنة حتى
لا يخلطوا بينهما:
:خرج أحمد (3/12) ومسلم 3004 عن أبي سعيد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم::" لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن من كتب شيئا سوى القرآن
فليمحه".
ولم
يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن كتابة السنة إلا حديث أبي سعيد هذا.
وهو معارض بسنن كثيرة متواترة في جواز
الكتابة:
فمن ذلك كتابته ص إلى الملوك، وثبت عن عبد الله بن عمرو
أنه قال: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث أفتأذن أن أكتبها ؟ قال:« نعم »[ فكان
أول ما كتب"، وفي رواية قال له] :" اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني
إلا حق",[ فكتب عبد الله بن عمرو صحيفة قال عنها: «الصادقة صحيفة كتبتها
منالنبي »،
وخرج الدارمي عن عَبْد اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَال: بَيْنَمَا
نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ أَي
الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عليه وسلم: « لاَ، بَلْ مَدِينَةُ هِرَقْلَ أَوَّلاً »،
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
بكتابة كتاب الصدقات،
وعن أنس أنه كان إذا حدث فكثر الناس عليه للحديث جاء
بصكاك فألقاها إليهم فقال: « هذه أحاديث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكتبتها وعرضتها عليه صلى الله عليه »، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما خطب خطبة الوداع قال للصحابة: «اكتبوها لأبي شاه »
ولما حضرته الوفاة قال للصحابة: إيتوني بكتاب أكتب
لكم".
ولذلك اختلف السلف الطيب في توجيه ذلك:
فذهبت طائفة إلى الترجيح: فقالوا: نرجح تقديم المتواتر
على حديث الآحاد هذا.
وجنحت طائفة إلى القول بالنسخ: فيكون النهي عن الكتابة
منسوخا،
والأوْلى أن نعمل بالجمع: فيكون النهي موجه إلى كتبة
الوحي خاصةً، لئلا يختلط الحديث بالقرآن ولا يضاهيه، ولا يُشتغل به عن القرآن، فإن
انتفت هذه العلل فلا بأس بكتابة الحديث منفصلا، لتواتر الأحاديث بذلك.
وقد
وردت عدة أدلة إجمالية وتفصيلية في كتبة القرآن:
الدليل الخامس: بيان أن كل آية أنزلت كانت تُكتب من الكتبة:
مضى ما خرجه والترمذي 3086 وصححه وأبو
داود (786) وسكت عليه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان في الصحيح ذكر ما
كان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم يكتبه القرآن عند نزول الآية بعد الآية (43)
والضياء في المختارة مصححا له (365) ... من طرق عن عوف عن يزيد الفارسي نا ابن
عباس، قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى
براءة وهي من المائين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما: (بسم الله الرحمن الرحيم)
ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا
نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: " ضعوا هؤلاء الآيات في
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا أنزل عليه الآية يقول: «ضعوا هذه الآية في
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت
براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فقبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب
بينهما سطر: (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتهما في السبع الطوال ".
الفرع الثاني: الأدلة التفصيلية في كتَبَة الوحي وبيان مصاحفهم، وكيفية كتابتهم
وترتيبهم لآياته وسوره:
مر اتفاق السلف على أن ترتيب
الآيات أمر توقيفي، ثم اختلفوا في ترتيب السور:
فجزم الجمهور بأن كثيرا من سور
القرآن كان مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بتوقيف منه، ثم اختلفوا فيما
سوى تلك السور، هل هي مرتبة توقيفا أم اجتهادا من الصحابة ؟
فقد كان الكثير منهم
يكتبون القرآن للنبي عليه السلام، وعنهم اشتهرت القراآت:
قال البغوي في شرح السنة (4/518)
:" والقراء المعرفون أسندوا قراءتهم إلى الصحابة، فعبد الله بن كثير، ونافع
أسندا إلى أبي بن كعب، وعبد الله بن عامر أسند إلى عثمان بن عفان، وأسند عاصم إلى
علي، وعبد الله بن مسعود، وزيد، وأسند حمزة إلى عثمان وعلي، وهؤلاء قرءوا على
النبي صلى الله عليه وسلم، فثبت أن القرآن كان مجموعا محفوظا كله في صدور الرجال
أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفا هذا التأليف، إلا سورة براءة ".
وقال الطاهر بن عاشور :"
فالمصاحف الأولى التي كتبها الصحابة لأنفسهم في حياة النبيء صلى الله عليه وسلم كانت
مختلفة في ترتيب وضع السور.
وممن كان له مصحف عبد الله بن
مسعود وأبي بن كعب، وروي أن أول من جمع القرآن في مصحف، سالم مولى أبي حذيفة. قال
في «الإتقان» : إن من الصحابة من رتب مصحفه على ترتيب النزول- أي بحسب ما بلغ إليه
علمه- وكذلك كان مصحف علي رضي الله عنه وكان أوله اقرأ باسم [العلق: 1] ، ثم
المدثر، ثم المزمل، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. ومنهم من رتب على
حسب الطول والقصر وكذلك كان مصحف أبي وابن مسعود فكانا ابتدآ بالبقرة ثم النساء ثم
آل عمران، وعلى هذه الطريقة أمر عثمان رضي الله عنه بترتيب المصحف المدعو بالإمام
".
الدليل الأول: وفيه ذكر
جماعة من القراء والجامعين الكتبة للقرآن:
خرج مسلم (2465) والبخاري في
الصحيح (3810) (5003) باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي
الله عنه :" جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من
الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت " قلت لأنس: من أبو زيد؟
قال: أحد عمومتي ".
وخرج البخاري عن ثابت البناني
وثمامة عن أنس بن مالك، قال: " مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن
غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد " قال: «ونحن
ورثناه».
أبو زيد قال عنه الدولابي:"
وَقَيْسُ بْنُ السَّكَنِ بْنِ قَيْسٍ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ "
وخرج 4999 عن مسروق: ذكر عبد الله
بن عمرو عبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: «خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأبي بن
كعب».
وفي رواية عند الطبراني (2002)
:" وكان جارية بن مجمع بن جارية قد قرأه إلا سورة أو سورتين "
وفي هذه الزيادة نظر، فقد قال
الهيثمي:" رواه الطبراني مرسلا وفيه إبراهيم بن محمد بن عثمان الحضرمي ولم
أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح ".
وعن داود بن أبي هند وإسماعيل بن
أبي خالد وزكريا بن أبي زائدة : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم من الأنصار : أبي بن كعب ومعاذ
بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد وسعد بن عبيد ".
قال الهيثمي:" رواه الطبراني
وهو منقطع الإسناد ولم يعد غير خمسة من الستة ".
الدليل 2: رئيس الكتبة
زيد بن ثابت، وبيان الكتابة في الألواح والعظام بالدواة:
قال البخاري باب كاتب النبي صلى
الله عليه وسلم ثم خرج (4990) عن أبي إسحاق عن البراء، قال: لما نزلت: {لا يستوي}
[النساء: 95] القاعدون من المؤمنين {والمجاهدون في سبيل الله} [النساء: 95]، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع لي زيدا وليجئ باللوح والدواة والكتف - أو الكتف
والدواة -» ثم قال: " اكتب {لا يستوي القاعدون} [النساء: 95] ".
وخرج البخاري أن ابن السباق، قال:
إن زيد بن ثابت، قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه قال: إنك كنت تكتب الوحي
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبع القرآن، " فتتبعت حتى وجدت آخر سورة
التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع أحد غيره، {لقد جاءكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} [التوبة: 128] إلى آخره "
وعن عبيد بن السباق، عن زيد بن
ثابت، قال: " بعث إلي أبو بكر لمقتل أهل اليمامة،... قال زيد: قال لي أبو
بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فتتبع القرآن، واجمعه ...".
وفي حديث جمع عثمان:" قال:
فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: فأي الناس أكتب؟ قالوا: زيد بن ثابت
كاتب الوحي، قال: فليمل سعيد، وليكتب زيد بن ثابت، فكتب مصاحف، فبعث بها إلى
الأمصار، قال: فرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: أحسن والله عثمان
".
وستأتي هذه الأدلة
بطولها.
الدليل 3: ما ورد في
ذكر أبي بن كعب منفردا:
خرج البخاري باب القراء من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم (5005) عن ابن عباس، قال: قال عمر: أبي أقرؤنا، وإنا
لندع من لحن أبي، وأبي يقول: «أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه
لشيء»، قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}
[البقرة: 106].
ومن فضل قراءة أبيّ ما خرجه مسلم
(799) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي: «إن الله عز وجل
أمرني أن أقرأ عليك» قال: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي» قال فجعل أبي يبكي
".
ثم خرج عن أنس بن مالك، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي بن كعب: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك:
{لم يكن الذين كفروا} [البينة: 1] قال: وسماني؟ قال: «نعم» قال: فبكى ".
الدليل 4: خزيمة رضي الله
عنه:
سيأتي طرق حديث خارجة
بن زيد بن ثابت، أن زيد بن ثابت، قال: " لما نسخنا الصحف في المصاحف، فقدت
آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين {من المؤمنين رجال صدقوا ما
عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] ".
الدليل 5: مصحف عائشة :
خرج البخاري 4993 يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها،
إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك، وما يضرك؟ " قال: يا
أم المؤمنين، أريني مصحفك؟ قالت: لم؟ قال: لعلي أولف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير
مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل؟ " إنما نزل أول ما نزل منه سورة من
المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال
والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل:
لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم
وإني لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46] وما نزلت
سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده "، قال: فأخرجت
له المصحف، فأملت عليه آي السور ".
وستأتي
أدلة أخرى عن مصحفها، وتخظئتها لغيرها.
الدليل 6 : مصحف حفصة وزوجات النبي عليه السلام:
وقد
كانت تلك الصحف التي جمعت زمن أبي بكر عند حفصة رضي الله عنها حتى حرقها مروان.
خرج ابن حبان في
الصحيح (1722) عن ابن إسحاق قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي ونافع. أن عمرو بن
نافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما أنه كان
يكتب المصاحف أيام أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-،قال: فاستكتبتني
حفصة مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة، فلا تكتبها حتى تأتيني بها
فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما بلغتها جئتها
بالورقة التي أكتبها فقالت: اكتب {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى -صلاة العصر-
وقوموا لله قانتين} (1) [البقرة: 238].
وهذه الزيادة قراءة شاذة صحيحة السند.
الدليل 7: كتابة معاوية:
1/ قال أحمد (1/296) ثنا عفان ثنا
أبو عوانة أنا أبو حمزة قال : سمعت بن عباس يقول كنت غلاما أسعى مع الصبيان قال:
فالتفت، فإذا نبي الله صلى الله عليه و سلم خلفي مقبلا فقلت ما جاء نبي الله صلى
الله عليه و سلم الا الي قال فسعيت حتى اختبئ وراء باب دار قال فلم أشعر حتى
تناولني قال فأخذ بقفاي فحطأني حطأة قال اذهب فادع لي معاوية، وكان كاتبه، قال:
فسعيت فقلت: أجب نبي الله صلى الله عليه و سلم فإنه على حاجة ".
قال
أبو داود الطيالسي في مسنده (2746) (2869): حدثنا هشام وأبو عوانة، عن أبي حمزة
القصاب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى معاوية يكتب له،
فقال: إنه يأكل ثم بعث إليه فقال: إنه يأكل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا أشبع الله بطنه»
ومن
هذا الوجه خرجه البيهقي في الدلائل (6/243) عن موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن
أبي حمزة قال: سمعت ابن عباس، قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد جاء فقلت: ما جاء إلا إلي فاختبأت على باب فجاء فحطأني حطأة، (ضربني
) فقال: «اذهب فادع لي معاوية» ، وكان يكتب الوحي، قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه
يأكل، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «فاذهب فادعه» فأتيته
فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال في الثالثة: «لا
أشبع الله بطنه» ، قال: فما شبع بطنه، قال: فما شبع بطنه أبدا ".
قال:"
وروي عن هريم، عن أبي حمزة في هذا الحديث زيادة تدل على الاستجابة ".
ورواه عبد الرحمن بن المبارك , ثنا أبو عوانة , عن
أبي حمزة , قال: سمعت ابن عباس , قال: كنت غلاما أسعى مع الغلمان , فإذا أنا بنبي
الله صلى الله عليه وسلم خلفي مقبلا، قلت: ما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا
إلي , قال: فسعيت حتى اختبأت وراء الباب، قال: فلم أشعر حتى تناولني فأخذ بقفاي،
قال: «اذهب إلى معاوية فادعه» .
قال: وكان كاتبه، قال: فسعيت
فأتيت معاوية، فقلت: أجب نبي الله فإنه على حاجة ".
وهذا
حديث صحيح على شرط مسلم، وقد خرج أصله:
فرى
مسلم (2604) عن أمية بن خالد حدثنا شعبة عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس قال: كنت
ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب، قال فجاء
فحطأني حطأة، وقال: «اذهب وادع لي معاوية» قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال
لي: «اذهب فادع لي معاوية» قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: «لا أشبع الله بطنه»
2/
وللحديث شاهد آخر ورد عن الأعمش من وجهين:
قال
البزار 2491 - حدثنا يوسف بن موسى، قال: أخبرنا أبو غسان، قال: أخبرنا عبد الرحمن
بن حميد، عن سليمان الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن
مالك الزبيدي عن عبد الله بن عمرو قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
معاوية وكان كاتبه».
. ورواه أبو عمر ابن حيويه ثنا
إسحاق بن موسى ثنا تليد عن الأعمش، عن علي بن الأقمر قال: وفدنا إلى معاوية،
فلقيناه، ثم أتينا عبد الله بن عمرو، وقلنا له: حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاوية وكان كاتبه»
الدليل 7: كتابة ابن مسعود رضي الله عنه وذكر مصحفه وترتيبه على حسب
المفصل:
قال
البخاري في صحيحه: باب تأليف القرآن ". ثم خرج (4996) عن شقيق قال: قال عبد
الله: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين،
في كل ركعة»، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة
من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون
".
وخرج
البخاري في باب القراء الصحابة (5000) عن شقيق بن سلمة قال: خطبنا عبد الله بن
مسعود فقال: «والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين
سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله،
وما أنا بخيرهم».
ثم
خرج البخاري عن مسروق، قال: قال عبد الله رضي الله عنه: «والله الذي لا إله غيره،
ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله
إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت
إليه»
وخرج
الطحاوي في معانيه (1/345) عن نهيك بن سنان السلمي أنه أتى عبد الله بن مسعود رضي
الله عنهما , فقال: " قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال: هذًّا مثل هذّ الشعر
, ونثرا مثل نثر الدقل , إنما فُصّل لتفصلوا " لقد علمنا النظائر التي كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشرين سورة الرحمن والنجم على تأليف ابن مسعود
رضي الله عنهما , كل سورتين في ركعة , وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة. فقلت
لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك , كيف أصنع؟ قال: ربما قرأت أربعا في ركعة".
. وخرج
عن حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن زر قال: " كان أول مفصل ابن مسعود
الرحمن "
. وخرج
أبو داود (1396) عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود، قالا: أتى ابن مسعود
رجل، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذّا كهذّ الشعر، ونثرا كنثر الدقل،
«لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم
في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت، ونون في
ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل
في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة،
والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة»،
قال
أبو داود: «هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله»
الفرع الثالث: استشهاد
القراء زمن النبي عليه السلام بسبب الغدر بهم:
مر النبي عليه السلام وأصحابه بظروف
عصيبة في المرحلة المدنية، كان بدايتها باستشهاد سبعين صحابيا يوم أحد (3ه)،
ثم استشهد عشرة منهم في سرية
الرجيع في السنة 4 ه بسبب الغدر، حيث جاء وفد من عضل والقارة يطلبون من النبي عليه السلام أن يبعث معهم من يعلمهم
شرائع الإسلام ويقرأ عليهم القرآن، فبعث النبي ﷺ ستةً من أصحابه، وفي رواية عشرة، بقيادة مرثد
الغنوي
ومن معه: وهم خالد بن البكير الليثي الكناني. وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح وخبيب بن عدي الأوسي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق البلوي.
وقد كان آخرهم وفاة خبيب الذي سن
سنة ركعتي القتل.
والعجب أنه قد وقعت بعدها واقعة
أفجع منها وأشد خديعة وهي فاجعة في بئر معونة التي استشهد فيها سبعون قارئا للقرآن
الكريم بسبب الغدر أيضا.
خرج مسلم 677 وأبو عوانة في
مستخرجه على مسلم عن أنس بن مالك قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من
الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل
يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه،
ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم،
فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم، بلغ عنا نبينا أنا قد
لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراما، خال أنس من خلفه، فطعنه برمح
حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأصحابه: " إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد
لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا ".
[قال: فأتى رجل خالي حراما من
خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إن إخوانكم قد قتلوا، وقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد
لقيناك ورضينا عنك ورضيت عنا ".
وكان من شدة الفازعة أن مكث النبي
عليه أربعين ليلة يدعو على الغدارين.
وخرجها البخاري 2801 - عن أنس رضي
الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في
سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله
عليه وسلم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه، فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب
الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه، فقتلوهم إلا رجلا أعرج صعد الجبل، قال همام:
فأراه آخر معه، «فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم قد لقوا
ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم»، فكنا نقرأ: أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا،
وأرضانا ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية
الذين عصوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ".
قال محمد بن إسحاق:" أقام
رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أحد بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة، وولى تلك
الحجة المشركون، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من
أحد فكان من حديثهم كما حدثني أبي اسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهم من أهل العلم
قالوا : قدم أبو براء عامر بن خالد بن جعفر ـ ملاعب ـ الأسنة على رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينةَ، فعرض عليه الاسلام فلم يسلم، ولم يبعد من الإسلام، فقال:
يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوتهم الى الايمان رجوت أن يستجيبوا
لك، فابعثهم فليدعوا الناس الى أمرك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذرَ
بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج المعنق ليموت في أربعين رجلا من المسلمين
من خيارهم منهم الحارث بن الصمة و حرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار و عروة بن
أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن بديل بن ورقاء الخراعي وعامر بن فهيرة مولى أبي
بكر ورجال مسمون من خيار المسلمين فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين أرض بني
عامر وحرة بني سليم كلا البلدين منها قريب وهي من سليم أقرب - فلما نزلوها، بعثوا
حرامَ بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما
أتاهم لم ينظر في كتابه إلى أن عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر
فأبوا أن يجيبوه الى ما دعاهم وقالوا : لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا،
فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم عصية ورعلا وذكوانا، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى
غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم ثم قاتلوهم حتى قُتلوا
عن آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار فإنهم تركوه فيه رمق فارتث من
بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق، فكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل
من الانصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب إخوتهما إلا الطير تحوم على
العسكر، فقال : والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم،
فاذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الانصاري لعمرو بن أمية: ما ترى ؟ قال : أرى
أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الانصاري : لكني ما كنت
أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، ثم قاتل
القوم حتى قتل، وأخذ عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من خضر أطلقه عامر بن
الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فخرج عمرو بن أمية حتى إذا
كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه،
وكان للعامريَّيْن عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار فلم يعلم به عمرو بن
أمية وقد سألهما حين نزلا من أنتما ؟ قالا : من بني عامر فأمهلهما حتى إذا ناما
عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب بهما ثأره من بني عامر لما أصابوا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه
وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن قتلت قتيلين لأدينهما
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عمل أبي براء، قد كنت لها كارها متخوفا،
فبلغ ذلك أبا براء، فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصيب من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم في سببه وجواره
وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر
بن الطفيل :
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل
نجد )
( تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
)
( ألا أخبر ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في
الحدثان بعدي )
( أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم
بن سعد )
فحمل ربيعة بن عامر على عامر بن الطفيل فطعنه
بالرمح فوقع في فخذه وأشواه ووقع عن فرسه، فقال : هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي
لعمي فلا يتبعن به وان أعش فسأرى رأيي فيما أتى الي ".
ثم إن النبي عليه السلام أودى
هؤلاء رغم ما صدر من قومهم من خيانة، ولمكان العذر من الصحابي عمرو، فإنه خاف من
الغدر مرة أخرى فقتل الرجلين من غير علم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرحلة الثانية: جمع القرآن الكريم في زمن أبي بكر الصديق:
ذكرنا الفرق بين الكتابة والجمع، وبين
الكتابة المتفرقة، والجامعة، وأن ترتيب آي القرآن أمر توقيفي، على خلاف في ترتيب
سوره، وأما ما حدث في زمن أبي بكر فقد كان على الغالب هو جمعه في مكان واحد، من
غير إحداث كتابة.
قال البغوي في شرح السنة (4/522)
:" ثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإن القرآن
مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة
واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدنيا، كما قال الله سبحانه وتعالى:
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان} [البقرة: 185]، وقال الله عز وجل: {إنا أنزلناه
في ليلة القدر} [القدر: 1] ".
المطلب الأول: أسباب الجمع في زمن أبي بكر، وبيان ومنهجه فيه :
مات النبي عليه السلام، والقرآن
مجموع بترتيبه في الصدور، لكنه غير مجموع في السطور،
ثم بعد موت النبي عليه السلام
واستخلاف أبي بكر، حدثت حروب الردة من جهة (12ه)، والحروب مع مانعي الزكاة من جهة
أخرى، وقد انتهت الحروب بمقتل مئات الصحابة، منهم سبعون قارئا من قُرّاء القرآن، فهال
هذا الأمر أصحابَ رسول الله عليه السلام، فقرروا جمع القرآن الكريم خشية ضياعه،
تحت إمرة زيد بن ثابت، لكونه شابا قويا، من حفظة وكتبة الوحي، إضافة إلى شهوده
العرضة العرضة الأخيرة:
فكان
منهجهم في ذلك ما يلي:
.
جمع ما كتب في زمن النبي عليه السلام.
.
أن يشهدا على كتابته كاتبان فأكثر، مما كان متوفرا في ذلك الزمن من صحف ورقاع عسب
وأكتاف وألواح وأحجار وقراطيس..
.
أن يكون المكتوبُ محفوظا في صدور القراء والحفظة من أصحاب رسول الله، وبالتالي
اشترطوا حفظ السطر، إضافة إلى حفظ الصدر، وهذا هو التواتر.
قال البغوي في شرحه:" والذي
حملهم على جمعه ما جاء بيانه في الحديث، وهو أنه كان مفرقا في العسب، واللخاف
وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، فأمر بجمعه في موضع واحد،
باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن
قدموا شيئا أو أخروا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من
القرآن ".
المطلب الثاني: جماع أدلة
جمع القرآن الكريم زمن أبي بكر الصديق، وأسباب جمعه ومنهجه فيه:
الدليل الأول: وفيه تبيين سبب الجمع، وهو استفحال القتل في قراء القرآن
يوم اليمامة:
خرج البخاري (4078) عن قتادة،
قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار قال قتادة:
وحدثنا أنس بن مالك أنه " قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون،
ويوم اليمامة سبعون، قال: «وكان بئر معونة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويوم اليمامة على عهد أبي بكر، يوم مسيلمة الكذاب».
الدليل الثاني: وفيه تبيين أسباب الجمع ومنهجه، وأين كان الصحابة
يكتبون زمن النبي عليه السلام:
خرجه
البخاري في الصحيح (4679) (4986) باب جمع القرآن: عن الزهري عن ابن السباق أن زيد
بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه - وكان ممن يكتب الوحي - قال: أرسل إليَّ أبو بكر
مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر
يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من
القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن "، قال أبو بكر: قلت لعمر:
«كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» فقال عمر: هو والله خير،
فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن
ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، «كنت
تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم»، فتتبع القرآن فاجمعه، [قال زيد:]
فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن،
قلت: «كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟» فقال أبو بكر: هو
والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر،
فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف، والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من
سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره، {لقد جاءكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} [التوبة: 128] إلى آخرهما، وكانت الصحف التي
جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند
حفصة بنت عمر ".
ومن هذا الوجه خرجه البغوي في شرح
السنة (4/519) : باب جمع القرآن 1230 عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت قال:
" بعث إلي أبو بكر لمقتل أهل اليمامة، وعنده عمر،.... بطوله، وفيه قول زيد :"
... فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، والرقاع، واللخاف، وصدور الرجال، قال: فوجدت
آخر سورة التوبة: {لقد جاءكم رسول} [التوبة: 128] إلى آخرها مع خزيمة، أو أبي
خزيمة، فألحقتها في سورتها، وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند
عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر ".
قال البغوي:" هذا حديث صحيح
قال البغوي: قوله: استحر القتل،
أي: كثر واشتد، وينسب المكروه إلى الحر، والمحبوب، إلى البرد، ومنه المثل: ول
حارها من تولى قارها.
والعسب: جمع عسيب وهو سعف النخل.
واللخاف، قال أبو عبيد: واحدتها
لخفة، وهي حجارة بيض رقاق ".
وقد بين في هذا الحديث، أنهم إنما
جمعوا ما تفرق في عهد النبي عليه السلام، ووضعوه في مكان واحد، فبعضه كان في العسب
والرقاع واللخاف، وأكثره كان في صحف متفرقة، ولم يكتبوه في مصحف واحد.
لكنه قد ورد بلفظ آخر يبين فيه
أنهم دونوا هذه الصحفَ في مصاحف:
الدليل الثالث: وفيه
تدوين الصحف ونحوها في مصاحف، فهل كان ذلك زمن أبي بكر رضي الله عنه فعلا؟ أم نتبع
المحفوظ وهو أن نسخ المصاحف كان في زمن عثمان:
خرج البخاري في الصحيح (4784) عن
الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، أن زيد بن ثابت، قال: «لما نسخنا الصحف في
المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت كثيرا أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها لم أجدها مع أحد، إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم شهادته شهادة رجلين»: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}
[الأحزاب: 23]
قال البغوي في شرح السنة: قوله:
«لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة» ليس فيه إثبات القرآن بقول الواحد، لأن زيدا كان
قد سمعها، وعلم موضعها من سورة الأحزاب بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك
غيره من الصحابة، فمنهم من نسيها، فلما سمع ذكر، وتتبعه الرجال في جمعه كان
للاستظهار، لا لاستحداث العلم، فقد صح عن أنس أنه سئل: من جمع القرآن على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ
...".
ويبقى الإشكال في لفظة:" لما
نسخنا الصحف في المصاحف .."، فإن هذا اللفظ مختصر من حديث الجمع الطويل.
فهل كان ذلك النسخ في زمن أبي بكر
أم عثمان ؟
فأما حمله على زمن أبي بكر فإنه
يعارض الأحاديث المشهورة من اكتفاء الصحابة بجمع المتفرق من صحف ونحوها ووضعها في
مكان واحد، وأن النسخ في المصاحف كان في زمن عثمان فقط.
فإما أن نحمل المصاحف التي كتبت
زمن أبي بكر على مجرد الجمع للقرآن جميعا، متواترا وشاذا، حتى نقح ذلك زمن عثمان
في مصحف واحد جامع للعرضة الأخيرة.
أو نحمل هذه الرواية على نسخ عثمان
للمصاحف بمعنى الصحف المتفرقة، وأما المصحف الجامع فقد كان زمن عثمان جمعا بين
الأدلة، ودفعا للتضارب بينها وهو الصحيح والله أعلم،
يؤيده ما يلي:
الدليل الرابع: وفيه جمع أبي بكر للقرآن في مصاحف والمقصود بها هي الصحف
والقراطيس المتفرقة، لا المصحف الواحد، وبيان أن عثمان هو من نسخ لك الصحف أو
المصاحف في المصحف الواحد الجامع:
خرج
أبو عمرو الداني في كتابه المقنع في رسم مصاحف الأمصار ص (8) حدثنا أبو محمد خلف بن أحمد العبدري قراءة عليه حدثنا زياد بن
عبد الرحمن اللؤلؤي حدثنا محمد بن يحيى بن حميد حدثنا محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه
عن إبراهيم بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر أول من جمع القرآن
في المصاحف حين قُتل أصحاب اليمامة ، وعثمان
الذي جمع المصاحف على مصحف واحد ".
دليل خامس: جمع القرآن
في مصاحف، أي صحف، لا المصحف الجامع:
وعن
أبي بن كعب أنهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافة أبي بكر رحمه الله وكان رجال
يكتبون ويملي عليهم أبي فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة : { ثم انصرفوا
صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال
لهم أبي بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقرأني بعدها آيتين: { لقد
جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } إلى
قوله : { وهو رب العرش العظيم } قال : هذا آخر ما نزل من القرآن قال : فختم بما
فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تبارك وتعالى : { وما أرسلنا من
قبلك من رسول إلا يوحى ( وهي قراءة ) إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } . ص . 115
قال
الهيثمي:" رواه عبد الله بن أحمد وفيه محمد بن جابر الأنصاري وهو ضعيف
".
الدليل السادس: جمع القرآن في قراطيس وصحف زمن أبي بكر، ثم كتابته في
مصاحف زمن عثمان:
قال
الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/127) حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني مالك عن ابن
شهاب عن سالم وخارجة: " أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان جمع القرآن في
قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك، فأبى عليه حتى استعان عليه بعمر بن
الخطاب رضي الله عنه، ففعل، فكانت تلك الكتب عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفي،
ثم كانت عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها
إليه، حتى عاهدها ليردنها إليها، فبعثت بها إليه، فنسخها عثمان رضي الله عنه هذه
المصاحف ثم ردها إليها، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها "
والقراطيس هي صحف وأوراق متفرقة
يُكتب فيها، وأما المصحف الجامع فهو كتابة القرآن جميعا في مصحف واحد زمن عثمان.
قال السيوطي في الإتقان ()
:" قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر
وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم
يكن مجموعاً في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه
النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى
قروه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئه بعض، فخشى من تفاقم
الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات
على لغة قريش محتجاً بأنه نزل بلغتهم وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعاً
للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة
واحدة. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس
القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا
تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته، وحفظه
خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرحلة الثالثة: جمع القرآن في مصحف جامع زمن عثمان رضي الله
عنه:
المطلب الأول: أسباب الجمع في زمن عثمان، وبيان منهجه فيه :
كان
عدد الكتبة اثني عشر كاتبا. خرج ابن أبي داود في المصاحف (105) من طريق محمد بن سيرين عن
كثير بن أفلح قال: "لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له
اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت".
وقد
أمّر عليهم عثمان بن عفان: زيدَ بن ثابت موافقة لأبي بكر، باعتباره أعلمهم وأحفظهم
وأشبهم، إضافة إلى حضوره العرضةَ الأخيرة.
قال
الأصفهاني في «تفسيره» : «كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين
والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على
جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها
رسول الله على جبريل» اهـ نقله ابن عاشور في مقدمة التفسير.
وقال
البغوي في شرح السنة (4/525): يقال إن زيد ابن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها
ما نسخ وما بقي وكتبها الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس
بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر وجمعه، وولاه عثمان كتب المصاحف".
وقال
الزركشي في البرهان (237):" قال أبو عبد الرحمن السلمى كانت قراءة أبى بكر
وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة كانوا يقرءون القراءة العامة
وهى القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام
الذى قبض فيه وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة وكان يقرئ الناس بها حتى مات ولذلك
اعتمده الصديق في جمعه وولاه عثمان كتبة المصحف"
ثم
أمرهم عثمان بنسخ تلك الصحف والرقاع المجموعة في زمن أبي بكر في المصاحف بشروط
منها:
. أن
يوافق اللغة العربية، وبالأحرى لسان قريش.
. أن
يشهد على كتابته أربع صحابة على الأقل ... وهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث، إضافة ما هو محفوظ في الصدور عن بقية
الصحابة، وهذا هو التواتر.
. أن
يكتبوا العرضة الأخيرة التي عارضها جبريل على النبي عليه السلام قبيل موته،
وبالتالي لم يكتبوا غيرها مما عرف بعد بالقراآت الشاذة التي تميز بها مصحف ابن
مسعود ونحوه ...
.
إسقاط القراآت الشاذة: كما قال أبو عمرو الداني في رسم المصاحف :" وقيل انما جمع الصحف في مصحف واحد لما في ذلك من حياطة
القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحدا متفقا عليه واسقط ما لا يصحّ من
القراءات ولا يثبت من اللغات وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه".
. كتابة أربعة مصاحف رئيسية لتكون مرجعا
أساسيا: قال أبو عمرو الداني في المقنع في رسم المصاحف :" أكثر العلماء على إن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كتب المصحف
جعله على أربع نسخ وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن فوجّه إلى الكوفة
احاهن وإلى البصرة أخرى وإلى الشام الثالثة وامسك عند نفسه واحدة وقد قيل انه جعله
سبع نسخ ووجّه من ذلك أيضا نسخة إلى مكة ونسخة إلى اليمن ونسخة إلى البحرين والأول
أصح وعليه الأئمة".
وإنما فعلوا ذلك حتى
يستوعب القراآت جميعا:
قال أبو عمرو في رسم المصاحف
:" فإن سأل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف قلت
السبب في ذلك عندنا إن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما جمع القرآن
في المصاحف ونسخها على صورة واحدة وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها مما لا يصحّ
ولا يثبت نظرا للأُمّة واحتياطا على أهل المللّة وثبت عنده إن هذه الحروف من عند
الله عز وجل كذلك منزلة ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة وعلم إن جمعها في
مصحف واحد على تلك الحال غير متمكّن إلا بإعادة الكلمة مرتّين وفي رسم ذلك كذلك من
التخليط والتغيير للمرسوم مالا خفاء به ففرقها في المصاحف لذلك فجاءت مثبتة في
بعضها ومحذوفة في بعضها لكي تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل وعلى ما
سُمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل
الأمصار".
المطلب الثاني: جماع
أدلة جمع القرآن الكريم زمن عثمان، وأسباب جمعه ومنهجه فيه، ونسخه لأربعة نسخ
جامعة للقرآن كله:
الدليل الأول: حديث زيد
في تدوين الصحف ونحوها في مصاحف، وحمل ذلك على زمن عثمان:
خرج البخاري في الصحيح (4784) عن
الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، أن زيد بن ثابت، قال: «لما نسخنا الصحف في
المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت كثيرا أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها لم أجدها مع أحد، إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم شهادته شهادة رجلين»: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}
[الأحزاب: 23]
وقد مضى، وفيه أنهم بحثوا مرة
أخرى عن هذه الآية، زمن عثمان فلم يجدوها مكتوبة أيضا عند غيره.
الدليل الثاني: حديث
أنس في تبيين أسباب الجمع ومنهج تدوين المصاحف الجامعة زمن عثمان:
قال البخاري: باب جمع القرآن: ثم
خرج (4987) عن ابن شهاب أن أنس بن مالك، حدثه: أن حذيفة بن اليمان، قدم على عثمان
وكان يغازي أهل الشأم في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة
اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل
أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: «أن أرسلي
إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك»، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر
زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام
فنسخوها في المصاحف "، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: «إذا اختلفتم أنتم
وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم» ففعلوا حتى
إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما
نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق".
وهذا الحديث يبين أن كتابة
المصاحف في مصحف جامع كان في زمن عثمان رضي الله عنه، لا زمن أبي بكر.
وخرج ابن أبي داود عن أيوب عن أبي
قلابة قال: "لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم
يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى
ارتفع ذلك إلى المعلمين، قال أيوب: لا أعلمه إلاّ قال: حتى
كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيباً
فقال: أنتم عندي تختلفون فيه
فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب
محمد واكتبوا للناس إماماً"
قال البغوي في شرح السنة (4/519)
:" فيه البيان الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن
الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن زادوا فيه،
أو نقصوا منه شيئا، والذي حملهم على جمعه ما جاء بيانه في الحديث، وهو أنه كان
مفرقا في العسب، واللخاف وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه
إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، فأمر
بجمعه في موضع واحد، باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله
عليه وسلم من غير أن قدموا شيئا أو أخروا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه، ويعلمهم
ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبريل صلوات
الله عليه إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا
في السور التي يذكر فيها كذا، روي معنى هذا عن عثمان رضي الله عنه. ".
وقال البغوي في شرح السنة (4/523)
:" ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرءون القرآن بعده على
الأحرف السبعة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله عز وجل، إلى أن
وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان، وعظم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من
الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة، وتدارك الناس قبل تفاقم
الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية، فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك
المهاجرين والأنصار، وشاورهم في جمع القرآن في المصاحف على حرف واحد، ليزول بذلك
الخلاف، وتتفق الكلمة، واستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور
للقرآن، فحينئذ أرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف،
فأرسلت إليه، فأمر زيد بن ثابت، والرهط القرشيين الثلاثة فنسخوها في المصاحف، وبعث
بها إلى الأمصار ".
وقال أبو الفدا في المختصر في
تاريخ البشر في أخبار أبي بكر:" ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع
القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود، وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر
زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تولى عثمان ورأى اختلاف الناس في القرآن، كتب
من ذلك المكتوب الذي كان عند حفصة نسخاً وأرسلها إلى الأمصار وأبطل ما سواها
".
الدليل الثالث: حديث مصعب: وفيه جمع ما تفرق من القرآن من لوح وعسب وكتف مما
كتب في عهده عليه السلام، إضافة إلى ما جمعه الصحابة في زمن أبي بكر، ووضعوه عند
حفصة:
قال عبد الله بن أبي داود في
المصاحف ص 102 حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا يحيى يعني ابن يعلى
بن الحارث حدثنا أبي: حدثنا غيلان عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد قال: سمع عثمان
قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: " إنما قبض نبيكم منذ خمس
عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن، عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما أتاني به فجعل الرجل يأتيه باللوح، والكتف والعسب فيه
الكتاب، فمن أتاه بشيء قال: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: أي
الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، ثم قال: أي الناس أكتب؟ قالوا: زيد بن ثابت
قال: فليكتب زيد وليمل سعيد قال: وكتب مصاحف فقسمها في الأمصار، فما رأيت أحدا عاب
ذلك عليه ".
قال أبو بكر أيضا:
حدثنا عمي ثنا أبو رجاء ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد ...
ورواه الطبراني 4744 - حدثنا محمد
بن عبد الله الحضرمي ثنا أبو كريب ثنا يحيى بن يعلي عن أبيه عن غيلان بن جامع عن
أبي إسحاق عن مصعب بن سعد قال قال عثمان أي الناس أكتب ؟ فقالوا : زيد بن ثابت
".
قال الهيثمي:" رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ".
وقال ابن كثير في مقدمة التفسير:
إسناده صحيح.
ثم لما فرغ عثمان من كتابة
المصحف، أحرق ما جمعه له الصحابة مما كتبوه، ووافقوه على ذلك إلا ابن مسعود.
الدليل الرابع: حديث
سويد في بيان أن الاختلاف بين الصحابة إنما هو في كيفية الكتابة، وكتابة عثمان
لمصحف جامع:
قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة
(3/996) حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا محمد بن أبان عن علقمة بن مرثد
عن العيزار بن جرول من رهط سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة: سمعت عليا رضي الله عنه
يقول: " الله الله أيها الناس، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق المصاحف،
فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد، جمعنا فقال: ما تقولون في القراءة؟
يلقى الرجلُ الرجــلَ فيقول: قراءتي خير من قراءتك، ويلقى الرجل الرجل فيقول:
قراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر "، قال: فقلنا: فالرأي رأيك يا أمير
المؤمنين، قال: «فإني أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد لا يختلفون بعدي، فإنكم إن
اختلفتم اليوم كان الناس بعدكم أشد اختلافا» ، قلنا: فالرأي رأيك يا أمير
المؤمنين، فبعث إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص فقال: «ليكتب أحدكما ويمل الآخر،
فإن اختلفتما فارفعاه إلي» ، قال: فما اختلفا إلا في التابوت، فقال أحدهما:
التابوت وقال الآخر: التابوه فرفعاه إليه فقال: " إنها التابوت، وقال علي:
«والله لو وليت الذي ولي لصنعت مثل الذي صنع» .
قال ابن شبة حدثنا عفان حدثنا
محمد بن أبان حدثنا علقمة بن مرثد عن العيزار بن جرول السلمي أنه سمع سويد بن غفلة
ذكر نحوه، ولم يذكر سعيد بن العاص ولا زيد بن ثابت ولا ما اختلفا فيه، وزاد: فقال
القوم لسويد بن غفلة: آلله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا من علي؟ فقال: آلله الذي
لا إله إلا هو لسمعت هذا من علي.
. قال ابن أبي داود في المصاحف
حدثنا يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا شعبة بن الحجاج، عن علقمة بن
مرثد الحضرمي،
قال أبو داود: وحدثنا محمد بن
أبان الجعفي، سمعه من علقمة بن مرثد وحديث محمد أتم عن عقبة.
رواه أبو عبد الله محمد بن عيسى
الأصبهاني المقرئ في كتاب المصاحف والهجاء، عن محمد بن الصلت الأسدي، عن محمد بن
أبان وقال عن العيزار بن جرول الحضرمي قال: لما خرج المختار كنا هذا الحي من
حضرموت أول من تسرع إليه، فأتانا سويد بن غفلة الجعفي فقال: إن لكم علي حقا وإن
لكم جوارا [أو إن لكم قرابة] ، والله لا أحدثكم اليوم إلا شيئا سمعته من المختار،
أقبلت من مكة وإني لأسير إذ غمزني غامز من خلفي، فإذا المختار فقال لي: يا شيخ ما
بقي في قلبك من حب ذلك الرجل؟ يعني عليا، قلت: إني أشهد الله أني أحبه بسمعي وقلبي
وبصري ولساني قال: ولكني أشهد الله أني أبغضه بقلبي وسمعي وبصري ولساني قال: قلت:
أبيت والله إلا تثبيطا عن آل محمد، وترثيثا في إحراق المصاحف، [أو قال حراق، هو
أحدهما يشك أبو داود] ،
فقال سويد: والله لا أحدثكم إلا
شيئا سمعته من علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمعته يقول: " يا أيها الناس لا
تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرا [أو قولوا له خيرا] في المصاحف وإحراق
المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعا، فقال: ما
تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا
يكاد أن يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا
تكون فرقة، ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت قال: فقيل: أي الناس أفصح، وأي
الناس أقرأ؟ قالوا: أفصح الناس سعيد بن العاص، وأقرأهم زيد بن ثابت، فقال: ليكتب
أحدهما ويمل الآخر ففعلا وجمع الناس على مصحف " قال: قال علي: والله لو وليت
لفعلت مثل الذي فعل".
قال الدارقطني في العلل :" قال يرويه علقمة بن مرثد واختلف عنه فقال شعبة عن علقمة بن
مرثد عمن سمع سويد بن غفلة عن علي، وقال محمد بن أبان عن علقمة عن العيزار بن جرول
عن سويد بن غفلة وهو المحفوظ "
والعيزار ثقة.
الدليل الخامس: اشتراط
الصحابة للعرضة الأخيرة:
خرج البخاري (4997) عن ابن عباس
رضي الله عنهما، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما
يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ يعرض
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من
الريح المرسلة»
وخرج البخاري (4998) عن أبي
هريرة، قال: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه
مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي
قبض فيه».
قال البغوي في شرح السنة:" وروي
عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت،
والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها
رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان على
طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إماما ".
ويقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة
الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل، وهي التي بين فيها ما
نسخ وما بقي.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ
زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه
مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك
اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين
".
الدليل السادس: ما ورد
في صفة العرضة الأخيرة :
خرج الحاكم (1/238) عن علي بن عبد
العزيز البغوي، بمكة، ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن
الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، قال: «عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم
عرضات» فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة "،
قال: «هذا حديث صحيح على شرط
البخاري بعضه، وبعضه على شرط مسلم، ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.
دليل ثامن: وخرج
سعيد بن منصور في التفسير عن ابن سيرين، قال: كان جبريل، يعارض النبي صلى الله
عليه وسلم، في كل شهر رمضان، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين، قال ابن سيرين:
«فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة».
خرجه مفسرا ابنُ شبة في تاريخه
(3/993) حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى حدثنا هشام عن محمد قال: " كان الرجل
يقرأ فيقول له صاحبه: كفرت بما تقول، فرفع ذلك إلى ابن عفان فتعاظم في نفسه، فجمع
اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأرسل إلي الرقعة
التي كانت في بيت عمر رضي الله عنه، فيها القرآن "، قال: «وكان يتعاهدهم» ،
قال: " فحدثني كثير بن أفلح:
أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا كلما اختلفوا في شيء أخروه قلت: لم أخروه؟ قال: لا
أدري، قال محمد: فظننت أنا فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا
اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله
".
قال: حدثنا وهب بن جرير قال:
حدثنا هشام بنحوه، وزاد: قال محمد: فأرجو أن تكون قراءتنا هذه آخرتها عهدا بالعرضة
الأخيرة "
وقد ورد موصولا عن ابن سيرين عن
كثير بن أفلح من وجه آخر:
الدليل التاسع: تبيين
أن كتبة الوحي زمن عثمان اثني عشر رجلا، وأنهم كتبوا العرضة الأخيرة:
خرج ابن أبي داود في المصاحف (104)
وأبو بكر في المصنف من طريق أبي بكر حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن
كثير بن أفلح قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش
والأنصار، فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر
فجيء بها، قال: وكان عثمان يتعاهدهم، وكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخره. قال
محمد: فقلت لكثير -وكان فيهم فيمن يكتب-: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال
محمد: فظننت ظنا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة
فيكتبونها على قوله ".
قال ابن كثير في مقدمة التفسير:
صحيح أيضا.
ثم لما فرغ عثمان من كتابة
المصحف، أحرق ما جمعه له الصحابة مما كتبوه، ووافقوه على ذلك إلا ابن مسعود، بيد
أنه لم يحرق صحف حفصة للعهد الذي بينهما حتى حرقها مروان.
قال ابن كثير في
مقدمة التفسير: الكتب المجتمعة، وكانت عند حفصة، رضي الله عنها، فلما جمعها عثمان،
رضي الله عنه، في المصحف، ردها إليها، ولم يحرقها في جملة ما حرقه مما سواها، إلا
أنها هي بعينها الذي كتبه، وإنما رتبه، ثم إنه كان قد عاهدها على أن يردها إليها،
فما زالت عندها حتى ماتت، ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول في ذلك ما تأول
عثمان،
كما رواه أبو بكر بن
أبي داود: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني
سالم بن عبد الله: أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن،
فتأبى حفصة أن تعطيه إياها. قال سالم: فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان
بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن
عمر فأمر بها مروان فشققت، وقال مروان: إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ
بالمصحف، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أو يقول: إنه
كان شيء منها لم يكتب". قال ابن كثير: إسناد صحيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الثالث: شبهات حول كتابة المصاحف:
المطلب الأول: دعوى المستشرقين بمخالفة ابن مسعود ورفضه لحرق مصحفه
المخالف للمصاحف العثمانية:
طعن
المستشرقون في حجية القرآن وتواتره بمخالفة ابن مسعود رضي الله عنه للصحابة في
ترتيب مصحفه، وفي الزيادات الواقعة فيه، وبرفضه حرق مصاحفه كما سبق في الأدلة. .
أما
ترتيب سوره وأدلة ذلك فقد مر ذكر ذلك.
كما
مر ذكر أدلة كون ابن مسعود من كتبة الوحي وقراء القرآن زمن النبي عليه السلام.
وخرج البخاري عن عبد الله بن
مسعود أنه ذكر النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأهن في كل ركعة
فسئل علقمة عنها فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرها من
الحواميم حم الدخان وعم يتساءلون [النبأ: 1] ،
وخرج البخاري في باب القراء
الصحابة (5000) عن شقيق بن سلمة قال: خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: «والله لقد
أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم».
ثم خرج البخاري عن مسروق، قال:
قال عبد الله رضي الله عنه: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله
إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو
أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه»
وأنكر
على زيد أن يكون رئيس الكتبة فقال: «يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتاب الله
ويتولاه رجل، والله والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر» يريد زيد بن
ثابت".
وكان
ينهى أصحابه من حرق مصاحفهم، كما أمر عثمان.
خرج ابن شبه في تاريخ المدينة (3/1005)
عن عبيد الله بن عبد الله: أن ابن مسعود رضي الله عنه كره أن ولي زيد نسخ كتاب
المصاحف، وقال: «أي معشر المسلمين أأعزل عن نسخ كتاب المصاحف فيولاها رجل، والله
لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر» ، وعند ذلك قال عبد الله: " يا أهل العراق
غلوا المصاحف والقوا الله بها فإنه {من يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران:
161] ، فالقوا الله بالمصاحف «، قال الزهري» : قال ابن مسعود: «وإني غال مصحفي،
فمن استطاع أن يغل مصحفه فليفعل»
والجواب:
أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يخالف الصحابة في أصل القرآن الكريم الموجود في المصحف
العثماني، بل خالفهم في تلك الزيادات الشاذة التي كان يتشبث بها، وفي ترتيب مصحفه،
فرفضها
الصحابة بسبب عدم تواترها، وعدم جودها في العرضة الأخيرة، ولاحتمال أن تكون تفسيرا
من الصحابي فنسي، أو لعدم علمه بالعرضة الأخيرة، مما جعل عثمان يستغني عنه، ولا
ينكر مسلم اختلاف المسلمين في القراءات الشاذة، وحكم العمل بها، وأما عثمان فلم
يكتب إلا ما اتفقوا عليه جميعا وتوفرت فيه الشروط السابقة،
كما
أنه لم يثبت عن ابن مسعود رغم كل الفتن التي حلت زمن الصحابة أنه شكك في القرآن
المكتوب في المصاحف، بل كان فقط يطالب باعتماد مصحفه وما وقع فيه من زيادات، وهو
ما نقص منه شرط التواتر والحمد لله.
المطلب الثاني: احتجاجهم بمصحف عائشة، وتخطئتها لبعض كُــتّــاب
المصحف:
دليل أول: تخطئة عائشة للــكُــتّــاب في بعض الكلمات:
خرج
أبو عمرو الداني في رسم المصاحف: من طريق أبي عبيد في فضائل القرآن قال حدثنا أبو
معاوية عن هشام بن عروة عن أَبيه قال سأَلتُ عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن
قول الله عز وجل " إن هذين لسحران " وعن قوله " والمقيمين الصلوة
والمؤتون الزكوة " وعن قوله تبارك وتعلى " اِنّ الذين ءامنوا والذين
هادوا..والصبئون " فقالت: يا ابن اختي: هذا عمل الكُتَّاب، أخطؤوا في الكتاب
".
قال
السيوطي في الإتقان :" هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين "، وتبعه على
التصحيح آخرون.
قلت:
ليس بصحيح، بل هو حديث منكر مخالف لرواية وكتابة جميع الصحابة رضي الله عنهم،
وقد
تفرد بهذا اللفظ الغريب أبو معاوية وهو محمد بن خازم الكوفي وهو صدوق مدلس من أثبت
الناس في حديث الأعمش، لكن روايته عن غيره وعن أهل المدينة ففيها تخليط كثير،
وهشام مدني، ثم هو مدلس وقد عنعن.
قال
أحمد بن حنبل: أبو معاوية الضرير في غير حديث الاعمش مضطرب لا يحفظها حفظا جيدا
".
قال
أبو داود: قلتُ لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث
مضطربة".
وقال
بن معين له عن عبد الله بن عمر أحاديث مناكير ".
وروى عباس عن ابن معين
قال: روى أبو معاوية عن عبيد الله أحاديث مناكير...
وقال ابن خراش: يقال: هو
في الأعمش ثقة، وفى غيره فيه اضطراب.
وقال ابن حجر:" محمد
بن خَازِم، أبو معاوية الضّرير الكوفي، عَمِي وهو صغير: ثقة، أحفظ الناس لحديث
الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره ".
كما
وصفه الدارقطني وأحمد بن أبي طاهر بالتدليس..
وأما
متنه: فإن عائشة هنا لم تخطئهم في القراءة، بل في طريقة كتابتها فقط، والله أعلم.
ثم إن هذه التخطئة من وجهة نظرها،
لا في حقيقة الأمر، فإن اتفاق الصحابة على هذا الرسم يدل على صحته وهم أعلم منها
باللغة وأوجه الكتابة والقراءة.
وقد يحتمل أنها أرادت تخطئة القوم
بالنسبة إلى لسان قريش ولهجتها فقط، وأما على لسان سائر قبائل العرب فهي أحرف
وأوجه صحيحة نزل بها القرآ، يؤيد ذلك: .
. بينما حمل الإمام أبو عمرو
الداني تخطئة عائشة للصحابة على المجاز،
أو على تغيير الشيء الغير الثابت، الممكن التغيير... لكن تخطئتها للكتابة
صريحة...
قال الداني:" تأويله ظاهر
وذلك إن عروة لم يسأل عائشة فيه عن حروف الرسم التي تزاد فيها المعنى وتنقص منها،
لأخر تأكيداً للبيان وطلبا للخفّة وانما سألها فيه عن حروف
من القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات التي أذن الله عز
وجل لنبيّه عليه السلام ولاُمّته في القراءة بها، ولزوم على ما شاءت منها تيسيرا
لها وتوسعة عليها وما هذا سبيله وتلك حاله فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل،
لفُشّوه في اللغة ووضوحه في قياس العربية، واذا كان الامر في ذلك كذلك فليس ما
قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم ولا هو من سببه في شيء وانما سّمى عروة ذلك لحنا
وأطلقت عائشة على مرسومه كذلك الخطأ على جهة الاتّساع في الأخبار وطريق المجاز في
العبارة اذ كان ذلك مخالفا لمذهبهما وخارجا عن اختيارهما، وكان الأوجه والأولى عندهما
الأكثر والأفشى لديهما لا على وجه الحقيقية والتحصيل والقطع لما بيّناه قبل من
جواز ذلك وفشوه في اللغة واستعمال مثله في قياس العربية، مع انعقاد الإجماع على
تلاوته كذلك دون ما ذهبا إليه، إلا ما كان من شذوذ أبي عمرو بن العلاء في "
إن هذين " خاصّة هذا الذي يُحمل عليه هذا الخبر ويتأوّل فيه دون إن يقطع به،
على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلّها وجليل قدرها واتّساع علمها
ومعرفتها بلغة قومها لّحنت الصحابة وخطأت الكتبة وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة
موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر، هذا مالا يسوغ ولا يجوز،
قال: " وقد
تأوّل بعض علمائنا قول امّ المؤمنين اخطئوا في الكتاب أي خطئوا في اختيار الأولى
من الاحرف السبعة بجمع الناس عليه، لا إن الذي مدّة وقوعه وعظم قدر موقعه، وتأوّل
اللحن أنه القراءة واللغة كقول عمر رضي الله عنه: واِناّ لندع بعض لحنه أي قراءته
ولغته"، فهذا بين وبالله التوفيق".
أثر ثاني: وفيه التسامح في كتابة اللحن أحيانا بالنسبة إلى لسان قريش، لكنه
موافق للَهجات عربية أخرى:
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون بن موسى أخبرني الزبير بن الخريت
عن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجدت فيها حروفاً من اللحن، فقال:
لا تغيروها فإن العرب ستغيرها: أوقال: ستعربها بألسنتها "،
هذا
حديث ضعيف منقطع، تفرد به الزبير بن الخريت عن عكرمة وهو لم يدرك عثمان أصلا.
ولو صح فهو محمول على ما قلناه من
لحنٍ، مقارنة بلسان قريش فقط، وأما بلسان غيرها فهي لهجات صحيحة.
اتفق السلف على أن القرآن الكريم متعبد
بألفاظه، لا يحل تغييرها زيادة ولا نقصانا،
وكذلك اتفقوا على أنه من كان يقرأ من
المصحف، فيحرم عليه تغيير أي لفظ تعمدا،
وهكذا اتفقوا على أن القارئ مخير بين
قراءة القرآن على الأحرف السبعة ومن قرأ بها تواترا،
قال ابن مسعود:" نظرت القراء
فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم ".
وهكذا اتفقوا على وجود النسخ في الكثير
من أحرف القرآن، وأن ناسخها هو العرضة الأخيرة.
وقد وردت بعض الأدلة بجواز إبدال بعض
أسماء الله ببعض، وأن ذلك كان توقيفيا في أحرف سابقة.
ولذلك اختلف السلف فيها:
فمذهب الجمهور أنها قراآت منسوخة اللفظ.
وذهب جماعة إلى الاستدلال بها على
مسألتين:
1: أن للقارئ أن يبدل ويجمع بين هذه
القراءات الثابتة تيسيرا عليه، فيجمع في نفس التلاوة بين قراءة هذا وذاك،
2: واستدل بها آخرون على جواز القراءة
بها عند الضرورة واختلاط الآيات عليه عند القراءة مشافهة، فبدل أن يسكت أو يتوقف،
له أن يقرأ بإبدال أسامي الله ما لم يحل المعنى من رحمة إلى عذاب أو العكس... وذلك
كقوله :{غفور رحيم} {عفو غفور} / {عزيز حكيم} ... ونحوها،
فمنع من ذلك عامة أهل العلم والقراء،
وجعلوا هذا التبديل من قبيل الأحرف المنسوخة بالعرضة الأخيرة.
وأجاز ذلك آخرون: وجعلوه من باب الضرورة،
لا أنه من القرآن، وهو نص عنهم فلا معنى لتأويل كلامهم بالتكلف.
فقد نقل الذهبي في السير 5/347 عن أبي أويس قال :" سألت الزهري
عن التقديم والتأخير في الحديث فقال : إن هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث ،
إذا أصيب معنى الحديث ولم يحل به حراما ولم يحرم به حلالا فلا بأس ، وذلك إذا أصيب
معناه ."
والأظهر والله أعلم: أن هذا أمر غير منكر
أيضا، قد يقع فيه الكثير من الحفاظ مشافهة، تختلط عليهم الآيات المتشابهات، فهو
محمول على حالة الضرورة فقط، لمن نسي أو اختلطت عليه الآيات حفظا ومشافهة، ولم يجد
من يصحح له، فإنه يحل له أن يقرأها مجتهدا بناء على أغلب الظن الذي وقر في حفظه...
من باب ضرورة إتمام القراءة، وأنه أفضل من تركها وقطعها .. تيسيرا من الله على
عباده، وفي هذا الأدلة التالية:
على أن هذا التغيير مبني على السماع وصحة
الرواية وحالة الاضطرار، لا التشهي والرواية بالمعنى مطلقا,
قال ابن حجر في الفتح 8/644 :" ثبت عن غير واحد من الصحابة
أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له ".
ثم قال بعد أن نقل كلاماً لأحد العلماء من كتاب أبي شامة
المقدسي وهو قوله: أنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ، ثم
أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ
والإعراب ، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة ، ولما كان
فيهم من الحمية ، ولطلب تسهيل فهم المراد . كل ذلك مع اتفاق المعنى. وعلى هذا
يتنزل اختلافهم في القراءة ... وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا منهم
".
قلت - أي ابن حجر :وتتمة ذلك أن يقال : إن الإباحة المذكورة لم
تقع بالتشهي ، أي إن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته ، بل المراعى في ذلك
السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث
الباب : أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم". .
وأما الأصل والقراءة من السطر والمصحف، فلا يحل أن يقرأ أحد إلا
بما وافق رسم المصاحف من القراآت الثابتة إجماعا.
قال القاضي عياض رحمه الله نقلاً عن المازري :(وقول من قال
المراد خواتيم الآي فيجعل مكان (غفور رحيم) (سميع بصير) فاسد أيضاً ؛ للإجماع على
منع تغيير القرآن للناس".
ومن أجازه للصرورة فقد استدل بما يلي:
دليل أو الدليل الأول: خرج أحمد
(5/124) وأبو داود (1477) عن همام عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن
أبي بن كعب قال : قرأت آية وقرأ بن مسعود خلافها فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم
فقلت ألم تقرئنى آية كذا وكذا قال بلى فقال بن مسعود ألم تقرئنيها كذا وكذا فقال
بلى كلاكما محسن مجمل قال فقلت له فضرب صدري فقال يا أبي بن كعب انى أقرئت القرآن
فقيل لي على حرف أو على حرفين قال فقال الملك الذي معي على حرفين فقلت على حرفين
فقال على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي على ثلاثة فقلت على ثلاثة حتى بلغ
سبعة أحرف ليس منها الا شاف كاف ان قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما
سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب ".
لفظ أبي داود:" .. حتى بلغ
سبعة أحرف "، ثم قال: " ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: سميعا عليما
عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب "
قال
السيوطي: إسناده جيد"،
وهذا
حديث رجاله ثقات، لكن يخشى منه من عنعنة قتادة، فقد ذكروه بالتدليس، وفي حديثه نظر
.
وقد
حمل المانعون هذه الأدلة على التخير بين الأحرف والقراءات المتواترة فقط، لا من
غيرها، ولذلك جعلوا هذا النوع من ضمن أوجه الأحرف السبعة الموجودة زمن النبوة،
والمنسوخة بالعرضة الأخيرة: وهي أحد سبعة أوجه من
المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، ثم ذكروا ما أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي
بكرة أن جبريل قال: يا محمد اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده حتى بلغ
سبعة أحرف قال: كل شاف كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب ".
ومنهم
من يحملها على حالة الضرورة والنسيان عند القراءة مشافهة وحفظا فقط.
دليل ثاني: خرج أحمد (5/41) عن
حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : أتاني جبريل وميكائيل عليهما السلام فقال جبريل عليه السلام اقرأ
القرآن على حرف واحد فقال ميكائيل استزده قال اقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف ما
لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة [نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع
واعجل]". علي بن زيد مضعف.
دليل ثالث: حديث أبي هريرة:
خرج ابن حبان في الصحيح (743) عن عبدة
بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، عن رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" [حكيما، عليما}، {غفورا، رحيما].
قال ابن حبان:" قول محمد بن
عمرو، أدرجه في الخبر، والخبر إلى سبعة أحرف فقط ".
دليل رابع: حديث عمر وبيان الصواب فيه:
قال أحمد (4/30) ثنا
عبد الصمد ثنا حرب بن ثابت كان يسكن بنى سليم قال
ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جَدِّه قال: قرأ رجل عند
عمر، فَغَيَّرَ عليه، فقال: قرأت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فلم يُغَيِّرْ عليَّ، قال: فاجتمعا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فقرأ الرجل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال له:
"قد أحسنت" , قال: فكأن عمر وجد من ذلك، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل عذاب مغفرة،
ومغفرة عذابًا ".
وهذا
حديث ضعيف، ومتن منكر، تفرد به حرب وهو مجهول، وقد لقن عبد الصمد في هذا الإسناد،
قال البخاري في "تاريخه الكبير" 1/382: وقال بعضهم: لقن عبد الصمد،
فقالوا: ابن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في كتابه ابن عبد الله".
والصحيح في هذا الحديث ما خرجه
البخاري ومسلم 818 مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد
القاري، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة
الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن
أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما
أقرأتنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ»، فقرأ القراءة التي
سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت»، ثم قال لي: «اقرأ»،
فقرأت، فقال: «هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر
منه».
الدليل الخامس: حديث أنس: وفيه أن هذا الإبدال كان جزءا من الأحرف
السبعة، ثم انتسخ بالقراءة والعرضة الأخيرة، فلا قراءة إلا بما وافق الرسم:
1/ قال ابن حبان في الصحيح 744 -
أخبرنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر بن سليمان:
سمعت حميدا قال:سمعت أنسا قال: كان رجل يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد
قرأ البقرة وآل عمران، عد فينا ذو شأن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يمل عليه
{غفورا رحيما} فيكتب "عفوا غفورا"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"اكتب" ويملي عليه {عليما حكيما} ، فيكتب "سميعا بصيرا" فيقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب أيهما شئت".
قال فارتد عن الإسلام، فلحق
بالمشركين، فقال: أنا أعلمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، إن كنت لأكتب ما شئت.
فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الأرض لن تقبله قال أبو
طلحة: فأتيت تلك الأرض التي مات فيها، وقد علمت أن الذي قال النبي صلى الله عليه
وسلم- كما قال، فوجدته منبوذا، فقلت: ما شان هذا؟. فقالوا: دفناه، فلم تقبله الأرض
"...
توبع معتمر:
2/ قال البيهقي في عذاب القبر
(54) وأخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد الفقيه، أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد
أباذي، ثنا إبراهيم بن عبد الله السعدي أنا يزيد بن هارون أنا حميد الطويل عن أنس
بن مالك أن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد قرأ البقرة وآل
عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جُلّ فينا، وكان النبي يملي عليه
{غفورا رحيما} [النساء: 23] فيقول: أكتُبُ: {عليما حكيما} [النساء: 11] ، فيقول له
النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب كيف شئت» ، ويملي عليه {عليما حكيما} [النساء:
11] فيقول: أكتُبُ {سميعا بصيرا} [النساء: 58]، فيقول له النبي صلى الله عليه
وسلم: «اكتب كيف شئت» قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ولحق بالمشركين، وقال: أنا
أعلمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم إني كنت لأكتب كيف شئت، فمات ذلك الرجل، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأرض لا تقبله»....
. تابعه أبو
بكر أحمد بن مروان الدينوري في المجالسة [ص:76] حدثنا محمد بن
مسلمة الواسطي، نا يزيد بن هارون أنا حميد الطويل عن أنس: أن رجلا كان يكتب للنبي
صلى الله عليه وسلم، وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل
عمران عد فينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه: «غفورا رحيما» ؛ فيقول:
أكتب عليما حكيما؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب كيف شئت» ، ويملي
عليه: «عليما حكيما» ، فيقول: أكتب: سميعا بصيرا؟ فيقول له النبي صلى الله عليه
وسلم: «اكتب كيف شئت» . فارتد ذلك الرجل ولحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد،
إن كنت لأكتب ما شئت ...."،
. وخرجه أحمد ثنا يزيد بن هارون
أنا حميد عن أنس : فذكره. وصححه الأرناؤوط.
. وخرجه الطحاوي - حدثنا بكار بن قتيبة قال:
حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد، عن أنس مثله.
ورواه يحيى بن أيوب عن حميد سمعت
أنس.
وهذا أصح حديث في الباب، وأصله في
صحيح البخاري مختصرا بلفظ:" عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل نصرانيا فأسلم،
وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيا، فكان
يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته
الأرض،..."..
قال ابن تيمية في
الصارم المسلول:" أعل البزار حديث ثابت عن أنس قال : رواه عنه و لم يتابع
عليه، ورواه حميد عن أنس وأظن حميدا إنما سمعه من ثابت ".
قالوا: ثم أن أنسا لم
يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم أو شهده يقول ذلك ولعله حكى ما سمع".
ولهذا الحديث شاهد
آخر يقويه:
. قال ابن أبي حاتم في التفسير:
حدثنا أبي ثنا ابن نفيل الحراني ثنا مسكين بن بكير عن معان بن رفاعة قال: سمعت أبا
خلف الأعمى قال: كان ابن أبي سرح يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي , فأتى أهل
مكة فقالوا: يا ابن أبي السرح , كيف كتبت لابن أبي كبشة القرآن؟ قال: كنت أكتب كيف
شئت , فأنزل الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [الأنعام: 21]".
ورواه الإمام أحمد في
[ الناسخ و المنسوخ ] : حدثنا مسكين بن بكير ثنا معان قال : و سمعت خلفا يقول :
كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه و سلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى
الله عليه و سلم عن خواتم الآي [ يعملون ] و [ يفعلون ] ونحو ذا، فيقول له النبي
صلى الله عليه و سلم : [أكتب أي ذلك شئت] قال : فيوقفه الله للصواب من ذلك، فأتى
أهل مكة مرتدا فقالوا : يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن ؟ قال :
أكتبه كيف شئت قال : فأنزل الله في ذلك {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال
أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] الآية كلها ".
قال ابن تيمية في الصارم المسلول:"
ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه و سلم
عن حرفين جائزين فيقول له : [ أكتب أي ذلك شئت ] فيوقفه الله للصواب فيكتب أحب
الحرفين إلى الله و كان كلاها منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر
منزلا و كان هذا التخيير من النبي صلى الله علي و سلم إما توسعة إن كان الله قد
أنزلهما أو ثقة بحفظ الله و علما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل و ليس هذا ينكر في
كتاب تولى الله حفظه و ضمن أنه لا يأته الباطل من بين يديه و لا من خلفه
و ذكر بعضهم وجها
ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه و سلم بمكة الآية حتى لم يبق
منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي
فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : [ كذلك أنزلت ] كما اتفق
مثل ذلك لعمر في قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] ".
وفيه وفي ذلك الحديث المطوَّل بيان
أن هذا الشخص المرتد، هو من كان يكتب بإبدال هذه الآيات المشتبهات، وأنه عليه
السلام كان يقره، لأنه من الوحي حقيقة
قال ابن تيمية في الصارم المسلول
(1/120) :" فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا
يكتبه إلا ما أنزله الله و لا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه و لا
ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله".
فإما أنه كان يقره، لعلمه بأنه
كان من المنافقين، فكان يتركه يفعل ما يشاء إعراضا عنه حتى يستبين أمره، وقد ذكر
شيخ الإسلام بأن قبول النبي عليه السلام للكتابة منه، إنما كان بسبب قلة الكتبة
بين أصحابه أو عدم حضور بعضهم فقال:" كان النبي
صلى الله عليه و سلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة و عدم حضور
الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان
الحي العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد و كان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة
حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه و سلم من يكتب له انتهز الفرصة في
كتابته فإذا زاد الكاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه و لا يأمره بتغيير
ذلك خوفا من ضجره و أن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه و سلم بأن
تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابها
تعويلا على المحفوظ عنده و في قلبه كما قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء
الله إنه يعلم الجهر و ما يخفى } [ الأعلى : 7 ]
و الأشبه و الله أعلم
هو الوجه الأول و أن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي
عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الآحاديث و القراءات الصحابة أن المصحف الذي
جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة و هو العرضة الآخرة و أن الحروف السبعة
خارجة عن هذا المصحف و أن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف
و لا متضاد... ".
وإما أنه كان يقره، لأن الأحرف
السبعة كانت تشتمل على هذه القراآت جميعا، ثم انتسخ أمرها بالعرضتين الأخيرتين
قبيل وفاته عليه السلام.. كما رجح ابن تيمية وجمهور السلف.
وإما أن النبي عليه السلام أراد
التيسير على أمته خاصة من نسي الحفظ منهم، فله أن يقرأ بالمعنى الغالب الذي رسخ في
ذهن القارئ مما يعتقده غالبا هو القرآن....
وهذا أمر يحدث لكل حافظ لكتاب
الله، حين تختلط عليه بعض الآيات.
قال ابن تيمية في الصارم
المسلول:" ثم اختلف أهل العلم : هل كان النبي صلى
الله عليه و سلم أقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه و سلم
بإكتابه ؟ و هل قال له شيئا ؟ على قولين :
أحدهما : أن النصراني
و ابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك كله و أنه لم يصدر منه
قول فيه إقرار على كتابه غير ما قاله أصلا و إنما لما زين لهما الشيطان الردة
افتريا عليه لينفرا عنه الناس و يكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد
خبرة و ذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول له : هذا الذي
قتله ـ أو كتبته ـ صواب و إنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك و هو إذ ذاك كافر
عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك
يبين ذلك أن الذي في
الصحيح أن النصراني يقول : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] نعم ربما كان هو يكتب
غير ما يقوله النبي صلى الله عليه و سلم و يغيره و يزيده و ينقصه فظن أن عمدة
النبي صلى الله عليه و سلم على كتابه مع ما فيه من التبديل و لم يدر أن كتاب الله
آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم و أنه لا يغسله الماء و أن الله حافظ له و
أن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه و نسخ تلاوته و أن
جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه و سلم بالقرآن كل عام و أن النبي صلى الله
عليه و سلم إذا نزل عليه آية اقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم و أكثر
من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه [ سميعا عليما ] فيكتب هو [
عليما حكيما ] و إذا قال : [ عليما حكيما ] كتب [ غفورا رحيما ] و أشباه ذلك و لم
يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا
قالوا : و إذا كان
الرجل قد علم أنه من أهل الفرية و الكذب حتى أظهر الله على كذبه آية بينة و
الروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم ما
قال أو أنه كتب ما شاء فقد علم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل له شيئا "
وقال ابن تيمية عن أحاديث إبدال
أسماء الله بعضها ببعض:" والأحاديث في ذلك منتشرة
تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن يختم الآية الواحدة بعدة أسماء
من أسماء الله على سبيل البدل يخير القاريء في القراءة بأنها شاء و كان النبي صلى
الله عليه و سلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله
عليه و سلم بحرف من الحروف فيقول له : أو أكتب كذا و كذا ] لكثرة ما سمع النبي صلى
الله عليه وسلم يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما
سواء ] لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى
الله عليه و سلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا و ختم الآي بمثل [ سميع عليم ]
و [ عليم حليم ] و [ غفور رحيم ] أو بمثل [ سميع بصير ] أو [ عليم حليم ] أو [
حكيم حليم ] كثير في القرآن و كان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا
ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم
بالقرآن في كل رمضان و كانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به
اليوم وهو الذي جمع عثمان و الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس و لهذا ذكر
ابن عباس هذه القصة في الناسخ و المنسوخ و كذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه في [
الناسخ و المنسوخ ] لتضمنها نسخ بعض الحروف ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين
تعليقات
إرسال تعليق